عيادة الأمراض المالية
يعاني عديد من الناس في عالمنا المادي هذا اضطرابات متعلقة بالمال، كالشراء القسري، أو هوس الشراء الخارج عن السيطرة، الذي يتسبب في خلق أزمات مالية ويورث شعوراً مريراً بالذنب ولوماً مستمراً للذات على شراء ما هو غير ضروري وإرهاق الميزانية من دون مبرر؛ وقد يؤدي هذا الاضطراب أيضاً إلى إفساد العلاقات الأسرية والسلام النفسي. أما الإنكار المالي، فهو الاضطراب الذي ينكر بسببه الشخص وجود مشكلة مالية مثل تراكم الديون، ويستمر مع ذلك في شراء ما يفوق طاقته، ولا يبحث عن حل لتسديد ما عليه.
وإلى جانب ذلك، توجد اضطرابات التعزيز المالي، التي تنشأ عن عدم القدرة على قول لا لمن يتمادون في طلب المساعدات المالية، سواء من الأبناء والأقارب أو الغرباء، ما يسفر عن وقوع المرء نفسه في وضع يستدعي المساعدة. واضطرابات أخرى كالاعتماد المالي الذي يصيب الأشخاص الذين لا يعملون ولا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم، ما يتسبب في شعورهم بالخوف الدائم من تغير الظروف وتوقف الدعم.
للمساهمة في علاج هذه الاضطرابات المالية وسواها، قام بعض المهتمين بتأسيس مواقع إلكترونية وعيادات ومراكز للعلاج المالي لمساعدة الناس على تعزيز السلامة المالية، وتبني أساليب حياة مستدامة ومستقرة ماليا. ومع تزايد الاهتمام، تأسست في عام 2009 جمعية العلاج المالي في الولايات المتحدة الأمريكية The Financial Therapy Association بعد انعقاد أول منتدى للعلاج المالي في العام السابق 2008.
وفي وقت لاحق أطلقت الجمعية مجلة «العلاج المالي» المتخصصة، من أجل طرح طرق ونماذج للعلاج المالي وإجراء الدراسات والتأطير المفاهيمي لمصطلح العلاج المالي الجديد، إلى جانب إيجاد أرضية مشتركة ومساحة لتعاون كل من الممارسين في مجال الصحة الذهنية، والممارسين الماليين، والباحثين، والمعلمين، للتواصل والتشاور حول هذا الميدان المستحدث.
ولا يزال هناك الكثير من القصور في بحوث قياس فعالية أساليب العلاج المالي؛ وفي المواد التعليمية المتعلقة بهذا النوع من العلاج، وحاجة إلى مزيد من الدراسات لمداخله القائمة على علوم متعددة، وغير ذلك مما رصده كلونتز وزملاؤه في كتاب «العلاج المالي... النظرية والبحث والممارسة».
لقد أدى الاهتمام بهذا المجال إلى وضع برامج متعددة ذات علاقة بالتدبير المالي من جانب جامعات ومؤسسات متخصصة؛ ففي جامعة ولاية كانساس kansas مثلاً، أنشأ معهد التخطيط المالي الشخصي عيادة للعلاج المالي لإجراء البحوث العيادية، وتعد هذه العيادة الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي متخصصة في البحوث المتصلة بالعلاج المالي والاستشارات والتخطيط المالي، ويتم من خلالها تكامل العلوم المتعددة.
كما تقدم كلية الأسرة وعلوم المستهلك في جامعة جورجيا الأمريكية برامج متخصصة في موضوعات تعالج قضايا كالأمن الغذائي، والقروض العقارية، وتملك البيوت، والأمان الإسكاني، وسلوك المستهلك، والدخول المتدنية، والادخار.
التمكين مدخل للشفاء
عادة ما تقوم مؤسسات العلاج المالي بدمج الإجراءات العلاجية مع المبادئ المالية الأساسية؛ فتدرس الجوانب الوجدانية والسلوكية والعلاقات؛ بالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية في عملية تتكامل فيها الاستشارة المالية والتخطيط المالي مع الاستشارة الشخصية والزواجية والعلاج الأسري والعمل الاجتماعي وعلم النفس، ويجري العلاج المالي الجيد بالتعاون مع خبراء ماليين، مثل خبراء الضرائب ومستشاري الاستثمار. من مداخل العلاج المهمة التمكين والصحة المالية، القائم على تمكين الأشخاص والمجتمعات، حيث يعد مدخلاً مثالياً للعمل مع المجموعات المهمّشة؛ غير أن تطبيق التمكين هذا قد تركز على تحسين الصحة المالية في المقام الأول، وارتبط ببرامج الإقراض الصغيرة في المجتمع من أجل تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة في الدول النامية. ومن برامج التمكين ما تقدمه العيادة المالية في نيويورك، التي تهدف إلى المساعدة على بناء أمن مالي بزيادة قدرة المستهلكين على استخدام مؤسسات بنكية آمنة، ودعمهم في إعداد الميزانية، وإرشادهم من أجل تجنب الديون، وتحديد وجود التهديدات والمخاطر المالية.
ويوفر الأعضاء العاملون في هذه العيادة عديداً من الخدمات التي تقدم لآلاف من الناس عبر عشرات المواقع في المدينة. ومن بين الخدمات فصول تعليمية، وتدريبات فردية، واستشارات، وإجراء بحوث ودراسات.
لقد ساهم التقدم في مجال العلاج المالي بالتوسع في التمكين وتعزيزه عن طريق مساعدة من يشعرون بعدم الملاءمة في التعامل مع النقود؛ ورفع وعيهم من أجل اكتشاف معتقداتهم الخفية وقدراتهم الباطنية ومواطن الإبداع الكامنة، واستثارة الحماس للعمل والإنتاج للسيطرة على حياتهم في سياق فردي يبحث بعمق عن أسباب عدم الملاءمة الثقافية والأسرية ومورثات التربية والتعليم المتعلقة بالتعاملات المادية، كالقرارات المالية التي يتخذها الآباء والأمهات ويكون لها دور في تشكيل السلوك المالي لدى الأطفال، الذين يكبرون بدورهم ويورثون سلوكيات مالية، كالتبذير أو الحرص، للجيل اللاحق، وهكذا يمكن أن تنتقل بعض السلوكيات من جيل إلى آخر.
ولعل من المهم الإشارة إلى أن من مسببات المشكلات المالية في الثقافات الاستهلاكية التنافسية، ارتباط مفاهيم السعادة والنجاح والتألق بامتلاك الأشياء والتمتع بالخدمات المتميزة حتى لو كانت غير ضرورية أو فوق الطاقة المادية. هذا، إلى جانب الدور الذي تلعبه بطاقات الائتمان المتزايدة في الانتشار في تسهيل مهمة شراء البضائع والخدمات، ما ضاعف من تراكم الديون إلى حد الإفلاس أحياناً.
مؤشرات مقلقة
من المؤشرات المثيرة للقلق والمستدعية للعلاج المالي ما يشير إلى إسراف وتبذير أو حرص وبخل شديد، وبين هذين النقيضين علامات أخرى. فإذا وجد المرء نفسه يتفادى مراجعة الفواتير وتسديدها تاركاً ديونه تتراكم دون قلق، فعليه مراجعة عيادة العلاج المالي لأنه يعاني الإنكار المالي. وإذا لاحظ أنه يبخل إلى حد تجاهل الأمور الضرورية كزيارة الطبيب، لأن إنفاق المال بات يؤلمه بشدة، فهو من المرشحين لهذا النوع من العلاج. وإذا استبد به القلق وصار أمر النقود مع توفرها يشغله في كل وقت، فهناك مشكلة بالضرورة.
ومن جانب آخر، إذا أسرف المرء وبسط يده كل البسط لمن حوله حتى يُرهق اقتصادياً ويعاني ولا يستطيع التوقف عن الإنفاق، ولاسيما إذا كان من يساعدهم قادرين على الكسب، أو غير محتاجين لمعونته، فلديه مشكلة. وإذا كان المزيد من المال يثير مخاوفه إلى حد رفضه وظيفة ذات راتب كبير أو رفض تعويض يستحقه، كمثال، فهو من المرشحين للعلاج المالي.
وإذا كان يقبل العمل مجاناً أو بمبلغ ضئيل لا يتناسب مع خبرته ومؤهله برغم احتياجه له، فلديه مشكلة.
الصحة المالية
يضبط العلاج المالي العلاقة بالمال، ويقوّم السلوك المتصل بالقرارات المالية حتى يتم تجنب الشعور بالخوف والتوتر والقلق وقلة الحيلة وبقية المشاعر السلبية التي تثيرها المشكلات والاضطرابات المالية، وتتحقق الصحة المالية التي من علاماتها: الشعور بالسيطرة على الوضع بحيث يكون الشخص قادراً على دفع فواتيره في مواعيدها، وتدبير أحواله بما لا يثير القلق والمخاوف في ضوء ما يملك.
ويكون قادراً على مواجهة الأزمات الاقتصادية وتجاوزها في صورة نفقات مفاجئة وغير متوقعة.
علاوة على وجود بعض المدخرات أو التأمينات، أو فرد من العائلة أو الأصدقاء ممن يمكنه المساندة في مثل هذه الأوضاع الحرجة. ومن علامات الصحة المالية أيضاً، أن يكون الشخص ماضياً في تحقيق أحلامه، كاقتناء شيء يتمنى اقتناءه، أو القيام برحلة، أو ارتياد مطعم، أي أن يكون مستقلاً مادياً ولديه من المرونة ما يكفي لاتخاذ قراراته المالية دون أن يكون مُجبراً على خيار لا مفر منه. ومن الصحة المالية أيضاً إعطاء المال حجمه وأهميته كوسيلة مساعدة على تحقيق الأهداف وحل المشكلات ومساعدة المحتاجين والاستمتاع المعتدل بالحياة، لا كغاية في حد ذاته، ولا سلاح للسيطرة على الآخرين والتعالي عليهم والبطش بهم■