في شعريّة النقد الأدبي

في شعريّة النقد الأدبي

يحتلّ الشعر المغربي المعاصر مكانة مرموقة في النقد الأدبي، بالنظر إلى  ما تراكم من إصدارات متفاوتة الحجم والدلالة، وبالنظر لما اعترى كتابة القصيدة المغربية من تحولات، لغة وبناء وإيقاعًا.
لذلك لم يكن غريبًا أن تهتم زمرة من الباحثين والنقاد، على اختلاف مشاربهم ومرجعيّاتهم، بمقاربة هذه القصيدة وبيان خصوصياتها الشعرية الجديدة، وأيضًا ما خلّفه الشعراء أنفسهم من آراء وبحوث تعنى بنقد الشعر وتقارب بنيته وإبدالاتها. (محمد بنيس، عبدالله راجع، أحمد بلبداوي، مصطفى الشليح، صلاح بوسريف).
في هذا السياق، يحضر كتاب الباحثة ثريا ماجدولين «الرؤية والقناع»، وهو كتاب نقدي يُسائل، من زاويتين اثنتين؛ الأولى نقدية والثانية جمالية، تجربة شعرية للراحل محمد الميموني، باعتباره أحد رموز الشعرية المغربية الحديثة.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة. ويقع في مئة وستين صفحة. فما المقصود بالرؤية والقناع؟ ولماذا تجربة الشاعر الميموني تحديدًا، دون غيره من الشعراء؟ وأين تتجلى خصوصية القصيدة عنده، أفي الشكل أم في المضمون؟ وبالتالي إلى أي حدّ تمثّل تجربة الشاعر لحظة من لحظات التحول الشعري بالمغرب؟ أسئلة وأخرى تحاول الباحثة الإجابة عنها من خلال قراءة نصية في المجموعة الشعرية الكاملة للميموني.
تقول الباحثة في مقدمة عملها: «وإذا كنت قد اخترت البحث في شعرية القصيدة عند الشاعر المغربي محمد الميموني، فليس من أجل إخضاع هذه القصيدة لقوانين أو قواعد أو معايير صارمة، لأن هذا يتناقض مع طبيعة الشعر في ذاتيته، بل إن هدف دراستي هذه سينحصر في تحديد سمات الشعرية في قصائد الميموني، بغية إبراز ملامح تجربته وموقعها في المشهد الشعري المغربي».
وهو تقديم يمسّ مسوغات البحث، يجمع بين الذاتي والموضوعي. فالتركيز على تجربة واحدة إنما هي رغبة في توخّي عنصرَي الدقة والإحاطة القريبة من عالم شاعر يطوّر تجربته باستمرار، وله في نصوصه من المقومات ما يجعلها جديرة بالقراءة واستخلاص ملامحها الشعرية. 
لذلك لم يأت اختيار الشاعر الميموني عبثًا ما دامت تجربته «ممتدة في الزمان، إذ تصل إلى قرابة نصف قرن. فهي تكاد تؤرّخ للشعر المغربي الحديث والمعاصر، وتجاور تجارب متنوعةً للشعراء المغاربة».

 شفرات معيارية
لم يقف أمر الدراسة عند تحديد الموضوع باختيار الاشتغال على تجربة الميموني؛ بل اقتضى الأمر أن تنطلق الباحثة من رؤية نقدية تلامس الموضوع من جوانب متعددةٍ، وتدخل في حوار هادئ مع تجربة الشاعر؛ رؤية تستند إلى ما في المنهج البنيوي، الشكلي والتكويني معًا، من أدوات إجرائية تبحث في النص بوصفه بنية مغلقة حينًا، ومنفتحة حينًا آخر.
ولعل لجوء الباحثة إلى الشعرية «باعتبارها تقوم على وجود شِفرات معيارية تميّزها عن اللغة النثرية» سوى مدخلٍ من مداخل عدة لمقاربة النص الميموني، وصولاً إلى ما يجعل من تجربة هذا الأخير، تجربة إبداعية قابلة للقراءة والتأويل.
غير أن هذا الانجذاب وراء النظرية النقدية الغربية، كما تبلورت مع رومان جاكبسون وتزفيتان تودوروف وجون كوهن وجوليا كريستيفا ومايكل ريفاتير، لم يمنع الباحثة من الاستعانة بالدرس البلاغي والنقدي العربيين من خلال مشاريع ابن طباطبا العلوي وعبدالقاهر الجرجاني وأبي هلال العسكري وعمرو الجاحظ. وبهذه الخلفية العربية التراثية تحقق ماجدولين توازنًا رؤيويًا ومنهجيًا في مسار البحث.
واستنادًا إلى هذا الاختيار المنهجي، تتعقب الباحثة قصيدة الميموني، كما تبدّت لها خلال أعماله الشعرية الكاملة، مجسّدة بذلك طبيعة العلاقة القائمة بين النقد والإبداع الشعري.
فاللغة والتركيب والمجاز والتخييل وغيرُها من العناصر البانية للنص الشعري، تشكّل تمظهرات لمفهوم الشعرية في علاقتها بالبلاغة والأسلوبية والدلائلية، من جهة، كما تشكّل لحظة من لحظات التفاعل بين النص والقارئ، من جهة ثانية.

مرجع مركزي
وقصد الاقتراب أكثر من عالم الميموني الشعري واكتشاف عمق تجربته الممتدة في الزمان، تقسم الباحثة دراستها إلى فصلين رئيسين. اهتم الأول بالقراءة الاستكشافية، في محاولة لفهم طبيعة الكتابة الشعرية لدى الميموني، في حين اختص الثاني بالقراءة الاسترجاعية، من أجل إدراك مكنونات النص، استنادًا إلى عنصر التأويل.        
لقد تبنت الباحثة مصطلح «القراءة الاستكشافية» كما وردت في النقد الغربي، كما وضّحها الناقد مايكل ريفاتير في كتابه «دلائليات الشعر»، حيث اعتبار المدخل اللغوي مرجعًا مركزيًّا في الدخول إلى عالم النص بفهمه والتواصل معه.
وتبعًا لذلك، اعتبرت عتبة اللغة مدخلاً رئيسًا لاستعراض مستويين؛ الأول معجمي والثاني تركيبي. فأما المعجمي، فتأخذنا خلاله في سفر لغوي رائق عن معجم الظل والماء والزمان والمكان والكتابة في تجربة الميموني، عمدت الباحثة إلى بسط عناصره وكيفية حضوره داخل النص الشعري. 
فكل لفظ من الألفاظ السابقة تمثّلها الشاعر بوعي فني يخرجها من الدلالة المعجمية إلى الدلالة الرمزية. تقول مثلاً، في سياق تحليلها لنماذج مختارة ورد فيها ذكر الماء بصوره المتعددة: «إن لفظة الماء في هذه النماذج تتخذ أشكالاً عدة، تتراوح بين الأنسنة والتجريد، وعدة دلالات، كالحياة والتجدد والتغير والقوة والعجز، وعدة أبعاد كالبعد النفسي. كما أخضعها الشاعر الميموني لاستعمالات شخصية». وهكذا تمضي مع بقية الألفاظ الأخرى قارئة ومتدبرة لمقاصد اللغة الشعرية.
وأما التركيبي فاهتم بصياغة الجمل وترتيب مواقع الكلمات، من أجل بناء الدلالة. فكل جملة تحمل في طياتها معنى شعريًّا، قد لا يفهم إلا بالتأمل الجيد وإعمال النظر في طريقة تركيبها.
لذلك تشير الباحثة إلى الجهد الفني الذي بذله الميموني في ابتكار تراكيب جديدة ليست معروفة أو متداولة، بفعل التأثير المباشر وغير المباشر بقضايا وهموم العصر الحديث.

طاقة انفعالية
وما دامت التراكيب المألوفة لم تعد قادرة على استيعاب انفعالات الذات الإنسانية المعاصرة؛ فإن الشاعر أصبح مدفوعًا إلى «صياغة وتأليف جمل تستطيع تفجير الدلالات الكامنة بداخله. فالقصيدة الشعرية تتميز عن سواها ببنيتها وطريقة نظمها وكيفية نقل تعابيرها، وليس بمضامينها فحسب». 
وارتباطًا بهذا المستوى، كانت الباحثة منشغلة ببنية الجملة الشعرية، من حيث الوظيفة الجمالية لحركية الضمائر ومدى تأثيرها في المعنى المراد. 
فالشاعر - مثلًا - قد يتنقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ومنه إلى المتكلم، مستعينًا ببعض التقنيات كالالتفات والتجريد. تقول الباحثة: «إن تبادل المواقع بين الضمائر في القصيدة الواحدة، يكشف عن الطاقة الانفعالية التي تصاحب اللحظة الشعرية لكتابة القصيدة، وعن الرؤية الشمولية للنص الشعري، والتحولات الداخلية التي تسهم في تكثيف دلالة النص وتوسيع خيال المتلقي». 
وقد يلجأ الشاعر أيضًا إلى خرق نظام الجملة والتمرد على ترتيبها النحوي المتداول، بغية التعبير عن انفعالاته الخاصة واستجابة لحالته الشعرية والشعورية، من خلال التوسل بتقنية التقديم والتأخير مثلاً.  
وتواصل ثريا ماجدولين مسيرتها التحليلية لأعمال الميموني الشعرية، في القسم الثاني من الدراسة، وهذه المرة مع اعتماد القراءة الاسترجاعية، باعتبارها ضرورة لاستكمال القراءة الاستكشافية. قسمت حديثها منهجيًا عن هذه القراءة إلى مستويين: أحدهما دلالي والآخر تخييلي.
فأما المستوى الدلالي فخصّته لمبحثين هما المنافرة والانقطاع، متوقفة عند جملة من النماذج الشعرية تظهر براعة الميموني في ركوب المجاز؛ بل ومجاوزته إلى ظاهرة الانزياح بما هي أوسع وأعمق. فأنت تراه، استجابة لرؤيته الشعرية وعواطفه الذاتية، يخرق اللغة ويخلخل الجملة تارة، ويجمع بين المتناقضات ويركب المفارقات، حيث ينزاح بتعابيره نحو الغموض الشعري، تارة أخرى.

الصورة والرمز والأسطورة
غير أن عملية الهدم هنا ليست مقصودة في حدّ ذاتها ما دام الشاعر يعيد بناءها بطريقته الشعرية الخاصة. تقول الباحثة عن حضور التضاد القوي في بعض نماذج الميموني الشعرية: «إن لجوء الشاعر إلى هذا النوع من الانزياح، من شأنه أن يُسقط القصيدة في الغموض، لكن عثور القارئ على دلالة الإيحاء، يقلّص حجم الانزياح، ويعيد للجملة انسجامها، ويفتح المجال أمام مدلولات متعددة لتعوض دلالة المطابقة.
كما أن عملية استبدال المعنى هنا، تدفع القارئ ليشارك في كتابة النص، بفضل إنتاجه معانيَ متعددة لها علاقة بدلالة الإيحاء». 
وأما المستوى التخييلي فقد استحضرت خلاله الباحثة ثلاثةَ مجالات تشكّل أرضًا خصبة للخيال الشعري هي: الصورة والرمز والأسطورة. ولعل هذا المستوى بمجالاته الثلاثة يحدد طبيعة الاشتغال الشعري لدى الميموني، كما بينت الشاعرة عبر مصاحبة النصوص واستخبار بنيتها التخييلية.
ولأن التخييل مرتبط ببعض الأدوات البلاغية كالتشبيه والاستعارة وغيرهما؛ فإن حضوره في القصيدة بالغ الأهمية بالنظر لوظيفته التأثيرية في المتلقي، حيث يحصل التفاعل والانفعال. تقول الباحثة، في هذا الصدد: «والشاعر المعاصر يلجأ إلى التخييل حتى يتمكن من تعرية الذات وكشف عمقها وتجسيد الأفكار التي عجز عن كتابتها بمفردات اللغة العادية، فهو يتوسل بالخيال ليزوّده بالقدرة على تحويل أفكاره وانفعالاته إلى أشياء حسيّة يقدمها للقارئ لينفعل بها ويتفاعل معها».
وهكذا مع كل صورة ورمز وأسطورة تتضح معالم الشعرية في قصائد الميموني. ولعله التلميح أو التلويح بفكرة القناع، باعتباره رفضًا للتطابق بين النص والشاعر، أو بين الشاعر والنص. فالقصيدة عند الميموني عالم مستقل عنه، وإن كان هو صاحبها. وبهذا المعنى، تعددت أقنعة الشاعر وتنوعت وفق السياق الشعري. فاللغة قناع والمكان قناع والزمان قناع والشخوص والرموز وما سواها أقنعة تخفي رؤية عميقة لا يتسنى إدراكها بسهولة.

تجربة متحولة
يتضح مما سبق أن التناول الذي ارتضته الباحثة لمقاربة أشعار الميموني لا يزيغ عن النص ولا يتجاوزه إلى مرجعيات خارجية. فهي تسائله عن قُرب، ما دام الذي «يمنح النص الشعري صفة الشعرية ليس مدى ارتباطه بالواقع والمجتمع، لأن الشاعر غير مطالَب بأن يمنحنا أفكارًا، بقدر ما ننتظر منه أن يقدم قولًا وتعبيرًا».
وفق هذه الرؤية النقدية تؤكد الباحثة، عبر التحليل النصي، أن تجربة الميموني تجربة متحولة تمتلك وعيًا رؤيويًا من خلال التفكير في الإنسان والوجود. وما موضوعات الحزن والتوتر والانكسار سوى علامات لهذا التفكير الشعري. وما الحديث عن القناع والأقنعة سوى تجسيد لإنسانية الشاعر وشعرية القصيدة.
في النهاية، تخلص الباحثة إلى أنّ تجربة الميموني الشعرية تجربة خصبة وغنية تقترن في بُعدها اللغوي والدلالي برؤية فنية خاصة. فإذا كان ديوانه الأول «آخر أعوام العقم 1974» مرتبطًا بقضايًا الوطن والمجتمع، وكذا ديوانه «الحلم في زمن الوهم 1992»، مع توظيف تقنيات مغايرة؛ فإن ديوانه «طريق النهر 1995» يشكّل انعطافة جديدة برزت خلالها الذات الشاعرة كصوت شعري وما يتصل به من هموم وقلق إنساني. وقد امتد هذا الصوت، عبر أقنعة مختلفة، إلى بقية دواوينه حتى ديوان «عودة محمد النصري 2001». لذلك لا غرابة في أن تشير الباحثة، خلال تحليلها النصي لمدونة الشاعر، إلى ملاحظة دقيقة تتجلى في «اهتمامه المتزايد بتقنيات الكتابة وبلغته الشعرية الطافحة بالحياة والتجدد، والتي عكف على تخصيبها وتطويرها بما يضمن لها المغايرة المتواصلة والاستيعاب الأمثل لمعاناة الإنسان المعاصر».
وهي ملاحظة واستنتاج تحكمت فيهما القراءتان النقديتان، الاستكشافية والاسترجاعية، بما هما منهج سعت من خلاله الباحثة إلى سبر أغوار التجربة الشعرية عند الميموني، بتداعياتها المختلفة.
هكذا كلما أوغلت الباحثة في عوالم الميموني الشعرية، وجدت نفسها مأخوذة بسحر اللغة وجمال الأسلوب وبديع الخيال.
ولعل هذا الانجذاب هو ما دفعها إلى مواصلة الإنصات لنبض النصوص والكشف عن مواطن الإبداع وملامح الشعرية فيها، حيث انفتاح الرؤية وسر القناع. فشعر الميموني حصيلة شعرية جاءت نتيجة تضافر عوامل بحثية من جهة وعوامل رؤيوية من جهة أخرى.
ولأن الباحثة عرفت شاعرة، فقد كان لابد لتجربة الميموني أن تلقي بظلالها الفنية على نظرتها المتجددة وغير المستقرة للكتابة الشعرية وعلى رؤيتها المنهجية للمصاحبة النقدية. ومن ثمة، كان الحديث عن شعرية النقد بعيدًا عن الانطباعية الساذجة، وقريبًا من الإنصات الشعري المتوسل بالمعرفة والمنهج .