ربيع

قابلتُها بعد انقطاع قارب الخمس عشرة سنة، سألتُها - كما جرت العادة في مثل هذه الحالات - عن أحوالها وعن ابنها ربيع، الذي خصصتُه بسؤال كوني لا أنسى كيف رُزقت به بعد أربع بنات وعشر مرارات سببتْها المفاهيمُ الاجتماعية مستذكرة فرحتها الكبيرة به، فلمحتُ نظرة حزن عتيق وكآبة ظللت ملامح وجهها للحظة، عرفتُ بعدها أنّ ربيعها حوّل حياتها إلى خريفٍ طويلٍ من الألم، كونه الولد الوحيد المدلل الذي لا يتحمل المسؤولية، ولا يقدّر الواجب، والذي يُحرجها اجتماعياً، فهي مديرة مدرسة عُرفت بصرامتها ونشاطها وجديتها، وهو فاشل في دراسته، ويعشش في سنة الثانوية العامة منذ سنين دونما إحساس بالذنب أو بالتقصير.
لم أحتج إلى أن أسألها عن الظروف والمعطيات التي أوصلتها هي وابنها إلى طريق شبه مسدود في مفترق الحياة، فيما بناتها حصلن درجات جامعية وتتلخص شكواها منهن في الإسراع في القيام وإنجاز الواجبات البيتية المقسمة بينهن!
ذاكرة الفرح حزينة! تبادرت لخاطري هذه العبارة وصورتها ترتسمُ في ذاكرتي محوطة بهالة مضيئة من البهجة الوردية، وجهها المشع بفرح الدّنيا وهي تمرّر كفها بحبور على بطنها المستديرة للمرة الخامسة «هذه المرة مختلفة!»، تكرر لنفسها، ولدت الإناث وتعرف حملهن الثقيل برغم أنّ الطبيبة التي تقوم بمراجعتها دورياً للاطمئنان على حملها راوغت ولم تخبرها هذه المرة عن جنس الجنين!
قالت إحدى قريباتها ممن لا تُكنّ لها الود ولا تتمنى لها الخير -على ما يبدو- «ربما تخشى عليكِ من تعسر الولادة إن عرفتِ بأنها البنت الخامسة!»، وأضافت أخرى كأنها تعزيها: «يغير الخلق عند الطلق!»، فيما بسطت أمها كفيها بدعاء حار يليق بمحبة الأمهات الخالصة كجوهر ثمين.
عندما أفاقت من آلام الولادة وجدت أمها تبكي فوق رأسها، قالت برأفة الأمهات الفياضة «الحمد لله! إجاكِ ولد إجا «ربيع» ربنا عوضك»، تذكرت وقتها أنها رأت الطفل بُعيد ولادتها به، لكنها ظنت أنّه التعب أو أنها تتخيل، لأنها كانت في أعماقها تشتهي أن تُكنى بـ «أم ربيع»، وتنهي إحساساً غذّاه المجتمع بعدم الاكتمال، ويكون لها ولوالده سنداً ولأخواته ظلاً... بلحظة تظللت تلك الصور الملونة بأطياف فرح عابر بظلّ رمادي حزين وبرماد الذكريات، فربيع «ابن عازة» أحاطته العائلةُ والأقرباء والمقربون بالدلال الفائض وبالحفاوة المبالغ فيها حتى تصور أنه ولد من الشمس، وعندما كبر لم يتحمل المسؤولية وبدأ الصدام مع الواقع.
هل نظلم أنفسنا وأبناءنا حين نغزل لهم الحياة بخيوط دلال مهما طالت تظل قصيرة ولا تحجب حقيقة الحياة التي تحتاج إلى التحمُّل والكدّ وحمل المسؤولية لإثبات الذات وتحقيق النجاح الذي يفوق فرح الآباء به فرحة أصحابه، وفشل يكسر في نفوس الوالدين غصن الحياة فلا يثمر بغير مرارة الخيبة؟! ■