مي زيادة ومعلّمها منصور فهمي

مي زيادة  ومعلّمها منصور فهمي

يختلف‭ ‬د‭. ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬عن‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬تحلَّقوا‭ ‬حول‭ ‬ميّ‭ ‬زيادة،‭ ‬وتباروا‭ ‬في‭ ‬بثّها‭ ‬لواعج‭ ‬القلب‭ ‬والروح،‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬صفة‭ ‬العاشق‭ ‬لميّ‭ ‬لا‭ ‬تنطبق‭ ‬عليه‭.‬

فهو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬‮«‬عاشقاً‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬أو‭ ‬صديق‭ ‬روحي،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬يعقوب‭ ‬صروف‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬المقتطف‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬ميّ‭ ‬تلجأ‭ ‬إليه‭ ‬طالبةً‭ ‬النصح‭ ‬وسداد‭ ‬الرأي‭.‬

فهو‭ ‬إذن‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬روّاد‭ ‬صالون‭ ‬مي،‭ ‬كما‭ ‬يختلف‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬عن‭ ‬زميله‭ ‬أستاذ‭ ‬الجيل‭ ‬أحمد‭ ‬لطفي‭ ‬السيّد،‭ ‬الذي‭ ‬نشرت‭ ‬له‭ ‬‮«‬الهلال‮»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬رسائل‭ ‬عاطفية‭ ‬حارة‭ ‬إلى‭ ‬ميّ‭ ‬يخبرها‭ ‬فيها‭ ‬بأسلوب‭ ‬لطيف‭ ‬بما‭ ‬يقاسيه‭ ‬تجاهها،‭ ‬وبما‭ ‬يفكّر‭ ‬فيه‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬التمرّد‭ ‬على‭ ‬‮«‬التقاليد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ينوي‭ ‬أن‭ ‬يكسرها‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬أستاذ‭ ‬الجـــــيــل‭ ‬لم‭ ‬يقرن‭ ‬القول‭ ‬بالفعـــل،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رسائله‭ ‬هــذه‭ ‬نمّــــت‭ ‬عن‭ ‬نفـــوذ‭ ‬كبير‭ ‬لهذه‭ ‬الأديبة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬الشابة‭ ‬يومئذ،‭ ‬عليه‭. ‬

فمنصور‭ ‬فهمي‭ ‬الذي‭ ‬تتضمن‭ ‬أعماله‭ ‬العربية‭ ‬الكاملة‭ (‬162‭ ‬صفحة‭ ‬عن‭ ‬ميّ‭) ‬بدا‭ ‬أباً‭ ‬ومعجباً‭ ‬إعجاباً‭ ‬لا‭ ‬حدّ‭ ‬له‭ ‬بميّ،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجنح‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬الرسائل‭ ‬العاطفية‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬لطفي،‭ ‬على‭ ‬قربه‭ ‬الشديد‭ ‬منها‭.‬

كان‭ ‬الاثنان‭ ‬أستاذين‭ ‬لها‭: ‬فلطفي،‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة‭ ‬الأهلية‭ ‬المصرية‭ (‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬الآن‭) ‬كان‭ ‬يعطي‭ ‬ميّ‭ ‬دروساً‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬بمنزلها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬منصور‭ ‬فهمي،‭ ‬عميد‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬المذكورة،‭ ‬أستاذها‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرّسها‭ ‬مادة‭ ‬الفلسفة‭ ‬ومواد‭ ‬أخرى‭. ‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفصول‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬الضوء،‭ ‬واستناداً‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬كثيرون‭ ‬عن‭ ‬ميّ،‭ ‬فإن‭ ‬فهمي‭ ‬بدا‭ ‬وقوراً‭ ‬ونبيلاً‭ ‬في‭ ‬المشاعر‭ ‬والصور‭ ‬التي‭ ‬تركها،‭ ‬ويبلغ‭ ‬هذا‭ ‬الوقار‭ ‬والنبل‭ ‬غايته‭ ‬القصوى‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬والمشاهد‭ ‬التي‭ ‬سنعرض‭ ‬لها‭.‬

 

أديبة‭ ‬كبيرة

تؤرخ‭ ‬الصفحات‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬فهمي‭ ‬عن‭ ‬تلميذته‭ ‬ميّ‭ ‬لسيرتها‭ ‬من‭ ‬جوانبها‭ ‬كافةً‭. ‬فهي‭ ‬تعرض‭ ‬لنشأتها‭ ‬بين‭ ‬فلسطين‭ ‬ولبنان،‭ ‬قبل‭ ‬انتقالها‭ ‬مع‭ ‬أبويها‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬كما‭ ‬تعرض‭ ‬لسيرتها‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ولأثرها‭ ‬الأدبي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬حركتها‭ ‬الأدبية‭. ‬وفيها‭ ‬صفحات‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مي‭ ‬الأديبة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تُقدّر‭ ‬بثمن،‭ ‬لأن‭ ‬كثيرين‭ ‬ممن‭ ‬كتبوا‭ ‬عنها‭ ‬توقفوا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يجب‭ ‬عند‭ ‬صالونها‭ ‬الأدبي،‭ ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬الصالون‭ ‬كان‭ ‬جوهر‭ ‬ما‭ ‬فعلته،‭ ‬أي‭ ‬كأنها‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬أكثر،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أديبة‭ ‬كبيرة‭ ‬وخطيرة‭ ‬في‭ ‬زمانها‭.‬

‭ ‬ويؤيد‭ ‬فهمي‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬بشتى‭ ‬الأدلة‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬المرء‭ ‬بأنه‭ ‬أمام‭ ‬مفكرة‭ ‬عميقة‭ ‬ذات‭ ‬شأن،‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬مثقفة‭ ‬ذات‭ ‬شأن‭ ‬متواضع‭. ‬ويُطلق‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬أكاديمي‭ ‬كبير‭ ‬دفع‭ ‬غالياً‭ ‬ثمن‭ ‬نقده‭ ‬السائد‭ ‬والمعمول‭ ‬به‭ ‬عندما‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬‮«‬السوربون‮»‬‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬ومعه‭ ‬أطروحة‭ ‬دكتوراه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المرأة‭ ‬المسلمة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‮»‬،‭ ‬فشكّلت‭ ‬بداية‭ ‬الثورات‭ ‬الفكرية‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭: ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬عبدالرازق‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬وأصول‭ ‬الحكم‮»‬،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1925،‭ ‬وأصدر‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬فإن‭ ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أنجز‭ ‬ثورته‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1913،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬يتعرض‭ ‬للفصل‭ ‬من‭ ‬التدريس‭ ‬بالجامعة‭ ‬الأهلية،‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬مبكرة‭ ‬للرقابة‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تعرّض‭ ‬لها‭ ‬لاحقاً‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عبدالرازق‭ ‬وحسين‭.‬

 

وصف‭ ‬مي

يرسم‭ ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬صوراً‭ ‬شتّى‭ ‬لميّ‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬استوقفته،‭ ‬ونزلت‭ ‬منزلة‭ ‬كريمة‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬فهو‭ ‬يصوّر،‭ ‬بدايةً،‭ ‬هيكلها‭ ‬المادي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬بقيت‭ ‬صورتها‭ ‬في‭ ‬مخيلته،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬العمر‭... ‬‮«‬أصوّرها‭ ‬في‭ ‬مادتها،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أصوّرها‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬وأدبها‭. ‬فهي‭ ‬فتاة‭ ‬ربعة‭ ‬بضّة،‭ ‬ووجهها‭ ‬الصبوح‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الاستدارة،‭ ‬وبشرتها‭ ‬بيضاء‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬سوء،‭ ‬وتقاسيمها‭ ‬مليحة‭ ‬مشرفة،‭ ‬وعيناها‭ ‬دعجاوان‭ ‬واسعتان‭ ‬سبلاوان،‭ ‬ويشعّ‭ ‬فيهما‭ ‬بريق‭ ‬الذكاء،‭ ‬ويعلوهما‭ ‬حاجبان‭ ‬يمتدّ‭ ‬كلاهما‭ ‬عريضاً‭ ‬أسود،‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬العين‭ ‬إلى‭ ‬آخرها‭ ‬في‭ ‬تقوّس‭ ‬منسجم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقترنا‭ ‬أو‭ ‬يتقاربا‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬أنف‭ ‬أزلف‭ ‬جميل،‭ ‬وفمها‭ ‬يزدان‭ ‬بشفتين‭ ‬رقيقتين‭ ‬قرمزيتيــن،‭ ‬لا‭ ‬تمتدّان‭ ‬في‭ ‬خدّيها‭ ‬الريّانين‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬يتجاوز‭ ‬قليلاً‭ ‬نهاية‭ ‬الأنف‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬كما‭ ‬تكون‭ ‬الفتيات‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الشباب‭. ‬كانت‭ ‬غريبة‭ ‬الأطوار،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تندفع‭ ‬إلى‭ ‬العزلة،‭ ‬وتخلو‭ ‬بنفسها،‭ ‬وتمعن‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬وفي‭ ‬الكتابة‭. ‬ومما‭ ‬كتبته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭: ‬‮«‬انتشر‭ ‬شذى‭ ‬البخور‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬المعبد،‭ ‬فجثوتُ‭ ‬على‭ ‬سريري،‭ ‬وطلبتُ‭ ‬الموت‭ ‬لا‭ ‬جبناً‭ ‬ولا‭ ‬ضعفاً،‭ ‬بل‭ ‬شوقاً‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬الزرقاء،‭ ‬حيث‭ ‬الطهر‭ ‬والنقاوة‭ ‬والجمال‭ ‬والكمال‮»‬‭.‬

ويستنتج‭ ‬من‭ ‬رسالة‭ ‬لها‭ ‬إلى‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬أنها‭ ‬تقدّر‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬نزعات‭ ‬التحليق‭ ‬والغلو‭ ‬في‭ ‬الخيال،‭ ‬واقتحام‭ ‬المجهولات‭ ‬وسرائر‭ ‬النفوس‭ ‬والتعلّق‭ ‬بالمُثل‭ ‬الرفيعة،‭ ‬والصدق،‭ ‬وجمال‭ ‬الأسلوب،‭ ‬وتخيّر‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬تصبّ‭ ‬فيه‭ ‬العبارات‭ ‬والألفاظ‭ ‬والجمل‭ ‬الموزونة‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬الأذن‭ ‬بوقعها‭.‬

 

خريف‭ ‬العمر

لكن‭ ‬ربيع‭ ‬العمر‭ ‬يذوي‭ ‬مع‭ ‬الوقت،‭ ‬ومعه‭ ‬ربيع‭ ‬الأدب،‭ ‬ليندفع‭ ‬الخريف‭ ‬إلى‭ ‬صدارة‭ ‬الفصول‭. ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1930،‭ ‬يموت‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬ميّ‭ ‬تحبّه‭ ‬من‭ ‬بُعد‭ ‬وتحلم‭ ‬بالزواج‭ ‬منه،‭ ‬والذي‭ ‬كانت‭ ‬حياته‭ ‬وإنتاجه‭ ‬وآماله‭ ‬وآلامه،‭ ‬وحبّه‭ ‬لها،‭ ‬تفيض‭ ‬كلها‭ ‬بما‭ ‬يحبّب‭ ‬إليها‭ ‬الحياة‭. ‬وقد‭ ‬مات‭ ‬قبله‭ ‬صرّوف؛‭ ‬ذلك‭ ‬الشيخ‭ ‬الحكيم‭ ‬الذي‭ ‬أجلّته‭ ‬وجعلت‭ ‬منه‭ ‬رائداً‭ ‬علمياً‭ ‬وروحياً‭ ‬وصديق‭ ‬صدق‭ ‬تعتزّ‭ ‬بصداقته‭ ‬وتوجيهه‭.‬

ومات‭ ‬أبوها،‭ ‬‮«‬ورأيتُها‭ ‬تتقبّل‭ ‬فيه‭ ‬عزائي‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الإخوان‭ ‬المعزّين،‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬موته،‭ ‬وأُمّها‭ ‬تجلس‭ ‬أمامها‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬الدار‭ ‬مولولة‭ ‬نائحة،‭ ‬وميّ‭ ‬تصطنع‭ ‬التجلّد،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬آلامها‭ ‬الفائضة،‭ ‬وفي‭ ‬لباسها‭ ‬الأسود،‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬كبرياء‭ ‬وجلَد‭ ‬وخشوع‭.‬

ثم‭ ‬ماتت‭ ‬أمها‭... ‬أين‭ ‬خلصاؤها؟‭ ‬وأين‭ ‬ممجّدوها؟‭ ‬وأين‭ ‬مدلّلوها؟‭ ‬لقد‭ ‬خلا‭ ‬محيط‭ ‬ميّ‭ ‬من‭ ‬الخلصاء‭ ‬والأهل،‭ ‬ومن‭ ‬ولي‭ ‬الدين‭ ‬يكن،‭ ‬ومن‭ ‬إسماعيل‭ ‬صبري،‭ ‬والدكتور‭ ‬شبلي‭ ‬شميّل،‭ ‬ومن‭ ‬صديقتها‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬ومَن‭ ‬إليهم‭. ‬وخلا‭ ‬ممن‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬حاجة‭ ‬من‭ ‬ظُرفها‭ ‬اليانع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مأربهم‭ ‬في‭ ‬أدبها‭ ‬البارع‭ ‬وعلمها‭ ‬الواسع،‭ ‬لأن‭ ‬ميًّا‭ ‬خلت‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬شبابها‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬الحسن‭ ‬والبهاء‭ ‬الساطع‭. ‬فهي‭ ‬حينئذ‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬الخامسة‭ ‬والأربعين،‭ ‬وهي‭ ‬حينئذ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنّ‭ ‬التي‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تتعرّض‭ ‬فيها‭ ‬كثيرات‭ ‬من‭ ‬العوانس‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬العُصاب‭ ‬والأمراض‭ ‬النفسية‭.‬

ويشيع‭ ‬النبأ‭ ‬الأليم‭ ‬عن‭ ‬عزلة‭ ‬مريرة‭ ‬لميّ‭ ‬تصرّ‭ ‬ألا‭ ‬تتحوّل‭ ‬عنها،‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬يقتحمها‭ ‬عليها‭ ‬مُقتحم‭. ‬ويروي‭ ‬د‭. ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬المأساة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يروِه‭ ‬سواه،‭ ‬نظراً‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬الشهود‭ ‬الذين‭ ‬عاينوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬السنوات‭ ‬المرّة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لمي،‭ ‬ولم‭ ‬يدعها‭ ‬وحيدة‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬محنتها‭.‬

 

مي‭ ‬الآفلة

يقول‭ ‬د‭. ‬فهمي‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬دفعتني‭ ‬جرأة‭ ‬الشباب‭ ‬حينذاك،‭ ‬وبتأثير‭ ‬همزة‭ ‬من‭ ‬الأريحية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬النفوس،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أطرق‭ ‬على‭ ‬الأديبة‭ ‬بابها‭ ‬في‭ ‬أصيل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭.‬

لعل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1936،‭ ‬وثابرتُ‭ ‬على‭ ‬دق‭ ‬الجرس،‭ ‬وفُتح‭ ‬الباب‭ ‬في‭ ‬مواراة،‭ ‬فهرولتُ‭ ‬إلى‭ ‬الداخل،‭ ‬فإذا‭ ‬بالسيدة‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬لي‭ ‬الباب‭ ‬إنسانة‭ ‬نفضاء‭ ‬الشعر،‭ ‬مشعثة‭ ‬الرأس،‭ ‬شاحبة‭ ‬الوجه،‭ ‬مقرّحة‭ ‬العين،‭ ‬يلفّ‭ ‬جسمها‭ ‬المترهّل‭ ‬جلباب‭ ‬أبيض‭ ‬فضفاض،‭ ‬وتلابسه‭ ‬أشعة‭ ‬صفراء‭ ‬من‭ ‬ضوء‭ ‬خافت،‭ ‬يرسله‭ ‬مصباح‭ ‬كهربائي‭ ‬صغير‭ ‬يتدلّى‭ ‬من‭ ‬سقف‭ ‬الدهليز‭.. ‬إنها‭ ‬ميّ‭ ‬الآفلة،‭ ‬ولم‭ ‬أتبين‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬بقايا‭ ‬شروقها،‭ ‬إلا‭ ‬ابتسامة‭ ‬باهتة‭ ‬تتأرجح‭ ‬على‭ ‬شفتين،‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تعروهما‭ ‬طلائع‭ ‬النحيب‭ ‬ووساوس‭ ‬الهموم‭.‬

ووقفت‭ ‬السيدة‭ ‬على‭ ‬مدخل‭ ‬الدهليز‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتكلم،‭ ‬والابتسامة‭ ‬الذابلة‭ ‬الحارة‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬ثغر‭ ‬عهدته‭ ‬حافلاً‭ ‬بالسناء،‭ ‬ومليئاً‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬بأزهر‭ ‬البسمات‭. ‬ولكنه‭ ‬اليوم‭ ‬كاد‭ ‬يكون‭ ‬متقلصاً‭ ‬من‭ ‬ألم‭.‬

كانت‭ ‬ميّ‭ ‬تغمرني‭ ‬بكل‭ ‬نظراتها،‭ ‬وتصوّبها‭ ‬إلى‭ ‬هيكلي،‭ ‬وكأنها‭ ‬كانت‭ ‬ترفقها‭ ‬بتيار‭ ‬من‭ ‬عذوبة‭ ‬وحنان‭. ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تشر‭ ‬إليّ‭ ‬بالدخول‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬الاستقبال،‭ ‬ولم‭ ‬تستدرجني‭ ‬إليها‭ ‬حتى،‭ ‬ولم‭ ‬تُشر‭ ‬إليّ‭ ‬بالجلوس‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬من‭ ‬المقاعد‭ ‬المبعثرة‭ ‬في‭ ‬المدخل،‭ ‬وظلّت‭ ‬واقفة‭ ‬أمامي‭ ‬ناظرة‭ ‬إلي،‭ ‬وهي‭ ‬شبه‭ ‬باسمة‭ ‬وباكية‭ ‬ومتوسّلة،‭ ‬على‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أفقد‭ ‬رباطة‭ ‬الجأش‮»‬‭. ‬ويتابع‭: ‬‮«‬حرصت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬كلماتي‭ ‬المحددة‭ ‬القصار‭ ‬إلى‭ ‬نفسها‭ ‬وتنفذ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬فقلتُ‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

سيدتي‭ ‬إني‭ ‬أتكلم‭ ‬بلسان‭ ‬المعجبين‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬وأرفع‭ ‬لك‭ ‬صوت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقدّرونك،‭ ‬راجياً‭ ‬ألّا‭ ‬تتردَّدي‭ ‬في‭ ‬تكليفهم‭ ‬وتكليفي‭ ‬بجميع‭ ‬ما‭ ‬ترومين‭ ‬أن‭ ‬يُؤدّى‭ ‬لكِ‭ ‬من‭ ‬خدمات،‭ ‬ولا‭ ‬تستسلمي‭ ‬للعزلة،‭ ‬ولا‭ ‬تضعفي‭ ‬للهموم،‭ ‬وأفسحي‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬الرياضة‭ ‬مجالاً،‭ ‬سيدتي‭ ‬إننا‭ ‬جميعاً‭ ‬في‭ ‬خدمتك‭ ‬عن‭ ‬رضا،‭ ‬فلا‭ ‬تضنّي‭ ‬علينا‭ ‬بها،‭ ‬لتُدخلي‭ ‬على‭ ‬أنفسنا‭ ‬الفرح‭ ‬والسرور‮»‬‭.‬

 

رغبة‭ ‬في‭ ‬العزلة

لكن‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬أوجّه‭ ‬إليها‭ ‬كلماتي‭ ‬القاطعة‭ ‬الصادقة‭ ‬لا‭ ‬تجيب،‭ ‬وتظل‭ ‬تغمرني‭ ‬بنظرات‭ ‬فيها‭ ‬العطف‭ ‬وفيها‭ ‬الحنان‭. ‬وتطفر‭ ‬الدموع‭ ‬إلى‭ ‬عينيها‭ ‬الجميلتين‭ ‬الذابلتين،‭ ‬وتنطق‭ ‬في‭ ‬همس‭ ‬بنحو‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬المبهمات‭ ‬المتقطعات‭ ‬البعيدات‭ ‬عن‭ ‬صوغ‭ ‬العبارة‭ ‬المتصلة،‭ ‬والخاليات‭ ‬من‭ ‬المعنى‭ ‬والتسلسل‭ ‬الصريح‭: ‬‮«‬شكراً‭ ‬شكراً،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬شيء‭.. ‬أريد‭ ‬النوم‭. ‬ربّي‭... ‬لمَ‭ ‬كانت‭ ‬الخطيئة؟‮»‬‭.‬

ويضيف‭ ‬د‭. ‬فهمي‭: ‬وأدركتُ‭ ‬أن‭ ‬الأديبة‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬يقتحم‭ ‬عزلتها‭ ‬أحد‭. ‬فخرجتُ‭ ‬ورُدّ‭ ‬الباب‭ ‬ورائي‭ ‬في‭ ‬رفق‭. ‬وأخذتُ‭ ‬أضربُ‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬وفي‭ ‬خيالي‭ ‬صورة‭ ‬للكاتبة‭ ‬الآفلة،‭ ‬وفي‭ ‬نفسي‭ ‬تأثر‭ ‬عميق،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استقرّ‭ ‬بي‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬مقهى،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مقصف‭ ‬غير‭ ‬مأهول‭. ‬فجلستُ‭ ‬وأخذت‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭: ‬‮«‬ألا‭ ‬إن‭ ‬الحسنات‭ ‬قد‭ ‬تؤذي‭ ‬أربابها،‭ ‬وإن‭ ‬الفضائل‭ ‬قد‭ ‬تضيّع‭ ‬أصحابها‮»‬‭.‬

تسافر‭ ‬ميّ‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬ويُدخلها‭ ‬أقرباؤها‭ ‬إلى‭ ‬مصح‭ ‬العصفورية‭ (‬وهو‭ ‬مصح‭ ‬للأمراض‭ ‬العقلية‭) ‬وتظل‭ ‬فيه‭ ‬نحو‭ ‬ثمانية‭ ‬أشهر‭. ‬ثم‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المصح‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1938‭. ‬

يزورها‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬بهذا‭ ‬المستشفى،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يظفر‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يأمله‭ ‬من‭ ‬طيب‭ ‬نفس‭ ‬الأديبة‭ ‬إليه‭ ‬وفرحها‭ ‬بلقائه‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭.‬

 

عزلة‭ ‬متزايدة

من‭ ‬هذا‭ ‬المستشفى،‭ ‬تُنقل‭ ‬ميّ‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬خاص‭ ‬برأس‭ ‬بيروت‭ ‬تطلّ‭ ‬شرفاته‭ ‬على‭ ‬قمم‭ ‬الجبال‭ ‬المكللة‭ ‬بالثلوج،‭ ‬ويتمتع‭ ‬الناظر‭ ‬منها‭ ‬بجميل‭ ‬مرائي‭ ‬الطبيعة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬وروائعها‭ ‬على‭ ‬أشدّ‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬المتعة،‭ ‬وتتفتح‭ ‬أبواب‭ ‬هذا‭ ‬المنزل‭ ‬لفئة‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬خلصاء‭ ‬ميّ‭ ‬الذين‭ ‬ناصروها‭ ‬في‭ ‬محنتها،‭ ‬وجاملوها‭ ‬يوم‭ ‬انصرف‭ ‬عن‭ ‬مجاملتها‭ ‬من‭ ‬تفرّقوا‭ ‬عنها،‭ ‬حين‭ ‬أحاطت‭ ‬بها‭ ‬شجونها‭ ‬والأوصاب‭ ‬والعلل‭. ‬‮«‬وأعلم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬تركت‭ ‬هذا‭ ‬المنزل،‭ ‬ثم‭ ‬أوت‭ ‬إلى‭ (‬الفريكة‭) ‬في‭ ‬جوار‭ ‬فيلسوفها‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‮»‬‭.‬

لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬فهمي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فعل‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬تجاه‭ ‬مي،‭ ‬بل‭ ‬أضاف‭ ‬إليه‭ ‬مكرمات‭ ‬أخرى،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬سنة‭ ‬1938،‭ ‬وبدا‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يزور‭ ‬ميّ‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬خصيصاً‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬لزيارتها،‭ ‬ولكن‭ ‬ميّ‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬برنامجه‭ ‬اللبناني‭ ‬بلا‭ ‬شك‭. ‬وأياً‭ ‬كان‭ ‬الأمر،‭ ‬والله‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬العالِم‭ ‬بالقلوب،‭ ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬بتأثير‭ ‬ذلك‭ ‬الدافع‭ ‬المعنوي‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬لاقتحام‭ ‬عزلة‭ ‬مي،‭ ‬أن‭ ‬يزورها‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭.‬

‮«‬فذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬الفريكة‭ ‬وصحبتني‭ ‬زوجتي‭ ‬أم‭ ‬وائل،‭ ‬وقصدنا‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬الريحاني،‭ ‬وجعلت‭ ‬أستحثه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يهيئ‭ ‬لي‭ ‬زيارة‭ ‬لمي،‭ ‬وكانت‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬غير‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬داره‭ ‬الرابضة‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬الوادي‭. ‬وينبئني‭ ‬الريحاني‭ - ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ - ‬أن‭ ‬لميّ‭ ‬أوقاتاً‭ ‬تحرص‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬العزلة‭. ‬فأدركتُ‭ ‬أنها‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬حوزة‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬العُصاب‭ ‬والشذوذ‭ ‬الذي‭ ‬يلابس‭ ‬الجنون‮»‬،‭ ‬وأنها‭ ‬مازالت‭ ‬فريسة‭ ‬لذلك‭ ‬التفاعل‭ ‬المخيف‭ ‬الذي‭ ‬ينزل‭ ‬بنفوس‭ ‬حساسة‭ ‬مرهفة،‭ ‬تتجاذبها‭ ‬المحاسن‭ ‬والفضائل،‭ ‬وشتى‭ ‬المطالب‭ ‬والمطامح،‭ ‬فتتلف‭ ‬من‭ ‬سويّتها‭ ‬وتنحرف‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬المألوف‮»‬‭.‬

 

زيارة‭ ‬الوداع

ينقل‭ ‬د‭. ‬فهمي،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬صوراً‭ ‬أخرى‭ ‬عن‭ ‬مي،‭ ‬منها‭ ‬أنها‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬لاحقاً،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬راح‭ ‬عنها‭ ‬بعض‭ ‬الشذوذ‭ ‬الذي‭ ‬أصابها‭. ‬وفي‭ ‬صباح‭ ‬يومٍ،‭ ‬إذا‭ ‬بها‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي‭ ‬بدار‭ ‬الكتب،‭ ‬ترافقها‭ ‬صديقة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬الشقيقة،‭ ‬‮«‬جلست‭ ‬مي‭ ‬على‭ ‬متكأ‭ ‬بجواري،‭ ‬وابتسامة‭ ‬منها‭ ‬عريضة‭ ‬وموصولة،‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬إشراقة‭ ‬تُدخل‭ ‬الجالسة‭ ‬الكبيرة‭ ‬العانية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬وقور‭ ‬ونظرات‭ ‬مني‭ ‬محدّقة‭ ‬وموصولة‭ ‬ورامقة،‭ ‬تتقيد‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الجالسة‭ ‬التي‭ ‬قُدّر‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أراها‭ ‬باسمة‭ ‬في‭ ‬زيّها‭ ‬الباهي‭ ‬المنسق،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأيتها‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مباذلها‭ ‬مشعوثة‭ ‬الرأس‭ ‬باكية‭ ‬العين‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬زيارتها‭ ‬لمنصور‭ ‬فهمي‭ ‬زيارة‭ ‬الوداع،‭ ‬فقد‭ ‬ساءت‭ ‬صحتها‭ ‬وأوت‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬المعادي‭. ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي،‭ ‬وفي‭ ‬الساعات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬ثلثي‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنة‭ ‬1941،‭ ‬تهرول‭ ‬الراهبة‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬ميّ،‭ ‬وإذا‭ ‬بشهيق،‭ ‬وإذا‭ ‬بالتنفس‭ ‬يضيق،‭ ‬وإذا‭ ‬بالطب‭ ‬يخفق،‭ ‬وإذا‭ ‬بخفقة‭ ‬أخيرة‭ ‬للقلب‭ ‬الكبير‭ ‬المعذب‭ ‬الموجوع‭ ‬عند‭ ‬الضحى‭. ‬ماتت‭ ‬مي‭.‬

يُنشر‭ ‬نعيها‭ ‬واسعاً‭ ‬في‭ ‬جرائد‭ ‬العرب،‭ ‬وفي‭ ‬أسى‭. ‬ويدعو‭ ‬الاتحاد‭ ‬النسائي‭ ‬المصري،‭ ‬بلسان‭ ‬مؤسسته‭ ‬وزعيمته،‭ ‬المرحومة‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي،‭ ‬لإقامة‭ ‬حفلة‭ ‬تأبين‭ ‬لمي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المدعوين‭ ‬إليها‭ ‬منصور‭ ‬فهمي‭. ‬أُقيمت‭ ‬الحفلة‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬4‭ ‬ديسمبر‭ ‬سنة‭ ‬1941،‭ ‬وقالت‭ ‬الداعية‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬يوم‭ ‬عرس‭ ‬ميّ‮»‬‭!‬

 

في‭ ‬رثاء‭ ‬مي

ويتبارى‭ ‬الراثون‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬والشعراء‭ ‬في‭ ‬تحية‭ ‬ذكراها،‭ ‬فهذه‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭ ‬تُحسن‭ ‬فيما‭ ‬قالت‭ ‬عن‭ ‬مي‭:‬

‮«‬إن‭ ‬أكثركم‭ ‬قد‭ ‬رآها‭ ‬في‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬أضواء‭ ‬الشهرة،‭ ‬يتوّجها‭ ‬إكليل‭ ‬من‭ ‬المجد،‭ ‬وتضجّ‭ ‬حولها‭ ‬صيحات‭ ‬الهتاف‭. ‬فهل‭ ‬منكم‭ ‬من‭ ‬غالب‭ ‬الأضواء،‭ ‬فرأى‭ ‬في‭ ‬إهاب‭ ‬الكاتبة‭ ‬الشهيرة،‭ ‬الإنسانة‭ ‬التي‭ ‬تتوجع‭ ‬وتتألم‭ ‬وتتلوى،‭ ‬والناس‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬يهتفون‭ ‬لها؟‮»‬‭. ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬حطمها‭ ‬ضلال‭ ‬الأمل،‭ ‬ومزقتها‭ ‬أشواق‭ ‬الأمومة،‭ ‬ووقفت‭ ‬في‭ ‬تيه‭ ‬الحياة،‭ ‬يناوشها‭ ‬الظمأ‭ ‬والبرد‭ ‬والحرمان‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬عباس‭ ‬العقاد‭ ‬تدفعه‭ ‬شاعريته‭ ‬الصادقة‭ ‬المستعرة،‭ ‬فينشد‭ ‬قصيدة‭ ‬رائعة‭ ‬فياضة‭ ‬بالعواطف‭ ‬العامرة‭ ‬ويقول‭:‬

أين‭ ‬في‭ ‬المحفل‭ ‬ميٌّ‭ ‬يا‭ ‬صحابْ؟

عوّدتنا‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬فصل‭ ‬الخطابْ

عرشُها‭ ‬المنبرُ‭ ‬مرفوع‭ ‬الجناب

مستجيب‭ ‬حين‭ ‬يُدعى‭ ‬مستجابْ

أين‭ ‬في‭ ‬المحفل‭ ‬ميّ‭ ‬يا‭ ‬صحابْ؟

سائلوا‭ ‬النخبةَ‭ ‬من‭ ‬رهط‭ ‬الندي

أين‭ ‬ميٌّ؟‭ ‬هل‭ ‬علمتم‭ ‬أين‭ ‬ميّ؟

الحديثُ‭ ‬الحلو‭ ‬واللحنُ‭ ‬الشجيّ

والجبينُ‭ ‬الحرُّ‭ ‬والوجهُ‭ ‬السنيّ

أين‭ ‬ولّى‭ ‬كوكباه؟‭ ‬أين‭ ‬غالبْ؟

شيمٌ‭ ‬غرّ‭ ‬رضيّاتٌ‭ ‬عذابْ

وحجى‭ ‬ينفذ‭ ‬بالرأي‭ ‬الصوابْ

وذكاءٌ‭ ‬ألمعيٌ‭ ‬كالشهابْ

وجمالٌ‭ ‬قدسيٌّ‭ ‬لا‭ ‬يُعاب

كلّ‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬التراب؟‭ ‬آه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الترابْ‭!‬

ويختم‭ ‬منصور‭ ‬فهمي‭ ‬فصوله‭ ‬عن‭ ‬ميّ‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬وإني‭ ‬كغيري‭ ‬من‭ ‬العارفين‭ ‬والذاكرين‭ ‬والمؤرخين،‭ ‬سأمضي‭ ‬كما‭ ‬مضوا،‭ ‬وقد‭ ‬يفوتنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬جديراً‭ ‬بالذكر،‭ ‬وقد‭ ‬نقدّر‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُرضي‭ ‬الحق،‭ ‬أو‭ ‬يُرضي‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موضعاً‭ ‬للتقدير،‭ ‬وقد‭ ‬نُخطِّئ‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬بخطأ،‭ ‬وقد‭ ‬نصوّب‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬بصواب،‭ ‬ولكن‭ ‬روحها‭ ‬إذ‭ ‬تسبح‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبيرها‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬‮«‬الفناء‭ ‬الأنور،‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬الأوحد‮»‬،‭ ‬ستلقى‭ ‬الحكم‭ ‬القاطع‭ ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬الحاكم‭ ‬العادل،‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬حين‭ ‬يحفظ‭ ‬لها‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الرحمة‭ ‬والتكريم،‭ ‬ويضعها‭ ‬في‭ ‬مركزها‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬التمجيد‭ ‬والتعظيم‮»‬‭ ‬■