هيباتيا.. صفحة من تاريخ الفكر وأيقونة في رحاب الفن

هيباتيا.. صفحة من تاريخ الفكر وأيقونة في رحاب الفن

التاريخ‭ ‬وثيقة‭ ‬الزمن‭ ‬الباقية‭ ‬التي‭ ‬تتناقلها‭ ‬الأجيال،‭ ‬يحمل‭ ‬بين‭ ‬صفحاته‭ ‬أحلام‭ ‬حاضر‭ ‬مضى،‭ ‬ورؤى‭ ‬حاضر‭ ‬ما‭ ‬زال،‭ ‬واستشراف‭ ‬حاضر‭ ‬آتِ،‭ ‬فهو‭ ‬وثيقة‭ ‬النجاح‭ ‬والإخفاق،‭ ‬وهو‭ ‬وثيقة‭ ‬الفرح‭ ‬والألم،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬صدى‭ ‬السنين‭ ‬الحاكي‭.‬

التاريخ‭ ‬علم‭ ‬ضخم‭ ‬ينشغل‭ ‬به‭ ‬علماء‭ ‬وباحثون،‭ ‬تارة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مناهج‭ ‬وتأليف‭ ‬نظريات‭ ‬دارسة‭ ‬وناقدة‭ ‬للتاريخ،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬أحداث‭ ‬وتحليل‭ ‬مواقف‭ ‬وإدراج‭ ‬شخصيات‭ ‬ومعلومات،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أيضاً‭ ‬مادة‭ ‬غنية‭ ‬للفنانين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬يستلهمون‭ ‬منه‭ ‬موضوعاتهم‭ ‬ويحاكون‭ ‬فيه‭ ‬قناعاتهم،‭ ‬فهناك‭ ‬دائما‭ ‬صلة‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬والتاريخ،‭ ‬صلة‭ ‬الأضداد،‭ ‬فالفن‭ ‬حي‭ ‬ومتحرك‭ ‬دائماً‭ ‬بين‭ ‬مفرداته،‭ ‬والتاريخ‭ ‬ميت‭ ‬وساكن‭ ‬بين‭ ‬دفتي‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬وثيقة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأضداد‭ ‬أضفت‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬طرفي‭ ‬تلك‭ ‬الصلة،‭ ‬أهمها‭ ‬أن‭ ‬حيوية‭ ‬الفن‭ ‬أورثت‭ ‬حياة‭ ‬أخرى‭ ‬يعيشها‭ ‬التاريخ‭ ‬كمادة‭ ‬فنية،‭ ‬أقدم‭ ‬عليها‭ ‬الفنانون،‭ ‬فصارت‭ ‬روح‭ ‬الفن‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬التاريخ،‭ ‬حتى‭ ‬تدبّ‭ ‬حركته‭ ‬ويصير‭ ‬حاضراً‭ ‬ومستقبلاً‭.‬

 

لجوء‭ ‬الفن‭ ‬للتاريخ

وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬موضوعات‭ ‬التاريخ‭ ‬قد‭ ‬تربعت‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬الفن‭ ‬المختلفة،‭ ‬إذ‭ ‬يلجأ‭ ‬الفنانون‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أعمالهم،‭ ‬وفي‭ ‬شتى‭ ‬المجالات‭ ‬الفنية‭ ‬سواء‭ (‬مسرح،‭ ‬شعر،‭ ‬سينما،‭ ‬فن‭ ‬تشكيلي،‭ ‬رواية،‭ ‬قصة‭)‬،‭ ‬ويأتي‭ ‬هذا‭ ‬اللجوء‭ ‬الفني‭ ‬للتاريخ‭ ‬لعدة‭ ‬أسباب،‭ ‬هي‭: ‬

أولًا‭: ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬مادة‭ ‬غنية،‭ ‬تحمل‭ ‬كمّاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الإنسانيات‭ ‬التي‭ ‬تغري‭ ‬الفنان،‭ ‬لاستخدامها‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬اللمحات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬الماضي‭.‬

ثانياً‭: ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬يجد‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬الكافية‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬يتناول‭ ‬مادة‭ ‬تاريخية‭ ‬دون‭ ‬قيد‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬حاضره،‭ ‬كالقيود‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بشتى‭ ‬صورها،‭ ‬وهي‭ ‬قيود‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها‭. ‬

ثالثًا‭: ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬أو‭ ‬تجلي‭ ‬شخصيات‭ ‬يتشابه‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬الحاضر،‭ ‬فالإنسان‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬بهمومه‭ ‬وأحلامه،‭ ‬بأوجاعه‭ ‬وطموحاته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬الفنان‭ ‬فيتناول‭ ‬التاريخ‭ ‬كرمز‭ ‬معبّر‭ ‬عن‭ ‬الحاضر،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحاضر‭ ‬صعب‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬لما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬سابقاً،‭ ‬فالحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬أو‭ ‬الشخصية‭ ‬دالّ‭ ‬يضيفه‭ ‬الفنان‭ ‬داخل‭ ‬عمله،‭ ‬ليضع‭ ‬مدلولاً‭ ‬يريده،‭ ‬يقرأ‭ ‬به‭ ‬الحاضر‭ ‬أو‭ ‬يتنبأ‭ ‬بالمستقبل‭. ‬

 

‮«‬هيباتيا‮»‬‭ ‬أيقونة‭ ‬علمية

ومن‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تأثر‭ ‬بها‭ ‬الفنانون؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬أو‭ ‬السينما‭ ‬أو‭ ‬الرواية‭ ‬كانت‭ ‬شخصية‭ ‬هيباتيا‭ ‬السكندرية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬صفحة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬صراع‭ ‬الفكر،‭ ‬كما‭ ‬تمثّل‭ ‬أيقونة‭ ‬مهمة‭ ‬كموضوع‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬فنية‭ ‬وأعمال‭ ‬روائية‭ ‬وكذا‭ ‬سينمائية‭.‬

كانت‭ ‬هيباتيا‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬علماء‭ ‬الفلك‭ ‬والرياضيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬في‭ ‬عصرها،‭ ‬حيث‭ ‬شغلت‭ ‬مكانة‭ ‬عظيمة،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬رئيسة‭ ‬المدرسة‭ ‬الفلسفية‭ ‬الأفلاطونية‭ ‬بمكتبة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أيضاً‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬ابنة‭ ‬العالم‭ ‬آثيون،‭ ‬أحد‭ ‬علماء‭ ‬الرياضيات‭ ‬المنتمين‭ ‬لمدرسة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬أيضاً‭. ‬

ولا‭ ‬يُعرف‭ ‬كثير‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتها،‭ ‬فيذكر‭ ‬المؤرخ‭ ‬ديكين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬سجلات‭ ‬جاءت‭ ‬إلينا‭ ‬عنها‭ ‬هي‭ ‬سجلات‭ ‬موتها،‭ ‬ولم‭ ‬تأت‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬حياتها‮»‬‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يهم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬هيباتيا‭ ‬أنها‭ ‬سيدة‭ ‬اشتغلت‭ ‬بالعلم‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬قلّما‭ ‬تخرج‭ ‬فيه‭ ‬سيدة‭ ‬لطلب‭ ‬العلم‭ ‬والعمل‭ ‬به،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬مقولات‭ ‬المؤرخ‭ ‬سلاتكين،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬النساء‭ ‬اليونانيات‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الطبقات‭ ‬مشغولات‭ ‬سوى‭ ‬بالأعمال‭ ‬المنزلية‭ ‬والعائلية‭.‬

تأثرت‭ ‬هيباتيا‭ ‬بفلسفة‭ ‬أفلاطون،‭ ‬وقدمت‭ ‬شروحاً‭ ‬لأعمال‭ ‬أبوللونيوس،‭ ‬وأيضاً‭ ‬أعمال‭ ‬بطليموس‭ ‬الفلكية‭ ‬وقوانينه‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬أنها‭ ‬قدمت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬لبعض‭ ‬الأجهزة‭ ‬العلمية،‭ ‬وأنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تتعاون‭ ‬مع‭ ‬تلميذها‭ ‬وزميلها‭ ‬سيونيسيوس،‭ ‬الذي‭ ‬تبادلت‭ ‬معه‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الرسائل،‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬الوثائق‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬جاءتنا‭ ‬عنها‭ ‬وعن‭ ‬أفكارها‭ ‬وحياتها‭.‬

 

العُصاب‭ ‬الإيماني‭ ‬يقتل‭ ‬هيباتيا

يمثل‭ ‬عصر‭ ‬هيباتيا‭ ‬عصر‭ ‬انتشار‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬عصر‭ ‬مليء‭ ‬بالصراعات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تتجنبها،‭ ‬فهي‭ ‬آخر‭ ‬فلاسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬ذات‭ ‬الميراث‭ ‬اليوناني‭ ‬الضخم‭ ‬الذي‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬الديانة‭ ‬الوليدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وهي‭ ‬المسيحية،‭ ‬والتي‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬مجريات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وبعض‭ ‬بلاد‭ ‬أوربا،‭ ‬بعد‭ ‬صراعات‭ ‬ضخمة‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تفرض‭ ‬سيطرتها،‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬محاولات‭ ‬البعض‭ ‬محاربة‭ ‬أي‭ ‬أفكار‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬هذا‭ ‬المعتقد‭ ‬الجديد،‭ ‬وكانت‭ ‬هيباتيا‭ ‬بما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬تنظيرات‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الفيزياء‭ ‬والرياضيات‭ ‬والأفكار‭ ‬الفلسفية،‭ ‬فيروي‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬جاذبة‭ ‬لمحبي‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬الشباب،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬كانت‭ ‬تعيق‭ ‬حركة‭ ‬التبشير‭ ‬الإيماني‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وأن‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬السحر‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬والشرح‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬مفاهيم‭ ‬رياضية‭ ‬وفلسفية‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬انتباه‭ ‬الناس‭ ‬ويجعلهم‭ ‬يعجبون‭ ‬بما‭ ‬تقول،‭ ‬فأثارت‭ ‬غضب‭ ‬وغلظة‭ ‬المتنطعين‭ ‬ممن‭ ‬يظنون‭ ‬أنهم‭ ‬يملكون‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬هذا‭ ‬بجانب‭ ‬شك‭ ‬يعتبره‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬سبباً‭ ‬رئيساً‭ ‬وراء‭ ‬قتلها،‭ ‬وهو‭ ‬ظن‭ ‬البعض‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬الحاكم‭ ‬لارستيز‭ ‬لمعاداة‭ ‬المسيحية،‭ ‬وأنها‭ ‬وراء‭ ‬دحض‭ ‬أي‭ ‬علاقة‭ ‬تربط‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬بطريرك‭ ‬الكنيسة‭.‬

قتلت‭ ‬هيباتيا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬متطرفين‭ ‬سنة‭ ‬415‭ ‬ميلادية،‭ ‬إذ‭ ‬تربصوا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬ومارسوا‭ ‬عليها‭ ‬العنف‭ ‬والقهر،‭ ‬حتى‭ ‬راحت‭ ‬ضحية‭ ‬إرهابهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬الملوثة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قتل‭ ‬هيباتيا‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬المفكرين‭ ‬والمؤرخين‭ ‬والمبدعين‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فهذا‭ ‬جانب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إغفاله،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الطريقة‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬تعاملوا‭ ‬بها‭ ‬معها،‭ ‬فيذكر‭ ‬أنهم‭ ‬جردوها‭ ‬من‭ ‬ملابسها‭ ‬وجرّوها‭ ‬عارية‭ ‬بحبل‭ ‬ملفوف‭ ‬على‭ ‬يدها‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الإسكندرية‭ ‬حتى‭ ‬ماتت‭.‬

هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬البشعة‭ ‬التي‭ ‬مارسوها‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬منبت‭ ‬إبداع‭ ‬المبدعين‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬سيرتها؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬أو‭ ‬الرواية،‭ ‬فكانت‭ ‬مفردة‭ ‬الكلمة‭ ‬الثائرة‭ ‬لدى‭ ‬بعضهم‭ ‬حتى‭ ‬ينتقدوا‭ ‬العُصاب‭ ‬الإيماني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دين،‭ ‬ويظهروا‭ ‬مدى‭ ‬وحشية‭ ‬التعصب‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬البعض،‭ ‬وينتج‭ ‬عنه‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الألم،‭ ‬وكانت‭ ‬أيضاً‭ ‬نقطة‭ ‬اللون‭ ‬المضيئة‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬الرسامين‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬وجهها‭ ‬البريء‭ ‬الذي‭ ‬بللته‭ ‬الدماء،‭ ‬وجسدها‭ ‬العاري‭ ‬الذي‭ ‬كسته‭ ‬ريشة‭ ‬الرسامين‭ ‬وخلدته‭.‬

 

هيباتيا‭ ‬أيقونة‭ ‬الفنون‭ ‬الأبدية

قدّم‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬تشارلز‭ ‬كينغسلي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1853‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬أعداء‭ ‬جدد‭ ‬بوجه‭ ‬قديم‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬هيباتيا‮»‬،‭ ‬وترجمها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عزت‭ ‬زكي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬هايبيشيا‮»‬،‭ ‬ونشرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬ليسرد‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب‭ ‬حياة‭ ‬هيباتيا،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬مفعمة‭ ‬بالخيال،‭ ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬مختلقة‭ ‬درامياً،‭ ‬وليست‭ ‬تاريخية،‭ ‬لتساعده‭ ‬على‭ ‬تضفير‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬ليناقش‭ ‬الصراع‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬المسيحي‭. ‬

نجد‭ ‬كذلك‭ ‬‮«‬هيباتيا‭ ‬والحب‭ ‬الذي‭ ‬كان‮»‬‭ ‬لداود‭ ‬روفائيل‭ ‬خشبة،‭ ‬وترجمت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬سحر‭ ‬توفيق،‭ ‬ونشرها‭ ‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬بمصر،‭ ‬وفيها‭ ‬يتناول‭ ‬الكاتب‭ ‬حياة‭ ‬تلك‭ ‬العالمة،‭ ‬بل‭ ‬يتخيل‭ ‬محاضراتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدمها‭ ‬وأفكارها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطرحها،‭ ‬كما‭ ‬يتخيل‭ ‬علاقات‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجمعها‭ ‬بين‭ ‬طلابها،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬حكاية‭ ‬هيباتيا‭ ‬باباً‭ ‬للمؤلف‭ ‬يسرد‭ ‬فيه‭ ‬طموحاته‭ ‬الفلسفية‭ ‬وأفكاره‭ ‬التي‭ ‬تجلت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬هيباتيا‭ ‬عبر‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬هيباتيا،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬عنها‭ ‬فيلماً‭ ‬سينمائياً‭ ‬إسباني‭ ‬المنشأ‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬آجورا‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬عام‭ ‬2009،‭ ‬للمخرج‭ ‬أليخاندرو‭ ‬آمينا‭ ‬بار،‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬السيناريو‭ ‬مع‭ ‬ميتيو‭ ‬جيل،‭ ‬وهي‭ ‬دراما‭ ‬تاريخية‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬391م،‭ ‬وتروي‭ ‬قصة‭ ‬هيباتيا،‭ ‬وقامت‭ ‬ببطولتها‭ ‬رايتشل‭ ‬وايز،‭ ‬وأعطى‭ ‬الفيلم‭ ‬مساحة‭ ‬للكاتب‭ ‬لتخيّل‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬غير‭ ‬التاريخية،‭ ‬ليخلق‭ ‬حالة‭ ‬درامية‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي؛‭ ‬بل‭ ‬تشكل‭ ‬فلسفته‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتضيف‭ ‬حسّاً‭ ‬إنسانياً‭ ‬للحكاية‭ ‬التاريخية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقة‭ ‬هيباتيا‭ ‬بشخصية‭ ‬أوريستوس‭. ‬

كما‭ ‬يسرد‭ ‬الفيلم‭ ‬واقعاً‭ ‬تاريخياً‭ ‬عن‭ ‬العنف‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بهيباتيا‭ ‬وقتلها‭ ‬والتنكيل‭ ‬بها‭. ‬

وقد‭ ‬تجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬الرسامون‭ ‬الكبار،‭ ‬فنجد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لوحة‭ ‬تشارلز‭ ‬ويليم‭ ‬ميشيل،‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬هيباتيا‮»‬،‭ ‬وتم‭ ‬رسمها‭ ‬عام‭ ‬1885،‭ ‬وهي‭ ‬زيت‭ ‬على‭ ‬قماش‭ ‬معروضة‭ ‬بمعرض‭ ‬لاينج‭ ‬للفن،‭ ‬متاحف‭ ‬تاين‭ ‬ووير،‭ ‬ويذكر‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬هيباتيا‮»‬‭ ‬لتشارلز‭ ‬كينغسلي،‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها‭ ‬سابقاً،‭ ‬وفيها‭ ‬يتناول‭ ‬لحظة‭ ‬تعرّي‭ ‬هيباتيا‭ ‬بروح‭ ‬رومانسية،‭ ‬ويقدم‭ ‬براءتها‭ ‬المفعمة‭ ‬بقوة،‭ ‬وهي‭ ‬تحرك‭ ‬يدها‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭.‬

ونجد‭ ‬كذلك‭ ‬لوحة‭ ‬هيباتيا‭ ‬للفنان‭ ‬الألماني‭ ‬ألفريد‭ ‬سيفرت‭ (‬1850‭/‬1901‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مشهوراً‭ ‬بلوحاته‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬وجوهاً‭ ‬نسائية،‭ ‬وتأتي‭ ‬لوحة‭ ‬لهيباتيا‭ ‬ضمن‭ ‬أشهر‭ ‬أعماله،‭ ‬وهي‭ ‬زيت‭ ‬على‭ ‬قماش‭ ‬معروضة‭ ‬ضمن‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬التشيك،‭ ‬وقبل‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬نجد‭ ‬جدارية‭ ‬مدرسة‭ ‬أثينا‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬الفنان‭ ‬رافايلو‭ ‬سانزيو‭ ‬عام‭ ‬1509م،‭ ‬ليقدم‭ ‬هيباتيا‭ ‬ضمن‭ ‬فلاسفة‭ ‬مدرسة‭ ‬أثينا،‭ ‬وربما‭ ‬حاول‭ ‬بأدواته‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬لهيباتيا‭ ‬مكانتها‭ ‬وسط‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والفنانين،‭ ‬وزينت‭ ‬هذه‭ ‬الجدارية‭ ‬قصر‭ ‬أبوستوليك‭ ‬في‭ ‬الفاتيكان‭.‬

وهكذا،‭ ‬تُقدم‭ ‬هيباتيا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬وأيقونة‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬الفن‭ ■