جماليات المثنَّى والمكرر في اللغة

جماليات المثنَّى  والمكرر في اللغة

يقول ابن عربي «إن الأحد لا يكون عنه شيء البتة». ويقول «إن أول الأعداد إنما هو الاثنان». فأي فلسفة وراء هذه الفكرة؟ الواحد حسب لسان العرب «لا يتجزَّأ ولا يُثنَّى ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله تعالى»، وكذلك الواحد هو أول أعداد الحساب وقد ثني على واحدين، وجمعه بالواو والنون «واحدون». 

 

لم يكن ابن عربي وحده الذي أثنى على المثنى، إذ شرح الزوزني في تفسيره للمعلقات السبع عند تثنية النداء لدى امرىء القيس في مستهل مُعلقته «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، يقول: «قيل خاطب صاحبيه، وقيل خاطب واحدًا وأخرج الخطاب مع الاثنين، لأن العرب من عاداتهم إجراء خطاب الاثنين مع الواحد والجمع، من ذلك قول الشاعر: 
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر
وإن تدعاني أحم عرضًا ممنعا
 خاطب الواحد خطاب الاثنين، وإنما فعلت العرب ذلك لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنان: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرور ألسنتهم عليه، ويجوز أن يكون المراد به «قف قف»، فإلحاق الألف أمارة دالة على أن المراد تكرار اللفظ، كما قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى «قال رب ارجعون» المراد به أرجعني أرجعني أرجعني، جعلت الواو علمًا بأن المعنى تكرار اللفظ مرارًا». 
ويُعلّق على ذلك الكاتب محمد علي شمس الدين (مجلة دبي – ص 59 – العدد 80 – يناير 2012 – الإمارات): «يلاحظ على اجتهادات الزوزني أنها مسنودة لآخرين سابقين عليه من خلال «قيل». 
وهو بعد مروره بسرعة على افتراض المخاطبة لصاحبين حقيقيين ينحو نحو اعتبار الخطاب أتى بصيغة المثنى، ولكنه في الحقيقة إما لمفرد أو لجماعة». 
وتكرر مخاطبة المثنى في شعر امرئ القيس وفي شعر أسماء المرية: 
ألا خليا مجرى الجنوب لعله
يداوي فؤادي من هواه نسيمها
 وقول ابن الرومي: «يا خليليَّ تيمتني وحيد»، وقول قيس بن الملوح: 
أيا جبليَّ نعمان بالله خليا 
نسيم الصبا يخلص إلىّ نسيمها
 وقول المتنبي: 
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما
أم في كؤوسهما هم وتسهيد
 وقول المقريزي: 
عللاني فإن بيض الأماني 
 فنيت والظلام ليس بفان

الصور الخيالية
اللغة الأدبية من ناحيتها تساعدنا على تشكيل صور خيالية في أذهاننا، وصور جميلة يؤكدها التكرار الفوري، بغض النظر عن المعنى، فاللقطة قد تكون بالغة العنف أو مثيرة للشجن أو حتى مذهلة للحواس «الله هو هو؛ في الصوفية»، بيد أن الجمال هو الغاية التي نرتئيها كوسيلة لغاية أعلى هي الانسجام مع مفردات الكون ذاته الذي تخلّق بوجود الزوج من كل شيء ولا واحد غير الله. 
ويرى المفكر الهولندي سيلفان دي كامب أن الشكليين الروس كانوا أكثر اهتماما بالجوانب الشكلية للمثنى أمام غيرهم كالإنجليز، وأكثر إمعانا في مسألة وضع أساس علمي لتكرار الكلمة في الجملة المكتوبة في الأدب.
 أما النقاد في العصر الحديث، فقد جمعوا إلى الاهتمام بالتنظيم اللغوي المتألق للنص الأدبي تأكيدا واضحا للانفصال بين المعنى الأدبي والتصورات العقلية المنطقية الداعية إلى التركيز وحذف المكرر والزائد، إذ إن التركيب المتشابك المُعقد للنص بمنزلة تجسيد لاستجابة إبداعية إلى الحياة ذاتها، مع تجاهل أن الزمن يعيد نفسه، فالتكرار سُنة وفطرة، هذه الاستجابة للكلمة المكررة لا يمكن اختصار أهدافها في عبارات منطقية أو تلخيصات واضحة على سبيل أن خير الكلام ما قل ودل.
 أما الشكليون الروس الرواد، فقد نظروا إلى المضمون الإنساني نظرة واقعية تسقط في أي مهمة أدبية وتجعل منها مجرد سياق تفرضه نتيجة عمل الوسائل الأدبية، فكل نص ينطوي على اختلاف، وهذا الاختلاف لا يكون من قبيل التفرد، وإنما نتيجة حتمية للخاصية النصية نفسها، فكل نص يرجع بطريقة ما إلى البحر اللانهائي المتمثل في النص المكتوب من قبل بواسطة الإلحاح على إشارة معينة أو معنى بعينه، والشيء ذاته تقوم به الرواية الواقعية، فهي تقدم نصا منغلقا على معنى محدد، ولكن هناك نصوصا أخرى تدفع القارئ دفعا على إنتاج المعاني، لأن الأنا القارئة هي ليست سوى «حشد من نصوص»، فلا نختلف في التفسير إلا لاختلاف أساليبنا في القراءة، فأنا كقارئ أترجم الشفرة التي كتب بها النص، فيتحقق المعنى، وإلا ظل غامضاً مستغلقاً على الفهم. 

فلسفة الظواهر
ينطوي اتجاه الفينومينولوجيا (فلسفة الظواهر) إلى التركيز على الدور الأساس للقارئ في تحديد المعنى والتلخيص واستبعاد المكرر لخدمة الوقت، والاسم مشتق من الكلمة الإغريقية التي تعني ظهور الأشياء، هذا الظهور يتبدى في صفات الأشياء وجوهرها الخالص لأقرب مفرد، من خلال انعكاسها على محتويات وعينا، هذا الوعي الذي لابد هو واعٍ بشيء، وهذا الشيء لابد هو واقع؛ فالتكرار هل هو على حساب كلمات أهم؟ لا، وإلا ما كتبنا أي شيء، حتى ونحن نوجز تحدونا رغبة في أن نضيف للكون بعض السطور التي يسهل تجاهلها تمامًا بالتنظير المجرد. 
وهكذا يكون العقل الإنساني، على المستوى الفردي، هو مركز كل معنى ومصدره ومعجم تفسيره، وعليه فإن الكلمات التي تنضم إلى بعضها لتنظر إلينا من فوق الصفحات المطبوعة، هذه الكلمات لا تمثل الموضوعات الفعلية، بل الكلام الإنساني في تناسق أدبي. 
ثمة أساس للاعتقاد بأن تأثير الخط بوصفه خطأ في التصوير هو أنه صورة بديلة للمس، كما أنه بديل عن العاطفة. 

تسرب الانفعال
وبعض فلاسفة الجمال يميلون إلى استخدام تعبير تسرُّب الانفعال في وصف مصدر المتعة التي يحسها الناظر إلى الخطوط في فن التصوير، إنه ذلك الميل من النفس لتمارس في توتراتها العصبية وحركاتها الابتدائية ما تلحظه من أشكال خارجية للصحبة والتزاوج والتشابه والتكرار. وهكذا جاء الأدب! فنحن نكاد نتحرك في الواقع مع الخطوط المرسومة في الصور الأدبية، أقول صورا لأن الأدب قد اتخذ لنفسه طرائق عدة منها الرواية والشعر والقصة القصيرة والمسرحية. 
فالإيقاع المكسور من الصورة الأدبية يكسر فيض إدراكنا الحسيّ وتدفق شعورنا، كما يكسر استجابتنا الدفعية الحركية. والخط المسرحي السلس المتماوج يفك التوتر وييسر إدراكنا وردود أفعالنا التي لا تستبين لنا تماما، كما أنه يجلب لنا السرور والبهجة، كما يقول أروين أدمان في كتابه عن الفنون والإنسان؛ كما أننا في الأدب نعيش في صفحات القصة حياة شخصياتها المتخيلة نفسها، هكذا في فن التصوير ربما أمكن القول بأننا نعيش حياة الخطوط المرسومة في اللوحة أو المحفورة على الرخام وكلها نبعت من تكرار المفردة الهندسية.
قال العيني في «ملاح الألواح في شرح مراح الأرواح»: «اعلم أنه إذا اجتمع حرفان من جنس واحد أو متقارب في المخرج، يرغم الأول في الثاني لثقل المكرر. 
وذلك لأنه ثقــــل عليه التقــــاء المتجـــــانسين لما فيه من العــود إلى حرفِ بعد النطـــق به، وشبهــــه الخلي بوطءِ المُقيَّد، يمنع من توسُّع الخطو، فيصيـــر كأنه يعيــــد قدمــــه إلى موضعها الذي نقلها منه، وذلك ما يَشُق على النفسِ». 
وشبَّهه بعضهم بوضع القــــدم ورفعهــا في حيز واحد، وبعضهم بإعادة الحديث مرتين فكل ذلك مستكره. فلذلك صارت الحُروف المتباعدة في المخرج أحسن في التأليف مما تدانت مخارجه. لكن د. عز الدين علي السيد يرد على هذا الإطلاق في كتابه «التكرير بين المثير والتأثير» (3، مكتبة البلاغة، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ص19)، بأن علماء التجويد أجازوا ما أسموه إدغام المتجانسين، بل ويوجبونه متى سَكَن السابق منهما في ستة مواضع: (1) في الدال الساكنة قبل التاء كما في {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.  (2) في التاء الساكنة قبل الدال قبل الدال كما في {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ}. (3) في التاء مع الطاء كما في {وَدَّتْ طَائِفَةٌ}. (4) في الباء مع الميم كما في {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا}. (5) في الثاء مع الذال كما في {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ...}. (6) في الذال مع الظاء كما في {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ...}، «وكان ذلك مما يقلب فيه الأول من الحرفين ليجانس الثاني، فيوفّر بالتكرار والإدغام حسن الجرس ويسر النطق، ولعله من المقرر المعلوم أن الإدغام لا يخرج عن الحكم بالتكرير، فكل منهما صوته نطقاً وسماعاً، وإن خالهما غير المتأمل حرفاً واحداً». 
أما الثقل المنافي لحسن الجرس ليس سببه تكرار الحرف، وإلا لأطرد، وعدم اطراده ظاهر في كثير من الألفاظ التي تجاور فيها المتجانسان من دون أدنى ثقل، بل أكسبها تجاوزهما حسن الجرس ■