صعود النقد الحداثي

صعود النقد الحداثي

أعتقدُ‭ ‬أنني‭ ‬بدأتُ‭ ‬أسمع‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬ومطالع‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬المحاضرات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يلقيها‭ ‬المرحوم‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذي‭ ‬تجاوِر‭ ‬قاعاته‭ ‬قاعات‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭. ‬

كان‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬نجماً‭ ‬ساطعاً‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬الفلسفة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬نسمع‭ ‬عنه‭ ‬ونطالع‭ ‬كتاباته‭ ‬بالشغف‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نتابع‭ ‬به‭ ‬كتابات‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬وعثمان‭ ‬أمين‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أساتذة‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

لكن‭ ‬محاضرات‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬كانت‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر،‭ ‬إذ‭ ‬جذبتنا‭ ‬إليها‭ ‬جذباً‭ ‬شديداً،‭ ‬وفهمنا‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بنيويتينِ؛‭ ‬بنيوية‭ ‬تكوينية‭ ‬ذات‭ ‬منحنى‭ ‬ماركسي‭ ‬يتحمس‭ ‬لها‭ ‬الماركسيون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬ويرون‭ ‬فيها‭ ‬حلّاً‭ ‬علميّاً‭ ‬يتخلصون‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬النظريات‭ ‬الماركسية‭ ‬التي‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬مواجهة‭ ‬الأدب‭ ‬الواقع‭ ‬المتجدد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬انحدرت‭ ‬نظرية‭ ‬‮«‬الانعكاس‭ ‬المنفتحة‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬لوكاش‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬واقعية‭ ‬اشتراكية‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬أصولية‭ ‬مؤدلجة‭ ‬لم‭ ‬يرضَ‭ ‬عنها‭ ‬الماركسيون‭ ‬التروتسكيون‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬ولذلك‭ ‬عندما‭ ‬صدر‭ ‬كتاب‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬وعبدالعظيم‭ ‬أنيس،‭ ‬لم‭ ‬يَرُق‭ ‬لنا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وأسعدنا‭ ‬أن‭ ‬الأستاذ‭ ‬أبوسيف‭ ‬يوسف‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬نقده‭ ‬نقداً‭ ‬عنيفاً‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬نُقّادُنا‭ ‬الواقعيون‭ ‬غير‭ ‬واقعيين‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬نَشْرُ‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬مُفرِحاً‭ ‬لنا،‭ ‬أولاً‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يهاجم‭ ‬الأصولية‭ ‬الماركسية‭ ‬التي‭ ‬غرق‭ ‬فيها‭ ‬كتاب‭ ‬أنيس‭ ‬والعالم،‭ ‬وثانياً‭ ‬لأن‭ ‬مقال‭ ‬المرحوم‭ ‬أبوسيف‭ ‬يوسف‭ (‬وقد‭ ‬نَشَر‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭ ‬هو‭ ‬كمال‭ ‬يوسف‭) ‬كان‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬بأحدث‭ ‬المستجدات‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الماركسي‭ ‬العالمي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُكتب‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيوعية‭ ‬أو‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬الأصولية‭ ‬الجامدة‭ ‬لكتابات‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الشيوعي‭.‬

وهكذا‭ ‬بدأنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬روجيه‭ ‬جارودي،‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬ماركسية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ترجمه‭ ‬نزيه‭ ‬الحكيم‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1967،‭ ‬وعن‭ ‬إرنست‭ ‬فيشر‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬ضرورة‭ ‬الفن‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ترجمه‭ ‬أسعد‭ ‬حليم‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1971،‭ ‬وعما‭ ‬كتبه‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بول‭ ‬إيلوار،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬المنتسبين‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬الأوربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نشيطاً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد،‭ ‬ومتحرراً‭ ‬من‭ ‬دوجما‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬التي‭ ‬تبنّاها‭ ‬اتحاد‭ ‬الكُتّاب‭ ‬السوفييتي‭ ‬رسميّاً‭ ‬سنة‭ ‬1932‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يؤثر‭ ‬فينا‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭.‬

 

نقد‭ ‬واقعي

هكذا‭ ‬سمعنا‭ ‬عن‭ ‬أسماء‭ ‬جديدة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قرأناها‭ ‬مترجمة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬ذوبان‭ ‬الثلوج‭ ‬للكاتب‭ ‬الروسي‭ ‬إليا‭ ‬إهرنبورج‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬سعد‭ ‬زهران،‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬دار‭ ‬المعارف‭ ‬بالقاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1966،‭ ‬وكان‭ ‬نشرها‭ ‬إيذاناً‭ ‬بسقوط‭ ‬السور‭ ‬الحديدي‭ ‬الذي‭ ‬فرضته‭ ‬الاستالينية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

باختصار‭ ‬أخذنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬نقد‭ ‬واقعي‭ ‬جديد‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الدوجما‭ ‬أو‭ ‬التصلب‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬العالم‭ ‬وأنيس،‭ ‬ونقرأ‭ ‬لنقاد‭ ‬أجانب‭ ‬كبار‭ ‬عن‭ ‬واقعية‭ ‬أخرى‭ ‬بلا‭ ‬ضفاف‭ ‬وبلا‭ ‬حواجز‭ ‬أيديولوجية‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬أصولية‭ ‬جامدة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬إعجاب‭ ‬كبير‭ ‬بمدرسة‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ممثلها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬د‭. ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تَكُف‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬يوجد‭ ‬ولا‭ ‬يعني‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬خرافة‭ ‬المقصد،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬ليس‭ ‬مطالَباً‭ ‬بالكشف‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬بواقعه‭ ‬أو‭ ‬بصاحبه‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أصوله،‭ ‬وإنما‭ ‬مهمته‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬هي‭ ‬قراءة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬مستقل‭ ‬تماماً،‭ ‬فهو‭ ‬عمل‭ ‬قائم‭ ‬بذاته‭ ‬ولذاته،‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بأي‭ ‬هدف‭ ‬خارج‭ ‬حدوده‭ ‬الأدبية‭ ‬والجمالية‭.‬

وكما‭ ‬حدث‭ ‬للنقد‭ ‬الذي‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬حدث‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬للنقد‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬النقد‭ ‬الجديد،‭ ‬فلم‭ ‬تبهرنا‭ ‬القراءات‭ ‬الفاحصة‭ ‬Close‭ ‬reading‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭ ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ ‬وتلامذته‭ ‬وأشباهه‭ ‬للأعمال‭ ‬الأدبية،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬قراءات‭ ‬تضع‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬سديم‭ ‬جمالي‭ ‬مزعوم،‭ ‬فتنفصل‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬عن‭ ‬علاقاتها‭ ‬بزمانها‭ ‬أو‭ ‬مكانها‭.‬

 

صيغ‭ ‬جديدة

وقد‭ ‬زادت‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬الطاحنة‭ ‬من‭ ‬غضبنا‭ ‬وثورتنا‭ ‬على‭ ‬الجيل‭ ‬السابق‭ ‬علينا،‭ ‬ورأينا‭ ‬فيه‭ ‬جيلاً‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬أوقعتنا‭ ‬فيها‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬الفردية‭ ‬التي‭ ‬رمينا‭ ‬بها‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم‭ ‬العظيم‭ ‬لإصلاح‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬وجهوده‭ ‬العظيمة‭ ‬لإزالة‭ ‬آثار‭ ‬الهزيمة،‭ ‬وبناء‭ ‬جيشٍ‭ ‬مصريّ‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬فئات‭ ‬مُتعلمة‭ ‬تعليماً‭ ‬عالياً‭ ‬وبعقلية‭ ‬ترتبط‭ ‬بالعصر،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬إتمام‭ ‬مشروع‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬العظيم‭.‬

ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لم‭ ‬يفلح‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬انهيار‭ ‬إيماننا‭ ‬بأفق‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬القومية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬بحثنا‭ ‬عن‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬تؤمن‭ ‬بالتعددية،‭ ‬وتتباعد‭ ‬عن‭ ‬حتمية‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬أو‭ ‬الأفكار‭ ‬السائدة‭ ‬المسيطرة‭.‬

ولم‭ ‬نكن‭ ‬وحدنا‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬أبناء‭ ‬جيلنا‭ ‬وحتى‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭ ‬عارمة،‭ ‬فبدأنا‭ ‬نتحول‭ ‬من‭ ‬صيغة‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬جديدة‭. ‬

وأذكر‭ ‬أن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬نفسه،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتوفاه‭ ‬الله،‭ ‬صرَّح‭ ‬بأنه‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬جديدة‭ ‬للتعددية‭ ‬السياسية،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الوقت‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تأخر‭ ‬ورحل‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬الفانية،‭ ‬لكن‭ ‬بقيت‭ ‬الثورة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬وأخذ‭ ‬مثقفو‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الطليعيون‭ ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬والفكر‭ ‬والأدب‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

وهكذا‭ ‬أخذنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬أدبية‭ ‬كانت‭ ‬مُحرَّمة‭ ‬في‭ ‬المد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬أعمال‭ ‬كافكا،‭ ‬وانفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬السبيل‭ ‬لنعرف‭ ‬عن‭ ‬السيريالية‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ ‬وعما‭ ‬بعدها،‭ ‬وأن‭ ‬نُفتِّش‭ ‬عن‭ ‬الجماعات‭ ‬الطليعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬منذ‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬مثل‭ ‬جماعة‭ ‬الفن‭ ‬والحرية‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬أنور‭ ‬كامل‭ ‬وجورج‭ ‬حنين‭ ‬وحسين‭ ‬صبحي‭ ‬وإبراهيم‭ ‬باسيلي‭ ‬وسامي‭ ‬رياض‭... ‬ويتغير‭ ‬اتجاهنا‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬قد‭ ‬تغيرت‭ ‬بدورها‭.‬

 

مصطلحات‭ ‬واتجاهات

هكذا‭ ‬بدأتْ‭ ‬تصل‭ ‬إلينا‭ ‬مصطلحات‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬و«ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‮»‬،‭ ‬ونقرأ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬أو‭ ‬الاتجاهات‭ ‬النقدية‭ ‬المصاحبة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الأسماء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬تتسرب‭ ‬إلينا‭ ‬أولاً‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الترجمة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استطعنا‭ ‬أن‭ ‬نقرأها‭ ‬في‭ ‬لغاتها‭ ‬الأصلية،‭ ‬أعني‭ ‬الإنجليزية‭ ‬لمن‭ ‬يعرفها‭ ‬أو‭ ‬يقرأ‭ ‬بها،‭ ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬الفرنسية‭ ‬والبلاد‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬فُرِض‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تنطق‭ ‬وأن‭ ‬تكتب‭ ‬بالفرنسية‭.‬

وهكذا‭ ‬وجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬نسمع‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬أسماء‭ ‬وآفاق‭ ‬جديدة،‭ ‬وبدأنا‭ ‬نقرأ‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ماركسية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‮»‬‭ ‬لروجيه‭ ‬جارودي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬تجلياتها‭ ‬الأوربية،‭ ‬كما‭ ‬بدأنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجتها‭ ‬الأولى‭ ‬قد‭ ‬تخلّقت‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬المصرية،‭ ‬حيث‭ ‬نشطت‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬والحرية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬أنور‭ ‬كامل‭ ‬وجورج‭ ‬حنين‭ ‬وكامل‭ ‬التلمساني‭ ‬وفؤاد‭ ‬كامل‭ ‬ورمسيس‭ ‬يونان‭ ‬وأحمد‭ ‬رشدي،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تحلَّقوا‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬المنبوذ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬أنور‭ ‬كامل‭ ‬فيما‭ ‬يُشبه‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وقد‭ ‬احتفى‭ ‬بالكتاب‭ ‬أحمد‭ ‬الصاوي‭ ‬محمد،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُصدر‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬مجلتي‮»‬‭ ‬الطليعية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

وكان‭ ‬أنور‭ ‬كامل‭ ‬يصدر‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬التطور‮»‬،‭ ‬ولكنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أُغلِقتْ‭ ‬واعتُقِل‭ ‬صاحبها‭ ‬سنة‭ ‬1943،‭ ‬ولم‭ ‬يفرج‭ ‬عنه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬1945‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬بوجهٍ‭ ‬عام‭ ‬يسارية‭ ‬الاتجاه،‭ ‬فرنسية‭ ‬اللغة،‭ ‬أكثر‭ ‬ميلاً‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬وإلى‭ ‬النزعة‭ ‬السريالية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬جورج‭ ‬حنين،‭ ‬صديقاً‭ ‬للمؤسسين‭ ‬الأوربيين‭ ‬لهذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭. ‬

 

جورج‭ ‬حنين

ويعد‭ ‬جورج‭ ‬حنين،‭ ‬رائد‭ ‬التيار‭ ‬السريالي‭ ‬على‭ ‬صعيديه‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭. ‬وقد‭ ‬وُلِد‭ ‬لعائلة‭ ‬أرستقراطية،‭ ‬وأكمل‭ ‬دراسته‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬وصادق‭ ‬الآباء‭ ‬الأُوَّل‭ ‬للنزعة‭ ‬السريالية،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬أندريه‭ ‬بروتون،‭ ‬رائد‭ ‬الحركة‭ ‬السريالية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينسحب‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1948‭.‬

وكانت‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭ ‬المصرية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬حركة‭ ‬صفوة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬وعيهم‭ ‬بالثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬يضعهم‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية،‭ ‬وإن‭ ‬ظلوا‭ ‬يمثلون‭ ‬الجانب‭ ‬الطليعي‭ ‬منها‭. ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬حنين‭ ‬مصر‭ ‬منذ‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬23‭ ‬يوليو‭ ‬1952،‭ ‬وعاش‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‭ ‬بفرنسا،‭ ‬بعد‭ ‬استقرار‭ ‬مؤقت‭ ‬في‭ ‬روما،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬سنة‭ ‬1973،‭ ‬ودفنتْهُ‭ ‬إقبال‭ ‬العلايلي‭ - ‬زوجته،‭ ‬حفيدة‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ - ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬مُنفِّذة‭ ‬له‭ ‬وصيته‭.‬

وتصاعدت‭ ‬الموجة‭ ‬الثانية‭ ‬للحداثة‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬حيث‭ ‬ظهرت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شِعر‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بدورها‭ ‬تقليداً‭ ‬لمجلة‭ ‬‮«‬شِعر‮»‬‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وكانت‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬شيكاغو‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬حاملة‭ ‬معها‭ ‬أشعار‭ ‬المدرسة‭ ‬الطليعية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد،‭ ‬وأصدرتها‭ ‬الشاعرة‭ ‬إيمي‭ ‬لويل‭ ‬في‭ ‬العشرينيات،‭ ‬ناشرة‭ ‬شِعر‭ ‬ت‭. ‬إس‭. ‬إليوت،‭ ‬وإزرا‭ ‬باوند‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬السوري‭ ‬أدونيس‭ ‬لعب‭ ‬دوراً‭ ‬مهمّاً‭ ‬فيما‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬حداثة‭ ‬الخمسينيات‮»‬،‭ ‬وأغلب‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬نشاطه‭ ‬الفعّال‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬مجلة‭ ‬شعر‭ ‬ومعها،‭ ‬قد‭ ‬أشاع‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬العربية‭.‬

 

‭ ‬حل‭ ‬جديد‭ ‬للمأزق‭ ‬

أعتقد‭ ‬أننا‭ ‬مَدينون‭ ‬لشعراء‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬ومفكريها‭ ‬بإشاعة‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬تحيُّزنا‭ ‬القومي‭ ‬كان‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬إيثار‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬البيروتية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬صوت‭ ‬القوميين‭ ‬من‭ ‬أمثالنا،‭ ‬لكننا‭ ‬كنا‭ ‬نقرأ‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الفضول‭ - ‬ما‭ ‬تكتبه‭ ‬مجلة‭ ‬شعر‭ ‬وأشباهها‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عاصمة‭ ‬فعالة‭ - ‬تماماً‭ - ‬من‭ ‬عواصم‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭.‬

وهكذا‭ ‬اقترن‭ ‬مصطلح‭ ‬الحداثة‭ ‬مع‭ ‬أسماء‭ ‬المذاهب‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬أخذنا‭ ‬نتطلع‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬حلّاً‭ ‬جديداً‭ ‬للمأزق‭ ‬الذي‭ ‬أوصلتنا‭ ‬إليه‭ ‬دوجماتية‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬اليسار‭ ‬وعدمية‭ ‬النظرة‭ ‬الشكلية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتخيل‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬بوصفه‭ ‬بِنية‭ ‬مستقلة‭ ‬بذاتها‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بغيرها،‭ ‬فالعمل‭ ‬الأدبي‭ ‬‮«‬يوجد‭ ‬ولا‭ ‬يعني‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬الأمريكي‭ ‬أرشيبالد‭ ‬ماكليش‭.‬

وهكذا‭ ‬كان‭ ‬لمحاضرات‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬ومطالع‭ ‬السبعينيات‭ ‬أثر‭ ‬السِّحر‭ ‬في‭ ‬نفوسنا‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتقنون‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬مِنّا‭ ‬ويتابعون‭ ‬تطورات‭ ‬الحركة‭ ‬الطُّلابية‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬الستينيات،‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أكثر‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬فقد‭ ‬قرأوا‭ ‬فلسفة‭ ‬هربرت‭ ‬ماركوز‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وآلان‭ ‬تورين‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وسمعوا‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬التي‭ ‬انبثقت‭ ‬سنة‭ ‬1955‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وأحدثت‭ ‬تأثيراً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1968،‭ ‬حيث‭ ‬انفجرت‭ ‬الثورة‭ ‬العارمة‭ ‬للطلاب‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

 

سقوط‭ ‬البنيوية

كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الطلاب‭ ‬قد‭ ‬رفعوا‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬تسقط‭ ‬البنيوية‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬رفعوا‭ ‬من‭ ‬شعارات،‭ ‬وذلك‭ ‬اعتراضاً‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬البنيوية‭ ‬المنغلقة‭ ‬النسق‭ ‬التي‭ ‬يعزلها‭ ‬انغلاقها‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬وعن‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

وقد‭ ‬أدت‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬أمرين؛‭ ‬تحوُّل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البنيويين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية،‭ ‬أو‭ - ‬ثانياً‭ - ‬إلى‭ ‬مذاهب‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬والتاريخ،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬تزفيتان‭ ‬تودوروف‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الخطاب‭ ‬وتجلياته‭ ‬التاريخية،‭ ‬أو‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التفكيكية،‭ ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬أمثال‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬يربطون‭ ‬بين‭ ‬مفاهيم‭ ‬الخطاب‭ ‬والسُّلطة،‭ ‬وذلك‭ ‬بما‭ ‬يصل‭ ‬الخطاب‭ ‬وتحليله‭ ‬بعمليات‭ ‬القوة‭ ‬والسُّلطة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬كتابات‭ ‬فوكو‭ ‬قد‭ ‬عاصرت‭ ‬في‭ ‬ازدهارها‭ ‬وشيوعها،‭ ‬ازدهار‭ ‬وشيوع‭ ‬المدرسة‭ ‬البنيوية‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جاك‭ ‬لاكان‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الفرويدي،‭ ‬وكلود‭ ‬ليفي‭ ‬شتراوس‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الأنثروبولجي‭ ‬ودراسة‭ ‬الأسطورة،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬البنيوية‭ ‬لم‭ ‬تختفِ‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬فقد‭ ‬تحولت‭ ‬منذ‭ ‬انبثاقها‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬وهو‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬فيه‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مدارات‭ ‬شاجية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬جديد‭ ‬مفتوح‭ ‬للدرس،‭ ‬ومنهج‭ ‬جديد‭ ‬يُغرِي‭ ‬بالقبول،‭ ‬سواء‭ ‬بمعناها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عند‭ ‬لوسيان‭ ‬جولدمان،‭ ‬أو‭ ‬بمعناها‭ ‬اللغوي‭ ‬الشكلي‭ ‬عند‭ ‬البنيويين‭ ‬الذين‭ ‬التزموا‭ ‬بالنسق‭ ‬المنهجي‭ ‬الذي‭ ‬أسسه‭ ‬فرديناند‭ ‬دي‭ ‬سوسير‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬دروس‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬اللغة‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬هذه‭ ‬الأصداء‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وأن‭ ‬نتلهف‭ ‬عليها‭ ‬نحن‭ ‬أبناء‭ ‬الستينيات‭ ‬الذين‭ ‬أخذت‭ ‬طلائعهم‭ ‬تتجه‭ ‬بأنظارها‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬تخلصنا‭ ‬من‭ ‬انغلاق‭ ‬القراءة‭ ‬الفاحصة‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬مستقل‭ ‬بذاته‭ ‬منعزل‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬والتاريخ،‭ ‬وأن‭ ‬نعيد‭ ‬النقد‭ ‬إلى‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وعلى‭ ‬التاريخ‭.‬

 

معارك‭ ‬الإخوة‭ ‬الأعداء

وقد‭ ‬وجدنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬الذي‭ ‬فتحه‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو،‭ ‬فنتعلم‭ ‬منهما‭ ‬كيف‭ ‬يتموضع‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويتشكل‭ ‬بالتاريخ‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬وفي‭ ‬موازاة‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬‮«‬سلطة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬قوة‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭. ‬ولذلك‭ ‬اختار‭ ‬بعضنا‭ ‬أن‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬البنيوية‭ ‬اللغوية،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬انتهت‭ ‬رسميّاً‭ ‬في‭ ‬عاصمتها‭ ‬باريس،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُحدِّثنا‭ ‬عنه‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬المرحوم‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭. ‬

وبدأنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تقريباً‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ويتم‭ ‬استقبالها‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬حماسة‭ ‬بالغة،‭ ‬ربما‭ ‬لأنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُعبِّر‭ ‬عنه‭ ‬التعبير‭ ‬المشهور‭ ‬‮«‬بضاعتنا‭ ‬رُدتْ‭ ‬إلينا‮»‬‭.‬

فقد‭ ‬أصدرت‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬الأمريكية‭ ‬الشهيرة‭ ‬عدداً‭ ‬خاصّاً‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬الأوربية‭ ‬بإشراف‭ ‬هارتمان،‭ ‬وخلاصة‭ ‬العدد‭ ‬أن‭ ‬البنيوية‭ ‬شبيهة‭ ‬بالنقد‭ ‬الجديد،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬بحثها‭ ‬عن‭ ‬بِنيةٍ‭ ‬هي‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬نفسه،‭ ‬وأن‭ ‬التحليل‭ ‬البنيوي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬علاقات‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬لا‭ ‬يفترق‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬النقد‭ ‬الجديد،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬جمالياته‭ ‬النوعية،‭ ‬في‭ ‬عزله‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مؤثِّر‭ ‬خارجي‭ ‬أو‭ ‬علاقة‭ ‬تربطه‭ ‬بالمجتمع‭. ‬

ومن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أُعِيد‭ ‬تصدير‭ ‬البنيوية‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وذلك‭ ‬خلال‭ ‬جدل‭ ‬طويل‭ ‬ومعارك‭ ‬تحدَّث‭ ‬عنها‭ ‬الناقد‭ ‬الأمريكي‭ ‬فنسنت‭ ‬ب‭. ‬ليتش‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الأمريكي‭... ‬من‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬إلى‭ ‬الثمانينيات‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬حظِّيَ‭ ‬أنني‭ ‬سافرت‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬للعمل‭ ‬أستاذاً‭ ‬زائراً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬وقضيتُ‭ ‬عاماً‭ ‬بأكمله،‭ ‬فوجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬غارقاً‭ ‬حتى‭ ‬أُذُنايَ‭ ‬في‭ ‬معارك‭ ‬تحصل‭ ‬بين‭ ‬الإخوة‭ ‬الأعداء‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬جماعات‭ ‬متصارعة‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬ومدرسة‭ ‬شيكاغو‭ ‬ونقاد‭ ‬الأسطورة‭ ‬وأصحاب‭ ‬النقد‭ ‬الظاهراتي‭ ‬والوجودي‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬البنيوية‭ ‬والسيموطيقا‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقد‭ ‬التفكيكي‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬بانورامية‭ ‬كانت‭ ‬مذهلة‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬والنقد‭ ‬النسوي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬نقد‭ ‬جماعات‭ ‬السود،‭ ‬وأخيراً‭ ‬النقد‭ ‬اليساري‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬تفكيكي‭ ‬يساري‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬ثقافي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ماركسي‭.‬

 

مدرسة‭ ‬شيكاغو‭ ‬

كنتُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬البعيد‭ ‬أشبه‭ ‬بالجائع‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬أمامه‭ ‬مائدة‭ ‬حافلة‭ ‬بكل‭ ‬الطيبات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬محروماً‭ ‬منها‭. ‬وكان‭ ‬طبيعياً‭ ‬أن‭ ‬أركز‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بدأتُ‭ ‬بمعرفته‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الستينيات‭ ‬القاهرية‭. ‬

كانت‭ ‬مكتبة‭ ‬صديقي‭ ‬وزميلي‭ ‬الذي‭ ‬حللتُ‭ ‬محله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ - ‬وهو‭ ‬الصديق‭ ‬داتسون‭ ‬كاول‭ - ‬في‭ ‬عُهْدتي،‭ ‬فبدأتُ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بها،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬طرفاً‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬والمناقشات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجرى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بين‭ ‬البنيوية‭ ‬اللغوية‭ ‬الشكلانية‭ ‬والبنيوية‭ ‬التكوينية‭ ‬التي‭ ‬أطلقتُ‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬البنيوية‭ ‬التوليدية‮»‬‭ - ‬اجتهاداً‭ ‬مني،‭ ‬وأظنني‭ ‬بسبب‭ ‬انحيازي‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ترجمتُ‭ ‬بحث‭ ‬جولد‭ ‬مان‭ ‬التأسيسي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الأدب‭... ‬الوضع‭ ‬والمنهج‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ترجمتُ‭ ‬كتاب‭ ‬تيري‭ ‬إيجلتون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الماركسية‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭.‬

وحاولت‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬استطعت‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬متنوعة‭ ‬عن‭ ‬المناظرات‭ ‬بين‭ ‬البنيويين‭ ‬الشكليين‭ ‬واللغويين،‭ ‬وبدأتْ‭ ‬معرفتي‭ ‬المعمقة‭ ‬بمدرسة‭ ‬شيكاغو،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واين‭ ‬بوث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬بلاغة‭ ‬السرد‮»‬‭ ‬أو‭ ‬القص،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬النقد‭ ‬التأويلي،‭ ‬ونقد‭ ‬استجابة‭ ‬القارئ‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬بعد‭ ‬زيارتي‭ ‬الطويلة‭ ‬الثانية‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬اللندنية‮»‬‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬خطاب‭ ‬الخطاب‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬فوجئت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بازدهار‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الخطاب‮»‬،‭ ‬وكيف‭ ‬أصبح‭ ‬يتردد‭ ‬على‭ ‬الألسنة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬بخاصة،‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬أيضاً،‭ ‬فتعددت‭ ‬دلالاته‭ ‬بتعدد‭ ‬مجالاته،‭ ‬ويؤلف‭ ‬فيه‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬استهواني‭ ‬وأضاف‭ ‬إلى‭ ‬اهتماماتي‭ ‬الأدبية‭ ‬اهتماماً‭ ‬جديداً‭ ‬بعلم‭ ‬التأويل‭ ‬أو‭ ‬نظرية‭ ‬التفسير‭ (‬الهرمنيوطيقا‭) ‬بوجه‭ ‬عام‭.‬

 

ترجمة‭ ‬لا‭ ‬خطف

وكان‭ ‬من‭ ‬حصاد‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬التعرف‭ ‬المعمق‭ ‬على‭ ‬البنيوية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أصولها‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وتكوَّن‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ - ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ - ‬ضرورة‭ ‬تعريف‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬بهذا‭ ‬المشهد‭ ‬المثير‭ ‬الذي‭ ‬رأيته‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬وغرقتُ‭ ‬فيه‭ ‬تماماً‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1977‭. ‬وعندما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ترجمتُ‭ ‬وكتبتُ‭ ‬ما‭ ‬استطعتُ‭ ‬إليه‭ ‬سبيلاً‭. ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬رأيتُ‭ ‬كُتباً‭ ‬بالعربية‭ ‬عن‭ ‬النظرية‭ ‬البنائية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬النظريات،‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬نقل‭ ‬غير‭ ‬أمين‭ ‬ولا‭ ‬دقيق‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬مراجع‭ ‬أجنبية‭ ‬أو‭ ‬مترجمة‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬أوربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬ولذلك‭ ‬آثرت‭ ‬أن‭ ‬أترجم‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أخطف‮»‬‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭.‬

ومن‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬ترجمتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬البنيوية‮»‬‭ ‬للباحثة‭ ‬ذات‭ ‬الأصل‭ ‬الألماني‭ ‬إديث‭ ‬كرزويل،‭ ‬وأردفتُ‭ ‬ذلك‭ ‬بكتاب‭ ‬رامان‭ ‬سلدن‭ ‬‮«‬النظرية‭ ‬الأدبية‭ ‬المعاصرة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أفضل‭ ‬مدخل‭ ‬تعليمي‭ ‬عرفتُه‭ ‬للنظرية‭ ‬الأدبية‭ ‬المعاصرة‭ ‬بالفعل،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتباعد‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬إيرفنج‭ ‬هاو،‭ ‬وكتاب‭ ‬مارشال‭ ‬بيرمان‭ ‬ذي‭ ‬النزعة‭ ‬اليسارية‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬صعود‭ ‬الحداثة‭ ‬بصعود‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬وذلك‭ ‬لاقتناعي‭ ‬بأن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬يرتبط‭ ‬بالنقد‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬بالنقد‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬إرهاصاً‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬بالبنيوية،‭ ‬لكي‭ ‬يجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬التفكيكية‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬موازاتها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مواجهتها‭.‬

 

زخم‭ ‬سجالي

كنتُ‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬كتاباً‭ ‬جامعاً‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬النقد‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬إلى‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬فرحت‭ ‬بعثوري‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬فينست‭ ‬ليتش‭ ‬عن‭ ‬التفكيكية‭ ‬وحضورها‭ ‬الأمريكي‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬جامعة‭ ‬ييل‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الدراسات‭ ‬الفرنسية‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬فرحت‭ ‬عندما‭ ‬قرأتُ‭ - ‬أخيراً‭- ‬ترجمة‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬يحيى‭ ‬عن‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الأمريكي‭ ‬من‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬إلى‭ ‬الثمانينيات‭ (‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬سنة‭ ‬2000‭)‬،‭ ‬وتوقفتُ‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬عند‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬عشتُ‭ ‬فيها‭ ‬الزخم‭ ‬السجالي‭ ‬والمعارك‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أراها‭ ‬وأشارك‭ ‬فيها‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬وراء‭ ‬ترجمتي‭ ‬لما‭ ‬ترجمتُ،‭ ‬وكتابتي‭ ‬ما‭ ‬كتبتُ‭ ‬عن‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية‭ ‬المعاصرة‭.‬

وهذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬درّسته‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وما‭ ‬قارب‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬المرحوم‭ ‬عزالدين‭ ‬إسماعيل‭ ‬وصلاح‭ ‬فضل‭ ‬الذي‭ ‬انضم‭ ‬إلينا،‭ ‬واشتركنا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬حلم‭ ‬إنشاء‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬فصول‮»‬‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وهو‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬شاركنا‭ ‬فيه،‭ ‬وعمل‭ ‬على‭ ‬تنفيذه‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ - ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ - ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المناهج‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عنها‭ ‬ونُسهم‭ ‬فيها‭ ‬بكتاباتنا‭.‬

وهكذا‭ ‬ظهرت‭ ‬مجلة‭ ‬فصول‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تُحدِث‭ ‬تأثيرات‭ ‬بالغة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬النقدي‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬المهاجمين‭ ‬لها‭ ‬هم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬ينتسبون‭ ‬للمدارس‭ ‬التي‭ ‬تخلَّينا‭ ‬عنها‭ ‬وهجرناها‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المذاهب‭ ‬الحديثة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬المحتفين‭ ‬بها‭ ‬هم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬فتحت‭ ‬لهم‭ ‬هذه‭ ‬النظريات‭ ‬والمذاهب‭ ‬الجديدة‭ ‬آفاقاً‭ ‬أرحب‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬جمود‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬أو‭ ‬انغلاق‭ ‬أفق‭ ‬التطبيقات‭ ‬العربية‭ ‬
لـ‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وعلى‭ ‬الأخص‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ ‬ومدرسته■