الذكاء الاصطناعي مستقبلنا المجهول

يحذر هراري؛ مؤلف كتاب «موجز تاريخ البشرية»، من تشبّه الإنسان بالخالق مطلق القدرة. لأن البشرية تتعرض الآن لتحول جذري.
حتى مطلع الألفية الحالية خضع الإنسان، كسائر المخلوقات لعملية الانتقاء الطبيعي، التي تطورت في بيئتها دون أن تفكر أو تخطط أو يخطط لها، وفق نظرية داروين. لكن هذا لم يعد صحيحاً الآن، لقد تخطى الإنسان حدوده، وبدأ بكسر قوانين الانتقاء الطبيعية، كي يُحِل محلها قوانين تصميمات الذكاء.
حصل الشرخ الأول في النظام الطبيعي منذ 10 آلاف سنة، خلال الثورة الزراعية. حلم الإنسان بدجاجة سمينة وبطيئة، واكتشف أن بإمكانه الحصول عليها بتزويج الدجاجات السمينات للديوك البطيئة، وبتزويج من تتوافر فيه المواصفات المطلوبة في الجيل الجديد مرة أخرى، وهكذا... إلى أن حصلوا على عرق من الدجاجات لم يكن موجوداً في الطبيعة. إنه عمل من تصميم الذكاء.
في تشبّهه بالخالق مطلق القدرة، ظل للإنسان حدوده.
لم يكن قادراً بعد على إدخال مواصفات جديدة كلياً وغائبة عن التركيبة الجينية للدجاجات البرية.
حالياً، نظامنا الانتقائي المستمر منذ 4 مليارات سنة معرّض لتحدّ مختلف تماماً. ففي جميع مختبرات العالم، يعالج الباحثون كائنات حية. يكسرون قوانين الانتقاء الطبيعية دون أي رادع أو عقاب. ولا شيء يوقفهم، ولا حتى مواصفات الجسم الأصلية.
في عام 2000 ابتكر البيو - فنان، إدوادو كاك، نوعاً جديداً من العمل الفني: أراد أرنباً أخضر مضيئاً fluorescent، وطلب الحصول عليه من مختبر فرنسي، مقابل المال. انتقى الباحثون جنين أرنب أبيض وزرعوا في DNA خاصته جينة من قنديل البحر من نوع أخضر مضيء، وحصل كاك على مطلبه! وأسماه Alba.
يستحيل تفسير وجود «ألبا» جراء القوانين الطبيعية للانتقاء. إنه نتاج تصميم ذكاء. وهو بشير (البعض يراه نذيراً) للأشياء القادمة.
فإذا ما استغل الاحتمال الذي يمثّله «ألبا» بشكل كامل، وإذا لم يتم القضاء على البشرية قبل ذلك، سيتبيّن أن الثورة العلمية كانت أكثر من مجرد ثورة علمية.
إنها قد تكون الثورة البيولوجية الأكثر أهمية منذ ظهور الحياة على الأرض. وإذا حصل ذلك، فإن كل تاريخ الإنسانية، وبالاستدراك المتأخر، قد يعاد تأويله كسيرورة من التجريب والتعلّم التي ثوّرت لعبة الحياة نفسها.
الذكاء الاصطناعي
هو علم هدفه إنتاج آلة يمكنها القيام بالمهام التي يقوم بها الإنسان مستخدماً ذكاءه. أما المعلوماتية فهي علم معالجة المعلومات آلياً وعقلانياً.
التعريف الآخر هو دراسة النشاطات الفكرية للإنسان، والتي لم تعرفها أي منهجية من قبل. وهو كل ما لا يمكن أن يُعمل بعد في المعلوماتية، التي بفضلها يمكن لبرنامج ذكي حل مسائل أسرع آلاف المرات من الإنسان.
لكن الذكاء الاصطناعي يهتم بجميع الحالات التي لا يمكن معالجتها بواسطة منهج أو طريقة سهلة، واضحة ولوغاريتمية. إنه مجموع النظريات والتقنيات التي تعمل على برامج معلوماتية معقدة قادرة على تقليد بعض جوانب الذكاء الإنساني وطريقة عمل الدماغ الإنساني، أو على الأقل منطقه عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات.
إنه إذن برنامج معلوماتي أو روبوت قادر على التفكير وإعمال المنطق من نفسه، وفيما يتعدى برنامجه الأصلي. لا يوجد اليوم ذكاء اصطناعي بهذا المعنى، بل برامج قادرة على تنفيذ مهام معقدة معتمدة بشكل متزايد في ميادين تطبيقية.
وعلى الرّغم من تفاؤل مؤسِّس شركة فيسبوك، مارك زوكربيرغ، بأنّ «الذكاء الاصطناعي سيحسّن حياة الناس»، فإنه اضطر أخيراً إلى إغلاق أحدث برنامج لتعلّم الإنجليزية، بعد أن طوّر ذلك البرنامج نفسه تلقائياً، من دون أمر ولا توجيه بشري، لغة خاصّة للتواصل؛ فلقد استطاع برنامجان التواصل بينهما عبر هذه اللّغة، واتفقا على مهمّة لم يطلبها المبرمجون ولا استطاعوا تحديدها، فألغي البرنامج.
حلم قديم
حلم الآلات الذكية يراود البشر منذ الزمن القديم. في النشيد XVIII بـ «الإلياذة» بنى إله النار هيبوتايوس طاولات بثلاث أرجل لخدمته. وفي التقليد اليهودي، الغولم هو أوتوماتي من خشب أو فخار على شكل إنسان. الرابان يتلو كلمة سحرية فيتحرك ويخدمه.
في القرن السادس عشر، وانطلاقاً من الطب ومعرفة قوانين عمل الأعضاء، بدأ التفكير بإنجاز الآلات. وقد أدخل ديكارت فكرة «الحيوان – الآلة» في القرن السابع عشر.
وبرزت فكرة الذكاء المصطنع أو الآلي للمرة الأولى في عام 1950 في مقال لعالم الرياضيات Alan Turing، طارحاً فكرة Computing Machinery and Intelligence، مما يعني حمل نوع من الذكاء إلى الآلات.
لكن جون مكارثي هو الذي استخدم تعبير «الذكاء الاصطناعي» خلال مؤتمر في دارتموث عام 1956 مختصرها «A.I».
مدرَستان لالتماس الذكاء الاصطناعي
واحدة تشبهه بالذكاء الإنساني، وأخرى ترى أنه نموذج ومثال للذكاء الذي ليس من الضروري أن يكون إنسانياً، بل يدعو إلى العقلانية.
ويعود الاختلاف إلى تعريف الذكاء، وهو من اللاتينية Intellegencia، التي تعني «موهبة الفهم». وهذا التعبير موضع نقاشات متعددة لجهة تحديده بدقة. فبينما يعتبره البعض القدرة على التقاط المعلومة ومعالجتها والعمل نتيجة ذلك (وهو ما يقوم به الحاسوب العادي بشكل جيد)، بينما يقول البعض الآخر إنها القدرة على التحليل، والفهم، والمنطق والتكيف المضاف إليها المعرفة والذاكرة (المواهب الخاصة بالإنسان).
وبهذا المعنى يتساءل بعض العلماء: هل الذكاء الاصطناعي المستقل هذا لن ينقلب ضد الكائن الإنساني، كما نرى في بعض أفلام الخيال العلمي؟ هذا حالياً أحد مواضيع النقاش الحقيقية التي لا يأخذها البعض باستخفاف. ويقدر العلماء أن الذكاء الاصطناعي المستقل القادر على التفكير قد يظهر من الآن إلى عام 2040.
الذكاء الضعيف والقوي
لايزال التعامل الآن مقتصراً على ما يسمى الذكاء الاصطناعي الضعيف. وهو عكس الذكاء الاصطناعي القوي، ينفذ ما يُطلب منه فقط.
بينما القوي يمكنه أن يتخذ قرارات يعتقد أنها الأصح، بشكل مستقل تماماً. وبمعزل عن الانفعالات والأحاسيس البشرية. وهذا ما يمكن أن يشكّل خطراً على الإنسانية. فإذا كانت وظيفة هذا الذكاء مهمة تحسين العالم، بينما نعلم أن البشر يهدمون العالم؛ فيمكن عندها، بالفعل، للذكاء الاصطناعي أن يقرر تدمير البشرية، لأنها تشكل خطراً على العالم.
ميادينه التطبيقية
تطور الذكاء الاصطناعي من أعمال بسيطة عامة إلى نظام عام لإدارة الصناديق المالية الآلية، وللمساعدة على التشخيص في الطب وتقييم مخاطر القروض البنكية أو التأمين والإدارة الممكنة والسيارات ذات القيادة الذاتية ولصنع القرارات الميدانية في الجيش واستخدام «الدرون».
وعلى مستوى أقل، يمكن أن نعدد المساعد الشخصي المستخدم في الهواتف الذكية مثل Siri وgoogle Assistant. هذه البرامج تتطور باستمرار وتعتمد على تعلّم عاداتنا كي توفر لنا معلومات مناسبة حسب السياق.
خروج توصيل حمالات موصولة من نوع Google Home ou Amazon Echo (في الولايات المتحدة حالياً فقط) سيحمل في المستقبل القريب تفاعلات أكبر بين البشر وآلاتهم.
الذكاء الاصطناعي والسوق
قابلية تطور الذكاء الاصطناعي ستجعله بسرعة سوقاً مهمة واعدة يسيل لها اللعاب. تتنافس الشركات بقوة الآن لجلب المهندسين والمطورين المختصين للأنظمة بالملايين.
والسيليكون فالي هي أغزر مكان للإنتاج بهذه السوق. العمالقة مثل «غوغل» و«أبل» و«فيسبوك» و«أمازون» تدخل في معارك تنافسية للحصول على أي تقنية جديدة لشرائها قبل المنافسين الآخرين. إنه اقتصاد جديد رأى النور مع تشغيل المساعدات الصوتية، وتلك التي تتعرف إلى الوجوه.
وعلى سبيل المثال، ليس أقل من 600 مليار دولار من التوظيفات وضعت في عام 2013 في «سيليكون فالي». رقم مذهل سيزداد 50 في المئة من الآن إلى عام 2020.
محاذير عسكرية
وإذا كان الذكاء الاصطناعي لا يزال بعيداً عما تصوره الأفلام، فإن هناك من يقلق بشأنه من العلميين أمثال بيل غيتس وستيف هوكنغ وألون موسك، خصوصاً تجاه النقص في الرقابة فيما يتعلق بالحرب السايبرية والقرصنة والروبوتات القاتلة وانفجار البطالة.
في تقرير لـ «النوفيل أوبسفاتور» أن بوتين أعلن أخيراً أن «البلد الذي سيتفوق في ميدان الذكاء الاصطناعي هو الذي سوف يسيطر على العالم». فضيلة بوتين أنه يقول علناً ما يفكر به الآخرون سراً.
غالباً ما يذكر الذكاء الاصطناعي في معرض إما التطور الإيجابي، كإسهاماته في المجال الصحي، أو السلبي كالبطالة التي يسببها إحلال الآلة محل الإنسان. أو في مجال أفلام الخيال العلمي، حيث يمتلك الروبوت الوعي ويحاول أن يتحكم في الإنسان.
لكن نادراً ما يذكر في مجالات الجيوبوليتيك، كما فعل الرئيس الروسي.
من هنا اعتقاد البعض أن المنافسة من أجل التفوق فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي ستكون السبب المرجح للحرب العالمية الثالثة.
الدرس التطبيقي أتى من كوريا، أوردت «القدس العربي» أن مشروع بيونغ يانغ النووي الصاروخي صار خارج السيطرة، وأن قراصنة إلكترونيين سرقوا وثائق عسكرية سرية من الولايات المتحدة تتضمن خطط عمليات حربية مشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية للقضاء على قيادة كوريا الشمالية... فتعطلت الخطة.
يذهب هراري إلى حد القول إن نمو الذكاء الاصطناعي والتقنيات البيولوجية قد يؤديان إلى إنتاج فئة من «رجال متفوقين» يحكمون العالم ويحوّلون بقية البشر إلى «طبقة غير نافعة».
ويتنبأ بأن التقدم العلمي سيولد لامساواة غير مسبوقة في التاريخ داخل المجتمعات، لكن أيضاً بين الأمم.
وستزداد الهوّة بين البلدان الصناعية التي تسيطر على التكنولوجيا وتلك المحرومة منها، لدرجة ستصبح معها غير قابلة للردم لاحقاً.
الذكاء الاصطناعي ليس فقط الكسا وأمازون وروبوت الأعمال المنزلية، إنه أيضاً وسيلة للسيطرة. وأكبر مستثمرين في هذا المجال هما الولايات المتحدة والصين، عبر «غوغل» و«مايكروسوفت» و«علي بابا» و«بايدو» و«تنسنت»، هذا من دون احتساب مراكز الأبحاث الضخمة المرتبطة بأنظمة الدفاع، والتي تغدق عليها البلدان الكبرى في العالم أكبر الميزانيات. وإسرائيل من البلدان التي سبق أن دخلت هذا الميدان بتطويرها عدداً من المنتجات المسوّقة بنجاح، لحاجات عسكرية.
وروسيا غير الطليعية في هذا المجال يمكنها عرقلة التفوق الأميركي عبر توسيع قوة قرصنة مهمة تتسلل إلى التجهيزات النووية أو مصادر الطاقة، أو كما زرعت الفوضى في الانتخابات الأميركية.
مخاطر مستقبلية
يثير ميدان الهندسة الجينية أو الوراثية، أي التدخل البشري المتعمد على المستوى البيولوجي بهدف تعديل شكل جسم ما، قدراته، حاجاته أو رغباته لتحقيق فكرة ثقافية معدة سلفاً كفكرة إدواردو كاك؛ كمّاً هائلاً من المسائل الأخلاقية والسياسية والأيديولوجية. المؤمنون ينظرون إليها نظرة سلبية، لأنها تعتدي على دور الخالق. لكن حتى من غير المؤمنين مَن هو مصدوم أيضاً.
إن القدرة على التلاعب بالجينات تحصل بوتيرة أسرع بكثير من القدرة على التبصر بحكمة بما سيحصل من جراء استخدامها.
من هنا تخوّف مناضلو حقوق الإنسان من تخليق بشر متفوقين يصنعون منّا عبيداً. وفي رؤية كارثية أخرى هناك تخوّف من تخليق بيو - دكتاتور يخلق عسكراً غير قابلين للخوف وعمالاً خنوعين.
كما يتخوف البعض الآخر من التعديل الذي قد يحصل على الانفعالات والرغبات، مثل تعديل الجينات المتعلقة بالرغبات الجنسية، وما قد ينتج عنها من تأثير على التركيبة الاجتماعية بمجملها. حتى الآن لم يستخدم إلا قدر ضئيل من إمكانات الهندسة الوراثية، فميدانها يقتصر على من لا يجد «لوبي» سياسياً يدافع عن التلاعب بجيناته: مثل النباتات والطحالب والبكتيريا والحشرات.
لكن هناك أيضاً مَن يريد إعادة تخليق الكائنات المنقرضة: النيندرتال والماموث وغيرها.
ولاتزال العوائق كثيرة أمام هذا السيناريو؛ منها الأخلاقي والسياسي، لكن لا يبدو أن هناك عوائق تقنية غير قابلة للتغلب عليها تفصلنا عن إنتاج بشر متفوقين.
ومنذ الآن تطرح معرفة الجينوم اليوم إمكان لجوء الشركات إلى مَن لديه «دي إن إيه» أفضل، ويتوقع خبراء أن يغيّر كثيراً من آليات اختيار الموظفين الملائمين لأي عمل. وقد يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة تستغل في سوق العمل، وتؤثر على آلية اختيار الموظفين وتحديد معايير انتقائهم.
أمثلة تطبيقية
بالإمكان الآن زرع ذراع بيونية يحركها الدماغ كالذراع الحقيقية، أو شبكة عين ترجع البصر إلى المكفوف، أو شريحة بيونية مكان عصب السمع... فما الذي يمنع من وضعها لكائن طبيعي لتحسين قدراته وجعله متفوقاً؟ بما يعرف بالجسم المزيد، وقِس على ذلك.
في متلازمة Linked- in عند الأشخاص الذين لا يتمكنون من تحريك أي عضو من أعضائهم (سوى حركة العـــين مثلاً) مع احتفاظهم بقدراتهم العقلية (بما يشبه حالة ستيف هوكينغ)، وضعــــوا مجسّات تنقل الإشارات الدماغية لتسهيل تواصلهم مع العالم. ما الذي يمنع من تطـــوير حاسوب يتفاعل مباشرة مع الدماغ، فيقرأ الإشارات وينقلها إلى حاسوب آخر، أليست قراءة أفكار يمكن تطويرها؟ وماذا لو نقلت إلى دماغ آخر؟ وماذا لو جمعت أدمغة عدة مع بعضها البعض؟ ماذا لو عثر على ذكريات آخر، وصارت كأنها ذكريات الشخص؟ كيف ستفرق بين ما هو أنت وما هو آخر؟
كل ذلك يطرح تساؤلات حول الهوية والأنا والنوع الجندري...
هناك من يحمل مشروع عمل دماغ اصطناعي، ويبحث عن التمويل المناسب. سيكون بالإمكان حينها الحصول على دماغ اصطناعي داخل حاسوب يمكنه أن يتحدث ويتصرف كالبشر خلال عقد أو عقدين. تلقّى هذا المشروع مليار يورو من الاتحاد الأوربي.
ونجاح ذلك يعني أنه بعد 4 مليارات سنة مضت تسارعت فيها الحياة في عالم صغير عضوي، ستنبثق الحياة فجأة في العالم الواسع اللاعضوي، وجاهزة لاتخاذ أشكال تتخطى أحلامنا الأكثر جنوناً. ولا يمكن التنبؤ بما سيصير عليه العالم عند تطبيقها.
حياة أخرى
الطريق الثالث الذي يغيّر قوانين الحياة، عبارة عن إنتاج كائنات لا عضوية تماماً. والمثل الحي على ذلك هو برامج الفيروسات المعلوماتية التي بإمكانها أن تتطور بشكل مستقل، حلم كثير من المبرمجين باتخاذه مثالاً، وتخليق برنامج تعلّم يمكنه أن يتعلم التطور بمفرده ودون مَن أوجده.
وبهذه الحالة يكون المبرمج هو المحرك الأول أو الدافع الأول، لكن يمكن لما صنعه أن يتطور بالاتجاهات التي لا يدركها لا من أوجده ولا أي أحد آخر.
الفيروس المعلوماتي هو النموذج الأول لبرنامج من هذا النوع. فهو عندما ينتشر في الشبكة، يتكاثر ملايين المرات، بينما هو مُلاحق من برامج مفترسة مضادة للفيروس، وتتعارك على مكان لها في فضاء السايبر. ربما ذات يوم وبينما يتكاثر الفيروس تحصل طفرة، بمناسبة خطأ بالمصادفة. وإذا استطاع الفيروس المعدل أن ينجو من البرامج المضادة دون أن يفقد قدرته على التسلل في الحواسيب، فسينتشر على مستوى الفضاء السايبري كله.
سوف تتكاثر هذه الفيروسات، ومع الوقت تتغلغل وتولد فيروسات لم يبرمجها أو يفبركها أحد، فتتابع تطورها اللا عضوي.
هل هي مخلوقات حية؟ الأمر يتعلق بما نقصده بـ «مخلوقات حية». في المقابل هي بالتأكيد منتجات جديدة لها سيرورة تطور مستقلة تماماً عن قوانين وحدود التطور العضوي.
التحديات السابقة بسيطة أمام التداعيات المتعلــقة بالنــتـــــائج الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. إن شرعة حقوق الإنسان والبرامج الطبية الرسمية والبرامج الوطنية للضمان الصحي ودساتير مختلف البلدان تعــترف جميعها بأن المجتمع الإنساني الجدير بهذا الاسم يجب أن يؤمّن لجميع أعضائه علاجاً طبياً عادلاً، ويحرص على أن يكونوا بصحة جيدة نسبياً.
وكل هذا كان حسناً مادام الأمر يتعلق بالوقاية من الأمراض. لكن ما الذي سيحصل عندما يصبح هدف كليات الطب تحسين المواهب البشرية؟ هل سيكون هذا حقاً للجميع، أم ستتشكل نخبة من الرجال المتفوقين؟
هذا العالم الذي يتباهى للمرة الأولى في التاريخ بأنه اعترف بالمساواة الفعلية لجميع البشر. يمكن أن يكون الآن على حافة إيجاد أكبر «لا مساواة» عرفت على الإطلاق في جميع المجتمعات.
«سيبورغ»
هذا ليس خيالاً علمياً. جميع أفلام الخيال تقدم سيناريوهات يكون فيها البشر الذين يعيشون في المستقبل مشابهين لنا، لكنهم يتمتعون بتكنولوجيا متقدمة؛ مركبات فضائية تنقل بسرعة الضوء وأسلحة ليزر.
والتحديات الأخلاقية والسياسية التي يصادفونها مأخوذة عن عالمنا، ويكررون نفس التوترات الانفعالية والاجتماعية، لكن على أرضية مستقبلية.
وفي المقابل، يمكن للتقنيات المستقبلية أن تغيّر الإنسان نفسه، وليس فقط مركباته وأسلحته. فما هي المركبة الفضائية مقابل سيبورغ cyborg حين لا يعود الكائن بشرياً أو عضوياً تماماً، يصبح شيئاً آخر مختلفاً تماماً؛ يظل شاباً إلى الأبد، ولا يتوالد ولا حياة جنسية له، ويمكنه أن يتشارك أفكاره مباشرة مع الكائنات الأخرى، وقدراته على التركيز والتذكر أكبر ألف مرة مما لدينا، وهو لا يغضب ولا يحزن، ولديه انفعالات ورغبات قد لا نتمكن من تخيّلها؟ كائن لا يمكننا حتى أن نقدّر ما قد يشكله من انعكاسات فلسفية وسيكولوجية وسياسية.
نادراً ما تصف أفلام الخيال العلمي مستقبلاً كهذا، لأن مثل هذا الوصف هو، بالتعريف، غير مفهوم. إن إنتاج فيلم عن حياة super cyborg هو كمثل إعطاء مسرحية هاملت أمام جمهور من النيندرتال أو الشمبانزي.
نبوءة فرانكشتاين
في عام 1818 نشرت ماري شيللي قصة فرانكشتاين، حكاية العالِم الذي حاول خرق كائن متفوق وخلق مسخ. منذ قرنين من الزمان، لم يعد بالإمكان تعداد منوعات هذه الحكاية، التي أصبحت الموضوع الأساسي لأسطورتنا العلمية الحديثة.
من الوهلة الأولى، تبدو حكاية فرانكشتاين تحذرنا: إذا حاولنا لعب دور الإله وتلاعبنا بالحياة، فسوف نعاقب بقسوة.
لكن للحكاية مغزى أعمق. أسطورة فرانكشتاين تذكر الهومو سابينس بأن أيامه الأخيرة تقترب بسرعة. إن وتيـــرة التطوير التقني ستقود قريباً إلى استبدال السابينس بكائنات جديدة لها مظهر مختلف، وعالمها المعرفي والانفعالي أيضاً شديد الاختلاف. معظم البشر يجدون أن هذا التوقع محيّر على الأقل.
لأننا نحب أن نتخيل في المستقـــــبل بشراً مثلنا يسافرون على متن مركبات فضائية. لا نحب أن نتصور إمكان عدم وجود كائنات لهم انفعالاتنا وهوياتنا، وأن يأخذ مكاننا أشكالاً مختلفة من الحياة، حيث تسحق إمكاناتهم إمكاناتنا.
هذا التفكير يعود إلى افتراضنا أنه ليست هناك كائنات يمكن أن تكون أفضل منا.
كما أن لدينا صعوبة في أن نسلّم بأنه يمكن للعلماء أن يعالجوا الذهن مثل الجسد، وأن الدكاترة الفرانكشتايين المستقبليين يمكنهم أن يوجدوا كائناً يتطلع إلينا من فوق ويعاملنا كالنيندرتال.
ورثتنا سيكونون أشبه بآلهة■