في أساليب الاقتباس والمعارضة في الشعر

في أساليب الاقتباس  والمعارضة في الشعر

مثلما أن الشجا يبعث الشجا، كما يقول مُتَمِّم بن نُوَيْرة، كذلك الشعر يبعث الشعر. ضرب من العدوى. وكثيرًا ما يقرأ شاعر  شعرًا أو يسمعه، وإذا هو منساق إلى قول مثله. 
وكثير  من الشعراء تستعصي عليهم الأبيات، فيمسكون بديوان شعر جميل يقرأونه، وكأنهم يحثّون قرائحهم بذلك، فتنصاع لهم القوافي، أو تتمرد أحيانًا؛ فإذا انصاعت جاءت بمواليد أصحاء، وإذا استعصت وأصر  الشاعر عليها، جاءت بأولاد مشوهين. ومن ذلك أو شبهه نشأ شعر المعارضة، أي بناء الشاعر قصيدته على قصيدة شاعر  آخر وزنًا وقافية ومعنى، وربما جاء هذا البناء على بيت من قصيدة أو شطر  من بيت، فيكون الأمر  أدنى إلى الاقتباس منه إلى المعارضة. وحسبنا في هذا الشأن أن ننظر  في بضعة شواهد مشهورة، يتسع لها صدر مقالة واحدة.

 

شاهدنا الأول هو نونية صفيّ الدين الحِلِيّ (677 – 750 هـ) التي يعرفها المشتغلون في الأدب، ولاسيما أدب عصر المماليك، ومطلعها:
قالتْ كَحَلتَ الجفونَ بالوَسَنِ
قلتُ ارتقابًا لطَيْفكِ الحسَنِ

ويعرفها أيضًا أجيال القرن العشرين، ولاسيما المعجبون بالمطرب المشهور محمد عبدالوهاب، لأنه غنّاها بصوته الشجي وموسيقاه الرائقة. لكن الذي لا أحسب أحدًا يعرفه هو أن الشطر الأول من ذلك المطلع مقتبس ببراعة من قصيدة غنّاها الخليفة العباسي الواثق بالله (186 – 232 هـ) المشهور بالعِلم والأدب والغناء، وأعني قوله الذي رواه كتاب الأغاني في أحد الفصول التي سماها: أغاني الخلفاء وأولادهم وأولاد أولادهم، وهو:
وأَسألُ اللهَ يومًا منكِ يُفرحني
فقد كَحَلتُ جفونَ العينِ بالسَّهَدِ
شوقًا إليكِ وما تَدرينَ ما لقيتْ
نفسي عليكِ وما بالقلبِ من كَمَدِ

والطريف في الأمر أن القصيدتين غُنِّيَتا: أولاهما في القرن الثالث الهجري، غنّاها الواثق نفسه وكذلك عَرِيب المأمونية، المغنية المعروفة في ذلك العصر؛ وثانيتهما في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) غناها محمد عبدالوهاب، على ما قدّمنا. غير أن الواثق جعل سواد الجفون متأتّيًا عن أرق العاشق، على حين أن الحِلِيّ جعله متأتّيًا عن نومه! 
وشكوى الشعراء العشاق، أو مدّعي العشق، السهرَ والأرق أمر معروف في الشعر العربي منذ الجاهلية حتى أيامنا، لكن شكوى أحد هؤلاء العشاق النومَ أمر غريب وخارج عن المألوف، وإن علّل اسوداد جفونه بارتقاب رؤية طيف الحبيبة في الحلم. فهذا لا شك غير مقنع، ليس لأن النوم لا يصيب الجفون بالسواد، عادة، بل لأن القصيدة تصف حوارًا طويلًا بين الحِلِيّ وحبيبته يدل على الجرأة، ومن كان جريئًا وعلى صلة بحبيبته لا يحتاج إلى انتظار طيفها في النوم. لكن يخيل إلينا أن الحبيبة متخيلة، وأن القصيدة عمل فني محض لا علاقة له بالواقع، وقد بناه صاحبه على شعر الواثق وغيره من الشعراء، أي بنى كلامًا على كلام، ولم يصف حدثًا واقعيًا أو قريبًا من الواقع.
 ويؤيد هذا الاحتمال أن الحبيبة لا يمكن أن تسأل حبيبها: لماذا سوّد النوم جفونك؟ لأنها إذا أرادت أن تَدَلّ عليه فإنما تسأله عن أرقه بسببها وليس عن نومه؛ بيد أن الشاعر تكلف ذكر النوم في الشطر الأول من بيته الشعري تمهيدًا للحديث عن رؤية الطيف في الحلم، في أغلب الظن، وهو ما يمكن إدخاله في التوشيح وفق اصطلاح قُدامة بن جعفر (ت 337 هـ). على أن المعنى الغريب الطريف قد يصرف النفس عن طلب الاقتناع، وبصورة خاصة في الشعر، ولاسيما إذا جاء ذلك في موسيقى لفظية جميلة؛ ولا ريب في أن صورة تكحيل العيون بالنوم وتوالي السين والنون من هذا القبيل، حيث جُعل المجرَّد يلوّن الحسّي، وجُعل صفير السين يصاحب تنوين النون، وهذا التجريد والعناية بالموسيقى، من أساليب الرمزيين في العصور الحديثة. فقد عوّض الشاعر، إذن، من تكلف المعنى رقةَ الموسيقى والإيقاع والإحساس، فضلًا عن الحوار السريع الذي لا نجد شبيهًا له في الشعر العربي، في ما نعلم. 
زد على ذلك أن تعدد المصادر التي أخذ منها الشاعر لم تجعل قصيدته لوحة فسيفساء جامدة، بل إن حركة الحوار الذي سنتحدث عنه عما قليل، نفت عنها الجمود. 
ومن المصادر التي أخذ منها الشاعر قول المتنبي (303 - 354 هـ) في صباه:
أَبْلى الهَوَى أَسَفًا يومَ النَّوى بَدَني
وفرّقَ الهَجْرُ بينَ الجَفْنِ والوَسَنِ
رُوحٌ تَرَدَّدَ في مثلِ الخِلالِ إذا
أَطارتِ الريحُ عنه الثوبَ لم يَبِنِ
كفى بِجسمي نُحولًا أنّني رَجَلٌ
لولا مخاطبتي إياكَ لم تَرَني
فقد أخذ الحِلِيّ من هذا الشعر، وربما من غيره، لأن معناه مما تداوله الشعراء، وطوّره فقال: 
قالتْ: فَعَيْنُ الرقيبِ تنظرنا
قلتُ: فإنّي للعينِ لَمْ أَبِنِ
أَنْحَلْتِني بالصدودِ منكِ فلو
تَرصَّدتْني المَنونُ لم تَرَني
فجاء بمعنى طريف ومميز، وهو أن المنون التي تدرك كل إنسان، تعجز عن رؤيته لشدة نحوله، فبلغ بالغلو أقصاه. وما يكاد يبرهن على تأثير المتنبي فيه أن القافيتين اللتين توالتا عند المتنبي، توالتا بصورة شبه حرفية عند الحِلِيّ هما: لم يبِنِ، (لم أبِنِ)، ولم ترَني، فضلًا عن استعمال كليهما كلمة الوسن في قافية المطلع وربطهما لها بالجفون. على أن جمال هذه القصيدة يجعلنا نؤكد مع من أكدوا أن مصطلح عصر الانحطاط، ومنه زمن الحِلِيّ، مصطلح لا يطابق مفهومه.
وقصيدة الحِلِيّ هذه مؤلفة من ثمانية أبيات، وتعبّر عن حركة معنوية حيوية، تؤديها جمل موجزة، فيها شبه أسئلة قصيرة وشبه إجابات سريعة، وتبدأ تلك الأسئلة بقالتْ، ويجاب عنها بقلتُ، وفي بعضها يأتي السؤال والجواب في بيت واحد، وذلك نحو ما جاء في البيت الثاني:
قالتْ: تَسَلَّيْتَ بَعْدَ فُرْقتِنا
فقلتُ: عن مَسكني وعن سَكَني 

وما جاء في البيت الخامس:
قالتْ: أَذَعْتَ الأَسرارَ، قلتُ لها:
صَيَّرَ سِرّي هواكِ كالعَلَنِ

وقد يأتي السؤال والجواب في شطر واحد من بيت، فيتألف كل منهما من كلمة واحدة، أو من جارّ ومجرور، كالذي في البيت الثالث:
قالتْ: تَناسَيتَ، قلتُ: عافِيتي
قالتْ: تَناءَيتَ، قلتُ: عن وَطني
وقد يستغرق السؤال والجواب بيتًا كاملًا، لكنه يحتاج إلى استطراد تفسيري في بيت يليه، كالذي في البيتين الأخيرين من القصيدة، دون غيرهما، ويقعان بعد بيت يعبّر فيه الشاعر عن طلب الوصل، وقد ذكرناهما منذ قليل في الكلام على الأخذ عن المتنبي.
فقِصَر الجُمل، وتماثل وزن الكلمات، وانتهاء أكثرها بحرف واحد هو تاء المتكلم وتاء المخاطب، فضلًا عن ياء المتكلم، وهو ما يدخل في الترصيع، جعل الإيقاع الموسيقي سريعًا، وذلك أمر غير مألوف في شعرنا العربي، إلا ما نجده في بعض الموشحات.

نُونيّتا البُسْتيّ والرُّنْديّ 
ومن أشهر الاقتباسات البارعة، أو ما يخيّل للمتلقي أنه اقتباس، قول أبي البقاء الرُّنْديّ (601 - 684 هـ) في قصيدته النونية المشهورة: 
لِكُلِّ شَيْءٍ إذا ما تَمَّ نُقْصانُ    
فلا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسانُ
وهو يوحي الأخذ من قصيدة أبي الفتح البُسْتيّ (نحو 336 -400 أو 401 هـ) المشهورة أيضًا:
زيادةُ المرْءِ في دُنياهُ نُقْصانُ
ورِبحُهُ غيرَ مَحضِ الخيرِ خُسْرانُ
ولئن كان الحِلِيّ اكتفى بأن اقتبس من الواثق صورة شعرية وجعلها مطلعًا، واقتبس معنى ووزنًا من المتنبي وغيْرِه، فإنه ظل في فن الغزل مِثل مَن أخذ منهم، وإن انتهج أسلوبًا جديدًا، واختار وزنًا شعريًا مختلفًا؛ أما الرُّنْديّ فقد اقتبس مطلع قصيته من مطلع قصيدة البُسْتيّ، أو هكذا خيِّل لأكثرهم، وعارض وزن تلك القصيدة وقافيتها، وأخذ عددًا من معانيها، فجمع بين الاقتباس والمعارضة، لكنه خرج عن الحكمة الصرف التي أفرغ لها البُستيّ قصيدته، والتي ارتدى لها لبوس الواعظ، إلى رثاء المدن؛ أي أنه ألبس معاني الحكمة لغرض آخر هو فن الرثاء، وهذا مما يعدّه بعض النقاد القدماء حذقًا شعريًا ممدوحًا يَخفى على الإنسان الغُفل ويدركه الفطن العالم. 
أما لماذا استعملنا فعل خُيِّلَ، فلأن المعنى الذي ساقه البُسْتيّ في مطلع قصيدته يبدو متداولًا في صورة أو في أخرى في أيامه وقبلها، وأشهر بيت في معناه منسوب إلى الشاعر أبي بكر الخوارزميّ (323 - 383 هـ) المعاصر للبُسْتيّ نفسه، ويقول:
إذا تَـمَّ أَمرٌ دنــا نَقْصُهُ
تَـــوقَــّعْ زَوالًا إذا قـــيلَ تـَمّْ 
زد على ذلك أن بين مطلعي البُسْتيّ والرُّنديّ فرقًا معنويًا؛ وهو أن الأول يتحدث عن تجاوز الحدّ في أمور الدنيا، سواء في ذلك العمر أو المال أو غيرهما، ويرى الربح في غير عمل الخير خسرانًا؛ على حين أن الثاني يؤكد أنّ التمام يعقبه النقصان؛ يقصد على الأرجح أنّ الممالك لا بد لها من أن تضعف وتنهار بعد بلوغها الأوج، وأن هذه قاعدة عامة تنطبق على كل الأمور؛ ولنلحظ لطيفة في هذا الشأن هو أن البُسْتيّ يتكلم على الزيادة، والرُنْديّ على التمام، ولا شك في أن التعارض ما بين الزيادة والنقصان أوضح منه في ما بين التمام والنقصان. 
ونزيد على ذلك اختلاف مضمون القصيدتين: ففي قصيدة البُسْتيّ كثير من التشاؤم والزهد، إذ يتحدث عن زوال الحظ والعمر، وبؤس المال، ويدعو بأسلوب وعظي إلى الانصراف عن الدنيا، وإلى الإحسان إلى الناس، والصفح، ومساعدة الآخرين، والاعتصام بحبل الدين، والتقوى، وبذل الخير، والمسالمة، والتعقّل، وينتقد عدوانية الناس وخيانتهم، ويرسل بعض الحكم في عاقبة الشرّ والاطمئنان إلى الأشرار، ويطلب البشاشة، والرفق، وحفظ الوجه، وترك التكاسل، وحسن اختيار المستشارين، والاكتفاء بصديق واحد، ويشير إلى تأثر سلوك الناس مع المرء بمقدار صلته بالدولة، مؤكدًا ضرورة المال وضرر الفقر، طالبًا الكفاية والقناعة، ومحذّرًا من الوشايةَ والمَطْل والعجلة والظلم والجهل والسرف، ونافيًا ديمومة السرور والشباب، واثقًا بغفران الله، وجبرِه للكسر إلاّ في الدين. 
أما قصيدة الرُّنْديّ فتبدأ بشكوى الدهر وتقلّبِه وغلبة المصائب فيه وحتمية الفناء، ثم يُعدِّد صاحبها من زال من ملوك اليمن والفرس وبني إسرائيل وجدود العرب، ثم يتحسر على مصيبة الإسلام، يعني مصيبة دولته، ويعدّد المدن الأندلسية التي سقطت في أيدي الإسبانيين كبلنسية وقرطبة، ويصور الإسلام باكيًا لحلول الكفر مكانه، ثم يلوم المتمتعين بالخيل والوادعين في أوطانهم على عدم اكتراثهم بأهل الأندلس الذين يُقتلون ويستغيثون، ويوبخهم على العداء الذي يفرقهم، وينتهي إلى تصوير مآسي أولئك الأندلسيين من استعباد وإذلال وتفريق شمل.
وعلى الرغم من أنّ قصيدة البُسْتيّ تنحو نحوًا دينيًا، وتقل فيها الصور الشعريّة الموحية، فإنّ بعض أبياتها قد جرى مجرى الأمثال، ومن ذلك:
أَحْسِنْ إلى الناسِ تَسْتَعْبِدْ قُلوبَهُمُ
فَطالَما اسْتَعْبَدَ الإنْسانَ إِحْسانُ
وكذلك:
لا تَحْسَـبَنَّ سُـرورًا دائِمًا أَبَدًا
مَـنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمانُ

وهنا نلج إلى ما أوحى تأثير هذه القصيدة في القصيدة الأخرى، وهو عبارة: «مَـنْ سَرَّهُ زَمَـنٌ سَاءَتْهُ أَزْمانُ» التي دخلت بحرفها في قصيدة الرُّنْديّ، حيث يقول:
هِيَ الأُمورُ كَمـا شاهَدْتُها دُوَلٌ
مَـنْ سَرَّهُ زَمَـنٌ سَاءَتْهُ أَزْمانُ

وممّا يدخل في قصيدة الرُّنْديّ أيضًا الشطرُ الثاني من قول البُسْتيّ:
يا نائِمـًا فَرِحـًا باِلعِزِّ سـاعَدَهُ
إَنْ كُنْتَ في سِنَةٍ فَالدَهْرُ يَقْظانُ

إذ يقول الرُّنْديّ:
يا غافِلًا وَلَهُ في الدَهْـرِ مَوْعِظَةٌ
إَنْ كُنْتَ في سِنَةٍ فَالدَهْرُ يَقْظانُ

ومع أن هذا يوحي تأثّر الرُّنْديّ بالبُسْتيّ، على اختلاف معانيهما، فإن الأمر يبقى محل نظر. فلنتأمل في قصيدة البُسْتيّ:
 - هي ثابتة النسبة إليه، بدليل استشهاد صديقه أبي منصور الثعالبيّ (ت 429 هـ) في كتابه «يتيمة الدهر» ببيت منها في باب «الطبيّات والفلسفيّات»، وإن لم يكن ذلك البيت أشهر أبياتها.
 - لكن الثعالبيّ نفسه لم يستشهد بأيّ بيت شائع منها في باب «الأمثال والنوادر والحكم والمواعظ»، وليس في ما رواه صديقه الآخر أبو النصر العُتْبيّ (ت بعد 412 هـ) في كتاب «اليميني» أي شيء منها؛ مع أنّ قصيدة مثلها يجب أن تلفت هذين الصديقَين، فيرويان أبياتها المشهورة. 
- أنّها تخالف نهج قصائد البُسْتيّ في سائر ديوانه، فهي الطويلة الوحيدة فيه، إذ تبلغ تسعة وخمسين بيتًا، وتشبه من هذه الناحية المعلّقات التي كانت، في الغالب، أطول قصائد أصحابها الجاهليّين، أو القصيدة الطويلة الوحيدة في شعر أحدهم أحيانًا. فالقصائد التي تتجاوز الأبيات العشرة في ديوان البُسْتيّ أربع، أطولها مؤلّفة من سبعة عشر بيتًا. 
أما إذا نظرنا في قصيدة الرُّنْديّ فإننا نجد:
- أنها متعددة الروايات، وتختلف كل رواية منها في الطول عن الأخرى، فقد لاحظ الباحثون أنها تراوح بين اثنين وأربعين وواحد وستين بيتًا، وأن المقّري (ت 1041 هـ) صاحب كتاب نفح الطيب لفت إلى أن بعض تلك الروايات ذكر سقوط غرناطة وبسطة مع أنهما سقطتا بعد وفاة الرُّنْديّ بمدة طويلة، واستنتج بعض أولئك الباحثين أن كثيرًا من الأبيات قد أقحم على القصيدة.
- أنها تشكو تفاوتًا في المعاني والأساليب، وكأن صاحبها غير واحد، وأنّ روايتها غير دقيقة، ولذلك نسبت إلى أكثر من شاعر أو اضطرب المؤرخون في اسم صاحبها أيما اضطراب. 
والحقيقة أن القصيدتين من الذيوع بحيث اصبحتا تراثًا شعبيًّا، وما زالت قصيدة الرُّنْديّ تدرَج في أيامنا بكثرة هائلة في المطبوعات، وفي صفحات الإنترنت، وبروايات مختلفة، تكثر فيها الأخطاء، أحيانًا، وتفسد المعاني.
وذلك كله يسمح بالاعتقاد أنّ للنونيّتين أصلين لكن غير معروفين بدقة، لأنهما قد خضعا للزيادة والحذف والتحريف، وأن القصيدتين استحالتا عملين شعبيّين أُسّسا على أصلين مجهولين، وتبرّع الرواة بتطويرهما، كالذي حدث للمعلقات ولكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي؛ وهذا أدّى إلى اختلاط بعضهما في بعض، وأخْذ بعضهما من بعض، من غير أن يكون في الإمكان تعيين مواضع الأخذ ومقاديره.

نُونيّة شوقي ومِيميّته
وهذا التمازج يدعونا إلى التفكير في قصيدة أخرى، هي تلك التي قالها أحمد شوقي (1868 – 1932 م) في العاشر من مايو سنة 1925 في المجمع العلمي العربي في دمشق، وقد سمى فيها دمشق باسمها القديم، أو باسم بعض نواحيها، أي جِلِّق، ومطلعها:
قُمْ ناجِ جِلِّقَ وانْشُدْ رَسْمَ مَنْ بانوا
مَشتْ على الرَّسْمِ أحداثٌ وأزمانُ

وهي على وزن القصيدتين السابقتين وقافيتهما. صحيح أن هذا لا يكفي للقول بالتأثير أو الاقتباس، وصحيح أيضًا أن الشاعر يمدح بها السوريين ويتغزل بجمال دمشق، لكن الصحيح أيضًا أنه يبدأ بما يشبه البكاء على الأمويين في الأندلس وفي دمشق، مومئًا إلى مدينة الزهراء التي أنشأها عبدالرحمن الناصر وجعلها عاصمة لخلافته في الأندلس، ومكنيًا عن دمشق بالفيحاء، وذلك إذ يقول:
يا وَيحَ قلبيَ مهما انْتابَ أرسمَهُمْ
سرى به الهمُّ أو عادتْهُ أشجانُ
بالأمسِ قمتُ على الزهراءِ أندبُهُمْ
واليومَ دمعي على الفيحاءِ هَتّانُ

مع أن ظرف قول القصيدة لا يدعو إلى الحزن، فهو مناسبة احتفاء بالشاعر نفسه وتكريم له؛ ولعل شوقيًا قد تأثر بأنباء الاضطهاد الفرنسي للشعب السوري، ذلك الاضطهاد الذي أفضى إلى نشوب الثورة السورية الكبرى في 21 يوليو من سنة 1925، أي بعد أقل من شهرين ونصف الشهر من ذلك المهرجان التكريمي، ولذلك بدأ قصيدته باكيًا، متأثرًا، في أغلب الظن، بقصيدة الرُّنْديّ، ثم استطرد إلى المديح والتغزل بالطبيعة السورية، وجعل لهذين الغرضين الحيز الأكبر من قصيدته.
ومما قد يؤيد ذلك قول شوقي بعد تساؤله عن وجود الخليفة الأمويّ مروان في مسجد دمشق:
تغيَّرَ المسجدُ المحزونُ واختلفتْ
على المنابرِ أحرارٌ وعِبدانُ
فلا الأَذانُ أذانٌ في منارتِهِ
إذا تــعالى ولا الآذانُ آذانُ
فلقد يحزن المسجد لغياب ذلك الخليفة، لكن لا مسوغ للتنكر للأذان ولسامعيه، فقد ظل الأذان هو نفسه في دمشق، وإن تطورت طريقة أدائه، وظل المسلمون في دمشق على احترامهم له ولإقامة الصلاة. لكن ذلك قد يصح في مدينة الزهراء التي خربها البربر، كما يصح في سائر المدن التي خربها الإسبانيون، والتي تَصوَّر الرُّنْديّ أن الإسلام بكى عليها لأنها أضحت خالية إلا من الكفر، ومما يقول في ذلك:
حيثُ المساجدُ قد صارتْ كنائسَ ما
فِيهنَّ إلاّ نواقيسٌ وصلبانُ
حتّى المحاريبُ تبكي وهْيَ جامدةٌ
 حتى المنابرُ تَرثي وهْي عِيدانُ
والحقيقة أن بكاء دمشق يبدو في قصيدة شوقي مقدمة كالمقدمات الغزلية في القصائد التقليدية، بدليل أنه يفجؤنا بعد كلامه الحزين بوصف جنان دمشق في طرب وبهجة، وكأننا بإزاء قصيدتين مختلفتين بالكلية: قصيدة حزينة في رثاء المدن (16 بيتًا)، وأخرى بهيجة في وصف دمشق ومدح أهلها وإزجاء النصح لهم (19 بيتًا).
وشوقي مشهور على كل حال في معارضة القصائد القديمة، ولاسيما الأندلسية، والاقتباس منها، وقد يعلن ذلك صراحة كما فعل في نهج البردة. ومع أنه نفى إرادته معارضة شرف الدين البوصيريّ (608 – 696 هـ)، بمعنى منافسته، وتواضَعَ له، فإنه أوحى عمليًا ابتغاء المعارضة، وذلك أنه لم يكتف باستعمال نفس الوزن والقافية والموضوع، وهو مدح النبي [، بل جعل قصيدته أطول من قصيدة البوصيريّ بأربعة وعشرين بيتًا، بالغًا بها مئة وواحدًا وتسعين بيتًا، على حين أن قصيدة البوصيريّ بلغت مئة وسبعة وستين فحسب. وبدا شوقي في أبياته المقتبسة وكأنه يحاول أن يتفوق على البوصيريّ، فهو يأخذ قوله:
يا لائمي في الهوى العُذْريِّ مَعذرةً
مِنّي إليكَ، ولو أَنصفتَ لَمْ تَلُمِ
مَحَضْتَني النصحَ لكنْ لستُ أَسمعُهُ
إنَّ المُحِبَّ عنِ العُذّالِ في صَمَمِ

فيجعله على هذه الصورة:
يا لائمي في هَواهُ والهوى قَدَرٌ
لو شَفَّكَ الوَجْدُ لَمْ تَعْذِلْ ولمْ تَلُمِ
لقدْ أَنَلْتُكَ أُذْنًا غيرَ واعيةٍ
ورُبَّ مُنْتَصِتٍ والقَلبُ في صَمَمِ

وكأنه يجعل بيتيه تنقيحًا لبيتي البوصيريّ؛ ولكن التنقيح ليس دائمًا أفضل من الأصل، فعبارة: إن المحب عن العذال في صمم، أكثر طبعية وجمالًا من عبارة: ورب منتصتٍ والقلب في صمم. 
ولا شك في أن الصيغة التي غنت بها المطربة أم كلثوم بيت شوقي هذا أفضل مما في ورد ديوانه، أعني: ورب مستمعٍ والقلب في صمم. والمغنون يحسّنون النص أحيانًا، كما قلنا في مقالة سابقة، لأنهم يطلبون البساطة التي تروق الناس. 
ولعل شوقيًا أراد تحاشي اشتقاق اسم فاعل من فعل سمع الذي استعمله البوصيريّ، فتكلف الاشتقاق من فعل متروك هو انتصت.
ويقول البوصيريّ:
واسْتَفْرِغِ الدَّمعَ مِنْ عَيْنٍ قدِ امْتلأَتْ
منَ المحارمِ والْزَمْ حِميةَ النَّدَمِ
فيقارب شوقي معناه، لكنه يجعل في لفظ:
رَكَضْتُها في مَرِيعِ المَعْصياتِ وما
أَخَذْتُ من حِميةِ الطاعاتِ للتُخَمِ

وكلا الصورتين متكلف وغير رائق، لأنهما أقرب إلى كلام الأطباء أو كلام العامة، وصيغة شوقي هي الأكثر تكلفًا، لأن كلمة مَرِيع، وتعني خصيب، لا توحي استقباح المعاصي، فضلًا عن كونها من الغريب هي وفعل ركض، بمعنى ضرب جنبي الدابة برجليه. 
ولشوقي اقتباسات أخرى في «نهج البردة» مثل تشبيه كبح النفس بإلجام الفرس، والتعبير عن التواضع لزهير بن أبي سلمى - مع أن البردة القديمة لكعب بن زهير وليست لأبيه -، وتذكير البوصيريّ باسمه محمد واعتباره ضمانة له، وتذكير شوقي باسمه أحمد، وهو أحد أسماء النبي، ومفاخرته بذلك. 
ومعارضات شوقي واقتباساته كثيرة وتحتاج دراسة مستقلة، ولم يكد يترك شاعرًا قديمًا كبيرًا إلا وعارضه أو اقتبس منه، مثل أبي نواس والبحتري والمتنبي وابن زيدون، وأصحاب الموشحات... غير أنه ينبغي التوضيح أن همزيته في مولد النبي الكريم ليست معارضة لهمزية البوصيريّ في الموضوع نفسه، خلافًا لما يتوهمه كثيرون، فهي من الوزن الكامل، وقصيدة البوصيريّ من الوزن الخفيف، كما أن مضامين القصيدتين مختلفة. 

النتاج
لقد اتفق أن معظم القصائد التي وجدنا فيها اقتباسًا أو معارضة قصائد مغناة، وبعض ذلك جاء مصادفة كاكتشافنا التشابه بين قصيدة الواثق وقصيدة الحِلّيّ، وبعضه حرّكته الذاكرة، على ما يبدو، لأنه في التراث الأدبي، كقصيدة شوقي في دمشق، وكذلك في التراث الغنائي الحديث كقصيدة البردة ونهجها. والذي يحسن بنا استنتاجه أن الشعراء يأخذ بعضهم من بعض، إما تعمدًا، وإما في اللاوعي، وأن التشابه في النصوص أو المعاني لا يدل بالضرورة على الاقتباس، ولاسيما في القصائد التي توحي أنها عمل جماعي، شارك فيه شعراء ورواة متعددون، على نمط ما حدث لإلياذة هوميروس في الشعر اليوناني ■