الأنا الشاعرة في قصائد أحمد الصافي النجفي

الأنا الشاعرة في قصائد أحمد الصافي النجفي

أحمد‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬شعراء‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وأكثرهم‭ ‬جذباً‭ ‬للاهتمام،‭ ‬لتفرّده‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريباً،‭ ‬فهو‭ ‬منذ‭ ‬غادر‭ ‬العراق‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬وهو‭ ‬حديث‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬والإذاعات،‭ ‬حتى‭ ‬ليبدو‭ ‬غريباً‭ ‬عن‭ ‬بني‭ ‬جنسه،‭ ‬أو‭ ‬قليلون‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يماثلونه‭ ‬في‭ ‬تصرفاته‭ ‬وطرق‭ ‬حياته،‭ ‬فهو‭ ‬متفرد‭ ‬في‭ ‬ملبسه‭ ‬ومأكله‭ ‬ومسكنه‭ ‬وآرائه‭ ‬وشعره،‭ ‬عاش‭ ‬حياة‭ ‬الزهد‭ ‬والحاجة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬سريع‭ ‬البديهة‭ ‬خفيف‭ ‬الظل‭ ‬أبيّ‭ ‬النفس‭ ‬متواضع‭ ‬الجانب‭ ‬والهندام‭ ‬حتى‭ ‬اللامبالاة،‭ ‬وهو‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬ومجالسه‭ ‬وأحاديثه‭.‬

وتعتبر‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬الصفة‭ ‬الملازمة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬قصائده‭ ‬وأحاديثه‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬فهو‭ ‬شديد‭ ‬التعصب‭ ‬لشعره‭ ‬والتنويه‭ ‬به‭.‬

الأنا‭ ‬الشاعرة،‭ ‬أو‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬انفرد‭ ‬فيها‭ ‬النجفي‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬العربية،‭ ‬باستثناء‭ ‬المتنبي‭ ‬الذي‭ ‬تماهى‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان،‭ ‬وتتجلى‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬لدى‭ ‬النجفي‭ ‬عبر‭ ‬ثلاثة‭ ‬اتجاهات‭: ‬أولاً‭ ‬مديحه‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬قصائده،‭ ‬ثانياً‭ ‬تماهيه‭ ‬مع‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان،‭ ‬ثالثاً‭ ‬المدرسة‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬ورابعاً‭ ‬المقاربات‭ ‬اللفظية‭ ‬نظير‭ ‬الجناس‭ ‬والطباق‭.‬

تأخذ‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬النجفي،‭ ‬إذ‭ ‬قلّما‭ ‬مرت‭ ‬قصيدة‭ ‬معه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬حاضراً‭ ‬بقوة،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الماضين‭ ‬والمعاصرين‭ ‬النجفي‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬النجف‭ ‬الأشرف‭ ‬عام‭ ‬1872م‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬شعره‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه‭ ‬والاهتمام‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬قائل‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المتنبي‭ ‬نفسه‭ ‬حيث‭ ‬قال‭:‬

 

أنام‭ ‬ملء‭ ‬جفوني‭ ‬عن‭ ‬شواردها‭    

ويسهر‭ ‬الخلقُ‭ ‬جراها‭ ‬ويختصم

 

لم‭ ‬يهتم‭ ‬ويشر‭ ‬إلى‭ ‬شعره‭ ‬بهذا‭ ‬المقدار‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬النجفي،‭ ‬ولعل‭ ‬حياة‭ ‬النجفي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬البارز‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬فهو‭ ‬منذ‭ ‬غادر‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان‭ ‬عاش‭ ‬وحيداً‭ ‬لم‭ ‬يشاركه‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬طعام‭ ‬أو‭ ‬شراب،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬مسكن‭ ‬أو‭ ‬إقامة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ملتزماً‭ ‬بمهمة‭ ‬أو‭ ‬مهنة‭ ‬أو‭ ‬وظيفة‭ ‬ما،‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬بيته‭ ‬وملبسه‭ ‬وأنسُه‭ ‬ورفيقه‭ ‬في‭ ‬حله‭ ‬وسفره،‭ ‬وفرحه‭ ‬وحزنه،‭ ‬عاش‭ ‬من‭ ‬أثمان‭ ‬دواوينه‭ ‬ومن‭ ‬راتب‭ ‬شهري‭ ‬قدره‭ ‬مئة‭ ‬وخمسون‭ ‬ديناراً،‭ ‬ولم‭ ‬يرض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مئتين،‭ ‬قدمته‭ ‬إليه‭ ‬الحكومة‭ ‬العراقية‭ ‬عبر‭ ‬سفارتها‭ ‬في‭ ‬لبنان‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬وشعره،‭ ‬دافع‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬من‭ ‬حاولوا‭ ‬النَّيل‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬مكانته‭ ‬وقيمته،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬الصافي‭ ‬وشعره‭ ‬كياناً‭ ‬واحداً،‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة،‭ ‬وهو‭ ‬رغم‭ ‬حياة‭ ‬الفقر‭ ‬والعوز‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬كان‭ ‬عزيز‭ ‬النفس‭ ‬أبيّ‭ ‬الضيم،‭ ‬لم‭ ‬يحن‭ ‬رأسه‭ ‬لحاكم،‭ ‬ولم‭ ‬يتزلف‭ ‬ولم‭ ‬يقبل‭ ‬منحة‭ ‬أو‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬رغم‭ ‬حاجته‭ ‬وفقره،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬رفض‭ ‬مساعدة‭ ‬ثمينة‭ ‬وعباءة‭ ‬قدمهما‭ ‬له‭ ‬الرئيس‭ ‬السوري‭ ‬شكري‭ ‬القوتلي،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬هدايا‭ ‬أخرى‭ ‬رفضها‭ ‬من‭ ‬متنفذين‭ ‬سياسيين‭ ‬وغير‭ ‬سياسيين،‭ ‬لذلك‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬بقاء‭ ‬شعره‭ ‬نقياً‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أسواق‭ ‬الكساد‭.‬

وتتألق‭ ‬أناه‭ ‬الشاعرة‭ ‬عندما‭ ‬اختصر‭ ‬الوجود‭ ‬وجعله‭ ‬في‭ ‬قبضته‭: ‬

 

أين‭ ‬تبغي‭ ‬دنيا‭ ‬وتبغي‭ ‬بلاداً‭        

أنا‭ ‬وحدي‭ ‬الدنى‭ ‬ووحدي‭ ‬البلاد

 

إنها‭ ‬الأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬بملء‭ ‬فيها،‭ ‬لقد‭ ‬اختزل‭ ‬الدنيا‭ ‬والبلاد‭ ‬بشخصه،‭ ‬فليس‭ ‬لشاعريته‭ ‬حدود،‭ ‬إذ‭ ‬يختصر‭ ‬الوجود‭ ‬بأسره،‭ ‬هذه‭ ‬الأنا‭ ‬الذاتية‭ ‬أو‭ ‬الشاعرة‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬مقاطع‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬شعره،‭ ‬هو‭ ‬يشعر‭ ‬بالتفوق‭ ‬الشعري‭ ‬والذاتي‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬سواه،‭ ‬علماً‭ ‬بأنه‭ ‬متواضع‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الأخرى،‭ ‬في‭ ‬المأكل‭ ‬والمشرب‭ ‬والمنزل‭ ‬وفي‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬وتواصله‭ ‬مع‭ ‬الكبير‭ ‬والصغير‭ ‬والقريب‭ ‬والبعيد،‭ ‬سِمة‭ ‬رافقته‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭.‬

إلا‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بتفوق‭ ‬أحد‭ ‬عليه،‭ ‬فهو‭ ‬كما‭ ‬يدعي‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬نظير‭ ‬المتنبي‭ ‬وشبيهه‭ ‬في‭ ‬المكانة‭ ‬والموقع،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭:‬

 

إلى‭ ‬الشعر‭ ‬يأتي‭ ‬كل‭ ‬ألفٍ‭ ‬مجددٌ

فبعد‭ ‬نبي‭ ‬الشعر‭ ‬أحمد‭ ‬أحمدُ

 

وسنأتي‭ ‬على‭ ‬علاقته‭ ‬بالمتنبي‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬

ويشير‭ ‬النجفي‭ ‬إلى‭ ‬أناه‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬كثيرة‭ ‬ومعان‭ ‬مختلفة‭ ‬تضمنتها‭ ‬دواوينه‭ ‬التي‭ ‬تربو‭ ‬على‭ ‬العشرين،‭ ‬ومن‭ ‬صور‭ ‬هذه‭ ‬الأنا‭ ‬قوله‭ ‬مجلّاً‭ ‬شعره‭:‬

 

مرآة‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬شعري‭               

تبصر‭ ‬عصري‭ ‬بها‭ ‬وذاتي

إن‭ ‬مثلت‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬سميناً‭             

فالعيب‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬الحـياة‭ ‬

 

بهذه‭ ‬المبالغة‭ ‬الواضحة‭ ‬يرى‭ ‬النجفي‭ ‬شعره‭ ‬مرآة‭ ‬الوجود‭ ‬كله،‭ ‬وقلّما‭ ‬تمر‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬دواوينه‭ ‬إلا‭ ‬ولأناه‭ ‬الشاعرة‭ ‬فيها‭ ‬نصيب،‭ ‬إلحاح‭ ‬على‭ ‬عظمته‭ ‬الشعرية‭ ‬عبر‭ ‬سيل‭ ‬من‭ ‬القصائد‭.‬

وتفيض‭ ‬أناه‭ ‬الشاعرة‭ ‬غضباً‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الذين‭ ‬ينالون‭ ‬من‭ ‬مقامه‭ ‬الشعري،‭ ‬فهو‭ ‬مفرد‭ ‬لا‭ ‬يماثله‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬عظمته‭ ‬الشعرية‭ ‬ومكانه‭ ‬المرموق‭: ‬

 

تفردت‭ ‬بالإبداع‭ ‬فــي‭ ‬ما‭ ‬أقوله

فكل‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬قلت‭ ‬مصدره‭ ‬حِسِّي

ولست‭ ‬لما‭ ‬أتلو‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬تابعاً‭          

فكل‭ ‬الذي‭ ‬أتلو‭ ‬غريب‭ ‬على‭ ‬نفسي

 

وشعره‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬أمكنة‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬في‭ ‬أناه‭ ‬الشاعرة‭ ‬مدى‭ ‬لم‭ ‬يبلغه‭ ‬أحد‭ ‬سوى‭ ‬مشبهه‭ ‬المتنبي‭ ‬بدليل‭ ‬قوله‭ ‬متباهياً‭ ‬مفاخراً‭:‬

 

سموت‭ ‬بشعري‭ ‬فوق‭ ‬جيلي‭ ‬ولم

يشك‭ ‬بشعري‭ ‬معشر‭ ‬البلهاء

فإن‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬من‭ ‬أمة‭ ‬الشعر‭ ‬تابعاً‭          

أكن‭ ‬أمة‭ ‬أغلى‭ ‬من‭ ‬الشعراء

 

ويذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فيعظم‭ ‬شعره‭ ‬أيما‭ ‬تعظيم،‭ ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬يقول‭ ‬كأنه‭ ‬من‭ ‬الغيب،‭ ‬ينتزعه‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬القلب‭ ‬وينقذه‭ ‬من‭ ‬أنياب‭ ‬الأسر‭ ‬والموت‭.‬

 

تُسر‭ ‬برؤية‭ ‬شعري‭ ‬الجميل

ولم‭ ‬تدر‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أحضرته

نفذت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ثنايا‭ ‬الخطوب‭             

ومن‭ ‬دم‭ ‬قلبي‭ ‬روَّيته

وليد‭ ‬الحروب‭ ‬بساحِ‭ ‬الكفاح

من‭ ‬الموت‭ ‬والأسر‭ ‬أنقذته‭  

 

وفي‭ ‬قصيدته‭ ‬لي‭ ‬ولكم‭ ‬يعلنها‭ ‬طلاقاً‭ ‬مع‭ ‬المغبطين‭ ‬شعره‭:‬

 

يا‭ ‬قوم‭ ‬ما‭ ‬لي‭ ‬مشكلٌ‭ ‬معكم

لقد‭ ‬اقتسمنا‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر

لكم‭ ‬الثمار‭ ‬تُباع‭ ‬رابحةً‭              

ولي‭ ‬المروج‭ ‬الخضر‭ ‬والزهر

ولكم‭ ‬مدينتكم‭ ‬وما‭ ‬ضمت‭           

ولي‭ ‬النعيم‭ ‬الحلو‭ ‬والعطر

 

وتصل‭ ‬قصائده‭ ‬سدرة‭ ‬المنتهى،‭ ‬فهناك‭ ‬نور‭ ‬شعره‭ ‬يبهر‭ ‬الأبصار‭: ‬

 

إن‭ ‬شعري‭ ‬بالكهرباء‭ ‬مليء

ملهب‭ ‬الحس‭ ‬والحجى‭ ‬والشعور

لي‭ ‬نور‭ ‬لسدرة‭ ‬الخلد‭ ‬يُمنى

ولذا‭ ‬يبهر‭ ‬المناظر‭ ‬نوري‭           

‭ ‬

ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬هذا‭ ‬الغلو‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬الذات‭ ‬والافتخار‭ ‬قوله‭ ‬من‭ ‬‮«‬الهواجس‮»‬‭: ‬

 

سألتني‭ ‬الشعراء‭ ‬أين‭ ‬أميرهم؟

فأجبت‭ ‬إيليا‭ ‬بقول‭ ‬مطلق

قالوا‭: ‬وأنتَ،‭ ‬فقلتُ‭: ‬ذاك‭ ‬أميركم

فأنا‭ ‬الأمير‭ ‬لأمة‭ ‬لم‭ ‬تخلقِ

 

ويبلغ‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالذات‭ ‬أقصى‭ ‬مداه‭ ‬عندما‭ ‬يستهزئ‭ ‬بأعدائه‭: ‬

 

صفعتهم‭ ‬حتى‭ ‬برى‭ ‬صفعهم‭ ‬يدي‭      

ودستهم‭ ‬حتى‭ ‬غدا‭ ‬النعل‭ ‬بالياً

ركلتهم‭ ‬دهراً‭ ‬فأصبحت‭ ‬أعرجاً‭ 

وألقمتهم‭ ‬نعلي‭ ‬فأصبحت‭ ‬حافياً

‭ ‬

ويمتلك‭ ‬المتنبي‭ ‬روحاً‭ ‬ونفساً‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لهما‭:‬

 

كأني‭ ‬مليك‭ ‬بالفخار‭ ‬متوج

وليس‭ ‬له‭ ‬جند‭ ‬سوى‭ ‬البأس‭ ‬والحلم

تراه‭ ‬ونور‭ ‬الحق‭ ‬شارة‭ ‬ملكه

وقانونه‭ ‬نشر‭ ‬المحبة‭ ‬والسّلْم‭ ‬

 

ويمعن‭ ‬النجفي‭ ‬احتفاءً‭ ‬بشعره،‭ ‬تلك‭ ‬الأنا‭ ‬المتوجة‭ ‬بروح‭ ‬الشعر،‭ ‬وهذا‭ ‬السمو‭ ‬بالنفس‭ ‬الذي‭ ‬يتجلى‭ ‬عندما‭ ‬يُشبَّهُ‭ ‬نفسه‭ ‬بنوح‭ ‬الشعر،‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬منجٍ‭ ‬لسفينته‭ ‬سواه‭.‬

 

سفينة‭ ‬الأشعار‭ ‬لمّا‭ ‬هوت

في‭ ‬بحرها‭ ‬كنتُ‭ ‬لها‭ ‬نوحها

أفرغتُ‭ ‬في‭ ‬الأشعار‭ ‬روحي‭ ‬كما

أفرغت‭ ‬الأشعار‭ ‬فِيَّ‭ ‬روحها

 

وقوله‭:‬

 

شعري‭ ‬كقصر‭ ‬منه‭ ‬لو‭ ‬رفعوا

حجراً‭ ‬تهدم‭ ‬ذلك‭ ‬القصر

 

يا‭ ‬للعظمة،‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬تذهب‭ ‬الأنا‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬النجفي،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬سبقه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاعتداد‭ ‬بالنفس‭ ‬وبالأنا‭ ‬الشاعرة‭ ‬سوى‭ ‬المتنبي‭.‬

 

الصافي‭ ‬والمتنبي‭ ‬

يتماهى‭ ‬الشاعر‭ ‬النجفي‭ ‬كثيراً‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬فيه،‭ ‬وأنه‭ ‬على‭ ‬منواله‭ ‬وشاكلته،‭ ‬ولذلك‭ ‬حفلت‭ ‬دواوين‭ ‬الصافي‭ ‬بقصائد‭ ‬ومقطوعات‭ ‬شعرية‭ ‬يشير‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬المتنبي،‭ ‬ويقارن‭ ‬نفسه‭ ‬به،‭ ‬ويرى‭ ‬أنه‭ ‬مثله‭ ‬شعراً‭ ‬ومكانة‭ ‬وحضوراً،‭ ‬خاصة‭ ‬لجهة‭ ‬الفرادة‭ ‬والعظمة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وهناك‭ ‬شواهد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التماثل‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين،‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬وأحمد‭ ‬النجفي‭. ‬

 

يقول‭ ‬النجفي‭ ‬مقدماً‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬الشعراء،‭ ‬واضعاً‭ ‬إياها‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬واحدة‭ ‬مع‭ ‬المتنبي‭:‬

 

إلى‭ ‬الشعر‭ ‬يأتي‭ ‬كل‭ ‬ألفٍ‭ ‬مجدَّد

فبعد‭ ‬نبيّ‭ ‬الشعر‭ ‬أحمدَ‭ ‬أحمدُ

أسير‭ ‬كما‭ ‬توحي‭ ‬إليَّ‭ ‬سريرتي

فإن‭ ‬شئتُم‭ ‬أن‭ ‬تهتدوا‭ ‬فَبِيَ‭ ‬اهتدوا

 

وفي‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬ديوانه،‭ ‬احتفى‭ ‬المتنبي‭ ‬كثيراً‭ ‬بشعره‭ ‬ومدحه‭ ‬واعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬وشعره‭ ‬فوق‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬القائلون‭ ‬ويبدع‭ ‬الشعراء،‭ ‬يقول‭ ‬المتنبي‭: ‬

 

إن‭ ‬هذا‭ ‬الشعرَ‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬مَلكْ‭     

سار‭ ‬فهو‭ ‬الشمسُ‭ ‬والدنيا‭ ‬فلَك

عدلَ‭ ‬الرحمنُ‭ ‬فيه‭ ‬بيننا‭              

فقضى‭ ‬باللفظِ‭ ‬لي‭ ‬والحمدِ‭ ‬لك

فإذا‭ ‬مرَّ‭ ‬بأُذنيْ‭ ‬حاسدٍ

صار‭ ‬مِمَّن‭ ‬كان‭ ‬حَياً‭ ‬فهَلَكَ

 

وينأى‭ ‬المتنبي‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬الشعراء،‭ ‬فهو‭ ‬السباق‭ ‬الذي‭ ‬يدرك‭ ‬وينظم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الإتيان‭ ‬بمثله‭: ‬

 

أتنكُر‭ ‬ما‭ ‬نطقتُ‭ ‬به‭ ‬بَديهاً

وليسَ‭ ‬بمُنْكَرٍ‭ ‬سبقُ‭ ‬الجوادِ

أراكِضُ‭ ‬مُعوصاتِ‭ ‬الشعرِ‭ ‬قَسراً‭      

فأقتُلُها‭ ‬وَغَيري‭ ‬في‭ ‬الطرادِ

     

 

ويقول‭:‬

أنا‭ ‬السابق‭ ‬الهادي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أقولُهُ

إذِ‭ ‬القولُ‭ ‬قبلَ‭ ‬القائلين‭ ‬مقولُ

 

أو‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬لظى‭:‬

 

سيعجب‭ ‬من‭ ‬شعري‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬لظى‭       

أو‭ ‬الجهل‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يدرك‭ ‬السر‭ ‬في‭ ‬الوقد

وشر‭ ‬خصوم‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬قلّ‭ ‬شأنه‭            

فلا‭ ‬حربه‭ ‬تشفي‭ ‬ولا‭ ‬هجوه‭ ‬يجدي‭ ‬

 

وتتوافق‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬مع‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬التماثل‭ ‬بين‭ ‬المتنبي‭ ‬والصافي‭ ‬النجفي‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬كثيرة،‭ ‬إذ‭ ‬تصل‭ ‬قصائده‭ ‬سدرة‭ ‬المنتهى‭ ‬حيث‭ ‬الأنبياء‭ ‬والمقربون،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬آنفاً‭:‬

ويتماهى‭ ‬النجفي‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬بالمتنبي‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭: ‬

 

أيّ‭ ‬مــحـــــــــــــــــــــــــــــــــــل‭ ‬أرتــــــــــقــــــــــــــي‭            

أي‭ ‬مـــكــــــــــــــــــــــــــــــــان‭ ‬أتـــــــــــــــــــــقــــــي

وكلّ‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬الله‭            

وما‭ ‬لم‭ ‬يخلق

محتقرٌ‭ ‬في‭ ‬همّتي‭          

كشعرةٍ‭ ‬في‭ ‬مفرقي

 

وذلك‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الصافي‭:‬

لا‭ ‬أرى‭ ‬أكــــــــــــــــــبــــــــــــــر‭ ‬مــــــــــــــــنــــــــي‭          

لا‭ ‬أرى‭ ‬مـــــــــــــــنـــــــــــــــي‭ ‬أصــــــــــغــــــــــر

إن‭ ‬أجِدْ‭ ‬أكــبر‭ ‬مـــني‭          

واحداً،‭ ‬فالله‭ ‬أكبر‭    

 

ويتألق‭ ‬أبوالطيب‭ ‬وهو‭ ‬يخاطب‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬غير‭ ‬راءٍ‭ ‬سوى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬الأشد،‭ ‬حيث‭ ‬يصدح‭ ‬بقوله‭:‬

 

الخيل‭ ‬والليل‭ ‬والبيداء‭ ‬تعرفني

والسيف‭ ‬والرمح‭ ‬والقرطاس‭ ‬والقلم‭ ‬

أنام‭ ‬ملء‭ ‬جفوني‭ ‬عن‭ ‬شواردها

ويسهر‭ ‬الخلق‭ ‬جراها‭ ‬ويختصم

‭ ‬

ويقابله‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭ ‬بقوله‭: ‬

 

دنياي‭ ‬من‭ ‬الأشعار‭ ‬أوجدتها

ما‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬وما‭ ‬أختها‭ ‬

دنياي‭ ‬لا‭ ‬يدخلها‭ ‬شاعر‭            

فتحتها‭ ‬حينًا‭ ‬وأغلقتها

إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬يتماهى‭ ‬النجفي‭ ‬مع‭ ‬المتنبي،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬فيه،‭ ‬وأنه‭ ‬على‭ ‬منواله‭ ‬وشاكلته،‭ ‬لذلك‭ ‬حفلت‭ ‬دواوينه‭ ‬بقصائد‭ ‬ومقطوعات‭ ‬شعرية‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬التماثل‭ ‬بينهما‭. ‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬المستحسن‭ ‬ألا‭ ‬نغفل‭ ‬أبياتاً‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان‭ ‬يزاحم‭ ‬فيها‭ ‬النجفي‭ ‬نديمه‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭: ‬

قد‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬حلّق

فأنت‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬فحل‭ ‬

فقلت‭ ‬أعلو‭ ‬وأدنو‭               

وأين‭ ‬شئت‭ ‬أحل‭ ‬

ولي‭ ‬بكل‭ ‬محل‭                   

من‭ ‬الوجود‭ ‬محل‭ ‬

والشاعر‭ ‬الحر‭ ‬نسر‭             

يسف‭ ‬حيناً‭ ‬ويعلو

 

وعدا‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬نعثر‭ ‬في‭ ‬دواوين‭ ‬الشاعرين‭ ‬على‭ ‬نماذج‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬تأثر‭ ‬النجفي‭ ‬الشديد‭ ‬بأبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬منهما‭ ‬يحمل‭ ‬عزة‭ ‬النفس‭ ‬وكبرياء‭ ‬الروح‭.‬

 

المقاربات‭ ‬

المقاربات‭ ‬إحدى‭ ‬سمات‭ ‬أسلوب‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي،‭ ‬وقد‭ ‬حفلت‭ ‬القصائد‭ ‬بكمّ‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نظير‭ ‬الجناس‭ ‬والطباق،‭ ‬وتعد‭ ‬أسلوباً‭ ‬إيقاعياً‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬غنى‭ ‬الأداء‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬الأبيات،‭ ‬ومن‭ ‬الشواهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬–‭ ‬قوله‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬العارية‮»‬‭ ‬بديوان‭ ‬الأمواج‭.‬

 

أهوى‭ ‬الحقيقة‭ ‬من‭ ‬لباسِ‭ ‬الوهم‭ ‬تبدو‭ ‬عارية

أهوى‭ ‬اللباب‭ ‬بلا‭ ‬قشور‭ ‬للنواظر‭ ‬بادية

أهوى‭ ‬العداوة‭ ‬لا‭ ‬تجيءُ‭ ‬بثوب‭ ‬وُدٍ‭ ‬حالية

والصدق‭ ‬عارٍ‭ ‬خالع‭ ‬لثياب‭ ‬كذب‭ ‬بالية

ويفوق‭ ‬دعوى‭ ‬العلم‭ ‬بيـنَ‭ ‬المدْن‭ ‬جهل‭ ‬البادية

هذا‭ ‬الحجاب‭ ‬وذا‭ ‬السفو‭ ‬رُ‭ ‬لدى‭ ‬العقول‭ ‬العارية

في‭ ‬الحال‭ ‬والماضي‭ ‬نقلـ‭ ‬د‭ ‬والعصور‭ ‬الآتية

 

هذا‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬المقابلات‭ ‬اللفظية‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬لُب‭ ‬معماريتها‭ ‬الموسيقية‭ (‬الحقيقة‭ ‬والوهم،‭ ‬اللباب‭ ‬والقشور،‭ ‬العلم‭ ‬والجهل،‭ ‬الحجاب‭ ‬والسفور،‭ ‬الحال‭ ‬والماضي‭). ‬

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬وطني‮»‬‭ ‬من‭ ‬الديوان‭ ‬نفسه،‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬أبيات‭ ‬تعمرها‭ ‬الألفاظ‭ ‬المتجانسة‭ ‬أو‭ ‬المتعارضة‭:‬

 

تشاهد‭ ‬للحياة‭ ‬هناك‭ ‬بابا

وأبواباً‭ ‬تشاهد‭ ‬للممات

ترى‭ ‬باب‭ ‬الحياة‭ ‬عليه‭ ‬قفل‭ 

وأبواب‭ ‬الممات‭ ‬مفتحات

ففيه‭ ‬لكل‭ ‬ذي‭ ‬مال‭ ‬شفاء‭           

وموت‭ ‬للنفوس‭ ‬البائسات‭ ‬

 

والأمر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬المقابلة‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والممات،‭ ‬وبين‭ ‬قفل‭ ‬ومفتحات،‭ ‬وذو‭ ‬المال‭ ‬والبائسات‭. ‬

 

ويقول‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭:‬

 

لغة‭ ‬النثر‭ ‬تكتم‭ ‬الحق‭ ‬خوفاً

لغة‭ ‬النظم‭ ‬تنطق‭ ‬الحق‭ ‬جهراً‭ ‬

 

والمقابلات‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬النثر‭ ‬والنظم،‭ ‬والكتم‭ ‬والجهر،‭ ‬وخوفاً‭ ‬وجهراً‭.‬

والمقابلة‭ ‬التالية‭ ‬بين‭ ‬شطرَي‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬قوله‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬أشعّة‭:‬

 

هذا‭ ‬يرق‭ ‬لذي‭ ‬بؤس‭ ‬فيطعمه

وذاك‭ ‬يسلب‭ ‬خبز‭ ‬البائس‭ ‬الحافي‭ ‬

 

والجناس‭ ‬في‭ ‬المقابلة‭ ‬اللفظية‭ ‬التالية‭:‬

 

لا‭ ‬تسلني‭ ‬عن‭ ‬جديد‭ ‬الخبر

بل‭ ‬فسلني‭ ‬عن‭ ‬جديد‭ ‬الخطر

 

‭(‬لا‭ ‬تسلني‭ ‬وسلني،‭ ‬والخبر‭ ‬والخطر‭).‬

 

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬الحيرة‭ ‬سيل‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬المتناقضة‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬جوّ‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭. ‬

 

تعبت‭ ‬في‭ ‬مفاوز‭ ‬الشك‭ ‬نفسي

هل‭ ‬يقين‭ ‬في‭ ‬ظله‭ ‬تستريح‭ ‬

المقاربة‭ ‬الضدية‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬تعب‭ ‬واستراحة،‭ ‬وبين‭ ‬الشك‭ ‬واليقين‭.‬

 

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬وداع‭ ‬الحرية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬بيتين‭ ‬فقط،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المقاربة‭ ‬الضدية،‭ ‬والبيتان‭ ‬هما‭:‬

 

من‭ ‬كوة‭ ‬السجن‭ ‬ألقي‭      

نفسي‭ ‬بدون‭ ‬توانِ

أودّع‭ ‬العيش‭ ‬حراَ‭           

ولو‭ ‬لبضع‭ ‬ثوان

 

فالتضاد‭ ‬وقع‭ ‬بين‭ ‬كوة‭ ‬السجن‭ ‬والحرية،‭ ‬وبدون‭ ‬ثوان‭ ‬وبضع‭ ‬ثوان،‭ ‬وأودع‭ ‬وألقي،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الصغيرة‭ ‬‮«‬مبتكر‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الاستعمالات‭. ‬

 

كل‭ ‬شعري‭ ‬نادر‭ ‬مبتكر‭           

شعر‭ ‬غيري‭ ‬مثل‭ ‬غيري‭ ‬هذر‭ ‬

كيف‭ ‬لا‭ ‬أعطي‭ ‬لكم‭ ‬مبتكراً‭        

مثل‭ ‬شعري‭ ‬شخصي‭ ‬المبتكر‭ ‬

 

المقابلات‭ ‬الضدية‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬شعري‭ ‬وشعر‭ ‬غيري،‭ ‬وبين‭ ‬مبتكر‭ ‬وهذر‭. ‬

ويطول‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬وميزة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭. ‬

وهو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الشعرية‭ ‬المثيرة‭ ‬والنادرة‭ ‬قيل‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬ومعظمه‭ ‬إطراء‭ ‬ومديح‭.‬

 

النجفي‭ ‬والنقد

تمر‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬النجفي‭ ‬ومضات‭ ‬نقدية‭ ‬حول‭ ‬الشعر‭ ‬والشعراء،‭ ‬يبدي‭ ‬فيها‭ ‬رأيه‭ ‬ويعلل‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬منتقداً‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬يشيد‭ ‬بالأشعار‭ ‬المفككة‭ ‬الضائعة‭.‬

 

قريضي‭ ‬يملأ‭ ‬الأسماع‭ ‬وقراً

ونقد‭ ‬يعشق‭ ‬الأشعار‭ ‬هذرا

 

وفي‭ ‬سياق‭ ‬النقد‭ ‬يغمز‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭ ‬من‭ ‬قناة‭ ‬المقلدين‭ ‬الذين‭ ‬يهدمون‭ ‬بعملهم‭ ‬روح‭ ‬الشعر،‭ ‬ثم‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬قدموه‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬أمامهم‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬يصغر‭ ‬أمامه‭ ‬شعرهم‭ ‬المهيض‭ ‬الضعيف‭:‬

 

ومقلدين‭ ‬من‭ ‬القريض‭ ‬صياغة‭            

ومهدمين‭ ‬لروحه‭ ‬تهديما

عرضوا‭ ‬عليّ‭ ‬فنونهم‭ ‬فأريتهم‭             

شعرا‭ ‬يحطم‭ ‬فيهم‭ ‬تحطيما

 

ويهاجم‭ ‬النجفي‭ ‬النقاد‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يضمرون‭ ‬فيما‭ ‬يقولون‭ ‬إلا‭ ‬الخبث،‭ ‬متهماً‭ ‬إياهم‭ ‬بالشعوذة،‭ ‬كاشفاً‭ ‬نواياهم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬الشعر،‭ ‬لذلك‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬ذوقه‭ ‬له‭ ‬ناظماً‭ ‬أميناً‭.‬

 

رضيت‭ ‬من‭ ‬ذوقي‭ ‬لي‭ ‬ناقداً

إن‭ ‬صحت‭ ‬عند‭ ‬النظم‭: ‬هذا‭ ‬جميل

ما‭ ‬اتخذوا‭ ‬النقد‭ ‬لهم‭ ‬حرفة

إلا‭ ‬لخبث‭ ‬في‭ ‬النوايا‭ ‬أصيل

 

ويحذّر‭ ‬من‭ ‬السرقة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وقد‭ ‬سمى‭ ‬الذين‭ ‬يمتهنون‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬باللصوص،‭ ‬وهو‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬بطريقة‭ ‬لطيفة‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬

 

أرى‭ ‬لصوصاً‭ ‬في‭ ‬القريض‭ ‬أضحت‭      

تسرق‭ ‬من‭ ‬شعري‭ ‬بلا‭ ‬اكتراث

كأنهم‭ ‬قد‭ ‬حسبوني‭ ‬ميتاً‭                   

وأنهم‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬الورَّاث‭ ‬

         

ومن‭ ‬صور‭ ‬النقد‭ ‬التي‭ ‬يشير‭ ‬إليها‭ ‬عندما‭ ‬اعتبر‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬الأصداف،‭ ‬وليس‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الدر‭: ‬

 

يقولون‭ ‬لي‭ ‬أصداف‭ ‬شعرك‭ ‬جمّة‭     

ويا‭ ‬ليت‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬قلته‭ ‬كلّه‭ ‬در

فقلت‭ ‬وبحر‭ ‬الشعر‭ ‬كالبحر‭ ‬جامع‭     

وفي‭ ‬بحر‭ ‬شعري‭ ‬ما‭ ‬حوى‭ ‬البر‭ ‬والبحر

 

ويقف‭ ‬النجفي‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬موقفاً‭ ‬معادياً‭ ‬هجومياً،‭ ‬إذ‭ ‬يعتبرهم‭ ‬مشعوذين‭ ‬لا‭ ‬يبتغون‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬النقد‭ ‬إلا‭ ‬الخبث‭ ‬والسوء‭:‬

ما‭ ‬اتخذوا‭ ‬النقد‭ ‬لهم‭ ‬حرفة‭           

إلا‭ ‬لخبث‭ ‬في‭ ‬النوايا‭ ‬أصيل‭ ‬

دعني‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬شئت‭ ‬ولينقدوا‭        

فالدهر‭ ‬بالخالد‭ ‬منا‭ ‬كفيل‭     

   

وهو‭ ‬لا‭ ‬يعبأ‭ ‬أصلاً‭ ‬بالنقد‭ ‬ولا‭ ‬يعترف‭ ‬به،‭ ‬ويهاجم‭ ‬المنتقدين‭ ‬بألسنة‭ ‬حداد،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يقلد‭ ‬هو‭ ‬أحداً،‭ ‬ولم‭ ‬يقلد‭ ‬أحد‭ ‬شعره،‭ ‬أو‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬تقليده‭:‬

 

حماني‭ ‬من‭ ‬التقليد‭ ‬ما‭ ‬عشت‭ ‬أنني‭        

إذا‭ ‬رمتُ‭ ‬أمراً‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬أقلد‭ ‬

 

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬ينتقد‭ ‬الذين‭ ‬يتاجرون‭ ‬بالشعر،‭ ‬والنقاد‭ ‬الذين‭ ‬يهاجمون‭ ‬شعره‭:‬

 

الشعر‭ ‬روح‭ ‬فذة‭ ‬قدسية

خصَّ‭ ‬الإله‭ ‬بها‭ ‬أجلّ‭ ‬الناس

والشاعرون‭ ‬هم‭ ‬الملائكُ‭ ‬موِّهوا

بين‭ ‬الأنام‭ ‬بمظهر‭ ‬ولباس‭ ‬

من‭ ‬يتّجر‭ ‬بالشعر‭ ‬يفقد‭ ‬قدسه

فالشر‭ ‬مخلوق‭ ‬مع‭ ‬الإفلاس‭   ‬‭        

 

وهو‭ ‬صاحب‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬لها‭ ‬قوانينها‭ ‬وأصولها‭ ‬وشرعة‭ ‬تنظمها،‭ ‬وفيه‭ ‬من‭ ‬الجمالية‭ ‬والمعجزات‭ ‬الكثير،‭ ‬تقود‭ ‬وتعلّم‭ ‬الناس‭ ‬فن‭ ‬الشعر،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬حياته‭ ‬الفياضة‭ ‬بالتجربة‭ ‬تعلمهم‭ ‬الحياة‭:‬

 

ولي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬مدرسة‭ ‬وشرع

وآيات‭ ‬تلوح‭ ‬ومعجزات

أعلّمكم‭ ‬بشعري‭ ‬الشعر،‭ ‬لكن

تعلمكم‭ ‬حياتي‭ ‬ما‭ ‬الحياة‭ 

 

وأخيراً‭... ‬لا‭ ‬يتعب‭ ‬الصافي‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬شعره‭ ‬والإشارة‭ ‬إليه،‭ ‬لأنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬حزن‭ ‬وفرح‭ ‬وهدوء‭ ‬وصخب‭: ‬

 

غرابة‭ ‬شعري‭ ‬من‭ ‬غرابة‭ ‬أوضاعي‭         

ومادي‭ ‬ما‭ ‬عندي‭ ‬يُسمى‭ ‬إبداع

‭ ‬شعري‭ ‬مرآتي‭ ‬ولا‭ ‬تعبٌ‭ ‬به

وهل‭ ‬تتعب‭ ‬المرآة‭ ‬من‭ ‬عكس‭ ‬أوضاعي؟

 

وفي‭ ‬نسيج‭ ‬عاطفي‭ ‬مؤثر‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الالتصاق‭ ‬بين‭ ‬الثلاثي‭: ‬الصافي‭ ‬والشعر‭ ‬والوطن،‭ ‬يصدح‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬سلّم‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬أقلته‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬العراق،‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬ناف‭ ‬على‭ ‬الأربعين‭ ‬سنة‭ ‬مخاطباً‭ ‬بغداد‭ ‬قائلاً‭: ‬

 

يا‭ ‬عودة‭ ‬للدار‭ ‬ما‭ ‬أقساها

أسمع‭ ‬بغداد‭ ‬ولا‭ ‬أراها

 

أيكفي‭ ‬السمع‭ ‬دون‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬حالات‭ ‬الوجد‭ ‬خلوداً؟

لعله‭ ‬وجد‭ ‬بغداد‭ ‬مستاءة‭ ‬منه‭ ‬لغيابه‭ ‬عنها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عقود،‭ ‬فراح‭ ‬يدغدغ‭ ‬مشاعرها‭ ‬ويهدئ‭ ‬من‭ ‬روعها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬الحميمة‭:‬

 

بغداد‭ ‬حار‭ ‬المادحون‭ ‬بوصفها

زين‭ ‬البلاد‭ ‬كثيرة‭ ‬الأوصاف

كانت‭ ‬تحنّ‭ ‬لقطعة‭ ‬من‭ ‬قلبها

عادت‭ ‬إليها‭ ‬يوم‭ ‬عاد‭ ‬الصافي

 

إنها‭ ‬عودة‭ ‬الفارس‭ ‬المثخن‭ ‬بالجراح،‭ ‬جراح‭ ‬الوطن‭ ‬والأمة‭ ‬والفقر‭ ‬والعوز‭ ... ‬كانت‭ ‬آخر‭ ‬أبيات‭ ‬تلفّظ‭ ‬بها‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬بأشهر‭: ‬

 

حفلت‭ ‬بغداد‭ ‬بي‭             

ترفع‭ ‬شأني‭ ‬وتغالي

رؤيتي‭ ‬بغداد‭ ‬أحلى‭         

لي‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬احتفال

حلماً‭ ‬كانت‭ ‬بنفسي‭        

شاغلاً‭ ‬كل‭ ‬خيال

دائما‭ ‬أسمعُ‭ ‬عن

إدراكها‭ ‬حدَّ‭ ‬الكمال

حُرِمَتْ‭ ‬من‭ ‬حُسْنِها‭         

عيناي‭ ‬في‭ ‬يومِ‭ ‬الوصال■