هيباتيا.. صفحة من تاريخ الفكر وأيقونة في رحاب الفن
التاريخ وثيقة الزمن الباقية التي تتناقلها الأجيال، يحمل بين صفحاته أحلام حاضر مضى، ورؤى حاضر ما زال، واستشراف حاضر آتِ، فهو وثيقة النجاح والإخفاق، وهو وثيقة الفرح والألم، بل إنه صدى السنين الحاكي.
التاريخ علم ضخم ينشغل به علماء وباحثون، تارة في تحقيق مناهج وتأليف نظريات دارسة وناقدة للتاريخ، وتارة أخرى في سرد أحداث وتحليل مواقف وإدراج شخصيات ومعلومات، كما أنه أيضاً مادة غنية للفنانين والفلاسفة يستلهمون منه موضوعاتهم ويحاكون فيه قناعاتهم، فهناك دائما صلة بين الفن والتاريخ، صلة الأضداد، فالفن حي ومتحرك دائماً بين مفرداته، والتاريخ ميت وساكن بين دفتي كتاب أو وثيقة، غير أن هذه الأضداد أضفت شيئاً ما على طرفي تلك الصلة، أهمها أن حيوية الفن أورثت حياة أخرى يعيشها التاريخ كمادة فنية، أقدم عليها الفنانون، فصارت روح الفن تسري في جسد التاريخ، حتى تدبّ حركته ويصير حاضراً ومستقبلاً.
لجوء الفن للتاريخ
وهكذا نجد أن موضوعات التاريخ قد تربعت في أشكال الفن المختلفة، إذ يلجأ الفنانون إلى التاريخ في بعض أعمالهم، وفي شتى المجالات الفنية سواء (مسرح، شعر، سينما، فن تشكيلي، رواية، قصة)، ويأتي هذا اللجوء الفني للتاريخ لعدة أسباب، هي:
أولًا: أن التاريخ مادة غنية، تحمل كمّاً كبيراً من الإنسانيات التي تغري الفنان، لاستخدامها في عمل فني يعبّر عن هذه اللمحات الإنسانية الآتية من الماضي.
ثانياً: أن الفنان يجد مساحة كبيرة من الحرية الكافية التي تجعله يتناول مادة تاريخية دون قيد من قيود حاضره، كالقيود السياسية أو الاجتماعية بشتى صورها، وهي قيود لا يمكن إنكارها.
ثالثًا: ما جرى في التاريخ من أحداث أو تجلي شخصيات يتشابه مع قضايا الحاضر، فالإنسان على مر العصور هو الإنسان بهمومه وأحلامه، بأوجاعه وطموحاته، وهو ما يلتفت إليه الفنان فيتناول التاريخ كرمز معبّر عن الحاضر، خاصة إذا كان هذا الحاضر صعب التعبير عنه لما يحيط به من قيود كما ذكرنا سابقاً، فالحدث التاريخي أو الشخصية دالّ يضيفه الفنان داخل عمله، ليضع مدلولاً يريده، يقرأ به الحاضر أو يتنبأ بالمستقبل.
«هيباتيا» أيقونة علمية
ومن بين تلك الشخصيات التي تأثر بها الفنانون؛ سواء في الفن التشكيلي أو السينما أو الرواية كانت شخصية هيباتيا السكندرية التي تمثّل صفحة مهمة في تاريخ صراع الفكر، كما تمثّل أيقونة مهمة كموضوع في لوحات فنية وأعمال روائية وكذا سينمائية.
كانت هيباتيا تعيش في نهايات القرن الرابع الميلادي، وكانت من أشهر علماء الفلك والرياضيات والفيزياء في عصرها، حيث شغلت مكانة عظيمة، إذ كانت رئيسة المدرسة الفلسفية الأفلاطونية بمكتبة الإسكندرية، ومن المعلوم أيضاً أنها كانت ابنة العالم آثيون، أحد علماء الرياضيات المنتمين لمدرسة الإسكندرية أيضاً.
ولا يُعرف كثير عن تفاصيل حياتها، فيذكر المؤرخ ديكين أن «أكثر سجلات جاءت إلينا عنها هي سجلات موتها، ولم تأت تفاصيل كثيرة عن جوانب أخرى من حياتها». غير أن ما يهم في حياة هيباتيا أنها سيدة اشتغلت بالعلم في عصر قلّما تخرج فيه سيدة لطلب العلم والعمل به، على حد مقولات المؤرخ سلاتكين، فلم تكن النساء اليونانيات من جميع الطبقات مشغولات سوى بالأعمال المنزلية والعائلية.
تأثرت هيباتيا بفلسفة أفلاطون، وقدمت شروحاً لأعمال أبوللونيوس، وأيضاً أعمال بطليموس الفلكية وقوانينه الشهيرة في هذا المجال، كما يذكر أنها قدمت عديداً من التطورات لبعض الأجهزة العلمية، وأنها كانت في ذلك تتعاون مع تلميذها وزميلها سيونيسيوس، الذي تبادلت معه عديداً من الرسائل، التي تعد الوثائق الوحيدة التي جاءتنا عنها وعن أفكارها وحياتها.
العُصاب الإيماني يقتل هيباتيا
يمثل عصر هيباتيا عصر انتشار المسيحية في العالم، وهو عصر مليء بالصراعات التي لم تستطع أن تتجنبها، فهي آخر فلاسفة وعلماء مكتبة الإسكندرية ذات الميراث اليوناني الضخم الذي يتعارض مع أفكار الديانة الوليدة في ذلك الوقت، وهي المسيحية، والتي سيطرت على مجريات الحياة في مصر وبعض بلاد أوربا، بعد صراعات ضخمة مع السلطة الحاكمة، ورغم ذلك استطاعت أن تفرض سيطرتها، ونتج عن ذلك محاولات البعض محاربة أي أفكار لا تناسب هذا المعتقد الجديد، وكانت هيباتيا بما تقدمه من تنظيرات في علم الفيزياء والرياضيات والأفكار الفلسفية، فيروي بعض المؤرخين أنها كانت جاذبة لمحبي العلم من الشباب، وأن ما تقدمه من أفكار كانت تعيق حركة التبشير الإيماني الذي كانت تقوم به الكنيسة، وأن لديها من السحر في الحديث والشرح العلمي في مفاهيم رياضية وفلسفية ما يلفت انتباه الناس ويجعلهم يعجبون بما تقول، فأثارت غضب وغلظة المتنطعين ممن يظنون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، هذا بجانب شك يعتبره بعض المؤرخين سبباً رئيساً وراء قتلها، وهو ظن البعض أنها كانت تؤثر على الحاكم لارستيز لمعاداة المسيحية، وأنها وراء دحض أي علاقة تربط بينه وبين بطريرك الكنيسة.
قتلت هيباتيا على يد متطرفين سنة 415 ميلادية، إذ تربصوا لها في الطريق ومارسوا عليها العنف والقهر، حتى راحت ضحية إرهابهم وأفكارهم الملوثة، ولم يكن قتل هيباتيا فقط هو ما أثار حفيظة المفكرين والمؤرخين والمبدعين على السواء، فهذا جانب لا يمكن إغفاله، ولكن تلك الطريقة الوحشية التي تعاملوا بها معها، فيذكر أنهم جردوها من ملابسها وجرّوها عارية بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى ماتت.
هذه الطريقة البشعة التي مارسوها كانت هي منبت إبداع المبدعين الذين تناولوا سيرتها؛ سواء في السينما أو الرواية، فكانت مفردة الكلمة الثائرة لدى بعضهم حتى ينتقدوا العُصاب الإيماني في كل دين، ويظهروا مدى وحشية التعصب الذي يصيب البعض، وينتج عنه مثل هذا الألم، وكانت أيضاً نقطة اللون المضيئة في لوحات الرسامين الذين تناولوا وجهها البريء الذي بللته الدماء، وجسدها العاري الذي كسته ريشة الرسامين وخلدته.
هيباتيا أيقونة الفنون الأبدية
قدّم الكاتب الإنجليزي تشارلز كينغسلي في عام 1853 روايته الشهيرة «أعداء جدد بوجه قديم»، التي عرفت باسم «هيباتيا»، وترجمها إلى «العربية» في ستينيات القرن الماضي عزت زكي بعنوان «هايبيشيا»، ونشرت عن دار الشرق والغرب، ليسرد فيها الكاتب حياة هيباتيا، كما أنها مفعمة بالخيال، حيث يقدم فيها الكاتب عديداً من شخصيات مختلقة درامياً، وليست تاريخية، لتساعده على تضفير أحداث الرواية ليناقش الصراع الفكري في العصر المسيحي.
نجد كذلك «هيباتيا والحب الذي كان» لداود روفائيل خشبة، وترجمت إلى «العربية» على يد سحر توفيق، ونشرها المركز القومي للترجمة بمصر، وفيها يتناول الكاتب حياة تلك العالمة، بل يتخيل محاضراتها التي كانت تقدمها وأفكارها التي كانت تطرحها، كما يتخيل علاقات الحب التي كانت تجمعها بين طلابها، إذ كانت حكاية هيباتيا باباً للمؤلف يسرد فيه طموحاته الفلسفية وأفكاره التي تجلت على لسان هيباتيا عبر تلك الرواية.
ولم يكن فن الرواية فقط هو الذي قدّم هيباتيا، بل نجد عنها فيلماً سينمائياً إسباني المنشأ باسم «آجورا»، الذي أنتج عام 2009، للمخرج أليخاندرو آمينا بار، الذي شارك في كتابة السيناريو مع ميتيو جيل، وهي دراما تاريخية تدور أحداثها في عام 391م، وتروي قصة هيباتيا، وقامت ببطولتها رايتشل وايز، وأعطى الفيلم مساحة للكاتب لتخيّل بعض الشخصيات غير التاريخية، ليخلق حالة درامية لا تخرج عن السياق التاريخي؛ بل تشكل فلسفته في قراءة هذا التاريخ، وتضيف حسّاً إنسانياً للحكاية التاريخية من خلال علاقة هيباتيا بشخصية أوريستوس.
كما يسرد الفيلم واقعاً تاريخياً عن العنف الذي لحق بهيباتيا وقتلها والتنكيل بها.
وقد تجلى ذلك في عديد من اللوحات الفنية التي أبدعها الرسامون الكبار، فنجد على سبيل المثال لوحة تشارلز ويليم ميشيل، التي تحمل اسم «هيباتيا»، وتم رسمها عام 1885، وهي زيت على قماش معروضة بمعرض لاينج للفن، متاحف تاين ووير، ويذكر أنها كانت مستوحاة من رواية «هيباتيا» لتشارلز كينغسلي، التي ذكرناها سابقاً، وفيها يتناول لحظة تعرّي هيباتيا بروح رومانسية، ويقدم براءتها المفعمة بقوة، وهي تحرك يدها إلى أعلى.
ونجد كذلك لوحة هيباتيا للفنان الألماني ألفريد سيفرت (1850/1901)، الذي كان مشهوراً بلوحاته التي تتناول وجوهاً نسائية، وتأتي لوحة لهيباتيا ضمن أشهر أعماله، وهي زيت على قماش معروضة ضمن أعماله في التشيك، وقبل هذه اللوحة نجد جدارية مدرسة أثينا التي رسمها الفنان رافايلو سانزيو عام 1509م، ليقدم هيباتيا ضمن فلاسفة مدرسة أثينا، وربما حاول بأدواته الكلاسيكية أن يضع لهيباتيا مكانتها وسط الفلاسفة والفنانين، وزينت هذه الجدارية قصر أبوستوليك في الفاتيكان.
وهكذا، تُقدم هيباتيا على أنها صفحة من تاريخ الفكر وأيقونة في رحاب الفن ■