مجلة العربي والمغرب

مجلة العربي والمغرب

قد لا يثير عنوان هذه الشهادة أي دهشة، بالنظر إلى ارتباط مجلة العربي بالآفاق الجغرافية لجميع الأقطار العربية والإسلامية، منذ تأسيسها إلى اليوم، وذلك اعتبارًا للخط التحريري للمجلة ولطبيعتها المنفتحة على محيطها العام، محليًّا وعربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا، إذ يمكن القول إجمالاً إن لكل بلد تقريبًا من البلدان العربية والإسلامية حضورًا ما ونصيبًا متميزًا في هذه المجلة، من خلال أركانها المختلفة، وخصوصًا على مستوى الاستطلاعات الرائدة المصورة التي مازالت تواصل إنجازها ونشرها إلى اليوم، بهدف تقريب القارئ العربي من حضارة هذا البلد أو ذاك، والتعريف بتاريخه وثقافاته وتقاليده وعاداته وجغرافيته وقيمه وحرفه ورجالاته ورموزه وسلوكياته، ومظاهر الحياة فيه، وطموحات أهله، من منطلق إبراز الخصوصيات المميزة لهذا القطر أو ذاك في هذه الجغرافية أو تلك.

 

من هنا، فإن الفضل التاريخي لمجلة العربي على بلدان المعمورة لا يمكن إنكاره، بل يبقى كبيرًا ومضيئًا ومؤثرًا، إذ كانت هذه المجلة ولاتزال، بوابة القارئ العربي نحو العالم، بل وتساهم في التأريخ لتطور البلدان التي زارتها، مبرزة تحولاتها البنيوية، عبر إنجاز محرريها وكتّابها لأكثر من استطلاع عن مدن ومناطق متحولة في الزمن وفي الجغرافيا.
من هنا، ارتأيت أن تكون شهادتي، بمناسبة احتفالية مجلة العربي بذكراها الستين، عن طبيعة علاقة هذه المجلة الرائدة بالمغرب تحديدًا، وذلك عِوَض أن أختار الحديث عن طبيعة علاقتي الخاصة، القديمة والممتدة مع هذه المجلة، والتي قد تشبه في كثير من جوانبها علاقات آخرين بها، في أبعادها وركائزها الوجدانية والمعرفية والتثقيفية والتعليمية والتنويرية.
وبالرغم من البعد الجغرافي للمغرب عن الكويت مهد المجلة، فقد ارتبطت «العربي» بالبلاد المغاربية بشكل عام، منذ أعدادها الأولى، مجسّدة بذلك شعارًا قوميًا رفعته المجلة منذ تأسيسها «اعرف وطنك أيها العربي»، بما يدل على أن سياسة المجلة المخطط لها منذ تأسيسها كانت تراهن بالأساس على الانفتاح على محيطها العالمي العام، دون أن تسقط في شرك أي شوفينية ضيقة.

ارتباط تاريخي
ولتسليط بعض الأضواء على جوانب من الارتباط التاريخي والمعرفي والوجداني والنوستالجي القائم بين مجلة العربي والمغرب، هذا البلد الذي وإن كان هو أقصى نقطة في الوطن العربي، فقد ظل حاضرًا بقوة على صفحات المجلة، منذ عددها السادس الصادر في مايو 1959، حيث نشرت المجلة أول مقالة من المغرب، هي للمؤرخ المغربي العلّامة عبدالهادي التازي، الذي كان رئيس تحرير المجلة آنذاك، د. أحمد زكي، قد عيّنه مراسلاً للمجلة من المغرب، والمقالة المنشورة كانت عن جامعة القرويين بفاس، تلاها استطلاع أعدته ثريا بوطالب (حرم د. التازي)، نشر في العدد الحادي عشر، (أكتوبر 1959)، وهو عن المرأة في المغرب، بعنوان «فتاة مغربية تتحدث: المرأة المغربية حائرة بين حياء العرب وبهارج الغرب».
عدا أن مجموعة من أغلفة أعداد مجلة العربي مزيّنة بصور فتيات ونساء ورجال مغاربة، ومعالم ولوحات فنية مغربية، كما دأبت المجلة على ذلك منذ صدورها في مختلف أغلفتها، إذ نلمس أنه منذ العدد الحادي عشر، بدأ تفاعل أغلفة المجلة مع صور بعض الوجوه من المغرب، في تنوع تمظهرهم الاجتماعي والثقافي والفني، وفي تنوع انتمائهم الجغرافي.
وكلها استطلاعات أنجزها كتّاب ومحررون كبار متمرسون مثل، سليم زبال، وبهجت عثمان، ومحمد المخزنجي، وسليمان الفهد، ومحمد المنسي قنديل، وغيرهم من محرري المجلة، ومن الكتّاب المغاربة أنفسهم: محمد الصالحي، وعبدالرحيم العلام، وعبدالكريم جويطي، وأحمد زنيبر، في حين واكب هذه الاستطلاعات المغربية مصورون فنانون كبار، من أمثال أوسكار متري، وسليمان حيدر، وستيفاني ماجيهي، ورضا سالم، وحسين لاري، وغيرهم من المصورين والفنانين الكويتيين والمشارقة والمغاربة.

أفق إنساني
عدا ذلك، لابد من التنويه أيضًا ببعض الكتّاب من غير المغاربة، ممن ساهموا، من جهتهم، في الكتابة عن تحولات المشهد الثقافي في المغرب والتأريخ له والتعريف بذاكرته الحضارية والتاريخية والثقافية والأدبية والفنية في مجلة العربي، من بينهم أحمد محمد عطية، وعبدالوهاب شكري، ومصطفى نبيل، وعلي الراعي، ومحمد عبدالله عنان، وحسين مؤنس، وجمال الغيطاني، وأبوالمعاطي أبوالنجا، ونقولا زيادة، ومحسن مهدي، وسعيد الكفراوي، وأحمد عبدالرحمن عيسى، وراجي عنايت، وصلاح الدين المنجد، وغيرهم.
لكن قبل أن يتعمق هذا التواصل مع الأفق الإنساني والجمالي والثقافي والفكري والإبداعي المغربي، وقبل أن تتراكم إسهامات الكتّاب وأسئلتهم في تطويره وإثرائه، كان لمجلة العربي حضور سابق في المغرب، حتى قبل تأسيسها، من خلال فكرة اختيار مراسل لها من المغرب، من لدُن أول رئيس لتحريرها، الراحل د. أحمد زكي؛ كان ذلك إبان وجوده بالمغرب بصفته رئيسًا للوفد المصري في المؤتمر الإقليمي للجان الوطنية العربية لـ «اليونسكو»، وهو يستشير بالمناسبة الخبراء العرب في أمر اعتزام دولة الكويت إصدار مجلة ثقافية، بمثل استشارته معهم أيضًا في أمر تسميتها بـ «العربي» لاعتبارات معروفة، إذ حدث هذا قبل تعيينه رسميًا رئيسًا للتحرير، هو الذي يحكي في كتابه «في سبيل موسوعة علمية»، الذي جمع فيه الراحل العديد من أحاديثه وافتتاحياته العلمية، أنه تشاء المصادفات أن يعود إلى القاهرة ليجد خطاب تعيينه رسميًا رئيسًا لتحرير مجلة العربي قد وصل.

المغرب في قلب «العربي»
على هذا النحو إذا كان المغرب حاضرًا في قلب مجلة العربي وهي لا تزال مشروعًا، بمثل حضوره في وجدان دولة الكويت الزاهية وفي فكر وذاكرة مؤسسها ورؤساء تحريرها، ليتزايد بعد ذلك ويتقوى حضور المغرب في مجلة العربي إلى اليوم، باعتبار أنه شكّل دائمًا أفقًا إنسانيًّا ورمزيًّا وحضاريًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وإعلاميًّا وإبداعيًّا في المجلة، وتحديدًا من خلال عديد الرحلات والاستطلاعات التي أجرتها المجلة ونشرتها عن المغرب وعن مدنه ومناطقه العديدة، من شماله إلى عمق صحرائه: أغادير، والرباط، وإفني، وجبال الأطلس بمدنها وبلداتها المختلفة، وتافراوت، والدار البيضاء، والقنيطرة، ومكناس، وطنجة، وورزازات، وأصيلة، وفاس، وإفران، ومراكش، وتطوان، والرشيدية، والصويرة، وبني ملال، وسلا، وكذا عن مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من طرف الإسبان، وغيرها من المدن والمناطق التي زارتها المجلة وأنجزت عنها استطلاعات مطولة ومهمة، بل وحظيت بعض المدن والمناطق، على امتداد أعداد المجلة، بأكثر من استطلاع، أي على مدى ستين سنة من رحلات «العربي» إلى البلاد العربية والإسلامية والغربية.
وبهذا وغيره، تكون «العربي» قد ساهمت بشكل مضيء في التأريخ لتحولات عديد من المناطق والمدن والفضاءات المغربية، في مكوناتها وبنياتها العمرانية والجغرافية والمعيشية المختلفة، فضلاً عن تخصيص بعض المعالم والمؤسسات العلمية والثقافية المغربية وبعض الطقوس المحلية باستطلاعات معيّنة، من قبيل: جامعة القرويين، وأكاديمية المملكة المغربية، ومسجد الحسن الثاني، ومسجد أهل فاس، وجبال الأطلس، وموسم الخطوبة بإملشيل، والمكتبة الوطنية وغيرها، بما هي استطلاعات رصدت في جوانبها المختلفة حضارة المغرب ومآثره وأساطيره وقبائله وأريافه وأحواضه وصحراءه ومعالمه وسدوده وسياسته المائية وعمقه الجغرافي والثقافي والاجتماعي. 

تجربة فريدة
وتشاء المصادفات أيضًا أن يتم جمع العديد من هذه الاستطلاعات المصورة ونشرها في مجلد بعنوان «المغرب ناس وحضارة... رحلات مجلة العربي للمدن المغربية»، في تجربة فريدة من نوعها مع استطلاعات المغرب، تم إصداره بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للمجلة، في إطار الاحتفاء بالذكرى الثلاثين لموسم أصيلة الثقافي الدولي، في شهر أغسطس 2008، وهي في الحقيقة، كما عبّر عن ذلك وزير الإعلام الكويتي آنذاك الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، في تقديمه لهذا الكتاب، تشكّل رافدًا واحدًا من روافد عديدة جمع القطرين الشقيقين على مستويات عديدة من التعاون في مختلف المجالات، وعلى مستوى العمل الثقافي المشترك على نحو خاص، أكدت وما زالت، عمق الروابط المشتركة، وأهمية الدور الثقافي الذي يؤديه البلدان في تعميق المشهد الثقافي العربي بشكل عام.
وطبيعة هذا الحضور المكثف والممتد للمغرب في مجلة العربي، هو ما جعل المغرب، وفق رئيس تحرير المجلة وقتئذ، د. سليمان العسكري، في افتتاحيته للكتاب المذكور «يظفر من بين كل بلدان المغرب العربي بأكبر قدر من الرحلات ومحاولات الاستكشاف من جانب مجلة العربي، فهو المخزن الأشمل للثقافة العربية والإسلامية في ذلك الجناح الغربي من عالمنا العربي (...)، كما أن الجغرافيا والتضاريس المختلفة قد تركتا بصماتهما على العادات والتقاليد وأساليب ونمط المعيشة، وجعلتا من المغرب نسيجًا بالغ الثراء على المستوى البصري والفكري، بصورة لا يضاهيها أي بلد عربي آخر. من هنا كان السفر المتواصل لمجلة العربي لأرض الرحالة الكبار».

حوارات «العربي» في المغرب
أما على مستوى الموضوعات والقضايا ذات الصلة بالمغرب، والتي رصدتها المجلة، فيمكن تحديد معظمها، من خلال ما استقيناه من ملفات أعدتها المجلة في موضوعات مختلفة، تهم حضارة المغرب وتاريخه، والفن الإسلامي في المغرب، والزجل الشعبي في المغرب، والقصة القصيرة، والرواية، والتشكيل، والأدب المغربي، والفكر المغربي، والكاريكاتير في المغرب، و«رمضان» في فاس، فضلاً عن مواصلة نشر المجلة عديدًا من الدراسات والمقالات والنصوص والترجمات لمفكرين وباحثين ومبدعين مغاربة من مختلف الأجيال، يصعب حصر عددهم وأسمائهم في مقام كهذا.
كذلك لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن مجلة العربي قد اهتمت بشكل كبير ولافت بإنجاز سلسلة من الحوارات مع عديد من المسؤولين والمفكرين والكتّاب والفنانين المغاربة، وخصوصًا من خلال ذلك الركن الشهير في المجلة المسمى «وجهًا لوجه»، نذكر من بين هؤلاء: عبدالهادي التازي، ومحمد برادة، ومحمد عابد الجابري، وعبدالكريم غلاب، ومحمد شكري، ومحمد بنيس، والعربي الصبان، ومحمد مصطفى القباج، وعبدالكريم برشيد، وبوشعيب الضبار، ومحمد بن عيسى، وكمال عبداللطيف، ومحمد الأشعري، وعبدالواحد منتصر، وغيرهم.
فيما يحضر المغرب التاريخي في المجلة، من خلال بعض رجالاته وأعلامه القدامى والمحدثين، من أمثال طارق بن زياد، وعقبة بن نافع، وعبدالله بن ياسين، وابن بطوطة، ويوسف بن تاشفين، وابن زاكور، والتهامي لكلاوي. 

مدرسة حقيقية
فضلاً عن ذلك، كان لصوت المثقف والكاتب والمبدع المغربي ولايزال إلى اليوم حضور لافت في مجلة العربي، التي يدين لها المغرب الثقافي بالشيء الكثير، وقد بقيت دائمًا مرحّبة بصوت الثقافة والفكر والإبداع المغربي، من خلال استضافتها لمساهمات عديد الأقلام، من مختلف الأجيال والحساسيات والاهتمامات، كلّ في مجاله، إذ يصعب، والحالة هذه، تحديد طبيعة مساهماتهم، بما في ذلك تحكيمهم، لدورات عديدة، لتلك المسابقة الإبداعية الشهيرة «قصص على الهواء».
وكان لابد من الإشارة في إطار الوظيفة التنويرية والتوعوية والتثقيفية والمعرفية الموسوعية لمجلة العربي من كونها تشكّل، بالنسبة إلى المغاربة، مدرسة حقيقية للتعلم والتثقيف والتوعية، ومرجعًا لا مناص منه لشريحة واسعة من القراء والمتعلمين، في تكوين شخصياتهم وانفتاحهم على العالم، وفي صقل مواهبهم ولغتهم، متحدية بذلك الهيمنة التي كانت للغة الفرنسية، بمثل ما مكّنتهم من تمثّل المتغيرات الثقافية الإنسانية وقرّبتهم من عالم المعرفة ومن رموزها ووجوهها الخالدة، بما لعبه ذلك كله من تأثير في وجدانهم وفي توسيع خيالهم وأفقهم الثقافي والمعرفي، بل وشكلت «العربي» - لفترة زمنية - وسيلة للبعض، فاعتمدوها مرجعًا في التدريس، في وقت كانت فيه المجلة هي سيدة المجلات ومنبر الثقافة الموسوعية في بلادنا العربية، بمثل ما شكّلت موادها مرجعًا أساسيًا في بعض الأطاريح والأبحاث الجامعية والنقدية.
كل التقدير والامتنان والعرفان لمجلة العربي الغراء، وهي تحتفي ومعها المغرب الثقافي، بذكراها الستين، وكل التحية والوفاء والاعتبار لجميع رؤساء تحريرها ممن تعاقبوا على إدارتها وعلى رئاسة تحريرها، ولكل العاملين والمتعاونين ممن ساهموا، كلّ من موقعه، في خدمة هذه المجلة وتطويرها، وفي جعلها تواصل أداء رسالتها التنويرية النبيلة، بكل إصرار وثبات، بشكل جعل منها - منذ تأسيسها - منارة بارزة في سماء الثقافة العربية والإسلامية، رغم كل الرياح التي واجهتها، ورغم الثورة التكنولوجية الحديثة التي تنافسها على مستوى البعد المرئي فيها ■