صعود النقد الحداثي
أعتقدُ أنني بدأتُ أسمع عن البنيوية منذ أواخر ستينيات ومطالع سبعينيات القرن الماضي، وكان ذلك بسبب المحاضرات التي كان يلقيها المرحوم زكريا إبراهيم في قسم الفلسفة الذي تجاوِر قاعاته قاعات قسم اللغة العربية.
كان زكريا إبراهيم - يرحمه الله - نجماً ساطعاً من نجوم الفلسفة العربية في ذلك الوقت، نسمع عنه ونطالع كتاباته بالشغف نفسه الذي كنا نتابع به كتابات زكي نجيب محمود وعثمان أمين وغيرهما من كبار أساتذة الفلسفة في العالم العربي.
لكن محاضرات زكريا إبراهيم عن البنيوية كانت شيئاً آخر، إذ جذبتنا إليها جذباً شديداً، وفهمنا منها أن هناك بنيويتينِ؛ بنيوية تكوينية ذات منحنى ماركسي يتحمس لها الماركسيون في ذلك الوقت، ويرون فيها حلّاً علميّاً يتخلصون به من النظريات الماركسية التي عجزت عن مواجهة الأدب الواقع المتجدد، خصوصاً عندما انحدرت نظرية «الانعكاس المنفتحة» في كتابات لوكاش على وجه التحديد، وتحولت إلى واقعية اشتراكية سرعان ما أصبحت أصولية مؤدلجة لم يرضَ عنها الماركسيون التروتسكيون على وجه التحديد، ولذلك عندما صدر كتاب محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، لم يَرُق لنا الكتاب، وأسعدنا أن الأستاذ أبوسيف يوسف - يرحمه الله - نقده نقداً عنيفاً في مقال بعنوان: «نُقّادُنا الواقعيون غير واقعيين».
وكان نَشْرُ هذا المقال مُفرِحاً لنا، أولاً لأنه كان يهاجم الأصولية الماركسية التي غرق فيها كتاب أنيس والعالم، وثانياً لأن مقال المرحوم أبوسيف يوسف (وقد نَشَر باسم مستعار هو كمال يوسف) كان على صلة بأحدث المستجدات في النقد الماركسي العالمي، خصوصاً النقد الذي كان يُكتب من أبناء الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية في أوربا التي لم تكن تعرف الأصولية الجامدة لكتابات الواقعية في العالم الشيوعي.
وهكذا بدأنا نسمع عن روجيه جارودي، صاحب «ماركسية القرن العشرين»، الذي ترجمه نزيه الحكيم ونشره في سنة 1967، وعن إرنست فيشر صاحب «ضرورة الفن»، الذي ترجمه أسعد حليم في القاهرة سنة 1971، وعما كتبه الشاعر الفرنسي بول إيلوار، وغيرهم من المنتسبين إلى اليسار الأوربي الذي كان نشيطاً في ذلك الزمان البعيد، ومتحرراً من دوجما الواقعية الاشتراكية التي تبنّاها اتحاد الكُتّاب السوفييتي رسميّاً سنة 1932 الذي أخذ يؤثر فينا منذ منتصف الستينيات.
نقد واقعي
هكذا سمعنا عن أسماء جديدة سرعان ما قرأناها مترجمة إلى اللغة العربية، ابتداء من رواية ذوبان الثلوج للكاتب الروسي إليا إهرنبورج من ترجمة سعد زهران، التي نشرتها دار المعارف بالقاهرة سنة 1966، وكان نشرها إيذاناً بسقوط السور الحديدي الذي فرضته الاستالينية في ذلك الوقت.
باختصار أخذنا نسمع عن نقد واقعي جديد بعيد عن الدوجما أو التصلب الذي كنا نراه في كتابات العالم وأنيس، ونقرأ لنقاد أجانب كبار عن واقعية أخرى بلا ضفاف وبلا حواجز أيديولوجية تتحول إلى أصولية جامدة، وفي الوقت نفسه لم تكن تنطوي على إعجاب كبير بمدرسة «النقد الجديد» التي كان ممثلها في مصر د. رشاد رشدي - يرحمه الله - والتي كانت لا تَكُف عن الحديث عن أن «العمل الأدبي يوجد ولا يعني»، أو عن خرافة المقصد، أو أن الناقد الأدبي ليس مطالَباً بالكشف عن علاقة العمل الأدبي بواقعه أو بصاحبه أو حتى أصوله، وإنما مهمته الأولى والأخيرة هي قراءة العمل الأدبي في ذاته، من حيث هو عمل أدبي مستقل تماماً، فهو عمل قائم بذاته ولذاته، ولا علاقة له بأي هدف خارج حدوده الأدبية والجمالية.
وكما حدث للنقد الذي ينتسب إلى الواقعية الاشتراكية، حدث الأمر نفسه للنقد الذي أخذ ينتسب إلى النقد الجديد، فلم تبهرنا القراءات الفاحصة Close reading التي قرأها رشاد رشدي وتلامذته وأشباهه للأعمال الأدبية، ذلك لأنها كانت قراءات تضع الأعمال الأدبية في سديم جمالي مزعوم، فتنفصل الأعمال الأدبية عن علاقاتها بزمانها أو مكانها.
صيغ جديدة
وقد زادت هزيمة 1967 الطاحنة من غضبنا وثورتنا على الجيل السابق علينا، ورأينا فيه جيلاً مسؤولاً عن الكارثة التي أوقعتنا فيها الدكتاتورية الفردية التي رمينا بها جمال عبدالناصر في ذلك الوقت، رغم كل محاولات هذا الزعيم العظيم لإصلاح ما كان، وجهوده العظيمة لإزالة آثار الهزيمة، وبناء جيشٍ مصريّ جديد من فئات مُتعلمة تعليماً عالياً وبعقلية ترتبط بالعصر، وذلك في موازاة إتمام مشروع السد العالي العظيم.
ولكن ذلك كله لم يفلح في منع انهيار إيماننا بأفق الدولة الوطنية القومية، ومن ثم بحثنا عن آفاق جديدة تؤمن بالتعددية، وتتباعد عن حتمية الحزب الواحد أو الأفكار السائدة المسيطرة.
ولم نكن وحدنا في ذلك، فقد كانت الثورة في نفوس أبناء جيلنا وحتى الأجيال السابقة عارمة، فبدأنا نتحول من صيغة الحزب الواحد إلى البحث عن صيغ جديدة.
وأذكر أن عبدالناصر نفسه، قبل أن يتوفاه الله، صرَّح بأنه يفكر في صيغة جديدة للتعددية السياسية، لكنَّ الوقت كان قد تأخر ورحل عن دنيانا الفانية، لكن بقيت الثورة موجودة في النفوس، وأخذ مثقفو العالم العربي الطليعيون يتطلعون إلى أشكال جديدة في الإبداع والفكر والأدب والنقد الأدبي على السواء.
وهكذا أخذنا نسمع عن أعمال أدبية كانت مُحرَّمة في المد الاشتراكي من مثل أعمال كافكا، وانفتح أمامنا السبيل لنعرف عن السيريالية في الفنون والآداب وعما بعدها، وأن نُفتِّش عن الجماعات الطليعية التي كانت موجودة في مصر منذ الثلاثينيات، مثل جماعة الفن والحرية التي أنشأها أنور كامل وجورج حنين وحسين صبحي وإبراهيم باسيلي وسامي رياض... ويتغير اتجاهنا في النظر إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط الذي كانت الحياة فيها قد تغيرت بدورها.
مصطلحات واتجاهات
هكذا بدأتْ تصل إلينا مصطلحات مثل: «الحداثة» و«ما بعد الحداثة»، ونقرأ عن هذه الكلمة أو الاتجاهات النقدية المصاحبة لها في الأسماء أو في الكتابات التي أخذت تتسرب إلينا أولاً عن طريق الترجمة، إلى أن استطعنا أن نقرأها في لغاتها الأصلية، أعني الإنجليزية لمن يعرفها أو يقرأ بها، والأمر نفسه على الفرنسية والبلاد العربية التي فُرِض عليها أن تنطق وأن تكتب بالفرنسية.
وهكذا وجدنا أنفسنا نسمع للمرة الأولى عن أسماء وآفاق جديدة، وبدأنا نقرأ أكثر عن «ماركسية القرن العشرين» لروجيه جارودي، خصوصاً في تجلياتها الأوربية، كما بدأنا نسمع عن الحداثة التي كانت موجتها الأولى قد تخلّقت في الثلاثينيات المصرية، حيث نشطت جماعة «الخبز والحرية» التي ضمت أنور كامل وجورج حنين وكامل التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وأحمد رشدي، وغيرهم من الذين تحلَّقوا حول «الكتاب المنبوذ» الذي أخرجه أنور كامل فيما يُشبه قصيدة النثر، وقد احتفى بالكتاب أحمد الصاوي محمد، الذي كان يُصدر مجلة «مجلتي» الطليعية في ذلك الوقت.
وكان أنور كامل يصدر مجلة «التطور»، ولكنها سرعان ما أُغلِقتْ واعتُقِل صاحبها سنة 1943، ولم يفرج عنه إلا في أوائل 1945. وكانت هذه المجموعة بوجهٍ عام يسارية الاتجاه، فرنسية اللغة، أكثر ميلاً إلى الفن التشكيلي وإلى النزعة السريالية التي جعلت من جورج حنين، صديقاً للمؤسسين الأوربيين لهذه الحركة في فرنسا على وجه التحديد.
جورج حنين
ويعد جورج حنين، رائد التيار السريالي على صعيديه الأدبي والفني. وقد وُلِد لعائلة أرستقراطية، وأكمل دراسته الثانوية في باريس، وصادق الآباء الأُوَّل للنزعة السريالية، وقد ظل قريباً من أندريه بروتون، رائد الحركة السريالية الفرنسية، قبل أن ينسحب منها في سنة 1948.
وكانت حركة الحداثة المصرية الأولى في الثلاثينيات، حركة صفوة من المثقفين الذين كان وعيهم بالثقافة المصرية يضعهم في الهامش من الثقافة المصرية، وإن ظلوا يمثلون الجانب الطليعي منها. وقد ترك حنين مصر منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952، وعاش في منفاه الداخلي والخارجي بفرنسا، بعد استقرار مؤقت في روما، إلى أن توفي سنة 1973، ودفنتْهُ إقبال العلايلي - زوجته، حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي - في القاهرة، مُنفِّذة له وصيته.
وتصاعدت الموجة الثانية للحداثة في الخمسينيات، خصوصاً في لبنان، حيث ظهرت مجلة «شِعر»، التي كانت بدورها تقليداً لمجلة «شِعر» الأمريكية، وكانت تصدر في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة، حاملة معها أشعار المدرسة الطليعية في ذلك الزمان البعيد، وأصدرتها الشاعرة إيمي لويل في العشرينيات، ناشرة شِعر ت. إس. إليوت، وإزرا باوند وغيرهما من شعراء فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا. والمؤكد أن الشاعر السوري أدونيس لعب دوراً مهمّاً فيما نسميه «حداثة الخمسينيات»، وأغلب الظن أن نشاطه الفعّال في مجموعة مجلة شعر ومعها، قد أشاع مصطلح «الحداثة» في الكتابات العربية.
حل جديد للمأزق
أعتقد أننا مَدينون لشعراء هذه المجلة ومفكريها بإشاعة هذا المصطلح. صحيح أن تحيُّزنا القومي كان يدفعنا إلى إيثار مجلة «الآداب» البيروتية التي كانت صوت القوميين من أمثالنا، لكننا كنا نقرأ - على سبيل الفضول - ما تكتبه مجلة شعر وأشباهها في بيروت التي كانت عاصمة فعالة - تماماً - من عواصم الثقافة العربية في ذلك الزمان.
وهكذا اقترن مصطلح الحداثة مع أسماء المذاهب النقدية التي أخذنا نتطلع إليها بوصفها حلّاً جديداً للمأزق الذي أوصلتنا إليه دوجماتية الواقعية الاشتراكية على مستوى اليسار وعدمية النظرة الشكلية التي كانت تتخيل العمل الأدبي بوصفه بِنية مستقلة بذاتها لا علاقة لها بغيرها، فالعمل الأدبي «يوجد ولا يعني»، كما قال الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش.
وهكذا كان لمحاضرات زكريا إبراهيم عن البنيوية الفرنسية في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات أثر السِّحر في نفوسنا. ومن المؤكد أن الذين كانوا يتقنون اللغة الفرنسية مِنّا ويتابعون تطورات الحركة الطُّلابية العالمية في الستينيات، كانوا يعرفون أكثر منا في هذا المجال، فقد قرأوا فلسفة هربرت ماركوز في الولايات المتحدة، وآلان تورين في فرنسا، وسمعوا عن البنيوية التي انبثقت سنة 1955 في فرنسا، وأحدثت تأثيراً كبيراً في الحركة الثقافية الفرنسية إلى سنة 1968، حيث انفجرت الثورة العارمة للطلاب الفرنسيين في ذلك الوقت.
سقوط البنيوية
كان هؤلاء الطلاب قد رفعوا شعار «تسقط البنيوية» ضمن ما رفعوا من شعارات، وذلك اعتراضاً منهم على مفهوم البنيوية المنغلقة النسق التي يعزلها انغلاقها عن المجتمع وعن التاريخ في آن.
وقد أدت هذه الثورة إلى أمرين؛ تحوُّل كثير من البنيويين إلى ما بعد البنيوية، أو - ثانياً - إلى مذاهب تنفتح على العالم والتاريخ، كما فعل تزفيتان تودوروف الذي تحوَّل إلى دراسة الخطاب وتجلياته التاريخية، أو رولان بارت الذي تحوَّل إلى نوع من التفكيكية، بينما ظل أمثال ميشيل فوكو يربطون بين مفاهيم الخطاب والسُّلطة، وذلك بما يصل الخطاب وتحليله بعمليات القوة والسُّلطة في المجتمع.
ورغم أن كتابات فوكو قد عاصرت في ازدهارها وشيوعها، ازدهار وشيوع المدرسة البنيوية التي صاغها كل من جاك لاكان في علم النفس الفرويدي، وكلود ليفي شتراوس في علم الأنثروبولجي ودراسة الأسطورة، فإن من الواضح أن البنيوية لم تختفِ تماماً من فرنسا، فقد تحولت منذ انبثاقها عام 1955، وهو العام الذي صدر فيه كتاب «مدارات شاجية» إلى أفق جديد مفتوح للدرس، ومنهج جديد يُغرِي بالقبول، سواء بمعناها الاجتماعي عند لوسيان جولدمان، أو بمعناها اللغوي الشكلي عند البنيويين الذين التزموا بالنسق المنهجي الذي أسسه فرديناند دي سوسير في كتابه الشهير الذي صدر بعد وفاته، وهو «دروس في علم اللغة».
وكان من الطبيعي أن تصل هذه الأصداء كلها إلى العالم العربي، وأن نتلهف عليها نحن أبناء الستينيات الذين أخذت طلائعهم تتجه بأنظارها بحثاً عن آفاق جديدة تخلصنا من انغلاق القراءة الفاحصة على نص مستقل بذاته منعزل عن العالم والتاريخ، وأن نعيد النقد إلى الانفتاح على العالم وعلى التاريخ.
معارك الإخوة الأعداء
وقد وجدنا بعد ذلك بسنوات في كتابات إدوارد سعيد الذي يمضي في الأفق الذي فتحه ميشيل فوكو، فنتعلم منهما كيف يتموضع النص في التاريخ، ويتشكل بالتاريخ في الوقت نفسه، وفي موازاة أو مواجهة «سلطة» أو «قوة» بمعنى من المعاني. ولذلك اختار بعضنا أن يمشي في طريق البنيوية اللغوية، رغم أنها انتهت رسميّاً في عاصمتها باريس، وهذا ما لم يُحدِّثنا عنه مع الأسف المرحوم زكريا إبراهيم.
وبدأنا نسمع عن البنيوية في الوقت نفسه تقريباً الذي كانت تصل إلى الولايات المتحدة، ويتم استقبالها هناك، في حماسة بالغة، ربما لأنهم وجدوا فيها ما يمكن أن يُعبِّر عنه التعبير المشهور «بضاعتنا رُدتْ إلينا».
فقد أصدرت إحدى المجلات الأمريكية الشهيرة عدداً خاصّاً عن البنيوية الأوربية بإشراف هارتمان، وخلاصة العدد أن البنيوية شبيهة بالنقد الجديد، سواء في بحثها عن بِنيةٍ هي العمل الأدبي نفسه، وأن التحليل البنيوي، خصوصاً في بحثه عن علاقات العمل الأدبي، لا يفترق كثيراً عن مدرسة النقد الجديد، خصوصا في حرصها على قراءة العمل الأدبي في جمالياته النوعية، في عزله عن أي مؤثِّر خارجي أو علاقة تربطه بالمجتمع.
ومن الولايات المتحدة أُعِيد تصدير البنيوية مرة ثانية إلى العالم كله في السبعينيات، وذلك خلال جدل طويل ومعارك تحدَّث عنها الناقد الأمريكي فنسنت ب. ليتش في الفصل التاسع من كتابه عن «النقد الأدبي الأمريكي... من الثلاثينيات إلى الثمانينيات».
وكان من حظِّيَ أنني سافرت إلى الولايات المتحدة للعمل أستاذاً زائراً في عام 1977، وقضيتُ عاماً بأكمله، فوجدتُ نفسي غارقاً حتى أُذُنايَ في معارك تحصل بين الإخوة الأعداء في النقد الأدبي الذي تحوَّل إلى جماعات متصارعة من بقايا النقد الجديد ومدرسة شيكاغو ونقاد الأسطورة وأصحاب النقد الظاهراتي والوجودي من ناحية في مواجهة البنيوية والسيموطيقا الأدبية والنقد التفكيكي من ناحية ثانية، وذلك في لوحة بانورامية كانت مذهلة لي في ذلك الوقت، تجمع بين هذه المدارس والنقد النسوي، فضلاً عن نقد جماعات السود، وأخيراً النقد اليساري الذي سرعان ما تحوَّل إلى نقد تفكيكي يساري أو نقد ثقافي ما بعد ماركسي.
مدرسة شيكاغو
كنتُ في هذا العام البعيد أشبه بالجائع الذي وجد أمامه مائدة حافلة بكل الطيبات التي كان محروماً منها. وكان طبيعياً أن أركز على ما بدأتُ بمعرفته في النصف الثاني من الستينيات القاهرية.
كانت مكتبة صديقي وزميلي الذي حللتُ محله في ذلك العام - وهو الصديق داتسون كاول - في عُهْدتي، فبدأتُ من خلالها التعرف على ما بها، بل أصبح طرفاً في الحوارات والمناقشات التي كانت تجرى في ذلك الوقت بين البنيوية اللغوية الشكلانية والبنيوية التكوينية التي أطلقتُ عليها اسم «البنيوية التوليدية» - اجتهاداً مني، وأظنني بسبب انحيازي الاجتماعي، ترجمتُ بحث جولد مان التأسيسي عن «علم اجتماع الأدب... الوضع والمنهج»، كما ترجمتُ كتاب تيري إيجلتون عن «الماركسية والنقد الأدبي» في هذا العام.
وحاولت قراءة ما استطعت من كتابات متنوعة عن المناظرات بين البنيويين الشكليين واللغويين، وبدأتْ معرفتي المعمقة بمدرسة شيكاغو، خصوصاً في كتاب واين بوث عن «بلاغة السرد» أو القص، فضلاً عن النقد التأويلي، ونقد استجابة القارئ. وأذكر أنني كتبت بعد زيارتي الطويلة الثانية إلى الولايات المتحدة عدداً من المقالات في جريدة «الحياة اللندنية» بعنوان «خطاب الخطاب»، ذلك لأنني فوجئت للمرة الأولى بازدهار مصطلح «الخطاب»، وكيف أصبح يتردد على الألسنة في مجالات النقد الأدبي بخاصة، والعلوم الإنسانية أيضاً، فتعددت دلالاته بتعدد مجالاته، ويؤلف فيه عديد من الكتب، وذلك في اتجاه استهواني وأضاف إلى اهتماماتي الأدبية اهتماماً جديداً بعلم التأويل أو نظرية التفسير (الهرمنيوطيقا) بوجه عام.
ترجمة لا خطف
وكان من حصاد هذه المرحلة، التعرف المعمق على البنيوية من خلال أصولها المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وتكوَّن في ذهني - في ذلك الوقت - ضرورة تعريف القارئ العربي بهذا المشهد المثير الذي رأيته من حولي وغرقتُ فيه تماماً منذ عام 1977. وعندما عدت إلى القاهرة ترجمتُ وكتبتُ ما استطعتُ إليه سبيلاً. ومع الأسف رأيتُ كُتباً بالعربية عن النظرية البنائية أو غيرها من النظريات، ليست سوى نقل غير أمين ولا دقيق عن عدد قليل من مراجع أجنبية أو مترجمة إلى لغات أوربية مختلفة، ولذلك آثرت أن أترجم بدلاً من أن «أخطف» من الآخرين.
ومن الكتب التي ترجمتها في هذا الصدد كتاب «عصر البنيوية» للباحثة ذات الأصل الألماني إديث كرزويل، وأردفتُ ذلك بكتاب رامان سلدن «النظرية الأدبية المعاصرة»، وهو أفضل مدخل تعليمي عرفتُه للنظرية الأدبية المعاصرة بالفعل، فضلاً عن عدد من المقالات التي لم تتباعد عن مفهوم الحداثة، سواء في كتابات إيرفنج هاو، وكتاب مارشال بيرمان ذي النزعة اليسارية الذي ربط صعود الحداثة بصعود الطبقة الوسطى في المجتمع الرأسمالي، وذلك لاقتناعي بأن مفهوم الحداثة وما بعدها يرتبط بالنقد الذي يبدأ بالنقد الجديد الذي كان إرهاصاً بمعنى من المعاني بالبنيوية، لكي يجاوزها إلى التفكيكية وما بعدها أو في موازاتها أو في مواجهتها.
زخم سجالي
كنتُ أتمنى أن أجد كتاباً جامعاً عن تاريخ النقد الأمريكي في الفترة من الثلاثينيات إلى الثمانينيات، وسرعان ما فرحت بعثوري على كتاب فينست ليتش عن التفكيكية وحضورها الأمريكي مع جماعة جامعة ييل في قسم الدراسات الفرنسية. وبعد ذلك فرحت عندما قرأتُ - أخيراً- ترجمة د. محمد يحيى عن النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات (المشروع القومي للترجمة، سنة 2000)، وتوقفتُ بصفة خاصة عند المرحلة التي عشتُ فيها الزخم السجالي والمعارك التي كنت أراها وأشارك فيها عام 1977، والتي كانت وراء ترجمتي لما ترجمتُ، وكتابتي ما كتبتُ عن النظريات النقدية المعاصرة.
وهذا هو ما درّسته في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وما قارب بيني وبين المرحوم عزالدين إسماعيل وصلاح فضل الذي انضم إلينا، واشتركنا في تحقيق حلم إنشاء مجلة «فصول» للنقد الأدبي، وهو الحلم الذي شاركنا فيه، وعمل على تنفيذه صلاح عبدالصبور، الذي كان يعرف - من دون شك - عدداً من هذه المناهج التي كنا نتحدث عنها ونُسهم فيها بكتاباتنا.
وهكذا ظهرت مجلة فصول التي كان لابد أن تُحدِث تأثيرات بالغة في الفكر النقدي. وكان من الطبيعي أن يكون أول المهاجمين لها هم هؤلاء الذين كانوا ينتسبون للمدارس التي تخلَّينا عنها وهجرناها إلى هذه المذاهب الحديثة، وأن يكون أول المحتفين بها هم هؤلاء الذين فتحت لهم هذه النظريات والمذاهب الجديدة آفاقاً أرحب من النقد الأدبي الذي تجاوز ما كان موجوداً في جمود الواقعية الاشتراكية، أو انغلاق أفق التطبيقات العربية
لـ «النقد الجديد» في أقسام اللغة الإنجليزية، وعلى الأخص في جامعة القاهرة، حيث رشاد رشدي ومدرسته■