الأنا الشاعرة في قصائد أحمد الصافي النجفي
أحمد الصافي النجفي من كبار شعراء العالم العربي، وأكثرهم جذباً للاهتمام، لتفرّده في كل شيء تقريباً، فهو منذ غادر العراق لآخر مرة وهو حديث الصحف والمجلات والإذاعات، حتى ليبدو غريباً عن بني جنسه، أو قليلون هم من يماثلونه في تصرفاته وطرق حياته، فهو متفرد في ملبسه ومأكله ومسكنه وآرائه وشعره، عاش حياة الزهد والحاجة، إلا أنه كان سريع البديهة خفيف الظل أبيّ النفس متواضع الجانب والهندام حتى اللامبالاة، وهو يعبّر عن معظم هذه الحالات في قصائده ومجالسه وأحاديثه.
وتعتبر الأنا الشاعرة الصفة الملازمة له في معظم قصائده وأحاديثه مع الآخرين، فهو شديد التعصب لشعره والتنويه به.
الأنا الشاعرة، أو الذاتية التي انفرد فيها النجفي عن شعراء العربية، باستثناء المتنبي الذي تماهى معه في هذا الميدان، وتتجلى الأنا الشاعرة لدى النجفي عبر ثلاثة اتجاهات: أولاً مديحه بنفسه في قصائده، ثانياً تماهيه مع المتنبي في هذا الميدان، ثالثاً المدرسة النقدية التي يرسمها في شعره، ورابعاً المقاربات اللفظية نظير الجناس والطباق.
تأخذ الأنا الشاعرة مساحة كبيرة من شعر النجفي، إذ قلّما مرت قصيدة معه دون أن يكون هذا المفهوم حاضراً بقوة، ولا أظن أن أحداً من الشعراء الماضين والمعاصرين النجفي المولود في النجف الأشرف عام 1872م – في حديثه عن شعره والدفاع عنه والاهتمام به، حتى قائل هذا البيت المتنبي نفسه حيث قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلقُ جراها ويختصم
لم يهتم ويشر إلى شعره بهذا المقدار الذي أشار إليه النجفي، ولعل حياة النجفي هي التي فرضت عليه هذا الاتجاه البارز في شعره، فهو منذ غادر العراق إلى سورية ولبنان عاش وحيداً لم يشاركه أحد في طعام أو شراب، ولا في مسكن أو إقامة، ولم يكن ملتزماً بمهمة أو مهنة أو وظيفة ما، كان الشعر هو بيته وملبسه وأنسُه ورفيقه في حله وسفره، وفرحه وحزنه، عاش من أثمان دواوينه ومن راتب شهري قدره مئة وخمسون ديناراً، ولم يرض أن يكون مئتين، قدمته إليه الحكومة العراقية عبر سفارتها في لبنان.
من هنا كانت هذه العلاقة الحميمة بين الشاعر وشعره، دافع عنه في مواجهة من حاولوا النَّيل منه ومن مكانته وقيمته، حتى بات الصافي وشعره كياناً واحداً، تمثل في هذه الأنا الشاعرة، وهو رغم حياة الفقر والعوز التي عاشها كان عزيز النفس أبيّ الضيم، لم يحن رأسه لحاكم، ولم يتزلف ولم يقبل منحة أو هدية من أحد رغم حاجته وفقره، حتى أنه رفض مساعدة ثمينة وعباءة قدمهما له الرئيس السوري شكري القوتلي، علاوة على هدايا أخرى رفضها من متنفذين سياسيين وغير سياسيين، لذلك حرص على بقاء شعره نقياً بعيداً عن أسواق الكساد.
وتتألق أناه الشاعرة عندما اختصر الوجود وجعله في قبضته:
أين تبغي دنيا وتبغي بلاداً
أنا وحدي الدنى ووحدي البلاد
إنها الأنا الشاعرة بملء فيها، لقد اختزل الدنيا والبلاد بشخصه، فليس لشاعريته حدود، إذ يختصر الوجود بأسره، هذه الأنا الذاتية أو الشاعرة نجدها في مقاطع كثيرة من شعره، هو يشعر بالتفوق الشعري والذاتي على من سواه، علماً بأنه متواضع في الأمور الأخرى، في المأكل والمشرب والمنزل وفي علاقاته مع الآخرين، وتواصله مع الكبير والصغير والقريب والبعيد، سِمة رافقته طوال حياته.
إلا أنه في الشعر لا يعترف بتفوق أحد عليه، فهو كما يدعي في شعره نظير المتنبي وشبيهه في المكانة والموقع، وهو القائل:
إلى الشعر يأتي كل ألفٍ مجددٌ
فبعد نبي الشعر أحمد أحمدُ
وسنأتي على علاقته بالمتنبي في مكان آخر.
ويشير النجفي إلى أناه الشعرية في محطات كثيرة ومعان مختلفة تضمنتها دواوينه التي تربو على العشرين، ومن صور هذه الأنا قوله مجلّاً شعره:
مرآة هذا الوجود شعري
تبصر عصري بها وذاتي
إن مثلت في الحياة سميناً
فالعيب لا شك في الحـياة
بهذه المبالغة الواضحة يرى النجفي شعره مرآة الوجود كله، وقلّما تمر قصيدة في دواوينه إلا ولأناه الشاعرة فيها نصيب، إلحاح على عظمته الشعرية عبر سيل من القصائد.
وتفيض أناه الشاعرة غضباً في مواجهة الذين ينالون من مقامه الشعري، فهو مفرد لا يماثله أحد في عظمته الشعرية ومكانه المرموق:
تفردت بالإبداع فــي ما أقوله
فكل الذي قد قلت مصدره حِسِّي
ولست لما أتلو من الشعر تابعاً
فكل الذي أتلو غريب على نفسي
وشعره يأتي من أمكنة لا يعرفها أحد حتى وهو لم يبلغ في أناه الشاعرة مدى لم يبلغه أحد سوى مشبهه المتنبي بدليل قوله متباهياً مفاخراً:
سموت بشعري فوق جيلي ولم
يشك بشعري معشر البلهاء
فإن لم أكن من أمة الشعر تابعاً
أكن أمة أغلى من الشعراء
ويذهب أبعد من ذلك، فيعظم شعره أيما تعظيم، حتى ليكاد يقول كأنه من الغيب، ينتزعه من دم القلب وينقذه من أنياب الأسر والموت.
تُسر برؤية شعري الجميل
ولم تدر من أين أحضرته
نفذت به من ثنايا الخطوب
ومن دم قلبي روَّيته
وليد الحروب بساحِ الكفاح
من الموت والأسر أنقذته
وفي قصيدته لي ولكم يعلنها طلاقاً مع المغبطين شعره:
يا قوم ما لي مشكلٌ معكم
لقد اقتسمنا وانتهى الأمر
لكم الثمار تُباع رابحةً
ولي المروج الخضر والزهر
ولكم مدينتكم وما ضمت
ولي النعيم الحلو والعطر
وتصل قصائده سدرة المنتهى، فهناك نور شعره يبهر الأبصار:
إن شعري بالكهرباء مليء
ملهب الحس والحجى والشعور
لي نور لسدرة الخلد يُمنى
ولذا يبهر المناظر نوري
ومن مظاهر هذا الغلو في مدح الذات والافتخار قوله من «الهواجس»:
سألتني الشعراء أين أميرهم؟
فأجبت إيليا بقول مطلق
قالوا: وأنتَ، فقلتُ: ذاك أميركم
فأنا الأمير لأمة لم تخلقِ
ويبلغ الاحتفاء بالذات أقصى مداه عندما يستهزئ بأعدائه:
صفعتهم حتى برى صفعهم يدي
ودستهم حتى غدا النعل بالياً
ركلتهم دهراً فأصبحت أعرجاً
وألقمتهم نعلي فأصبحت حافياً
ويمتلك المتنبي روحاً ونفساً لا مثيل لهما:
كأني مليك بالفخار متوج
وليس له جند سوى البأس والحلم
تراه ونور الحق شارة ملكه
وقانونه نشر المحبة والسّلْم
ويمعن النجفي احتفاءً بشعره، تلك الأنا المتوجة بروح الشعر، وهذا السمو بالنفس الذي يتجلى عندما يُشبَّهُ نفسه بنوح الشعر، الشعر الذي لا منجٍ لسفينته سواه.
سفينة الأشعار لمّا هوت
في بحرها كنتُ لها نوحها
أفرغتُ في الأشعار روحي كما
أفرغت الأشعار فِيَّ روحها
وقوله:
شعري كقصر منه لو رفعوا
حجراً تهدم ذلك القصر
يا للعظمة، إلى هذا الحد تذهب الأنا الشعرية عند النجفي، ولا أظن أن أحداً سبقه في هذا الاعتداد بالنفس وبالأنا الشاعرة سوى المتنبي.
الصافي والمتنبي
يتماهى الشاعر النجفي كثيراً مع أبي الطيب المتنبي، فهو يرى نفسه فيه، وأنه على منواله وشاكلته، ولذلك حفلت دواوين الصافي بقصائد ومقطوعات شعرية يشير فيها إلى المتنبي، ويقارن نفسه به، ويرى أنه مثله شعراً ومكانة وحضوراً، خاصة لجهة الفرادة والعظمة في الشعر، وهناك شواهد على هذا التماثل بين الشاعرين، أبي الطيب المتنبي وأحمد النجفي.
يقول النجفي مقدماً نفسه على سائر الشعراء، واضعاً إياها على مسافة واحدة مع المتنبي:
إلى الشعر يأتي كل ألفٍ مجدَّد
فبعد نبيّ الشعر أحمدَ أحمدُ
أسير كما توحي إليَّ سريرتي
فإن شئتُم أن تهتدوا فَبِيَ اهتدوا
وفي قصائد كثيرة من ديوانه، احتفى المتنبي كثيراً بشعره ومدحه واعتبر نفسه وشعره فوق ما يقول القائلون ويبدع الشعراء، يقول المتنبي:
إن هذا الشعرَ في الشعر مَلكْ
سار فهو الشمسُ والدنيا فلَك
عدلَ الرحمنُ فيه بيننا
فقضى باللفظِ لي والحمدِ لك
فإذا مرَّ بأُذنيْ حاسدٍ
صار مِمَّن كان حَياً فهَلَكَ
وينأى المتنبي بنفسه عن سائر الشعراء، فهو السباق الذي يدرك وينظم ما لا يستطيعون الإتيان بمثله:
أتنكُر ما نطقتُ به بَديهاً
وليسَ بمُنْكَرٍ سبقُ الجوادِ
أراكِضُ مُعوصاتِ الشعرِ قَسراً
فأقتُلُها وَغَيري في الطرادِ
ويقول:
أنا السابق الهادي إلى ما أقولُهُ
إذِ القولُ قبلَ القائلين مقولُ
أو قوله في قصيدة لظى:
سيعجب من شعري وما فيه من لظى
أو الجهل إذ لم يدرك السر في الوقد
وشر خصوم المرء من قلّ شأنه
فلا حربه تشفي ولا هجوه يجدي
وتتوافق هذه الأبيات مع المعنى الذي أشرنا إليه وهو التماثل بين المتنبي والصافي النجفي في محطات كثيرة، إذ تصل قصائده سدرة المنتهى حيث الأنبياء والمقربون، كما ذكرنا آنفاً:
ويتماهى النجفي إلى حد بعيد بالمتنبي عندما يقول:
أيّ مــحـــــــــــــــــــــــــــــــــــل أرتــــــــــقــــــــــــــي
أي مـــكــــــــــــــــــــــــــــــــان أتـــــــــــــــــــــقــــــي
وكلّ ما خلق الله
وما لم يخلق
محتقرٌ في همّتي
كشعرةٍ في مفرقي
وذلك في قول الصافي:
لا أرى أكــــــــــــــــــبــــــــــــــر مــــــــــــــــنــــــــي
لا أرى مـــــــــــــــنـــــــــــــــي أصــــــــــغــــــــــر
إن أجِدْ أكــبر مـــني
واحداً، فالله أكبر
ويتألق أبوالطيب وهو يخاطب سيف الدولة غير راءٍ سوى نفسه في هذا العنوان الأشد، حيث يصدح بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ويقابله الصافي النجفي بقوله:
دنياي من الأشعار أوجدتها
ما هذه الدنيا وما أختها
دنياي لا يدخلها شاعر
فتحتها حينًا وأغلقتها
إلى هذا الحد يتماهى النجفي مع المتنبي، فهو يرى نفسه فيه، وأنه على منواله وشاكلته، لذلك حفلت دواوينه بقصائد ومقطوعات شعرية تشير إلى التماثل بينهما.
ولعل من المستحسن ألا نغفل أبياتاً أخرى في هذا الميدان يزاحم فيها النجفي نديمه أبا الطيب المتنبي:
قد قيل في الشعر حلّق
فأنت في الشعر فحل
فقلت أعلو وأدنو
وأين شئت أحل
ولي بكل محل
من الوجود محل
والشاعر الحر نسر
يسف حيناً ويعلو
وعدا عن ذلك، فقد نعثر في دواوين الشاعرين على نماذج كثيرة في هذا الباب، تدل على تأثر النجفي الشديد بأبي الطيب المتنبي، خاصة أن كلا منهما يحمل عزة النفس وكبرياء الروح.
المقاربات
المقاربات إحدى سمات أسلوب الصافي النجفي، وقد حفلت القصائد بكمّ كبير من هذه الألفاظ التي هي نظير الجناس والطباق، وتعد أسلوباً إيقاعياً يسهم في غنى الأداء الموسيقي في الأبيات، ومن الشواهد على ذلك – وهي كثيرة – قوله من قصيدة «من الحقائق العارية» بديوان الأمواج.
أهوى الحقيقة من لباسِ الوهم تبدو عارية
أهوى اللباب بلا قشور للنواظر بادية
أهوى العداوة لا تجيءُ بثوب وُدٍ حالية
والصدق عارٍ خالع لثياب كذب بالية
ويفوق دعوى العلم بيـنَ المدْن جهل البادية
هذا الحجاب وذا السفو رُ لدى العقول العارية
في الحال والماضي نقلـ د والعصور الآتية
هذا بعض من هذه القصيدة التي تعتبر المقابلات اللفظية فيها من لُب معماريتها الموسيقية (الحقيقة والوهم، اللباب والقشور، العلم والجهل، الحجاب والسفور، الحال والماضي).
وفي قصيدة «في مستشفى وطني» من الديوان نفسه، الأمر نفسه أبيات تعمرها الألفاظ المتجانسة أو المتعارضة:
تشاهد للحياة هناك بابا
وأبواباً تشاهد للممات
ترى باب الحياة عليه قفل
وأبواب الممات مفتحات
ففيه لكل ذي مال شفاء
وموت للنفوس البائسات
والأمر واضح في المقابلة بين الحياة والممات، وبين قفل ومفتحات، وذو المال والبائسات.
ويقول الصافي النجفي:
لغة النثر تكتم الحق خوفاً
لغة النظم تنطق الحق جهراً
والمقابلات هنا بين النثر والنظم، والكتم والجهر، وخوفاً وجهراً.
والمقابلة التالية بين شطرَي بيت من الشعر، قوله من ديوان أشعّة:
هذا يرق لذي بؤس فيطعمه
وذاك يسلب خبز البائس الحافي
والجناس في المقابلة اللفظية التالية:
لا تسلني عن جديد الخبر
بل فسلني عن جديد الخطر
(لا تسلني وسلني، والخبر والخطر).
وفي قصيدة الحيرة سيل من الألفاظ المتناقضة التي تسيطر على جوّ النص الشعري.
تعبت في مفاوز الشك نفسي
هل يقين في ظله تستريح
المقاربة الضدية وقعت بين تعب واستراحة، وبين الشك واليقين.
وفي قصيدة «وداع الحرية»، وهي من بيتين فقط، وهي على سبيل المقاربة الضدية، والبيتان هما:
من كوة السجن ألقي
نفسي بدون توانِ
أودّع العيش حراَ
ولو لبضع ثوان
فالتضاد وقع بين كوة السجن والحرية، وبدون ثوان وبضع ثوان، وأودع وألقي، وعلى هذا المنوال في قصيدته الصغيرة «مبتكر»، لا يكف الشاعر عن هذه الاستعمالات.
كل شعري نادر مبتكر
شعر غيري مثل غيري هذر
كيف لا أعطي لكم مبتكراً
مثل شعري شخصي المبتكر
المقابلات الضدية هنا بين شعري وشعر غيري، وبين مبتكر وهذر.
ويطول الحديث عن هذه الأصناف، وهي كثيرة وميزة أساسية في شعر الصافي النجفي.
وهو في هذه الرحلة الشعرية المثيرة والنادرة قيل فيه الكثير ومعظمه إطراء ومديح.
النجفي والنقد
تمر في قصائد النجفي ومضات نقدية حول الشعر والشعراء، يبدي فيها رأيه ويعلل ما يذهب إليه، ومن ذلك منتقداً النقد الذي يشيد بالأشعار المفككة الضائعة.
قريضي يملأ الأسماع وقراً
ونقد يعشق الأشعار هذرا
وفي سياق النقد يغمز الصافي النجفي من قناة المقلدين الذين يهدمون بعملهم روح الشعر، ثم يوازن بين ما قدموه من قصائد وبين ما قدمه أمامهم من شعر يصغر أمامه شعرهم المهيض الضعيف:
ومقلدين من القريض صياغة
ومهدمين لروحه تهديما
عرضوا عليّ فنونهم فأريتهم
شعرا يحطم فيهم تحطيما
ويهاجم النجفي النقاد الذين لا يضمرون فيما يقولون إلا الخبث، متهماً إياهم بالشعوذة، كاشفاً نواياهم التي لا تخدم الشعر، لذلك جعل الشاعر ذوقه له ناظماً أميناً.
رضيت من ذوقي لي ناقداً
إن صحت عند النظم: هذا جميل
ما اتخذوا النقد لهم حرفة
إلا لخبث في النوايا أصيل
ويحذّر من السرقة في الشعر، وقد سمى الذين يمتهنون هذه الصفة باللصوص، وهو يعبر عن هذا المفهوم بطريقة لطيفة حيث قال:
أرى لصوصاً في القريض أضحت
تسرق من شعري بلا اكتراث
كأنهم قد حسبوني ميتاً
وأنهم من جملة الورَّاث
ومن صور النقد التي يشير إليها عندما اعتبر بعضهم أن معظم شعره من الأصداف، وليس فيه إلا قليل من الدر:
يقولون لي أصداف شعرك جمّة
ويا ليت ما قد قلته كلّه در
فقلت وبحر الشعر كالبحر جامع
وفي بحر شعري ما حوى البر والبحر
ويقف النجفي من النقاد موقفاً معادياً هجومياً، إذ يعتبرهم مشعوذين لا يبتغون من وراء النقد إلا الخبث والسوء:
ما اتخذوا النقد لهم حرفة
إلا لخبث في النوايا أصيل
دعني أقل ما شئت ولينقدوا
فالدهر بالخالد منا كفيل
وهو لا يعبأ أصلاً بالنقد ولا يعترف به، ويهاجم المنتقدين بألسنة حداد، لذلك لم يقلد هو أحداً، ولم يقلد أحد شعره، أو لن يستطيع أحد تقليده:
حماني من التقليد ما عشت أنني
إذا رمتُ أمراً لم أجد من أقلد
وفي هذا الباب ينتقد الذين يتاجرون بالشعر، والنقاد الذين يهاجمون شعره:
الشعر روح فذة قدسية
خصَّ الإله بها أجلّ الناس
والشاعرون هم الملائكُ موِّهوا
بين الأنام بمظهر ولباس
من يتّجر بالشعر يفقد قدسه
فالشر مخلوق مع الإفلاس
وهو صاحب مدرسة في الشعر لها قوانينها وأصولها وشرعة تنظمها، وفيه من الجمالية والمعجزات الكثير، تقود وتعلّم الناس فن الشعر، كما أن حياته الفياضة بالتجربة تعلمهم الحياة:
ولي في الشعر مدرسة وشرع
وآيات تلوح ومعجزات
أعلّمكم بشعري الشعر، لكن
تعلمكم حياتي ما الحياة
وأخيراً... لا يتعب الصافي من وصف شعره والإشارة إليه، لأنه هو نفسه بكل ما فيها من حزن وفرح وهدوء وصخب:
غرابة شعري من غرابة أوضاعي
ومادي ما عندي يُسمى إبداع
شعري مرآتي ولا تعبٌ به
وهل تتعب المرآة من عكس أوضاعي؟
وفي نسيج عاطفي مؤثر يعبّر عن هذا الالتصاق بين الثلاثي: الصافي والشعر والوطن، يصدح الشاعر من على سلّم الطائرة التي أقلته إلى وطنه العراق، بعد غياب ناف على الأربعين سنة مخاطباً بغداد قائلاً:
يا عودة للدار ما أقساها
أسمع بغداد ولا أراها
أيكفي السمع دون الرؤية في أشد حالات الوجد خلوداً؟
لعله وجد بغداد مستاءة منه لغيابه عنها أكثر من أربعة عقود، فراح يدغدغ مشاعرها ويهدئ من روعها في هذه الأبيات الحميمة:
بغداد حار المادحون بوصفها
زين البلاد كثيرة الأوصاف
كانت تحنّ لقطعة من قلبها
عادت إليها يوم عاد الصافي
إنها عودة الفارس المثخن بالجراح، جراح الوطن والأمة والفقر والعوز ... كانت آخر أبيات تلفّظ بها قبل رحيله بعد عودته إلى بغداد بأشهر:
حفلت بغداد بي
ترفع شأني وتغالي
رؤيتي بغداد أحلى
لي من ألف احتفال
حلماً كانت بنفسي
شاغلاً كل خيال
دائما أسمعُ عن
إدراكها حدَّ الكمال
حُرِمَتْ من حُسْنِها
عيناي في يومِ الوصال■