الحلوى ذاكرة العسل والسُّكّر
طعم العسل والسكر، لذة بريئة، نتذوقها فتنفتح أبواب مملكتنا الطفولية المنسية على تخوم أيامنا الأولى. توقظ الحلوى ذكريات ولع مبكر.. لذة أولى، وهدية مشتهاة، عندما كانت عنوان رضا ومحبة الأهل والأصدقاء، ومذاق سعادة جائشة بحلول الأعياد والمناسبات، وبهجة زيارات الأقارب المتبادلة. نعاود على مدار أعمارنا اقتراف بعض لذتها. وكلما عرفنا نوعاً جديداً منها، تنمو داخلنا أبجديتها السديمية السحرية، موصولة بأخواتها في الذاكرة. إنها قصة قديمة، نتقصى جذورها في أزمنة بعيدة، ونتذوق ثمارها في بلادنا، ونلمس حضورها في أعيادنا وأفراحنا، لنكتشف طبيعة ذلك التراث اللذيذ.
المكان بيت غامض على حافة قرية نائية بين الوادي والصحراء، تسكنه سيدة مسنة، تقول الأسطورة الريفية إنها تخطت المئة عام. والحكاية أشبه بخبيئة، في الذاكرة، احتفظت بطعم مسكر، ممتزج بالرهبة، تؤرخ للمذاق الحلو في مفتتح الوعي.
كان البيت مزاراً سرياً للأطفال، تلقيت الدعوات لأصحبهم، لكن التنبيهات الأسرية كانت صارمة بعدم الاقتراب، مدعومة بحواديت (حكايات شعبية) عن «الغولة» التي تغري الأطفال بالحلوى ثم تأكلهم. لكنها كانت مغامرة العصيان الأولى، حين ولجت متلصصاً مرتعداً عبر الباب الواطئ، متخطياً العتبة الغليظة، بدافع الفضول على الأرجح، وربما لمجاراة الأقران. كانت المفاجأة أنني رأيت السيدة الطاعنة، تجلس ومن حولها الأطفال، تقدم لهم ببطء طقوسي نوعاً من الخبز الجاف، بعد أن تبلله بالماء، وتضع فوقه قليلاً من السكر. تقدم وجبتها الحلوة للأطفال الذين يجلسون مستكينين في أدب، يقضمون الخبز، ويستحلبون لذة السكر في سعادة آسرة. كان معظم الأطفال من الذين لا تشبع قروشهم النادرة شغفهم لشراء السكاكر القليلة المتوافرة في الدكاكين.
هكذا اكتشفت سر العجوز، وانطبعت في ذاكرتي أبسط صورة للحلوى، فصرت أرى من بعد أشكالها، وحتى أفخر أنواعها، مجرد تنويعات على تلك اللذة البدائية المصنوعة من الخبز والسكر. ومن الباب الواطئ للذاكرة أخرج باحثاً في وعاء اللغة عن تلك المادة اللذيذة، عن كنهها وسرها، فأجدها في معجم المعاني الجامع: الحلوى هي كل ما عولج من الطعام بسكر أو عسل، وجمعها حلْوَيات وحلاوَى.. لم أجد ما يشير إلى غولة تغري بها، لتلتهم الأطفال.
في البدء كانت الحلوى
ليست اختراعاً حديثاً، ولا اشتهاؤها من الرغبات المعاصرة. التاريخ يخبرنا بأن البشرية عرفتها، وتفننت في صنعها منذ القدم. الفراعنة على سبيل المثال برعوا في صنع المئات من أنواعها، واستخدموا لذلك الدقيق والزبد والعسل والفاكهة، وكلها كانت متوافرة في دلتا النيل الخصبة وواديه. دراسة حديثة تؤكد أنه حتى «المارشميلو» يرجع في صورته الأولى إليهم عندما كانوا يخلطون نسغ النباتات بالعسل، وهو ما طوره الفرنسيون في القرن التاسع عشر إلى شكله المعاصر، ثم أضاف له الأمريكيون الكثير منذ منتصف القرن العشرين. عرف المصريون القدماء أيضاً فطائر العسل، والمربى، وصنعوها من فواكه عدة، كما وجدت أصناف من العصائد الحلوة في المقابر، حيث اعتقدوا أن الميت يحتاج إليها عندما يعود للحياة. وفي أول شهر «توت»، الذي هو بداية السنة المصرية، كانوا يصنعون حلوى شبيهة بالهريسة المصرية المعاصرة، ولقمة القاضي ويتهادون بها.
كنافة رمضان
مازلنا في بلاد تعشق الطقوس والاحتفالات، في كل شهر، وكل أسبوع مناسبة، ولكلٍ فرحة، لا تكتمل إلا بالطعام والحلوى. أما شهر رمضان فهو ثلاثون يوماً من سعادة تنز سكرها ليلاً في أفواه صائمي النهار. يبدأ التحضير بشغف في القرى والأحياء الشعبية منذ نصف شعبان. يشرع أشخاص معروفون سلفاً في بناء أفران الكنافة الأسطوانية التي لا تشبه غيرها. تبدو مثل براميل واسعة من الطين في الريف، ومن الأسمنت والحجارة في المدن. يبنى الفرن الطيني على مراحل، ويتابع الأطفال العمل يوماً بعد يوم بفرح غامر.
وفي اليوم الأخير يتجمعون ليراقبوا هبوط طبق طائر في ساحة القرية. إنه يوم تثبيت القرص النحاسي، الذي يسمى «الصاج»، وحيث يكون الكائن الخرافي جاهزاً لصنع الحلوى الرمضانية المحببة. عادة يبدأ الأمر ليلة الرؤية، فإذا انبعثت الصيحات مؤذنة بظهور الهلال، يوقد الحطب، ويمسح القرص النحاسي بالزيت، ثم يغرف صانع البهجة عجينه سائلاً لزجاً، في «كوز» الصب، ذي الثقوب المتراصة، (إناء معدني صغير) ويمررها فوق القرص المعدني الساخن، فيتحول العجين خلال ثوانٍ إلى خيوط لدنة، في عملية يراقبها الأطفال، بفضول، مراقبة ساحر.
إنها صورة من الماضي، اختفت تقريباً تلك الأفران التقليدية الطينية، وحلت محلها آلات دوارة، تصب العجين آلياً، وتنتج خيوطاً أكثر انتظاماً ورقة، لكنها أفقدت الصنعة كثيراً من سحرها القديم.
نبدأ الجولة من حي الحسين، لنعثر على أقدم محل استمر في صنع عجين الكنافة والقطائف. تمتلكه عائلة الشريف التي ورثته عن الجد، والذي بدأ نشاطه قبل ستين عاماً. يطلعنا الحاج أحمد على أحد أسرار صنعته، وهي إضافة بعض العسل الأسود والسمن للعجين، ليزيد من قابليته لتشرب الشهد. يقول إن عجين القطائف يختلف فقط في إضافة الخميرة، وقليل من البيكربونات.
نواصل جولتنا إلى حي السيدة زينب، لنعثر على محل عرفة الكنفاني، في مواجهة الجامع، وكما يقول الحاج عتريس صالح عرفة، فإنه أُسس منذ عام 1870، ومنذ عدة عقود ابتكر نوعاً من الحلوى اسمه «لقمة عرفة» وهو شكل شرقي من «الدونتس»، ويشبه أيضاً «البيني» المغربي.
تاريخ شرقي
ترجع عراقة الكنافة إلى زمن بعيد، حيث يرجح أنها ولدت في سورية خلال العصر الأموي. قيل إنها قدمت إلى معاوية، ليستطيع مواصلة الصوم، ويرى آخرون أنها ابتكرت في عهد سليمان بن عبدالملك. وأرجعها البعض إلى العصر الفاطمي في مصر، لكنها ظلت لحقب طويلة حكراً على الملوك والأمراء، ويقال إن اسمها مشتق من «الكنف»، أي من يعيشون في معية السادة بالقصور.
أنواع فوق الحصر منها تملأ الآن محال بيع الحلوى الشرقية، شاهدناها خلال جولتنا في شوارع القاهرة. لكن عقوداً طويلة مرت لم تعرف مصر منها إلا صورتها البسيطة «سادة» أو بالمكسرات، في صوانٍ مدهونة بالزبد، مع حشو من الزبيب والفول السوداني وجوز الهند، وأحياناً المكسرات. وغالباً ما تقوم حتى الأسر الفقيرة بشراء كمية قليلة منها في رمضان، لحشو الكنافة وأخواتها.
العسل أو القطر أو الشهد، وكلها أسماء للشيء نفسه، هي ماء محلى بالسكر والليمون، يمكث على النار حتى يعقد سكره، قبل أن يضاف للحلوى الساخنة، هذه الكنافة المنزلية أدخل عليها فيما بعد عديد من الإضافات، مثل حشوها بالكريمة والمانجو.
نعود إلى التاريخ لنجد أن المماليك كانوا يتنافسون في محاولات للتقرب من الشعب بأشياء بسيطة، على رأسها الحلوى. وقد خصص بيبرس نافذة في خنقاه أنشأها عند باب النصر بالجمالية لتوزيع الحلوى، خصوصاً في المناسبات الدينية، ومنها الكعك المحشو بالسكر والمكسرات. وكان هناك سوق داخل باب زويلة وبوابة المتولي تعرف بالسكرية، تباع فيها أصناف من قمر الدين والياميش والكنافة. وقد ورد ذكر الكنافة في كتاب «وصف مصر» الذي أعدته الحملة الفرنسية كأحد أنواع الحلوى الموجودة في مصر.
طعم الشهد
القاسم المشترك بين معظم أصناف الحلوى الشرقية هو أنها تتكون من عجين، يقلى أو يطهى داخل الأفران، ثم يسقى بالشراب الحلو. هذا ما يؤكده الحاج محمود القرش الذي يعمل في المجال منذ أكثر من خمسين عاماً. ويضيف: ينطبق الأمر على الحلوى الرمضانية الشهيرة (القطائف)، التي يقال إنها تعود إلى عصر الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك.
وهي عبارة عن فطائر صغيرة الحجم تطوى نصفين على حشو من المكسرات، وأحياناً القشدة، وتحمر في الزيت، ثم توضع في الشراب المحلى. ويقال إن الأصل في تسميتها يرجع إلى تهافت الناس على اقتطافها لحلاوتها.
«البقلاوة» أيضاً حلوى رمضانية شرقية، وهي معروفة في سورية وتركيا، ولبنان ومصر والمغرب، وتصنع من رقائق العجين، ويتم حشوها بالمكسرات وطهوها بالزبد، ثم تحلى بمحلول السكر المركز. أما لقمة القاضي فهي من أكثر أنواع الحلوى الشرقية رواجاً. تتخصص بعض الأكشاك في بيعها منفردة، ويطلق عليها «زلابية»، أما في الشام فيسمونها «عوامة» وهي كرات من العجين المقلي بالزيت، والمحلى بالشراب. ويسميها البعض «اللقيمات»، وأغلب الظن أنها ذات أصول يونانية نقلها العثمانيون إلى سورية ومصر، حيث توجد حلوى شهيرة في كل من اليونان وقبرص تحمل اسم «لوكوماديوس» كانت تقدم بالسكر المطحون، ثم أضيف لها العسل في المشرق، وقد عرفتها الإسكندرية في نسختها اليونانية من خلال محل يدعى «تورنازاكي» بشارع البوسطة في وسط الإسكندرية. أما اسم لقمة القاضي، فيرجح أنه ظهر في القرن الثالث عشر في بغداد، حيث كانت تقدم للقضاة خلال انهماكهم في القضايا، ليستطيعوا مواصلة عملهم.
قمر الدين والخشاف
يقترب رمضان فتظهر ألواح قمر الدين في الأسواق. ألواح المشمش المطهو بالسكر، والمجفف، يستخدم لصنع العصير المميز لمائدة الإفطار، كما تصنع منه «مهلبية» قمر الدين، التي تتكون من عصيره مع النشا، وتقدم باردة. أما سبب التسمية فغير متفق عليه، ويرجعها البعض إلى من قام بابتكاره، ويرى آخرون ارتباطها بهلال الرؤية لشهر رمضان، بينما يرى فريق ثالث أنه تحوير لاسم قرية في بلاد الشام، صنعته وقدمته في العصر الأموي إلى الخليفة عبدالملك بن مروان. ويزرع المشمش بكثرة في سورية، وخصوصاً في غوطة دمشق، وفي مصر تشتهر به قرية «العمار» بمحافظة القليوبية غير البعيدة عن القاهرة.
أما الخشاف فهو خليط من التمر والتين المجفف وجوز الهند والمكسرات والزبيب و«القراصيا»، أي البرقوق المجفف، والمشمشية، وتنقع في الماء أو اللبن، وتقدم على الإفطار ليبدأ بها الصائم. وقد بدأ صنعه منذ العصر الفاطمي في مصر، حيث كان «ياميش» رمضان يباع في وكالة «قوصون» عند باب النصر بالجمالية، وكانت معظم المكونات تأتي مع التجار من الشام، وفقاً لما تسجله كتب التاريخ.
سوريّة بامتياز
في دمشق الوادعة، وخلال أواخر التسعينيات من القرن الماضي، كانت محلات بيع الحلوى المنتشرة في كل مكان بمنزلة محطة لالتقاط أنفاس الزائرين للمدينة، والتعرف على أروع أصناف الحلوى الشرقية، والأكثر تنوعاً من مثيلاتها في جميع الدول العربية.
خلال زيارة أولى للمدينة، لفت نظري الذوق الرفيع في العرض والتقديم وحسن التعامل من بائعي الحلوى الشاميين. تهذيب شديد ومجاملات متواصلة، وترحيب صادق بلا حدود، يقابلك به الحلواني السوري، فضلاً عن نظافة لافتة، تغريك لتناول أصناف الحلوى الأكثر تفضيلاً عربياً. بالنسبة لزائر مصري في ذلك الوقت لم تكن الكنافة النابلسية معروفة. وكان إغراؤها يتمثل في أنها الصنف الوحيد تقريباً الذي يقدم ساخناً. يسألك البائع بود مخيِّراً لك: «بقطر ولا بلا قطر»: سؤال محبب يغريك لتجربتها وإعادة تجربتها، به ومن دونه. إنها كنافة، ولكن معالم الشعر الذي يشكل عجينها تختفي، لأنها شبه مهروسة، مما يعطيها شكل البسبوسة المصرية، لولا طبقة الجبن أسفلها، وهي أيضاً من أوجه تميزها. الجبن مكون أساسي أيضاً لحلوى الجبن، التي يفتخر أهل حمص الطيبون بأنهم أهلها، وخير من يصنعها. وتكتسب مذاقاً مميزاً عن بقية أنواع الحلوى، ومظهرها يشبه العجين غير المطهو.
تتنوع الحلوى السورية من البرازق والمشكل وأصابع الست والمحلاية والوربات بالقشدة، إلى هريسة الجزر والهريسة النبكية والمشبك الحلبي، والهليطية، والنمورة.
في منتصف التسعينيات لم يكن في مصر إلا محل واحد يعلن أنه يقدم الحلوى السورية. وكان يقدم الكنافة بأكثر من طريقة، منها العثمانلية، والسادة، وبالكريمة، والمبرومة، والمفروكة، والبللورية، وعش البلبل، وفي رمضان حصرياً وفي وقت متأخر، صاروا يقدمون النابلسية. لكن مع تدفق السوريين إلى القاهرة قبل بضع سنوات، انتشرت بسرعة أنواع عديدة من حلواهم المميزة، بل إنهم أضافوا لمسة مهمة فيما يتعلق بالطعام عموماً، والحلوى خصوصاً، سيكون لها أثرها. شوارع كاملة في بعض الأحياء تحولت إلى مطاعم سورية، تتنوع أسماؤها بين ليالي الشام ووردة الشام وباب الحارة وغيرها.
«البوظة العربية» انتشرت أيضاً، وصارت ضمن برنامج التنزه في منطقة 6 أكتوبر على سبيل المثال، وهي التي لم تكن معروفة من قبل إلا على نطاق ضيق. تقريباً كانت تباع في محل واحد بشارع جامعة الدول العربية الشهير بالمهندسين خلال فترة التسعينيات.
كعك العيد
ينتهي رمضان ليأتي العيد، وتمتلئ المحال بالكعك، والذي بدأت قصته منذ أيام الفراعنة أيضاً، حيث كانت زوجات الملوك والأمراء يقدمنه لحراس هرم خوفو في يوم تعامد الشمس على حجرته، وكان يجري التفنن في صنعه بأشكال مختلفة، منها الدائري والمستطيل وعلى شكل حلقات وأوراق شجر وزهور وأشكال تخطت المئة وفقاً لما هو مرسوم على مقبرة الوزير «خميرع» في الأقصر، الذي ينتمي إلى الأسرة الثامنة عشرة، أهم الأسر الحاكمة في التاريخ المصري.
وتوضح الرسوم والكتابات أيضاً طريقة صناعة كعك الأعياد، حيث كان عسل النحل الصافي يخلط بالسمن، ويوضع على النار، ويذر عليه الدقيق بالتدريج حتى يأخذ العجين القوام المناسب، فيتم تشكيله، ويحشى بالتمر، ويزين بالفواكه. كذلك تم تصوير كعك العيد على جدران إحدى الحجرات التي تخص الملك رمسيس الثالث بمدينة «هابو» في البر الغربي بالأقصر.
ومن الطريف أنهم كانوا ينقشون عليه قرص الشمس، وهو النقش الذي يعبر عن الإله رع، وآتون فيما بعد، وهو النقش الأكثر انتشاراً حتى الآن في العديد من الدول العربية. وفي الريف المصري مازال الفلاحون يصنعون الكعك على هيئة حلقات مفرغة من الداخل، وهي عادة قديمة ارتبطت باعتقاد أنها تعلق في شجرة الحسنات.
ويسجل كعك العيد حضوره في الحقبة الإسلامية المصرية مبكراً، حيث كان يصنع على عهد أحمد بن طولون، وينقشون عليه عبارة «كل واشكر» ويوزعونه في الطرقات، كما يؤكد الباحث في الآثار الإسلامية علاء عاشور، ويضيف أن أبا بكر محمد وزير الدولة الإخشيدية صنع كعكاً في العيد وحشاه بالدنانير، وكان يقدمه للفقراء.
وفي العهد الفاطمي كان الخليفة يرصد حوالي عشرين ألفاً من الدنانير لصناعته، ليوزع بالمجان من خلال دار «الفُطرة» التي كانت تشرف على تصنيعه وتخزينه بداية من شهر رجب، ليوزع في عيد الفطر، والمسمى أيضاً بعيد الحلل (آنية الطبخ) ، لأنه ارتبط بتوزيع الملابس الجديدة على الشعب. كما كانت بعض التكايا والأوقاف تخصص لصنع وتوزيع كعك العيد. وفي العهد الأيوبي حاول صلاح الدين القضاء على كل العادات الفاطمية، ولكن ذلك لم يتحقق، بل عاودت تلك العادات الازدهار في العصر المملوكي. واعتبر الكعك ضمن أنواع الصدقة، واستمر الوضع كذلك خلال العصر العثماني، وإلى الآن.
«حلاوة المولد»
بالإضافة إلى المولد النبوي الشريف، يوجد في كل مدينة، ومعظم القرى مولد سنوي على الأقل لأحد الأولياء. كما توجد أيضاً موالد القديسين المسيحيين، وكلها تعتبر سوقاً متنقلة للحلوى. أحد البائعين قال إنه يعيش حياته مرتحلاً، حيث يقضي أسبوعاً في مولد إسلامي، ويليه أسبوع في مولد مسيحي، وهكذا على مدار العام. حتى أصناف الحلوى، لا تختلف، من أقراص الحمصية والسمسمية والفولية والعلف واللديدة. بتتبع أصول هذه الحلوى وجدنا أن كثيراً منها يصنع في مدينة طنطا التي تقع في الدلتا ويزورها سنوياً مئات الآلاف. وهو ما شجع على إقامة مصانع الحلوى هناك.
نقوم بجولة في أحد المصانع. عشرات العمال، يقومون بتغليف الحلوى في أوراق شفافة، وباستخدام ماكينات بسيطة، تعمل يدوياً. دخول منطقة التصنيع كان صعباً للغاية، لكننا ألقينا نظرة خاطفة. يبدو العمل في معظمه يدوياً. يقول صاحبه إنهم يوردون الحلوى إلى عدة محافظات مجاورة، وحتى إلى القاهرة، ويفتخر بأنه ورث الصنعة عن أجداده. يقوم المصنع بعمل «الحلاوة الشعر»، التي تشبه في مظهرها «الطحينية»، ولكنها تكون على هيئة حبيبات غير متماسكة. كانت أحد أشكال الحلوى المحببة والمتاحة للأطفال في الريف حتى ثمانينيات القرن الماضي. هنا تصنع وتدخل أفراناً خاصة. ينتج المصنع أنواعاً أخرى من الحلوى، منها: «القَصَّة» التي تشبه في شكلها الجبن القريش، بحجم صغير، وحلوى «الألاجة»، وهي حمراء اللون، و«الفنضام» و«التوفي» و«النوجا» و«الملبن الجيلي» والأبيض بالسكر و«ملبن حبل».
جولة بين عدة محافظات تكشف لنا ارتباط صناعة الحلوى، وخصوصاً الشعبية منها بالمدن ذات الموالد الكبيرة. تشتهر مدينتا دسوق ومطوبس القريبة منها بالمشبك والهريسة، لارتباطهما بمولد إبراهيم الدسوقي. الأمر نفسه ينطبق على الإسكندرية، حيث يقام بها عدة موالد سنوياً، أكبرها مولد المرسي أبي العباس، وقنا حيث مولد عبدالرحيم القنائي، والأقصر حيث مولد أبي الحجاج الأقصري. وطبعاً القاهرة بموالدها المتعددة.
ورغم أن «حلاوة المولد» ما زالت تباع بجنيهات قليلة، فإن حلوى الفقراء الرخيصة هذه، تحولت خلال السنوات الأخيرة من بهجة البسطاء، ونفحة الدراويش إلى حلوى راقية وصل سعر العلبة منها إلى عدة آلاف من الجنيهات أحياناً، على يد بعض أكبر متاجر الحلوى، والتي صنعت منها نسخاً فاخرة، غنية بالعسل والمكسرات، توضع في علب أنيقة. وتتبارى المحال قبل شهر من المولد النبوي في عرض ما لديها، من عبوات تضم عشرات الأنواع، من لوزية وبندقية، وألوان من الملبن الفاخر، وأشكال من ابتكارات جديدة، كتنويعات على الحلوى التراثية.
تمثل سيرة حلوى الموالد أحد أشكال التحولات الاجتماعية، والتي يرى البعض ارتباطها بصعود طبقي لبعض الفئات، بدأ منذ منتصف السبعينيات، مما أدى إلى تنقيح بعض العادات والتقاليد التي كانت ترتبط بالبسطاء، والطبقات الشعبية، ودفعها إلى الواجهة، بإعادة اعتبارها عنواناً للوجاهة الاجتماعية. وكأن الطبقات الصاعدة تسحب ثقافتها القديمة إلى أعلى، بعد إدخال تعديلات عليها بما يناسب قدرتها المالية الجديدة. بعض الفئات التي كانت متشبثة بالذوق الغربي، وتترفع عن الموروثات المحلية، دخلت على الخط، واستهوتها بعض مفردات الثقافة الشعبية، على سبيل التجربة، وكسر الرتابة، لكن يبدو أن هذه الموروثات تثبت نفسها، وتترسخ من جديد في الطبقات العليا.
الحلوى الشعبية
رغم كل التطورات التي شهدتها صناعة الحلوى، فإن أصنافاً من الحلوى الشعبية بقيت على حالها. البحث عن جذورها يضيع بنا في روافد شتى، شكلت عبر قرون طبيعتها. في الريف وحتى سبعينيات القرن الماضي، تلخصت الحلوى في قطع الهريسة التي كانت تباع في الدكاكين الصغيرة، وأقراص المشَبَّك التي تباع بقروش معدودة.
«الدندورمة» هي آيس كريم الريف والمناطق الشعبية، أُلّفت لأجلها الأغنيات في أربعينيات القرن الماضي، مثل «دوق الدندورمة» لسعاد مكاوي وإبراهيم حمودة، وهو أوبريت إذاعي شهير، تقول كلماته: «دوق دوق الدندورمة... مصنوعة بذوق تروي العشاق وتطفي الشوق الدندورمة».
في الأعياد، وفي قرى الدلتا وحتى ثمانينيات القرن الماضي، كان الصبية يتبارون في بيع نوع من «المهلبية الملونة» هي عبارة عن خليط النشا والماء، وبعض اللبن، مع لون طبيعي أو صناعي، الأحمر على الأغلب، ولم يكن ليمتزج بشكل متجانس بالمادة الهلامية، فيرسم أحياناً خرائط لبلاد خيالية. وكانت الأمهات يصنعنها في البيوت، ليبيعها الأبناء، فيضيفوا قروشاً إلى العيدية. يضعون الصواني على مناضد خشبية، ويقفون خلفها في الساحات.
من ذاكرة الحلوى الشعبية للأطفال في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أصناف فقدت شهرتها، وربما اندثر بعضها مثل الأرواح، والفنضام، والموز الهش المصنوع من السكر، والذي كان يذوب في الفم، وكانت الشوكولاتة المتاحة قبل الانفتاح ماركة مؤممة بالكاد على قدر ميزانيتنا - أبناء الموظفين. وكان هناك ما يسمى بالكرملّة في الريف والملبّس في المدينة، وهي أنواع من السكاكر الملونة بنكهة الفواكه. مع أنواع محدودة من البسكويت... هذا كل شيء.
لكن الحلوى الشعبية دخلت معترك التحولات الاجتماعية، فخلال العقدين الأخيرين صار هناك نوع من التفاخر بين شباب من فئات راقية بأنهم يترددون على محال بيع أصناف شعبية في إحدى حارات السيدة زينب أو باب الخلق. بعض هذه المحال حافظت على مظهرها القديم، وبعضها صار مشهوراً بأسماء فكاهية لا توحي بالنظافة، كأحد عوامل الجذب، وصارت تحاط في المساء بالسيارات الفارهة. في مناطق شعبية مثل باب الشعرية والسيدة زينب صارت بعض الأماكن التي تقدم الحلوى قبلة للشباب من جميع الطبقات.
لكن بعض المحال التي كانت تقدم الحلوى في الأحياء الشعبية، توسعت وافتتحت فروعاً في أرقى الأحياء، بل والقرى السياحية بالساحل الشمالي، ومنتجعات البحر الأحمر.
البليلة والعاشوراء
البليلة هي حبات القمح الكاملة والمطهوة، مع اللبن والسكر والمكسرات وجوز الهند، وهي واسعة الانتشار في المناطق الشعبية، ولها عربات خشبية جوالة، تطوف بها، ويعتبرها البعض فطوراً في الصباح، وهي تختلف بطبيعة الحال عن البليلة المعروفة في بعض الدول العربية الأخرى، والتي تصنع من الحمص، ولا تعتبر من الحلوى، رغم أنها تحمل الاسم نفسه.
أما العاشوراء فهي حلوى ترتبط بليلة عاشوراء كمناسبة دينية يحتفل بها المصريون. وهي أيضاً مكونة من القمح المطهو مع اللبن والسكر والمكسرات ويضاف لها النشا الذي يحوّلها من الحالة السائلة إلى المتماسكة. ويقال إن للعاشوراء المصرية أصلاً تركياً، حيث يوجد طبق شبيه كان يقدم منذ أيام العثمانيين، لكنه يضم مع المكونات المصرية الحالية الفاصوليا والحمص وقطع الفاكهة. ويقال إن مكونات العاشوراء التركية هي من المواد التي حملها النبي نوح عليه السلام معه في سفينته، وإنها أول طبق تم إعداده بعد الطوفان بخلط هذه المواد معاً، وفقاً للمعتقد الشعبي. لذلك فإن الأتراك يقومون بتوزيعه على المارة في يوم الاحتفال. وعلى عكس الخليط التركي الذي يقدم ساخناً، تقدم العاشوراء المصرية باردة.
الجلَّاب الصعيدي
تمتد الجولة إلى مدن الصعيد، وتحديداً الأقصر، حيث نعثر على الجلاب، وهو حلوى صعيدية، تصنع من قصب السكر، الذي يصنع منه أيضاً العسل الأسود وحلوى «العسلية». يطلق البعض عليه «الخلع»، ويصنع على الأغلب في مدينتي فرشوط ونجع حمادي، وفقاً لما أفاد به معظم الباعة هنا. وتأخذ الحلوى شكل القمع الصغير. يقول البعض إنه في الماضي كان يستخدم كهدية يتم تبادلها في المناسبات الاجتماعية، ويؤكدون أن تاريخه يرجع إلى مئات السنين، وأنه كان ينتج بشكل موسمي ارتباطاً بحصاد القصب، خلال الفترة من ديسمبر إلى أبريل. كما يذكرون أنه ارتبط بعائلات بعينها، توارثت الصنعة وأسرارها. ويتم بيع الجلاب حالياً داخل قطار الصعيد، يحمله الصبية في مقاطف من الخوص، ويركبون القطارات بين المدن. كما شاهدناه على عربات اليد في كل من قنا وأسوان والأقصر. ورغم رخص ثمنه، فإنه غني بالعديد من العناصر الغذائية، وأهمها الحديد.
السمنية والتمرية في بورسعيد
ومن الصعيد إلى بورسعيد، إحدى مدن القناة المطلة على المتوسط. ونبدأ البحث عن حلوى خاصة بالمدينة، لا تصنع في مكان آخر. نعثر على التمرية والسمنية ونوع خاص من الزلابية كبيرة الحجم في أحد محال بيع الحلوى يقوم الحلواني جمعة محمد بعمله منذ ثلاثين عاماً. وهو يصنع الحلوى الشرقية بأنواعها، وفى المساء فقط يقدم التمرية والسمنية، لأنه يصنعها في الصباح، ويتركها تتخمر حتى المساء. بعض الأماكن الصغيرة تتخصص في عملهما وتقدمها في الصباح الباكر للموظفين والعمال المتجهين إلى أعمالهم كفطور. يقول جمعة إن التمرية مأخوذة عن اليونانيين الذين كانوا يعيشون بالآلاف في المدينة، وأنه تعلمها من حلواني مصري، تعلمها بدوره على يد حلواني يوناني. التمرية عبارة عن سميد البسبوسة، يعجن مع دقيق، ويطبخ على النار مع ماء يغلي، ثم يعجن مع جوز الهند ويبرد، ويتم عمل ما يعرف بعجين تهوية شبيه (بالجلاش) منفصلاً، (الجلاش نوع من رقائق الخبز المحشوة بالمكسرات) ويغلف به عجينته الأصلية بعد التخمر، وتقلى في الزيت ثم تؤكل مع سكر «بودرة». أما «السمنية» فتصنع بالطريقة نفسها، لكن يوضع مع العجين سكر وتوضع في الفرن ثم في السمن. الزلابية في بورسعيد مختلفة، وهي شبيهة بحلوى سورية اسمها «زنجل» وحجمها كبير وغير منتظم.
مكرونة دمياط بالسكر
دمياط مدينة ساحلية مصرية تقع عند التقاء فرع النيل المسمى باسمها بالبحر المتوسط، وتشتهر في الأساس بصناعة الأثاث والحلوى، وأهمها المشبك، وهو عبارة عن حبال من العجين المتشابك والمقلي، تحلى بشراب سكري مركز، ويمتاز بصلابته مقارنة بالأنواع الأخرى، وبقدرته على البقاء لمدد طويلة. وتشتهر دمياط أيضاً بنوع من الحلوى يقتصر على المدينة، المكرونة (أو المعكرونة) الحلوة، والتي تطهى في اللبن مع السكر وجوز الهند، وتقدم في شكل مكعبات. الحلوى نفسها وجدناها في مدينة رأس البر الشهيرة، والتي تبعد حوالي عشرين كيلومتراً عن دمياط.
كعك السعادة في الواحات
الواحات المصرية حالة ثقافية خاصة، ولها أيضاً حلواها التي ارتبطت منذ مئات السنين باحتفالاتها. ومن الطقوس في الواحات الخارجة أنه في يوم «الصباحية» يتم الاحتفال بما يعرف بكعك السعادة، والذي يوضع في سلال خاصة تسمى «مرجونة» مصنوعة من سعف نخيل التمر والدوم، وتوضع بها الكعكات وتقدم للضيوف المهنئين، حيث يشترط أن يأخذ كل ضيف عدداً زوجياً منه، جلباً للفأل الحسن.
ونذهب إلى الواحات الداخلة فنجد أنه يتم الاستعداد للأعراس قبل أسابيع من ليلة الزفاف، وذلك بإعداد عدة أنواع من الكعك والفطائر الحلوة و«القرقوش» (وهو نوع من المعجنات يجفف في الفرن) الذي يتم تناوله مع الشاي. وفي قرية تنيدة بالداخلة يتم إعداد «القلية»، حيث يتم وضع حبوب القمح مع خميرة الخبز لمدة 12 ساعة تقريباً ثم تنشر لتجفف لمدة ثلاثة أيام، وتؤكل بعد ذلك مع السكر.
أما في واحة سيوة التي تقع في أقصى غرب مصر، وحيث تسود ثقافة أمازيغية مصرية ثرية بالعادات والتقاليد، نجد أصنافاً مغايرة من الحلوى. يعطينا محمد عمران أحد أبناء الواحة بعضاً من حلوى سوداء اللون، ويقول: هذه تسمى «لبسيس»، ومنها نوعان: أسود وأبيض، الأسود يصنع من التمر المطحون، والأبيض من الحمص الجاف المطحون المحلى بالسكر، ويضاف له حليب الماعز والسمن. كما توجد لديهم حلوى أخرى تسمى «تانقوطعت»، وهي تقدم عادة على الإفطار بمناسبة ولادة طفل جديد، وهي عبارة عن شرائح من العجين الجاف مع الحلبة (مكرونة محلية الصنع) وتخلط بالسمن والسكر. كما يوجد لديهم خبز حلو يصنع من أفضل أنواع التمور التي تصحن وتخلط بالدقيق وتسوى، وتقدم عادة للضيوف في حفلات الزفاف، وللعروسين.
الحلو النوبي
النوبة من المناطق المصرية المميزة أيضاً بعاداتها وتقاليدها، وتدخل الحلوى في جميع الطقوس الاحتفالية العامة والخاصة والمناسبات الدينية. في قرية غرب سهيل المطلة على النيل جنوب أسوان، يقدمون طبقاً مختلطاً نصفه أحمر، ونصفه أصفر، يخبرنا المرافق النوبي محمد علي بأنه مصنوع من الجيلي والكاستر، ويسمى طبق الحلو، ويقدم في أطباق صغيرة من الألمنيوم بعد العشاء في الأعراس. ومن الطقوس المرتبطة بالحلوى وقوف الشباب النوبيين لتوزيع نوع منها صغير الحجم وملون ويكسو حبات من الحمص على الأطفال في ساحة الصلاة يوم العيد. وفي الأعياد والأعراس تقدم حلوى اسمها «كاروم مديد» مكونة من الدقيق والحلبة والمربى والعسل. كذلك يتناولون التمر المغلي مع السكر، والحلوى نفسها تقدم في عاشوراء.
ويحب النوبيون الاهتمام بالشكل وأسلوب التقديم من خلال وضع الحلوى في سلال ملونة مصنوعة من خوص نخيل الدوم وأعواد القمح، دقيقة الصنع.
«سلة جودان كونتي»، مخصصة لزجاجات «الشربات» في الأعراس. توجد أيضاً سلال للحلوى مثل طبق «الوليل» وسلة «الكرج». وفي المولد توضع الحلوى في السلال مع حبات الفول السوداني. وفي أسبوع المولود تشترك خمس بنات صغيرات مع صبي واحد في حمل سلة من الخوص على شكل قارب تسمى «آدا»، ويضعون فيه سبعة أزواج من التمر، ويرفعونه، ويخفضونه سبع مرات في مواجهة الشمس. ويوضع في طبق مماثل سبعة أزواج من الخبز مع الحلوى والملح، وتحمل سبع سيدات الطفل المولود موضوعاً في طبق ثالث من الخوص أيضاً، ويؤرجحونه سبع مرات، ويحرقن الملح الرشيدي، ويؤخذ الطبق بعد ذلك، وبه سبعة أرغفة، ويتم إشعاله، ويوضع في النيل ليمضي مع التيار، ويغسل وجه الطفل بماء النهر.
ويستعد النوبيون لشهر رمضان بخبز «الإبريق» وهو عجين من الدقيق، يخبز على «دوكة حديد» ويخزن في صناديق ورقية، وقبل الإفطار يكسر ويخلط بعصير الليمون، وهو المشروب المفضل لدى النوبيين، ومن أهم مظاهر الاحتفال الرمضاني. وهناك أيضاً مشروب «الحلو مر» ولونه أحمر، ويخلط ببعض البهارات. ومن الحلوى الرمضانية أيضاً الشعرية باللبن والسكر، وأيضاً حلوى «الفتي» وهي عبارة عن فطير مخبوز بالسكر والزبادي.
حلوى القبائل
يسكن العديد من القبائل العربية في مختلف الأقاليم المصرية، ويبرز التمر ومشتقاته، وما يصنع منه من حلوى كملمح رئيس لديهم، حيث يقدم في عدة صور للضيوف وفي الأعراس، منها أنه يحشى بعجائن المكسرات، أو بحبات اللوز الصحيحة، كما تقدم العجوة، التي تخلط أحياناً ببعض النكهات. وفي منطقة أبي رماد بمحافظة البحر الأحمر، التي ينتشر بها قبائل العبابدة والبشارية والجعافرة، المعروفة بأصالتها وتراثها، نجد أيضاً أنواعاً من العصيدة الحلوة، التي تصنع من «الفيتريتا»، وهي نوع من الذرة الصغيرة بحجم العدس تقريباً، كما يصنع منها «الحلو مر»، حيث تبلل «الفيتريتا» حتى تنبت فوق الخيش، ثم تجفف على حصير في الشمس، وتطحن ويضاف لها الكركديه والقرفة والكورينجال والحبهان والحلبة والزنجبيل والقرنفل وينقع الخليط، ويتم تناوله إلى جانب «الكسرة» و«الجبورية»، وهي من الأصناف المحببة هنا.
حلوى الإسكندرية
باعتبارها مدينة «كوزمبوليتانية» التاريخ، فإنها تضم خليطاً من كل شيء. تحتفظ المدينة العريقة ببقايا من عصرها الذهبي في منتصف القرن العشرين. كما تحفل بأصناف من الحلوى المصرية الشعبية. في رحلة إلى المدينة الساحلية الشهيرة لاقتفاء أثر الحلوى، نجد أن بعض سلاسل محالها يضم عشرات من الفروع تنتشر في معظم الشوارع. وتعتبر هريستها على سبيل المثال أحد أهم مشتريات الوافدين على المدينة لقضاء إجازة الصيف، وهي تباع بأرخص أسعار ممكنة معتمدة على الكم الكبير من المبيعات، حيث يصل سعر بعض الأنواع المحشوة بالمكسرات إلى بضع وثلاثين جنيهاً للكيلو. أما «الفريسكا» فهي أشهر حلوى سكندرية ارتبطت بالشواطئ، حيث يحمل بائعوها صناديقهم الخشبية ذات الواجهات الزجاجية، ويطوفون الشواطئ، ليبيعوا حلواهم الرخيصة. اسمها ينتمي إلى اللغة الإيطالية، ويعود إلى بدايات القرن العشرين حين كان بالمدينة أعداد كبيرة من الجاليات الأوربية، ولكن الحلوى هي اختراع سكندري هجين من عدة أنواع من الحلوى، حيث يشبه الحشو المكون من الفول السوداني أو السمسم أو المكسرات الممزوجة بالعسل الحلوى الشرقية، وخصوصاً التركية والسورية، مع طبقة الويفر ذات الأصول الغربية. ومن الإسكندرية انتشرت الفريسكا إلى بقية المصايف الواقعة على البحر المتوسط، وقد تحولت في فترة من الفترات إلى حلوى شعبية، ثم أعيد لها الاعتبار عند دخولها إلى القرى السياحية والمنتجعات الفاخرة. والآن لم يعد يقتصر وجودها على الشواطئ، ولم تعد حكراً على الصيف، حيث صارت موجودة في بعض نوادي القاهرة.
«ديليس» هو اسم أقدم محال بيع الحلوى الغربية في الإسكندرية، ويعني اسمه الفرنسي (لذيذ) وهو ذو طابع يوناني، يرجع إلى مؤسسة «موستاكس» الذي افتتحه عام 1907، وهو المحل الذي صنع كعكة تتويج الملك فاروق على عرش مصر أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. ويقال إن صاحبه ابتدع حيلة ترويجية عند الافتتاح، تمثلت في شعار: «كل ما تريد، وادفع ما تستطيع» وهو ما منح المكان شهرة سريعة. وحتى الآن مازالت حفيدة المؤسس تدير المحل محافظةً على طابعه الكلاسيكي، ليبقى أحد المعالم المطلة على البحر بمحطة الرمل. ومن أشهر زبائنه السابقين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي قضى فترة من حياته بالمدينة، كذلك الكاتب العالمي نجيب محفوظ، الذي كان يكتفي بشرب القهوة وقراءة الجرائد به، ثم يأخذ معه قطعاً من الحلوى ويغادر، وفقاً لمديرة المكان. كذلك كان كبار الفنانين يتوافدون عليه خلال فترة وجودهم بالإسكندرية لأجل العروض المسرحية، أو لتصوير الأعمال السينمائية.
هكذا يتأكد لنا كلما خطونا في عالم الحلوى أننا أمام تاريخ، وتراث، وثقافة تشكلت عبر مئات بل آلاف السنين، وهي تشي بالكثير عن الشعوب التي أبدعتها، والشعوب التي استقبلتها وطورتها.
حلوى إفرنجية
«جروبي» و«سيموندس» بالقاهرة، قريبا الشبه من «ديليس» الإسكندرية. الجميع يؤرخ للحلوى الإفرنجية التي دخلت مصر منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستمرت حتى الآن. كانت في بداياتها مرتبطة بالجاليات الأجنبية، والفئات الميسورة من أمراء وباشاوات، ثم صارت متاحة للطبقة الوسطى منذ منتصف القرن العشرين. هذه الأماكن العريقة تعتبر الآن من الكلاسيكيات، ويرجع أغلب الإقبال عليها إلى الرغبة في تذوق طعم زمن جميل مضى. يساعد على ذلك بقاء معظمها في البنايات ذات الطابع الأوربي الكلاسيكي التي أنشئت منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. كذلك احتفظت بطابع تصميمها الداخلي وفاترينات العرض القديمة، والكثير من الأصناف التي احتفظت بشكلها ومذاقها، بالإضافة إلى سحر التاريخ، والحكايات التي تروى عن مرتاديها من المشاهير، فضلاً عن ظهور بعضها في أفلام سينمائية قديمة.
حلوى بكل اللغات
في كتابه «عودة الوعي» قال توفيق الحكيم إنه كان يجلس في «جروبي» صبيحة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 عندما لاحظ تحركات غريبة في الشارع، علم فيما بعد أنها حركة الضباط الأحرار، والتي عرفت لاحقاً بثورة يوليو. المكان ذو الطابع الكلاسيكي أنشئ في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، على يد السويسري جياكومو جروبي، وسرعان ما صار قبلة للمشاهير من مختلف مجالات السياسة والفكر والفنون.
كان الملك فاروق يزور المكان باستمرار، مما جعل أصحاب المحل يصنعون فنجاناً وطبقاً من الذهب، ويكتبون عليه اسم الملك، ليقدموا له الشاي والحلوى التي يحبها حصرياً فيهما. بل إنه كان يشتري كميات هائلة من حلواه ومنتجاته، ليهديها إلى أصدقائه من ملوك أوربا. شهرة «جروبي» جعلت قائد الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، الجنرال روميل، يقول: سأذهب لشرب الشاي في «جروبي» قريباً، كناية عن قرب انتصاره ودخوله إلى القاهرة، وهو ما لم يحدث. كان وقتها قد وصل إلى منطقة العلمين على الساحل الشمالي الغربي لمصر.
أم كلثوم كانت تبدأ يومها على مدى سنوات طويلة بكوب من الشاي مع الحلوى في «جروبي»، وفقاً لأحد قدامى مرتادي المكان. الفنان عمر الشريف أيضاً التقى المخرج يوسف شاهين فيه، عندما ذهب بصحبة صديقه الممثل المبتدئ وقتها أحمد رمزي، ذلك اللقاء الذي انتهى بترشيحه بالمصادفة لبطولة أول أفلامه «صراع في الوادي» مع فاتن حمامة، التي كانت قد سبقته بخطوات واسعة على طريق النجومية. كما كانت أيضاً زبوناً دائماً، تشتري الشوكولاتة من المحل. المخرج عاطف سالم أيضاً كان من المترددين على الحلواني الأشهر.
قدم المكان منذ إنشائه أنواعاً من الحلوى الغربية، والآيس كريم، بالإضافة إلى العصائر والشوكولاتة، والمخبوزات. وأدخل إلى مصر لأول مرة أنواعاً جديدة. كما بدأ بإنشاء فروع له في وسط القاهرة وضاحية مصر الجديدة. وتعتبر حلوى «المارون جلاسيه» التي تصنع من ثمار «أبو فروة» أو الكستناء من أشهر وأغلى الأنواع التي قدمها.
غزل البنات
في الريف كان بائعو غزل البنات الجوالون يطوفون بحلواهم، التي يتضاءل حجمها كلما ساروا بها في الشمس، فيضطرون لتخفيض ثمنها. كان يطلق عليها «حَلَبسَّة» هذه الحلوى العالمية محببة خصوصاً للأطفال. وتتنوع أسماؤها من دولة إلى أخرى، وتشترك في مظهرها القطني، وطريقة تصنيعها من السكر بالطرد المركزي. ترى بعض المصادر أنها نشأت في أوربا خلال القرن التاسع عشر، ويرجعها البعض إلى إيطاليا في القرن السادس عشر، لكن الماكينة التي تقوم بصنعها هي اختراع يرجع إلى طبيب الأسنان وليام موريسون والحلواني جون وارتون، وكانت تحمل اسم «خيط الجنيه»، الذي تحول في عشرينيات القرن العشرين إلى «حلوى القطن» في أمريكا، التي تحتفل في السابع من ديسمبر من كل عام باليوم الوطني لها. ومن أسمائها حرير الصبايا وحلوى العشاق.
حلاوة الطعم ومرارة الذكرى
«أم علي» حلوى بريئة صنعها الانتقام. هي أحد الأصناف المحببة، وهي تباع لدى المطاعم ومحال بيع الحلوى الشعبية، وتصنع بعدة طرق، لكن أساسها هو رقائق من عجين مطهو ولبن وسكر. يصنعها البعض منزلياً من قطع الخبز الإفرنجي، أو قطع «الكرواسون»، كما توجد رقائق خاصة تباع جاهزة خصيصاً لها. ترجع تاريخياً إلى حقبة خاصة وحرجة، حيث ينسب الاسم إلى زوجة عز الدين أيبك أول سلاطين المماليك، وزوج الملكة الشهيرة شجرة الدر. كانت المنطقة تعيش أهوال الحملات الصليبية، وكانت شجرة الدر التي بدأت حياتها جارية للسلطان الأيوبي نجم الدين قد اعتلت السلطة بعد وفاة زوجها، وخبأت خبر وفاته، وظلت تقود المعارك، وتصدر الأوامر، وتستعمل خاتمه الخاص، حتى لا تؤثر على معنويات الجنود في المعارك. ولكن أيبك تمرد عليها وتزوج غيرها، فكادت له وقتلته، فما كان من زوجته الأولى (أم علي) إلا أن تخلصت منها في واقعة تتعدد حولها الروايات، أشهرها أنها قتلتها ضرباً بالقباقيب على أيدي الجواري في الحمام، فاحتفلت بصنف من الحلوى يضم الدقيق واللبن، لتحمل الحلوى اسمها في مصر، وتتنوع صورها في العديد من البلدان العربية، حيث تعرف في غرب العراق بـ «الخميعة»، وفي السودان بـ «فتة اللبن»، كما يعرفها السعوديون ويقدمونها في الاحتفالات والأعراس.
سوبيا
البوظة الحلوة هي بخلاف البوظة العربية المثلجة، وهي أيضاً تختلف عن البوظة المسكرة التي كانت تنتشر في النصف الأول من القرن العشرين، وتمتلئ بها روايات نجيب محفوظ. البوظة التي نتحدث عنها هنا هي مادة بين الصلابة والسيولة طعمها حلو مع قليل من اللذوعة، كانت تقدم في الموالد والأسواق الشعبية الأسبوعية. ويرش عليها القرفة أحياناً، أو الكاكاو، وهي تصنع بتخمير عجين ما، يقال إنها كانت في الماضي تصنع من بقايا الخبز الذي يعاد نقعه في الماء وتركه حتى يتخمر، وهرسه جيداً، ثم يضاف السكر الذي يحفظ الخليط من التلف أو التحول إلى كحول. وكان يفضل تناولها بسرعة وعدم الاحتفاظ بها طويلاً لأنها تتخمر، وتزداد حجماً ولذوعة.
في منطقة السيدة زينب حلوى مميزة اسمها «سوبيا الرحماني»، ومنها نوعان «مزز» (لاذع)و«حلو» الأول قريب الشبه لبوظة الريف تلك، أما الحلو فهو أقرب ما يكون إلى «المهلبية» الممزوجة بشرائح جوز الهند، ويشدد المحل على أنه ليس لديه فروع أخرى.
الجميلة والفارس
العروسة والحصان هي قطع من الحلوى المنحوتة في أشكال فنية، للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ترجع أصولها إلى العصر الفاطمي، ويقال إن الحاكم بأمر الله كان يخرج في الاحتفال ضمن موكب، ومعه زوجته التي تزين رأسها بطوق من الياسمين، وإن المصريين أبدعوا تماثيل الحلوى للعروس استلهاماً منها، أما الحصان الذي يعتليه الفارس فهو الحاكم نفسه، والذي تطور شكله وتماس مع العديد من الحكايات الشعبية. ولا يستبعد البعض وجود أصول قبطية للعروسة والحصان، حيث الشبه بين الفارس وصور القديسين، وهم يطعنون الشيطان بحرابهم. وأشهرهم «مار جرجس» و«مار مينا»، وهي صورة كانت موجودة أيضاً في الديانة «الميثرية»، التي كانت منتشرة في أوربا قبل ألفي عام. أيضاً لا تبدو العروس بعيدة كثيراً عن صور ارتبطت بعدة عقائد، ولكن هذه الأصول توارت، وأفسحت المجال للبعد الاحتفالي الشعبي.
وقال عميد المعهد العالي للفنون الشعبية، د. سميح شعلان، معلقاً: إن الحلوى الشعبية تحمل خصائص وأحلام كل مجموعة بشرية تصنعها. كما في حالة «العروسة الحلاوة» التي تكون مزينة وجميلة، وتجلب للفتيات الصغيرات، ليحل فيهن جمالها وزينتها. نجد أيضاً أنه في المقابل يشترون للذكور أحصنة الحلوى، تمنياً لأن يكون الولد فارساً، ثم كسراً للرتابة والاعتياد ظهرت أشكال أخرى كالمدفع والسفينة والهدهد، لكن الأساس هو العروسة والحصان، كرغبة في أن يحل المأكول في الآكل. كما أن السكر في الماضي كان على هيئة قوالب، وكان من غير المحبذ أن يأخذ الأطفال السكر المخصص للبيت وللضيوف، ولذلك كانت عرائس وأحصنة السكر نوعاً من تخصيص ذلك السكر للأطفال، لينأوا عن سكر الكبار.
وتفنن الفنان الشعبي في ملامح الحلوى التي تعتبر عملاً نحتياً يتم عمل قوالب عليه ليعاد نسخه بمادة السكر، ويزين بالأوراق الملونة التي تناسب الأطفال، وتحقق المتعة البصرية. والسكر يعتبر درجة من درجات التمتع بالحياة. وتسعى الجماعة الشعبية لأن توفر لكل فئة ما يحقق لها السعادة. كما تقوم بأدوار اجتماعية وأحياناً سياسية. سنجد مثلاً أن بعض السلاطين كانوا يضعون قطعاً نقدية في الكعك المقدم للعامة في الأعياد كنوع من التقدمات التي تؤكد رمزية العطاء من الحاكم للعامة. وهناك أيضاً ما يعرف باسم «الفُطرة» وهي مجموعة من الحلوى تقدم للزائرين صبيحة عيد الفطر، وفي الماضي كان الحكام يوزعونها على الشعب كنوع من المصالحة.
حلوى مغربية
من المشرق الشهير بحلواه، إلى المغرب في محاولة للتعرف على ثقافة مغايرة، أنتجت عبر مئات السنين خصوصية مذاق، ارتبط أيضاً بالمناسبات السعيدة. جولة في المدن المغربية تكشف لنا أن «التقاوت» هو الحلوى الأساسية التي ترتبط بشهر رمضان. تصنع منزلياً في الأساس، ولكن منذ سنوات بدأت تظهر في الأسواق.
تصنع حلوى التقاوت، التي تسمى في بعض المناطق «السفوف» وفي أخرى «السلو» من الدقيق المحمص في الفرن مع مسحوق اللوز المسلوق مع العسل وزيت الزيتون والزبد و«الجلجلان» وهو السمسم، مع «النافع» وهو الينسون. البعض يفضله مسحوقاً، وآخرون يفضلونه متماسكاً، كما يضع البعض عليه جوزة الطيب. ويؤكل في رمضان على الفطور. الأمر نفسه يتعلق بحلوى «الشباكية» الشهيرة هنا، والتي تسمى في بعض الأماكن «المخرقة»، وهي مع التقاوت ظلت لفترات طويلة بمنزلة الفطور الرمضاني، مع المسمن، والشاي والحريرة.
تقاوت وشباكية
يرجع تاريخ هذه الحلوى إلى العصر المرابطي، حيث كانت تستخدم كطعام للمسافرين، سواء الحجاج أو الجيوش وغيرها. هذا الإفطار التقليدي بدأ يتغير وتنوعت الأصناف الآن، لكن البعض مازال يستغرب عمل وجبات عادية في الإفطار، ويصر على الطقس القديم. فيما مضى كانت هناك وجبة تسمى العشاء، وتعقب صلاة التراويح، وهذه يؤكل فيها أحد الأصناف الاعتيادية. أما السحور، فكان أيضاً وجبة من التقاوت والشباكية.
هناك أنواع عديدة من الحلوى المغربية سواء المنزلية، أو تلك التي تباع في الأسواق. قمنا بجولة شملت عدة مدن، منها مراكش والصويرة والمحمدية وبن سليمان. تتحدث النسوة عن «المسكوتة» أو «الكيكية» و«قريشلات» عاشوراء، التي تصنع من البيض وماء الزهر والسكر، كقطع صغيرة، ويفرح الأطفال كثيراً بهذه الحلوى، حيث كانوا يخرجون في الماضي، وهم يرتدون أجمل الثياب طارقين الأبواب، ومطالبين بـ «حق بابا عاشورا» وهو تقدمة مالية يجمعونها في «التعريجة» أي الطبلة، التي يضعون فيها أيضا بعض حلواهم. وهو طقس شبيه بما كان الأطفال في مصر يفعلونه قبل عشرات السنين، حيث يطرقون الأبواب أيضاً وهم يغنون «إدونا العادة» جامعين حبات السكاكر والبونبون والفول السوداني والتوفي وأحياناً عملات صغيرة. وكانت مرتبطة بشهر رمضان.
هناك أيضاً حلوى «بشنيخة» وهي تصنع تقريباً من عجين الشباكية نفسها، ولكنها تصاغ على شكل خيوط تتشابك في قطع صغيرة. و«البشنيخة» في الأصل اسم للعصي الرفيعة التي تستخدم لتنظيف الأسنان، ويضرب المغاربة المثل بها عندما يتهكمون على شخص نحيف، فيقولون إنه مثل «البشنيخة».
أما حلوى العيد هنا فهي شبيهة بما يطلق عليه في مصر ومعظم الدول العربية «بيتيفور» ويطلقون عليه في المغرب اسم «الحلوى». كذلك يقدم «الفقاس» ويدخل في عجينه اللوز، والغريّبة أو «البهلة». ويعتبر اللوز معياراً لقيمة الحلوى هنا. أما «السابلي» فهو أكثر أنواع الحلوى انتشاراً في الأسواق ومنه أشكال مختلفة كتنويعات تشبه الكعك المعروف في المشرق. كما يباع «كعب الغزال»، وهو عبارة عن عجين اللوز مع ماء الزهر، وتوضع في أوراق عجين على شكل هلال غالبا، وأحياناً تحشى بالتمر. وهنا أيضاً حلوى «البشكيطو» التي تعتبر نوعاً من البسكويت، وتصنع من الزيت والبيض وعصير البرتقال والنافع والخميرة. أما «الرزيزة» الحلوة فتشبه الشعرية، وتنقع في العسل، وهي من أنواع الحلوى الريفية والبدوية، وتعرف أيضاً بـ «رزة القاضي»، ويذكرنا اسمها بلقمة القاضي المصرية والشامية، لكنها تختلف عنها كلياً. هنا أيضاً «المحنشة» المغربية، وهي عبارة عن رقائق تلف على حشو من اللوز، لتشبه الحبل ثم يلف الحبل حول نفسه بشكل حلزوني. كذلك البقلاوة المغربية، وهي رقائق تحشى بعجين من اللوز والفستق، وتبدو قريبة من البقلاوة المشرقية. ويأتي التمر المعمر باللوز كأحد أنواع الحلوى التي ترتبط بالمناسبات كالأعراس. ومن طقوس استقبال العرائس كوب به قليل من اللبن المعطر بماء الزهر مع التمر المعمر.
الحلوى والنساء
تحب النساء الحلوى، ولكن العلاقة تتخطى ذلك، إذ إن عدداً غير قليل من أصناف الحلويات مسمى بأسماء نسائية. في مصر مثلاً نجد حلوى عزيزة, وهي عبارة عن شرائح من جوز الهند مطهوة في الحليب مع النشا. نجد أيضاً حلوى بسيمة، وتصنع من مسحوق جوز الهند مع السميد والزبد، وتوضع في الفرن، وتسقى بالشراب، وهناك أصابع زينب، وهي عبارة عن أصابع من العجين المقلي تسقى بالشراب. وهناك رموش الست، وهي حلوى تصنع في قطع صغيرة وتسقى بالشراب، وتتميز بليونتها. وقبل عقود كانت هناك حلوى تسمى «خد الجميل»، وهي عبارة عن تفاحة صغيرة الحجم، يوضع بها عصا صغيرة، وتغطى بطبقة من الحلوى السكرية الملونة بالأحمر غالبا، بالإضافة إلى أم علي، وغزل البنات، والتي تسمى في العراق شعر البنات، وكانت هناك حلوى شعبية ملونة وصغيرة الحجم في الماضي تسمى «براغيت» الست. وفي سورية أيضاً توجد أصابع الست، وزنود الست، ولا يوجد إلا استثناءات قليلة لحلوى تسمى بأسماء ذكورية، منها «نبوت الغفير»، وتصنع من العسل الأسود، على شكل عصي، كما يطلق أهل الخليج اسم لحية الشايب على حلوى غزل البنات، التي تسمى في تونس أيضاً لحية جدي.
مذاق الغواية
رغم كونها من أولى اللذات البريئة، فإن ما تمنحه من متعة ربطها بالغواية. فهي المذاق الذي ارتبط بحلاوة تفاحة الغواية الأولى، كما أن قصصاً عدة للأطفال من مختلف بلاد وثقافات العالم تبرز الحلوى كلذة تغري بالمعصية، أو تكون بمنزلة فخ للسقوط، ربما كنوع من الرمزية.
إحدى الحكايات الأوربية والتي صيغت في عمل أدبي للأطفال، للأخوين الألمانيين «جريم»، تحكي عن الطفلين هانزل وجريتل اللذين تطردهما زوجة أبيهما، فيهيمان على وجهيهما في الغابة إلى أن يعثرا على بيت من الحلوى، يفرحان كثيراً به، ويدخلانه بولع طفولي بريء، لكنهما يجدا نفسيهما في قبضة ساحرة شريرة. كذلك تعود التفاحة التي تكتنز الحلاوة وتخبئ السم للظهور في حكاية بياض الثلج والأقزام السبعة.
ومن الحكايات العربية الطريفة عن الحلوى ما يروى عن أعرابي قدم من الصحراء جائعاً إلى مائدة عامرة للحجاج بن يوسف، فأخذ يأكل بشراهة لفتت الأنظار إليه، ولما أوشك على الانتهاء لمح طبقاً من حلوى شهية، فسأل الحجاج عن اسمها، فقال له: إنها «الفالوذج»، ولكن إذا مددت إليها يدك سأقطع رأسك. فما كان من الرجل إلا أن نظر بحيرة إلى الطبق، ثم مد يده والتقطه، وهو يقول: أوصيك خيراً بأبنائي. فضحك الحجاج وعفا عنه.
ومن أطرف ما ورد بالتراث ما ذكره الوهراني عن نفسه في مناماته من تعرضه للاحتيال على يد ابن طفيل في مصر، حيث سلبه الرجل كل ما يملك مقابل صينية حلوى شهية، وهو ما تكرر بعد ذلك على يد عضد الدولة، وإن كان صلاح الدين قد عوضه هذه المرة. وكان الوهراني يعشق حلوى «المأمونية»، كما ورد في مقامة لبديع الزمان، وهي من الحلوى التراثية التي ما زالت موجودة في بلاد الشام، كما كان يحب «البسيسة»، رغم أنها من حلوى الشتاء لدسامتها، لكنه كان يقبل عليها حتى في الصيف.
وقد نسب إلى ابن إياس أبيات من الشعر عن القطائف والكنافة قال فيها:
وقد صرت في وصف القطائف هائماً
تراني لأبواب الكنافة أقرع
فيا قاضياً بالله محتسباً عسى
ترخص لنا الحلوى نطيب ونرتع
ويبقى مذاق الحلوى لذّة ممتعة، ورمزاً أولياً للغواية، يقود في الحكايات والأساطير إلى المصاعب والفخاخ، ويقود في الواقع إلى السمنة، ذلك الوحش، أو الساحرة الشريرة، والسيف البتار، الذي يقف بالمرصاد لمن لا يستطيعون التحكم برغبتهم، وينساقون خلف غواية العسل والسكر■
فرن الكنافة الذي اكتسب قدراً من التحديث، ويوفر المادة الخام من الشعر الذي يستخدم في البيوت والمحال لصنع الحلوى الشهيرة
في الأعياد تظل الحلوى هي أكثر ما يجسد فرحة الطفولة
بائع «الفريسكا» في أحد نوادي القاهرة، يبيع حلواه المصنوعة منزلياً من الويفر (رقائق هشة من البسكويت) المحشو بالعسل وجوز الهند والفول السوداني