معلمو اللغة العربية بين سندان الضحية ومطرقة الجاني

معلمو اللغة العربية  بين سندان الضحية ومطرقة الجاني

  من دون مقدمات عن قدسية اللغة العربية، ودور  معلميها وواجباتهم حيالها، ومن دون طنطنة «يجب» و«لابد» و«يتحتم» إلى آخر  تلك الإلزامات التي ملّ القارئ سماعها، دعونا نلج معًا عالم هذه القضية من أولها لنرى إن كان معلم اللغة العربية اليوم يقف في صف الجاني أم أنه إلى صف الضحية أقرب.

 

أعتقد أن الأمر يتعلق بالمعلم بصفة عامة، وبمعلم اللغة العربية على وجه الخصوص من جانب، كما يتعلق من جانب آخر بثقافة المجتمع وأنماط تفكيره، ومن جانب ثالث بدور المؤسسات والحكومات تجاه هذه القضية.
 ولنبدأ بطرح ذلك السؤال الكبير: لماذا يلتحق طالب الثانوية العامة في الدول العربية بكليات التربية، ولماذا يلتحق بعضهم بقسم اللغة العربية؟ هل حبًا في مهنة التدريس وعشقًا لها، وهيامًا بامتيازاتها، أم أنه سيف الأمر الواقع إن جاز التعبير؟! هل أتيحت أمام هؤلاء الطلاب كليات من مثل: الطب والهندسة والصيدلة والحاسبات والمعلومات... إلخ، وتركوها وعافوا الالتحاق بها من أجل عيون مهنة التدريس التي ستوفر لهم العيش الرغيد، والمكانة الاجتماعية المرموقة؟! أم أن تلك الكليات قد حلّقت بنِسَبِها العالية بعيدًا عنهم فارتدّوا إلى كليات التربية كاسفي البال، مكسوري الخاطر، مهيضي الجناح؟!
   وإذا كنتَ من مؤيدي الرأي الثاني، فهل تعتقد أن هؤلاء الطلاب راضون بهذا المصير، وبه جذلون مسرورون؟! أم أنّ ثمة عقدًا نفسية ستظهر على أجيال وأجيال ممن على أيديهم مستقبلًا سيتعلمون؟! 
وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة فيما يتعلق بمهنة التدريس بصفة عامة، فهل تتوقع أن طلاب أقسام اللغة العربية أفضل حالًا من زملائهم في الأقسام الأخرى، أم أن الأمر معهم سيكون أنكى وأشد، وأسوأ وأمرّ؟ وسواء أكنت من أنصار الرأي الأول أم من أنصار الرأي الثاني – هنا - فهل تتوقع أن تتم عملية تربوية تعليمية بشكل سوي؟ 
وهل تتوقع أن ينافس المُنتَج التعليمي – وفق مصطلحات الاقتصاد وأسواق العمل - في العالم العربي المنتجات التعليمية في الدول المتقدمة كاليابان مثلًا؟ وإذا قلت: ولِمَ لا؟ فسأطوف بك في لمحة سريعة عن وضع المعلم في اليابان، حيث «يحظى المعلمون في اليابان باحترام وتقدير ومكانة اجتماعية مرموقة، ويتضح ذلك من خلال النظرة الاجتماعية المرموقة لهم، وكذلك المرتبات المغرية التي توفر لهم حياة مستقرة كريمة، ويتساوى في ذلك المعلمون والمعلمات. 
ويتضح كذلك من خلال التهافت على شغل هذه الوظيفة المرموقة في المجتمع؛ فمعظم هؤلاء المعلمين هم من خريجي الجامعات، لكنهم لا يحصلون على هذه الوظيفة إلا بعد اجتياز اختبارات قبول شاقة، تحريرية وشفوية، وبالطبع نسبة التنافس على هذه الوظيفة شديدة أيضًا، وهم بشكل عام يعكسون أيضًا نظرة المجتمع إليهم، ويعكسون أيضًا صورة الالتزام وروح الجماعة والتفاني في العمل عند اليابانيين. فهم إلى جانب عملهم في المدرسة وقيامهم بتدريبات ودراسات لرفع مستوياتهم العلمية، فإنهم يهتمون بدقائق الأمور الخاصة بتلاميذهم، كما يقومون بزيارات دورية إلى منازل التلاميذ أو الطلاب للاطمئنان على المناخ العام للاستذكار من ناحية، ويؤكدون التواصل مع الأسرة وأهمية دور الأسرة المتكامل مع المدرسة من ناحية أخرى». 
 لماذا لا يلجأ خريج الثانوية العامة إلى كليات التربية إلا بعد أن توصد في وجهه سبل التخصصات الأخرى التي كان يرغب في الالتحاق بها؟ ولماذا لا يلجأ طلاب أقسام اللغة العربية إلى هذه الأقسام إلا بعد أن توصد في وجوههم أبواب أقسام أخرى، كالفيزياء والكيمياء واللغة الإنجليزية أو الفرنسية؟
لماذا لا تكون وجهة الطالب منذ صغره، ورغبته منذ نعومة أظفاره أن يكون معلمًا، وأن يكون معلمًا للغة العربية على وجه الخصوص؟ والإجابة عن هذا السؤال ذات أبعاد كبيرة، وجذور عميقة، لعل أبسط إجابة عنه تكون بعكس صيغة السؤال، أو إن شئت قل: بنزع «لا» من صيغة السؤال المطروح، فيصبح: ولماذا تكون وجهة الطالب منذ صغره، ورغبته منذ نعومة أظفاره أن يكون معلمًا، وأن يكون معلمًا للغة العربية على وجه الخصوص؟ 
ما المغريات والمزايا التي تجعله يختار مهنة التدريس وتخصص اللغة العربية من بين التخصصات؟ ولماذا يحرص على ذلك؟ وإذا أردت أن أحلّق معك في سماء المثالية، وعوالم الرومانسية فأفتح باب ثلاجتي وأخرج لك منها بعض الإجابات المعلَّبة التي تخدّر عقلك فخذ مثلًا – والجناية عليك - «إنها لغة القرآن وإن لم أدافع أنا عنها فمن سيدافع عنها - إنها لغة الضاد ويكفيني فخرًا أن أكون من سدنتها... إلخ»، ولك أقول: الهوينى... الهوينى... والرفق بنا وبنفسك، ومن قال لك: إنك ستكون قادرًا على حمايتها والذود عنها وأنت لا تملك أدوات فهمها، ولم تختر الالتحاق بأقسامها ابتداءً؟!
لقد لفت نظري في الفقرة السابقة المنقولة عن التعليم والمعلم في اليابان أن هناك «اختبارات قبول شاقة، تحريرية وشفوية»، وهذا ما نريد أن نضع أيدينا عليه بادئ ذي بدء، أن يكون اختيار المعلم وفق شروط خاصة، وبعد اجتياز اختبارات قبول حقيقية، سواء على مستوى الأداء الشفهي للتحقق من سلامة جهاز النطق لديه، أو على مستوى الكتابة التحريرية لنكتشف ما عنده من مواهب كجودة الخط، وحسن الصياغة، والمواهب الأدبية ككتابة قصة أو مقال أو خاطرة، أو قرض مقطوعة شعرية، فأنا هنا أختار معلمًا مبدعًا في فنون اللغة العربية ومهاراتها المختلفة لينتقل هذا الإبداع من المعلم إلى المتعلم، فيحصد المجتمع خير أبنائه وعطاءهم جيلًا بعد جيل. 
  
 معلم اللغة العربية و«كشف الهيئة»
يُجرى اختبار كشف الهيئة عند الرغبة في الالتحاق بالكليات العسكرية، وكليات الشرطة، وتحرص تلك الكليات على الهيئة الشخصية للمتقدمين أو الممتحنين من طول مناسب، وقوام ممشوق، وجدية وإصرار باديين في عيني المتقدم، وملامح الوجه، والاستدلال من شكل الجسم على مدى ممارسة الممتحن للرياضة من عدمها، إن لم يكن هناك اختبارات رياضية تقيس القدرة على التحمل، وتبين مقدار الشجاعة والإقدام... إلى آخر تلك الاختبارات التي تقيس مدى صلاحية هذا الشخص لأن يكون ضابطًا في القوات المسلحة أو في الشرطة المدنية.
 وهذا شيء يحمد لتلك الكليات لكي تخرّج ضابطًا على كفاءة عالية في مجاله، وأنا أدعو إلى أن تعقد مثل تلك الاختبارات، إضافة لاختبارات نفسية، من أجل اختيار المعلم المناسب، ومن أجل اختيار معلم اللغة العربية على وجه الخصوص، فيستبعد ضعيف الشخصية المتردد، والغضوب شديد الغضب، والقصير قصرا شائنا، وبخاصة إذا كان سيقوم بتدريس طلاب المرحلة الثانوية، كما يستبعد البدين ذو الجسم المترهل، بل يستبعد من لم يؤته الله قسامة ولا صباحة أو وسامة أو من كان دميمًا، وليس هذا تقليلًا من شأنه، وإنما حماية له من غمزات الطلاب وتعليقاتهم عليه، بل تتم المفاضلة على أساس جودة المظهر، وتناسق ألوان ما يرتديه طالبو الالتحاق بوظيفة معلم، ومعلم اللغة العربية خاصة. هذا وغيره بعد التأكد من دماثة خلقه، وسيرته الحسنة، وبعد التأكد من تمكنه من أساسيات اللغة العربية، وبراعته في كشف الغامض في نص أدبي، أو إماطة اللثام عن نكتة أدبية أو نحوية، هذا على أن يكون سريع البديهة، خفيف الظل، ولا تظننّ ذلك من باب التعقيد، بل هو نوع من التقييد يعقبه في الأجيال إبداع وتحليق، ولا تخش من عدم توافر الشروط؛ فالمتقدمون كثر، والعدد موفور، والأُمّة العربية ولّادة.

بين الكم والكيف
«كلما كثر المعروض قلّ السعر وبارت السلع»، وعلى الرغم من أنها قاعدة في الاقتصاد، فإنها تنطبق على معلمي اللغة العربية، وعلى غيرهم. 
تمتلئ أقسام اللغة العربية في الدول العربية وتكتظ بالطلاب فتعيق الكثرةُ والكم الجودةَ والكيف، وقد يقول قائل: وما الذي يضيرك في كثرة العدد... دعهم يتعلمون وتزداد قاعدة متعلمي اللغة العربية فتزداد انتشارًا وتألقًا وازدهارًا؟! 
وأنا أقول لك: أخطأت من حيث أردت الإصابة؛ فعكس ما تقول وما تريد هو الصحيح؛ فزيادة أعداد الطلاب في الجامعة تؤثر على عطاء الأستاذ، وتقلل من عدد الدقائق التي يجب أن تخصص لكل طالب، فأنت بذلك أضعت على الراغب من الاستفادة لمصلحة من لا يريد إلا مجرد الحصول على شهادة.
إن هذا الكمّ الهائل من خريجي اللغة العربية يقف حجر عثرة في وجه تطورها وتقدمها وازدهارها، فكم من هؤلاء سيعملون في مجالهم ذاته؟ وكم من هؤلاء كان يمكن أن يستفاد من قدراتهم لو أنهم التحقوا بمجالات يفضلونها لو أتيحت لهم الفرصة؟ 
إن الحاجة إلى دراسة حاجات سوق العمل أضحت ماسة فيما يخص اللغة العربية حتى لا يزيد العدد بهذا الشكل الكبير فيؤثر بالسلب على الطالب المتفوق الراغب حقيقة في دراسة لغته الأم، كما يؤثر بالسلب أيضًا على الطالب الذي لم يجد أمامه سوى هذا التخصص فالتحق به لمجرد الحصول على شهادة جامعية وحسب! 
أضف إلى كل ذلك ضرورة أن يكون لمتعلمي اللغة العربية الذين سيصبحون حماتها وسدنتها خصوصية مادية ومعنوية، فيزاد في رواتبهم عن رواتب غيرهم ليس من أجله فحسب، بل من أجل قداسة ما يدرسه، وليصبح للغة العربية في شخصه احترام وتبجيل، وإجلال وتقدير، وإذا فعلنا ذلك فسنكون قد غرسنا غرسًا طيبًا لن يطول أوان قطافه.
وإذا وفّرنا ذلك ضمّنا لأجيالنا تعلمًا صحيحًا، ولمعلمي اللغة العربية وضعًا كريمًا، وإن لم يكن ذلك فلا تنتظر فناء في العمل، ولا عطاء بغير جزاء! 
فكيف تطلب من معلم اللغة العربية أن يكون قدوة وزيه رث بالٍ؟ وكيف تطلب منه الابتسام في وجه طلابه وابنه يبكي في بيته وقد عضه الجوع؟! وكيف يبحث في كتاب عن قضية لغوية أو أدبية وهو لا يجد ثمن ذلك الكتاب؟!
وبعد كل ما تقدم، الأمر إليك في أن تعتبر معلم اللغة العربية ضحية أو أن تعده من الجناة ■