جوهرة نفيسة من كنوز ابن الرومي

جوهرة نفيسة  من كنوز ابن الرومي

ما أشبه بعض قصائد شعرائنا الفطاحل بعقود اللؤلؤ المنظوم، تفيض إبداعًا وعبقرية من مطلعها وحتى ختامها، بل ويزيد بعض العباقرة منهم فوق الجمال جمالاً، بأن تجد بين لآلئ ذلك العقد المنظوم جوهرة أو جواهر نفيسة نادرة، وكأنها ألماسة مصقولة لامعة مشعّة، تزيّن حباته، فتزيده جمالاً، وتزيد القارئ إعجابًا بإبداع الشاعر، واستمتاعًا بسحر بيانه.

 

من هذه العقود المنظومة النفيسة، تلك القصيدة الهمزية للشاعر العبقري ابن الرومي، التي مطلعها:

يا أخي أين رَيْعُ ذاك اللقاء
أين ما كانت بيننا من صفاءِ
أين مصداقُ شاهد كان يحكي
أنك المخلصُ الصحيحُ الإخاءِ

وهي قصيدة من روائع الشعر العربي بشكل عام، ومن روائع شعر الوجدانيات، والإخوانيات بشكل خاص، كتبها ابن الرومي إلى صديق له يُكنى أبا القاسم، وسبب نظمها أن ابن الرومي كانت له حاجة عند هذا الصديق، وكان يعوّل عليه في قضائها أشد التعويل، لمكانته منه، ومتانة الصداقة معه، غير أن صديقه قصّر في أداء تلك الحاجة، فعاتبه بهذه القصيدة البديعة.
ومن الجواهر النفيسة التي تزين عقد هذه القصيدة، بيت نادر فيه من الجمال والإبداع ما فيه، وهو قوله في العتاب:
 
أنت عيني وليس من حق عيني
غَضُّ أجفانها على الأقذاء

ولمعرفة مكامن الجمال في هذا البيت، دعونا أولا نضع المعنى الذي أراده الشاعر مجردًا بلا رتوش، فهو يريد عتاب صديقه على بعض العيوب والزلات التي بدرت منه، ليس هذا فقط، بل يريد أن يقول له إن الأخوة والصداقة اللتين تجمعان بينهما، تجعلانه لا يرضى أن يرى في صديقه عيوبًا من دون أن يبينها له، وعمل معه على تداركها، باختصار يريد أن يقول له: «أنت صديقي المقرب، وخلّي الوفي، وما يكون لي أن أرى فيك زلة من دون أن أبينها لك وأنصحك باجتنابها، وأساعدك على ذلك».
 ولكننا كما نعلم جميعًا، فإن نفس الإنسان جُبلت على حب الإطراء والمديح، وعلى النفور من النقد والعتاب، فاستخدم الشاعر لنصيحة أخيه أسلوبًا نفسيًا فريدًا، إذ بدأ بمديح الصديق مديحًا رقيقًا من خلال تشبيه رائع على بساطته، فقال له: أنت عيني!
وهو بهذا الاستهلال البليغ، حقق غايتين، الأولى أنه استرعى انتباه صديقه، ومَن منا لا ينتبه لشخص يقول له «أنت عيني»؟، وهل هناك أغلى من العين وأرق وأجمل من التشبيه بها؟
 والغاية الثانية أنه جاء بتشبيه بليغ يحمل في كلمتين كل معاني الصداقة والأخوة، ولنا أن نعدد من جوه الشبه بين العين والصديق، ما لا يحده إلا الخيال، فالعين أغلى حواس المرء، لأنه بها يبصر ما حوله، والصديق كذلك مرآة أخيه، به يرى نفسه والعالم من حوله، والعين هي أكثر ما يحرص المرء على حمايته ورعايته وحفظه من كل أذى وسوء، وكذلك يجب أن يكون حال المرء مع أخيه، يحميه ويحفظه ويرعاه، وإن أصاب عينه مرض أو رمد لا يصبر على ذلك، بل يسارع إلى علاجها والعناية بها، وكذلك فإن الخل الوفي يسارع لنجدة أخيه إذا ما أصابه أي أذى أو رزية أو مشكلة، ولا يهدأ له بال حتى يرى خله في أحسن حال.
 ثم يتابع فيقول: وليس من حق عيني، فلم يقل «وليس من حقك»، ولكنه قال «ليس من حق عيني»، فنسب النقد والعيب لنفسه ولعينه لا لصديقه، مع أن المقصود واضح وهو الصديق، وهذه من جديد التفاتة بديعة أخرى لها ما لها من أثر نفسي ولطف خفي على السامع، بالإضافة إلى الرقة المضاعفة في تكرار لفظ «عيني» مرتين في شطر واحد، وكأنه يقول له «يا عيني... يا عيني...»، وفي ذلك تأكيد على عمق حبه لصديقه، وكل هذه الظلال والرقة في شطر من خمس كلمات، فلله دره من شاعر.

الشطر الثاني
بعد هذه المقدمة الرقيقة، التي تفيض لطفًا ومودة، كأننا بالصديق ينظر بلهفة إلى صديقه مشنفًا أذنيه منتظرًا أن يسمع ما سيقول صاحبه، وما هذا الذي ليس من حق العين؟ يفاجئنا الشاعر بتشبيه جديد ولا أروع، فيُتبع التشبيه البليغ في الشطر الأول «أنت عيني» باستعارة بليغة تصويرية حية مليئة بالحركة والمعاني والظلال، فالعين على قدرها العظيم عند صاحبها، لا تغمض أجفانها على الأقذاء، أي لا تسمح بأي شيء مهما صغر أن يعيق صفاءها ورونقها وإبصارها، والقذى هو ما يقع في العين من غبار أو تراب فيؤذيها، ويضايق صاحبها، ويسبب له إزعاجًا شديدًا، لا يتخلص منه إلا بتخلصه من ذاك القذى، فإن تجاهلته العين، وأغمضت أجفانها عليه ولم تتم إزالته، سبب الوجع والدمع وغشاوة الإبصار، ومنه قول الخنساء تصف بكاءها على أخيها:

قذى بعينيك أم بالعين عُوَّارُ
أم ذَرَّفت إذ خلت من أهلها الدار

فالقذى مثل العوار، وهو الرمد، مؤذٍ ومؤلم ويحجب النظر، وتشبيه العيوب أو الزلات بقذى العين تشبيه لطيف بليغ لا يتأتى إلا لرقيق الحاشية مرهف الحس واسع الخيال، فالقذى رغم أنه قد يكون بحجم ذرة التراب، ولكنه كافٍ ليعكر صفاء العين ويتعبها ويُجري دمعها، ولا أظن أحدًا يسمع هذا الشطر إلا ويرف بجفنيه متخيلًا حال عينه لو كان فيها قذى، فيوصل الشاعر المعنى المراد إلى صديقه بألطف أسلوب وأجمل طريقة، إذ يريد أن يقول له: إن العيوب والزلات مهما صغرت فقد تعكر صفو الأخوة والصداقة، وإن سكوته عن عيوب صديقه مؤلم له ومعكر لصفوه، كما تتألم العين من القذى، وإنه لن يرتاح ضميره ما لم يبين لصديقه تلك العيوب والزلات، وما كان ليرضى أن يترك زلة في أخيه من دون أن ينصحه باجتنابها، مثله في ذلك مثل العين التي لا يصفو حالها إن كان بها ذرة من قذى.
ويزيد من لطف المعنى ما أسلفنا من أن الشاعر ينسب هذا القذى لعين نفسه «وليس من حق عيني»، ولم يقل له: وليس من حقك أن يكن لك عيوب وزلات، وكأن الشاعر متمثلا بالعين هو المذنب، وليس صديقه، وهذه غاية اللطف والرقة مع الشخص الذي يعاتبه، وتعبر عن نوع من وحدة الحال بينهما، فيا له من بيت قصير، ولكنه يحوي من المعاني والظلال، والرقة والجمال، ما لا يتأتى وضعه في تلك الكلمات المعدودة، إلا للعباقرة من الشعراء من أولئك الذين يستطيعون بموهبتهم الفذة، أن يرسموا بكلماتهم ما تعجز عنه ريشة الفنان المبدع. 
ثم يختم ابن الرومي قصيدته هذه بمثل ما ابتدأها به من أبيات رقيقة، يطيِّب بها خاطر صاحبه بعد أن عاتبه، ومنها قوله:

ومــع الـعُـتـْبِ والـــعــتاب فإني
حاضر الصفح واسع الإعفاء
ولك الود كالذي كان من خلـ...
ـلك والصدر غير ذي الشحناء
ولك العذر مثل قافيتي فيك…
ـك اتــــــساعًا فإنها كالفضاء
وتــــأمل فــإنـــهــا ألــــف ا لمــــدّ…
لــــهــــا مـــــدة بــغـــيـــر انــتـــهــاء
وأنــــا المــــرء لا أســـــوم عــــتــابي
صـــاحبا دون صفوة الأصفياء ■