د. محمد مفتاح: التحقيب وجهة نظر والباحث يحقب وفق مقاصده

د. محمد مفتاح: التحقيب وجهة نظر والباحث يحقب وفق مقاصده

يعد د. محمد مفتاح من ألمع النقاد العرب المعاصرين، يمتلك دراية واسعة بالتراث العربي، واستيعابًا واعيًا بالنظريات النقدية الحديثة، مستندًا إلى مناهج علمية دقيقة تؤلف بسلاسة بين العلوم البحتة والعلوم اللسانية، وتجمع بين الممارسة النظرية والتطبيقية، كما ينطلق في مقارباته النقدية من استعراض أولي للمفاهيم الإجرائية، مع قدرة مذهلة على مواكبة المستجدات المنهجية الجديدة في مصادرها الأجنبية، التي تمزج بين الآليات الأسلوبية والتحليل السيميائي بمختلف مدارسه، وارتباطها بأبحاث الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي، معتمدًا من أجل اختبار  فرضياته النظرية على المدونة القديمة، كالقصيدة  الأندلسية  والنص الصوفي والقرآني والمنقبي، وبالنسبة للنصوص المعاصرة، هناك السرد القصصي وقصائد شعراء الحداثة المغربية. 

 

د. مفتاح هو أستاذ الدراسات الأدبية والنقدية بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط، له أحد عشر مؤلفًا في صنف السيميائيات، أُنجز حول مؤلفاته ومشروعه النقدي، رسائل وأطروحات جامعية، وله كتب وأبحاث نشرت في مجلات علمية ومحكمة. فاز بكثير من الجوائز العلمية، منها جائزة المغرب الكبرى للكتاب في الآداب والفنون (1987)، وأخرى عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية 2004، وجائزة الشبكة العربية للتسامح عام 2010، كما حاز جائزة الشيخ زايد 2011، وجائزة الملك فيصل العالمية 2016.
حول منجزه الثقافي وآرائه بشأن واقع ثقافتنا العربية، كان لـ «العربي» هذا اللقاء معه:
• من الملاحظ، أن مسارك الدراسي بدأ بالدراسة غير المنتظمة، فبعد أن حفظت القرآن الكريم والمتون وشروحها، اشتغلت بالتعليم الابتدائي، وانخرطت بمدرسة المعلمين، ثم التحقت بكلية الآداب، وكان نظام البرامج آنذاك تغلب عليه المناهج التقليدية وموضوعات الثقافة القديمة،  لكن  المفارقة المثيرة للانتباه، أن جل المشاريع التحديثية للخطاب النقدي في كليات الآداب، قام بها الباحثون الذين درسوا في قسم اللغة العربية وآدابها، وليس في شُعب اللغات الأجنبية، كيف قمت بهذه النقلة المعرفية إلى المناهج السيميائية الحديثة، كما يتجلى ذلك في كتابك الأول «سيمياء الشعر القديم»؟
- أشكرك، بداية، د. أنور على استضافتك لي، وأثمّن أسئلتك المقترحة، وسوف تكون أجوبتي موجهة بما يلي:
أ- عقيدة فلسفية، وهي الاتصال بدرجاته المختلفة من الحوار الجنب إلى أقصى التماثل، مع مراعاة مفهوم الملاء والفراغ.
ب - المبدأ الفيزيائي الذي يقول بالتراكب بين المتضادين، مما يؤدي إلى التكامل وإلى إبعاد المفارقات، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة وجود مستويات من الحركة.
ج - استثمار فروع من العلوم المعرفية، وخصوصًا علوم الدماغ، والنفس ووظائف الأعضاء، واللسانيات المعرفية، تلك هي المبادئ العامة التي تتخلل كل أجوبتي، وهي موجودة في كل أعمالي بكيفية صريحة أو مضمرة، فالصريحة يمثلها «التلقي والتأويل»، و«التشابه والاختلاف»، و«المفاهيم معالم»، و«رؤيا التماثل»، و«مفاهيم موسعة»، و«وحدة الفكر المتعددة»، و«المعنى والدلالة»، أما المضمرة فبقية الكتب الأخرى.
أما بالنسبة إلى سؤالك، فيتعين أن أؤطره في السياق التاريخي العام، وهو التحاقي بالجامعة عام 1963 مع عدد كبير من الطلبة، وقد أدى هذا الوضع إلى تحديث التعليم بوضع مقررات جامعية مقتبسة من الجامعات الأجنبية، إلا أن شعبة اللغة العربية، كانت تميل إلى اقتراح كتب تراثية ذات أهمية قصوى (الأدب القديم، وخصائص ابن جني، والمزهر للسيوطي...)، ومع ذلك فقد كانت هناك نزعات تجديدية، أسهم فيها الأساتذة العائدون من الجامعات المشرقية، والفرنسية على الخصوص.
كما أدى توافد كثير من الطلبة على الجامعات، إلى انبثاق مناخ سياسي تسود فيه نزعات يسارية، مما خلق رؤية تجديدية في الثقافة والسياسة، ومن ثمة كان الطلبة والباحثون المنتمون إلى قسم اللغة العربية وآدابها، مسْهمين في تجديد وتحديث المناهج والفكر في العلوم الإنسانية (السيميائيات والفلسفة، والتاريخ...).

منبع أساسي
• افتتحت مشروعك السيميائي بكتابك «في سيمياء الشعر القديم» (1984)، وطبقت فيه المنهج الجديد على نونية «أبي البقاء الرندي» المتكون من نظريات «الشعرية» بشقيها العربي والغربي، وفروعها في علمي السيميائيات والتداولية، معتمداً على التوفيق بين الشعرية والانفتاح على الدراسات الغربية، فإلى أي حد استفدتم من عملية تطويع المنهج الجديد على مدونة قديمة؟ 
- هذا السؤال يدخل في إطار مشروعي السيميائي، وهو متطور وفي صيرورة دائمة، وأهم منطلقاته هو كتاب «في سيمياء الشعر القديم»، وهذا الكتاب برهنة على ما ورد في أطروحتي للدكتوراه، التي تأسست على مفهومَي الاتحاد والجهاد، ولقد وظفت فيه منهاجية سيميائية بلاغية عربية وأجنبية، لأن هناك منبعًا أساسيًا يجمع بينهما، وهو وحدة الفكر البشري. وعليه، فلا فرق بين بلاغة جون كوهن وبلاغة حازم القرطاجني، كما أنه لا فرق كبير بين سيميائيات كريماص، وما هو متعارف عليه في المنطق التقليدي، المتداول في الكتب العربية الإسلامية القديمة.
إن أطروحة الاتحاد والجهاد، تعكس الرؤية المأساوية التي هيمنت على فكر الغرب الإسلامي، وخصوصًا في الأندلس، وقد تجلت هذه المأساوية في الأشعار بمختلف أغراضها، والكتب العامة، والتاريخية، وخير مثال على ذلك، جُنة الرضى ومقدمة ابن خلدون.
وهذه الأطروحة ليست خاصة بالغرب الإسلامي وحده، وإنما هي عامة، ملازمة للفكر القديم والوسيط، بل والحديث والمعاصر، إذن هي وليدة الأزمات، وبناء على هذا، فإنه يمكن أن يقال: إن ما شاع في الفكر الغربي هو التأليب والصليب.

وحدة متعددة
• من الملاحظ، أنك في دراستك للخطاب العربي القديم والحديث، تسعى إلى تنويع، من الشعر إلى السرد، ومن النص الصوفي والمنقبي إلى النص القرآني وكتب الخوارق والعجائب، ومن الخطاب الكلامي إلى البلاغي والأصولي وتحليل المتن القصصي، هل تحاول بذلك أن تثبت فاعلية المنهج التحليلي، وقدرته على تأويل الموضوع المدروس وتفكيكه؟ 
- أنطلق من مبدأ الوحدة المتعددة، وليس من مبدأ التجميع. مبدأ الوحدة يقتضي أن يكون هناك منطلق أو نواة يقع تطويرها وتنويعها، مما يجعل العلاقة عضوية بين النواة وفروعها، أما مبدأ التجميع، فيعني أن هناك مكونات ضُم بعضها إلى بعض من دون علاقة عضوية، لذلك فإن منطلقي، هو أن هناك خواص مشتركة بين كل أنواع الخطاب، مهما تنوعت أسماؤه، لكنّ هناك سمات خاصة بكل خطاب، ومن ثمة فإن هناك تداخلاً وتنافذًا بين كل أنواعه، مما يجعلها عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات. ولعل ما يمثّل هذا التناول هو كتاب «التلقي والتأويل، مقاربة نسقية»، وكتاب «التشابه والاختلاف»، وخلاصة القول، فإن المبادئ التي قدمتها كفيلة بجعل ما قد يكون من اعتراض على هذه المقاربة غير وارد.
أما الاهتمام بالخطاب الشعري بصفة أساسية، فيمكن أن يرد إلى عوامل كثيرة، منها العامل الوظيفي، الذي فرض عليّ تدريس الشعر، ثم عامل منهاجي باعتبار أن الانزياحات اللغوية في الشعر، تفتح آفاقًا جديدة في البحث، كما أثبتت ذلك الدراسات المعرفية المعاصرة للاستعارة، بل إن الخطاب الشعري، يمكن أن يستند إليه، لاستكشاف العلائق بين الباحات الدماغية المتشابكة، ومن ثمة فقد يعتمد عليه للدفع بالبحوث اللسانية والتشريحية إلى الأمام.

مقايسة
• أنت من الباحثين القلائل الذين يدعمون المناهج التطبيقية بالمساءلة الأبستيمية والمعرفية، وذلك من أجل البحث عن العناصر الجوهرية القابلة للمساهمة في تفعيل وبلورة نظرية ملائمة، لماذا لا تترك هذا الجانب الميتا - تاريخي، لانتظارات المتلقي الحصيف؟
- حرصت على أن أصاحب عرض أساسيات المناهج بالتطبيقات، مبينًا أسسها الأُعْرُوفية، ومرتكزاتها الجوهرية، لأهداف متعددة، منها: النزعة التعليمية التعميمية، التي يجب أن يتوخاها كل مؤلف، وخاصة في بيئة لا تنتج تلك النظريات والمناهج، ومنها تبيان ما هو إنساني عام، ليس مرتبطًا بزمان ولا بمكان ولا بأشخاص، وبين ما هو خصوصي، ظرفي يمكن تجاوزه، ومنها إبراز نسبية كل نظرية إنسانية، مما يجعلها ليست من باب المطلقات، إذ أن كل نظرية ما هي إلا مجرد تقريبات. وهذا الموقف يجده من أراد أن يدقق أكثر في الابستومولوجيا الرياضية، التي تناقش الفرق بين الرياضيات الطاليسية التقليدية وبين حساب التكامل والتفاضل، وحساب الأجزاء المتناهية في الصغر، ومنها الأمانة العلمية التي تقتضي منّي أن أبيّن مراجعي، وأبرز كيفية التعامل معها، وخصوصًا بوسيلة المقايسة.

تجزيء وتحقيب
• طبقت في أبحاثك الأولى منهج التحقيب كمعيار لمقاربة تواريخ الأدب والثقافة العربية، وعلاقة الثقافة المغربية أو المغاربية بثقافة المشرق، وذلك من أجل البحث عن الخصوصية، من خلال دور البنية المركزية في بناء  الثقافة المغربية، المحددة في «الدعوة إلى الجهاد والاتحاد» وقد عبّرت عن هذه النزعة إلى «التمغريبت» بقولك «إن الآداب المغربية، صارت أكثر تعبيرًا عن الخصوصية المغربية والهوية المغربية والتقاليد المغربية بعد سقوط الأندلس» إذا كنت تعتبر أن هذه الخاصية حالة موضوعية، فإن بعض النقاد من دول الجوار المغاربي، من يرى في موقفك نزعة «شوفينية» ضيقة، كيف ترد على هذه الانتقادات؟    
- إن الحديث عن التحقيب، هو حديث عن جوهرية الزمان والمكان في هذا الكون، وإذ الزمان ليس سهمًا، كما تدل على ذلك الاستعارة، ينطلق من المنبع إلى الهدف، في غير توقّف ولا استراحة ولا نتوءات، فهذا زمان مجرد، أما ما يتعلق بالزمان العيني، فهناك مراحل، وإن كانت غير متساوية المسافة، يتوقف عنها الزمان من دون قطيعة، لهذا التجأ الناس إلى التجزيء والتحقيب بناء على مؤشرات.
إلا أن ما أريد أن أنبّه إليه، هو أن التحقيب قد يختلف من باحث إلى باحث، تبعًا للمقاصد الخاصة، فإذا ما استعرضنا التحقيب في المغرب، بغضّ النظر عن تعاقب الدول، فإن الباحثين في التاريخ والثقافة والحضارة المغربية، لهم تحقيبات مختلفة، فعلال الفاسي وعبدالله العروي، لهما تحقيب يراعي ما قبل خروج العرب من الأندلس وما بعده، وعبدالله إبراهيم، له حقب بثوابت اقتصادية واجتماعية، وأحمد التوفيق، حقب بمدى انتشار الإسلام.
وعليه، فإن التحقيب هو وجهة نظر، ومن ثمة، فللباحث الجزائري، أو التونسي أو الموريتاني أو الليبي، أن يحقب وفق ما يتوخاه من مقاصد، لقد حقبت الثقافة المغربية، بحسب مرتكزات أيديولوجية ومعرفية، خاصة بالمحيط الذي خبرت ثقافته.
لذا فإنه علينا نحن المغربيين، أن يعتني كل واحد منا بمحيطه، ثم بعد ذلك، يمكن أن تركب تلك المجهودات في عمل متكامل.

مفاهيم متداخلة
• من أهم الإضافات المعرفية التي قدمها مشروعك النظري، هو التمثيل على قدرة الخطاب العربي على استيعاب النظرية والمناهج الحديثة، كما في كتابك الأخير، «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، اللغة - الموسيقى - الحركة» (في جزأين)، حيث غامرت بتوظيف نظريات لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، كالمعرفة الموسيقية، وكأنك، حسب رأي بعض النقاد، تبالغ في عرض النظريات إلى حد التضخم المنهجي، الذي قد يحجب أحيانًا القيمة الجمالية والمعرفية للنص المدروس.
- في ضوء مبدأ الوحدة المتعددة، أجيب عن هذا السؤال، بأن اللغة والموسيقى والحركة مفاهيم متداخلة، ذلك أن الدراسات العصبية التقليدية، كانت تجعل للموسيقى باحة في الشق الأيمن من الدماغ، وتقترح للغة باحة في الشق الأيسر منه، لكن مستجدات واكتشافات الدراسات المعاصرة للدماغ، بيّنت أن هناك علاقة وتداخلاً بين باحات الدماغ كلها، مما يجعل اللغة موسيقى، والموسيقى لغة، والمؤطر للغة والموسيقى هي الحركة بدرجاتها المختلفة: الحركة المحسوسة البطيئة أو السريعة، أو المعتدلة، والحركة المطلقة المجردة، ومن يطّلع على الدراسات المنجزة حول الزمان، يجد تفاصيل لهذه الأمور. الحركة إذن قانون عام لا يخلو منه إلا العدم، أو الكائنات الشبحية.
وتبعًا لهذا، فإن من أراد أن يكون ناقدًا يحاول الكشف عن الطبيعة وعن الإنسان، فلابد له من هذه المعارف، التي قد تستعصي على الأديب المحض.
وأما مستويات النقد الأخرى (الانطباعي والوصفي واللغوي) فإنها في حل من الدخول إلى هذه المعامع. ومع ذلك فله الحق في أن يقرأ ويتذوق ويوصل ما أحس به إلى القارئ، الذي لا يكون من أهدافه إلا المتعة الجمالية. وأما ما يتضمنه النص من معرفة، فهيهات أن تتعرف عليه الانطباعات والأوصاف والشروح.

لغة غامضة
• يوجه الناقد صلاح فضل، نقدًا عنيفًا للمشروع السيميائي المغربي، متهماً المناهج النقدية بأنها موسومة بـ «الغموض الشديد جدًا»، فأبسط المناهج اليسيرة تتحول في يده (الناقد المغربي) إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه وبعضهم الآخر، ليست لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي، وهم يفتقدون في المغرب العربي عمومًا - وهذا نقد لهم - رصد الظاهرة وفقًا لبصيرة نقدية تطبيقية، أما المبدعون منهم، فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم يتملكون زمام الأفكار الكبرى، لكنهم لا
يعرفون - في مجملهم - كيفية تطبيقها على الواقع الإبداعي، فهل هذه المناكفات تدخل ضمن علاقة الحوار التاريخية بين المشرق المركزي والمغرب الهامشي، أم أنها نوع من التعالي الذي يخفي واقع الفراغ النقدي في مصر المحروسة؟  
- إن المقاربة المعرفية للنصوص، تفرض مستوى من اللغة، كثيرًا ما نعتت بأنها غامضة، ومع ما لي من اعتراض على هذا الطرح، فإنه يلزمني أن أنبه إلى القضايا الآتية:
 • مراعاة مستويات اللغة، وهي: المستوى الطبيعي والمستوى الشعبي والمستوى المفهومي ومستوى لغة اللغة، ومستوى اللغة التهجينية، إن من يرى أن هناك غموضًا في اللغة، محكوم بالمستويين الأولين، في حين أن لكل علم مفاهيمه الخاصة به، فللفيزياء لغتها، وللاقتصاد لغته وللرياضيات لغتها...، وقد أرى أن الغموض دليل على خصوصية ذلك العلم وعلى جوهره، وإلا صار من قبيل اللغة الطبيعية المتداولة، فلا تحصل منه معرفة ولا فائدة.
• النقد المعرفي الحقيقي محكوم بلغات علمية متعددة كلغة الفيزياء والكيمياء، ولغة المنطق، ومرتبط تقدمه بالعلوم الخالصة والعلوم الاجتماعية، أما ما دون ذلك، من مستويات نقدية انطباعية أو وصفية، فلا حاجة له، ولا ضرورة تدفعه إلى أن يكون غامضًا، وهذا لا يعني أنني أقلل من وظائف هذه المستويات، والقارئ محتاج إليها كلها.
• المستوى المعرفي، بطبيعته وبغاياته، خاص بنخبة النخبة، فلا يصير مستساغًا لدى الجمهور ومقبولاً منه، إلا إذا أصلح التعليم، وتحرر الفكر من القيود والحجر عليه.
إن ما يثار من آراء حول النقد المشرقي والمغربي، ليس إلا من قبيل المستملحات والدعابات. فهل نقاد أمريكا، وهي قارة متعددة الولايات، منتجة لأنواع من النقد، لديهم هذه المواقف؟ إن الشعور بالمسؤولية الثقافية يقتضي جدية أكبر.

مجاعة نقدية
• إذا استثنينا أبحاثك المتواصلة في المجال النقدي، فإن الساحة النقدية المغربية والعربية، صارت تعرف تراجعًا وانحسارًا يصل إلى حد «المجاعة النقدية»، حسب تعبير الناقد علي الراعي، وهذا ما يفسر غياب حركة نقدية تواكب الإبداع الأدبي، كيف تنظر إلى مستقبل النقد العربي عمومًا؟   
- في ضوء ما سبق، أجيب عن هذا السؤال بما يلي، إن الساحة المغربية والعربية، فيها نقد بحسب ما رصدنا من مستويات، فهناك  نقد انطباعي ووصفي ولغوي، مواكب أو يكاد يواكب الحركة الإبداعية، ومن يطالع الملاحق الثقافية، التي تصدرها كثير من الصحف العربية، يرى هذا بكل وضوح، وعليه، فإن مثل هذه الحركات النقدية تستحق أن يعتنى بها ويشجع أصحابها، أما النقد المعرفي، فهناك أيضًا حركة نشيطة يسهم فيها نقاد شباب وأساتذة في الجامعة، وتتجلى هذه الحركة في الأنشطة السيميائية واللسانية والفلسفية، وما قد يوحي بـ «المجاعة النقدية» هو قلة الترويج لها.
النقد إذن لا يقوم به فرد وحده، وإنما هناك تيار متعدد المشارب، آخذ بمُستجدات الثقافة المعاصرة. 

صيرورات تاريخية
• قدمت بحثًا علميًا رصينًا بعنوان «ما بعد الاستشراق» حاولت أن تجدد فيه مفهوم الاستشراق في علاقته بثنائية الشرق والغرب، خاصة أن بعض الباحثين التقليديين، نظروا إلى هذا المصطلح باعتباره دعوة إلى القطيعة مع الثقافة الغربية، بينما قدمت في بحثك قراءة تسعى إلى ملاءمة مفهوم الاستشراق ومسايرته لروح العصر وعلومه، ما هي المرامي والأهداف الاستراتيجية التي تسعى إليها، عند مراجعتك لمفهوم الاستشراق؟ 
- بناء على ما تقدم، فإن الجواب عن السؤال يصبح تحصيل حاصل، فحينما تتبنى مقاربة العلوم المعرفية، التي تركز بصفة خاصة على المشتركات الإنسانية، فإن كثيرًا من مبادئ الاستشراق التقليدية تصبح غير وجيهة. ذلك أنه تأسس في ظل الصراع القائم على مقابلة الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، وبناء على هذه المقابلة، فهناك تفكير بدائي وتفكير حضاري، وثقافة بدائية وثقافة عالمة، وعقلية تحليلية وعقلية تركيبية، إلى غير ذلك من الثنائيات، لقد استمر هذا الاتجاه إلى يومنا هذا، في أزياء مختلفة: منها ما بعد الكولونيالية، وصراع الحضارات وفلسفة الاختلاف.
الطرح المعرفي هو تتويج لصيرورات تاريخية، تمثّلت في بعض التيارات الفكرية المثالية، وفي الأنثربولوجية البنيوية، وفي السيميائيات، وفي اللسانيات التوليدية، وهذه الروافد الثقافية، إلى جانب العلوم المعرفية، تركز على الكليات البشرية، لكنها في الوقت نفسه لا تغفل الخصوصيات المحيطية والشخصية.
إذن، كان من الضروري أن يتجاوز ما يروج في الساحة الثقافية، حول الاستشراق، الذي يعكس ثقافات مركزية وعرقية، غافلاً عن وحدة الفكر الإنساني من حيث المبدأ والنشأة.

رؤية متعصبة
• كيف تقرأ الوضع العربي المتردي، باعتباره علامات سيميائية، بعد انتشار «الفوضى الخلاقة» التي نتج عنها ما سمّي بـ «الربيع العربي»، الذي انتهى مآله إلى حروب الردّة، التي قادتها الحركات التكفيرية، والصراعات الطائفية بين الإخوة الأعداء، كيف يمكن أن نحلل واقعنا السديمي ومظاهر الفوضى التي نعيشها، اعتمادًا على المفاهيم السيميائية الإجرائية التي طبقتها في أبحاثك، كالنظرية الكارثية أو الكاووس ونظرية العماء ومبدأ الحرمان؟
- ما تجب الإشارة إليه والتأكيد عليه، هو ارتباط العلوم المعرفية (الذهن البشري) بالمكونات الثقافية (أي المحيط) إذ الإنسان، منذ أن وجد، محكوم بالطبيعة البشرية والمحيطية في آن واحد.
تبعا لهذا، افتُرض أن رؤياه للكون تستند إلى هذا الوضع الثنائي، كما بينت ذلك الأساطير والتوراة والكسمولوجيا والفيزياء، إلا أن ما احتوت عليه التوراة صار مصدرًا أساسيًا على مر الأزمان، وخلاصته: حقبة العماء، والهباء، والسديم، والفوضى... وحقبة الحدث الأكبر، الذي ينتج عنه واقع جديد، وحقبة النظام الطبيعي الذي يتجلى في ترتيب الكون البديع. 
ومن ثمة، فإن كل ما في الكون يقوم بوظيفة معيّنة، إلا أن هذه الرؤية الغائية، متعصبة مثالية غير تاريخية، ذلك أن التشعب، والتشظي، والانشطارات المتعددة، قد تكون وسيلة إخصاب وإغناء في الفيزياء والمجتمع والأفراد، إذا كانت منضبطة للقوانين الطبيعة، لكنها قد تكون سببًا في الفوضى الفيزيائية والمجتمعية والفردية، مما يؤدي إلى الكوارث الكونية، وإلى الحروب الأهلية، وإلى الممات. ومعنى هذا أنه قد يكون هناك إخلال بالحكمة الإلهية، ومن ثمة فإن بعض بني البشر، يرون أن التدخل واجب، لإرجاع المياه إلى مجاريها، وهم الخصم والحكم ■