إلى أين المصير؟

خدعونا فقالوا «عولمة»! وبهذا المبدأ حَكَموا وتَحَكّموا، فأصبحنا بلا هوية، ولا ثروة ولا حرية.
وبعد أن أخسروا الميزان الاقتصادي لأوطاننا العربية، قسّموا الثروات بيننا وبينهم قسمة ضيزى. زرعوا في كيان الوطن أطرافاً صناعية؛ أيادٍ غادرة ليس لها همٌّ سوى السرقة والتخريب، عاثت في الأرض فساداً. ثم قدموا إلينا من أموالنا عدواً لنا على شكل تكنولوجيا متقدمة، ألْهت الأجيال وسفّهت النساء والرجال، وأطاحت آمال الحرية، لتكون قيداً وسجناً لنا. أصبحنا مراقَبين في شوارعنا ومنازلنا وأماكن أعمالنا والأسواق، فحاصرنا الخوف وغشانا الهمّ والغم، والتفّت الساق بالساق، كقطيع أغنام يُساق.
حكم الزمان علينا بأن نحيا في سجون الوهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. النور بين أيدينا، فلا تراه أعيننا العمياء ولا تنشرح به قلوبنا المظلمة.
نهوى الجهل، لنعيش فيه زماناً، حتى صار الكُفْرُ بالعلمِ إيماناً، وصارت الفِكْرة الخلاقة وسواساً، وأصبحت أضغاث الأحلام رؤىً، والأساطير والخرافات مرجعاً... الخوف يحاصرنا من كل ناحية، يتغلغل في القلوب ويفيض على النفوس ويرهق العقول ويزهق الأرواح، لنرى الموت في كلّ مكان، حتى في المأكل والمشرب والملبس والسكن!
ثم خدعونا باسم «الحرية»، فخططوا ليقدّموا لنا فوضى، أضرت أكثر ما أضرت بأهلٍ لنا. وعمّ خراب الديار، وانتشر الدمار، وانكسرت النفوس، وتفرّق الشمل، وضاعت الذكريات، وانهمرت العَبَرات، ليتوضأ بها الصائمون في رمضان، ويغتسل المسلمون في عيد الفطر من دموع الثكالى والأرامل والأيتام.
وعلى الرغم من كلّ ما جرى ويجري من تفكك الدول العربية، في ليبيا والسودان واليمن، وشتات كثير من أبنائها في سورية والعراق، والجوع الممزق للصومال، يظل هناك بريق أمل في بعض القيادات العربية الحكيمة، التي طالما وقفت أمام المحن لتضع كلّ ما هو متاح لها من قدرة مادية وسياسية في خدمة شعوبها وبقية شعوب الأمة العربية، واتخاذ الحذر بعداً عن الخطر.
أترى تضيع من أيادينا أوطان غير فلسطين؟! فلسطين الحبيبة... فلسطين السليبة التي لا نزال نبكي عليها وعلى أهلها الذين غدرت بهم كل أيادي الشرّ في هذا العالم. ألا يا أهل فلسطين يا رمز إلهام الأمة العربية بالصمود والتحدي، لا تزال الأجيال تستلهم منكم القوة.
هذا رمضان الكريم قد حلّ، وليالٍ عشر تختمه، ثم عيد الفطر الذي تحتفل الأمة الإسلامية، به وفيه، داعية مستبشرة مبتهلة بدوام السعادة والهناء.
واليوم، سُرقَت منا الأعياد كما سُرقَ منّا الفرح والسرور، ونُهبت الديار والدور، وسُلِبَت الكرامة والأرواح، ودُمِّرت المُدُن، وحُكِمَ علينا بالخوفِ من كل شيء، حتى أصبحنا نخاف من السعادة والفرح. وبدلاً من أن نجمع قوانا ونتكاتف، صرنا نتقاتل فيما بيننا بكل عنف ودموية، تحت صيحات زائفة، ومقالات مشبوهة، ومقاصد رجعية، غُلّفَت بشعارات وهمية لتصحيح الدين ونصرة الوطن.
وعلا صوت الفتنة، وخَفَتَ معها صوت العقل، ونسجت خيوط الشياطين في كلّ زاوية من زوايا الحياة أشراكاً للأمة العربية، تتهمها فيه بالفساد والعنف والإرهاب والعنصرية. كلّ التُهَم تُلْقى جزافاً، وعلينا أن نبرئ أنفسنا! ألا ترى أنّ كلّ القيود فرضت علينا باسم «الحرية»؟! وحين تبحث عن الحرية لا ترى إلا سجوناً أكثرها مُلئ بسجناء الرأي أو المتهمين بتُهم التعدي على الأنظمة السياسية وازدراء الأديان!
حرب جديدة
إنها حرب جديدة على العقل العربي بألا يُفكّر، وإن فكّر فلا بدّ أن يُدحر، ليُقتَل كيف قَدَّر وفكّر، حتى أصبحت أهم القضايا الفكرية لا يناقشها العقل والقلم، ولا المنطق والحوار، وإنما غدت مثل ما يشبه «المضابط البوليسية» لا بدّ أن يحكم فيها القضاء، ليجوب المفَكِّر غادياً راجعاً تَعِباً بين أقسام الشرطة ومكتب المدعي العام وقاعات المحاكم، فيضيع وقته ويٌنهَك جيبه.
ما أسهل الاتهام على الكلام، وما أصعب الدفاع عن النفس عندما يكون الدافع على الغضب الحميّة وحب الوطن.
رحم الله الشاعر الكويتي عبدالله سنان الذي استشرف المستقبل من واقع أحداث عصره فقال:
لا العيد بعد اعتداء المعتدي عيدُ
ولا الليالي بها للوضع تجديد
وهل نسميه عيداً والدماء لها
بين الهوْلِ أخاديدٌ أخاديد؟
عيدٌ وأهل الحمى يحتل ساحَهُمُ
شذّاذ صهيون؛ لا فليرجع العيد
عيدٌ وأهل الخيام الباليات بكت
من أجل حالهمُ الأحراش والبيد
وكيف نهنأ بالعيد السعيد وقد
غشتهم محن تترى وتهويد؟
وكيف نلبس أثواباً منمقة
وابن الحمى ثوبه في القرّ مقدود؟
وكيف نختال في الأسواق في مرح
والباب دون حماة الدار موصود؟
وكيف يغفو لنا جفن وفي مزق الـ
خيمات جفن من الأحداث مرمود؟
ماذا عسانا بعيدٍ ليس فيه لنا
تقــدُّم وانــتصـــارات وتـــأيـــيد؟
نـــعد أو نتــحلى أو نـــزاولـــه
وكيف فيه لنا تحلو الأناشيد؟
أين الرجال؟ أما آن القيام على
شراذم الغرب، بل أين الصناديد؟
أيستحل روابينا قراصنة
قهراً ويغتصب القدس الرعاديد؟
أيحرم العيدَ أنصارُ الرسول وأنـ
صار المسيح، ويخبو فيه تمجيد؟
أيُغلق المسجد الأقصى بأوجههم
وهُم كماة، فهلا استنعج الصيد؟
بالأمس أبناؤه في ظل قبّته
لهم صدى في نواحيه وترديد
واليوم يُحرم من سعي لساحته
قومٌ لهم فيه تكبيرٌ وتحميد
يا قوم قد بلغ الضربُ الأنوفَ وقد
حلّت بنا نُوبٌ مشؤومة سود
بدّد بعزمك أحلام اليهود لكي
يخيب فيما أتى «بلفور» موعود
للنصر إشراقةٌ هيا نحققها
ففوق رأسك بند النصر معقود
سياستان ممنهجتان، خُطِطَ لهما بعناية تامة، «التجويع» و«التسمين»، وهما سياستان مطبقتان منذ زمن بعيد من المُستعمِر على شباب الأمم المُسْتَعْمَرة.
الأولى تهدف إلى تجويع الشعوب لكيلا يبقى لها هدف سوى التفكير بالمأكل والمشرب كسبيل أول للحياة. وقد تداول الساسة مثل هذه السياسة بسماجة المستكبر لتصبح شعاراً يقول: «جَوِّع كلبك يتبَعُك».
تخريب الشباب
أما السياسة الثانية، التي كانت تستهدف الدول غنية الموارد والثروات فهي سياسة «تسمين العجول»، والتي تستهدف الشباب بصفة خاصة. وبما أنّ الشباب هم مستقبل الأمم، فإنّ المستعمر يرى فيهم الخطر الأوّل، فيعمل على تخريبهم بإغداقهم بالمال سهل المنال والمُتع المحرمة والرفاهية الخداعة، وكل ما هو جائز لديه للإقلال من إنتاجهم وعطائهم للمجتمع والوطن، وبدلاً من العمل يشيع الكسل، وإن عمّ الكسل صعُب استدعاء القوة التي استُنزفت وخارت أصلاً. عُزل الشباب عن واقعهم الحقيقي بواقع افتراضي يعيشونه في إطار وهمي، وبما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي.
تفككت الأسرة، وانتهت الصداقات، وانتُهك الحب بين الناس عندما تحوّل إلى ما يشبه «الوجبات السريعة»، وانشغل الشباب بأجسامهم قبل عقولهم، وهامت الشابات بالعناية بمظهرهن أكثر من أرواحهن.
وخار قوام الشِّعْر، بعد أن ساد سفه الكلمات، وضاعت الموسيقى بين الضجيج، وما عدنا نذكر القصائد الجميلة أو الأغاني الحالمة التي تُدخل على النفس الطمأنينة.
أين تلك الأناشيد التي كانت الأجيال تتغنى بها للأوطان؟ هل ضاعت مع ما ضاع من أراضينا؟! أم أننا فقدنا الحماسة والشهامة والحبّ والوفاء؟ أأصبح القوم صمّاً بُكْماً عمياً، أم على قلوبٍ أقفالها، فلا يشعرون ولا يتدبرون؟!
في عام 1922م، سُجِنَ نجيب الريّس بتهمة معارضته للانتداب الفرنسي على سورية. وفي سجنه كتب قصيدة صار يتغنى بها كل سجين سياسي في بلاد الشام والجوار، قال فيها:
يا ظلام السجن خيّم
إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا
فجر مجد يتسامى
يا رنين القيْد زدني
نغمة تشجي فؤادي
إنّ في صوتك معنى
للأسى والاضطهاد
إيه يا دار الفخار
يا مقر المخلصينا
قد وهبناك شباباً
لا يهابون المنونا
وتعاهدنا جميعاً
يوم أقسمنا اليمينا
لن نخون العهد يوماً
واتّخذنا الصدقَ دينا
وربما عرف البعض منّا قصيدة «موطني» للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، التي لحّنها الموسيقار اللبناني محمد فليفل عام 1934م، لتصبح نشيداً وطنياً لبعض الدول العربية. إلا أنّ ما لم يعرفه الجيل الجديد، أن هذه القصيدة استمرت تُنشَد إلى يومنا هذا، ولكن بحماس أقل...
موطني
الجلال والجمال والسناء والبهاء
في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء
في هواك
هل أراك
سالماً منعماً وغانماً مكرماً؟
هل أراك في علاك
تبلغ السِماك؟
موطني
الشباب لن يكلّ همّه أن تستقلّ أو يبيد
نستقي من الردى ولن نكون للعِدا كالعبيد
لا نريد ذلنا المؤبدا وعيشنا المنكّدا
لا نريد بل نعيد مجدنا التليد
موطني
هل يعرف أحد من شباب هذا الجيل من هو بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير)؟ وهو من أنشد «نحن الشباب»، تلك القصيدة التي لحّنها الأخوان محمد وأحمد فليفل، يقول الشاعر:
نحن الشباب لنا الغد
ومجده المخلد
شـــعارنا عـــلى الــــزمن
عـــاش الــــوطـــن
بعنا له يوم المحن
أرواحنا بلا ثمن
يا وطني عداك ذم
مثلك من يرعى الذمم
علّمتنا كيف الشمم
وكيف يظفر الألم
السفح والجداول
والحقل والسنابل
وما بنى الأوائل
نحن له معاقل
الدين في قلوبنا
والنور في عيوننا
والحق في يميننا
والغار في جبيننا
نحن الشباب لنا الغد
ومجده المخلد
لنا العراق والشآم
والقدس والبيت الحرام
نمشي على الموت الزؤام
إلى الأمام إلى الأمام
نــــــــــبــــني ولا نـــــــــتــــــــــكــــــــــــــــل
نــــــــــــــفــــــــنــــى ولا نـــنـــخــــــــذل
لنــــا يـــد والــــعمل
لـــنا غـــد والأمــــل
نحن الشباب
وهل يعرف جيل اليوم الشاعر عبدالله شمس الدين، وهو الذي أنشد قصيدة «الله أكبر» ضد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956م، ولحّنها محمود الشريف في العام نفسه، لتصبح فيما بعد النشيد الوطني لليبيا:
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي
بلدي ونور الحق يسطع في يدي
قولوا معي الله أكبر
الله فوق المعتدي
يا هذه الدنيا أطِّلي واسمعي
جيش الأعادي جاء يبغي مصرعي
بالحق سوف أردّه وبمدفعي
فإذا فنيت فسوف أفنيه معي
قولوا معي الله أكبر
الله فوق المعتدي
قولوا معي الويل للمستعمر
والله فوق الغادر المتكبر
الله أكبر يا بلادي كبّري
وخذي بناصية المغير ودمري
قولوا معي الله أكبر
الله فوق المعتدي
تلك كانت بعض أناشيد الأجيال السابقة، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، أملاً بأنّ روح كلمات هذه الأناشيد لا تنقطع أو تموت. وأختم بذكرياتي، مع نشيد «حماة العرين» للشاعر والأديب الكويتي الراحل عبدالله سنان، ومن ألحان الموسيقار الخالد أحمد باقر، يرحمهما الله، وأداء «شادي الخليج»، عبدالعزيز المفرج، أطال الله في عمره.
إعلان الاستقلال
في مثل هذا الشهر، يونيو من عام 1961م، وبعد إعلان استقلال دولة الكويت بأسبوع فقط، عقد رئيس العراق آنذاك عبدالكريم قاسم مؤتمراً صحفياً صرح فيه بعزمه على ضم الكويت إلى العراق.
وتأزمت العلاقات بين البلدين، عندما حشد العراق جيشه قرب الحدود الكويتية، فتحركت الكويت دبلوماسياً لإنهاء ذاك التحرش السافر. ولم تطُل الأزمة، فقد انسحب جيش العراق عن الحدود الكويتية، بضغط وتهديد من الدول العربية والمجتمع الدولي.
وعلى الرغم من امتعاض شعب الكويت وقيادته من التصريح العراقي المستفز، فإنّ ذلك لم يكلّ من عزم الكويتيين عن بناء دولتهم الحديثة ونهضتهم الحضارية التي استمرت إلى يومنا هذا. استقى الموسيقار أحمد باقر من موسيقى إشارة الأخبار في إذاعة وتلفزيون الكويت موسيقى نشيد «حُماة العرين»، الذي يقول فيه سنان:
آن أن نحمي الحمى والوطنا
آن أن ندفع عنه الإِحَنا
آن أن نصمدَ صفاً واحداً
آن أن نُقصي العدو الأرعنا
يا حماةَ العرين لقّنوا المعتدين
درسنا باليمين ضربة لن تلين
آن أن ننفي رقاد الأعينِ
ونعيد الصفو والعيش الهني
قد كفانا من صروف الزمنِ
محنٌ جرّت علينا مِحنا
يا حماة العرين لقنوا المعتدين
درسنا باليمين ضربة لن تلين
قم أخي واحمل بكفيّك السلاح
وطّد العزم لأيام الكفاح
أذّن الداعي ونادى للفلاح
إنّما الأرض وما فيها لنا
يا حماة العرين لقنوا المعتدين
درسنا باليمين ضربة لن تلين
يا بني قومي وأشبال الأسود
هيئوا العدّة للخصم اللدود
أنتمُ للوطن الغالي جنود
وبنوه وأنتمُ الأُمَنا
يا حماة العرين لقنوا المعتدين
درسنا باليمين ضربة لن تلين
وَجِّهُوها ضربة نحو العِدا
وأذيقوا خصمنا كأس الردى
وأبيدوه، فقد ضلّ الهدى
ودعوا التاريخ يروي فعلنا
يا حماة العرين لقنوا المعتدين
درسنا باليمين ضربة لن تلين
ذكريات يا لها من ذكريات... كانت مناهج التعليم فيها دروس فنون الرياضة والموسيقى والرسم، وضمن دروس الرسم تدخل النجارة والحدادة، وتزيد عليها نشاطات في التمثيل المسرحي والأداء الإذاعي والخطابة. وللطالبات نصيب مما حازه الطلاب، فلهم «التدبير المنزلي» ليتعلمن مبادئ الطبخ وتفصيل الملابس والخياطة. يومها كانت دروس اللغة العربية متنوعة العطاء، دروس: قراءة ونصوص وخط ومحفوظات ونحو (قواعد) وإنشاء (تعبير).
أما اليوم فنرى التلاميذ يدرسون اللغة العربية اثني عشر عاما، فيخطئون إملاءً وقواعد ولا يعرفون معاني أكثر المفردات. كما نرى المدارس خلوا مناهجها من الفنّ والرياضة، وكادت مكتباتها تكون نسياً منسياً، رفوف كتب خاوية، بلا قراءة ولا استعارة. كان العمل الجاد ميدان الرجال، يبنون بأيديهم صروح بيوتهم وأوطانهم ومستقبل الأجيال. وعلى مثل مجريات التغيّر تغيرت الأحوال، الكلّ لاهٍ بالأنا، فلا زوج ولا أخ ولا صديق ولا جار، ولا معلم ولا ممتهن حرفة ولا أستاذ ■