«العربي»... رحلة عُمْر

«العربي»... رحلة عُمْر

صداقتي لـ «العربي» بدأت منذ بدايتها، إذ حرصت على اقتناء عددها الأول، فالأعداد التالية، لأن متابعة كتابات أستاذنا العالِم الراحل د. أحمد زكي كانت في مقدمة اهتماماتي القرائية.
قرأت له دراساته في «الهلال» المصرية، وفي غيرها من الصحف والدوريات، يبسّط أعقد مكتشفات العلم وحقائقه بلُغة أدبية راقية، يضفّرها بالحدوتة والحكاية والسيرة والترجمة والمثل بما يسهّل التلقي.

 

ارتاد د. أحمد زكي طريقًا، تبعه فيها، جمال حمدان وعبدالمحسن صالح ورشدي سعيد ومصطفى محمود وأحمد مستجير ونبيل علي، وغيرهم من العلماء الذين وجدوا في تبسيط العلم نافذة مهمة تطل على المستقبل العربي.
صرت متابعًا لكتابات أحمد زكي في «العربي»، تعددت – أحيانًا – في العدد الواحد، نبضها الاستنارة التي لم تبدل توجهها، ولا منهجيتها.
هو عالِم عربي يعي دوره القيادي في مجتمعه، والمسؤولية التي ينبغي أن تعبّر عنها كتاباته، والوسيلة التي يخاطب بها القراء.
بدت آراؤه امتدادًا لآراء رواد الاستنارة، ومن تلاهم: العطار والطهطاوي والأفغاني وعلي مبارك والنديم والكواكبي وأمين الريحاني ونقولا حداد وقاسم أمين ومحمد عبده وعائشة التيمورية ونبوية موسى وطه حسين وميخائيل نعيمة ولطفي السيد وعلي عبدالرازق وحسين هيكل وحسين فوزي، وعشرات غيرهم.
انعكست متابعتي لكتابات أحمد زكي متابعة موازية لما تتضمنه «العربي» من مواد، بما كان يناوشني بالسؤال: ماذا يشغل أسرة تحرير المطبوعة الثقافية وهي تعد للصدور؟ ما المنهج الذي تلتزم به؟ من القارئ الذي تتجه إليه؟
التوجه القومي هو السمة التي جمعت بين رؤساء تحرير «العربي»، وغالبية كتّابها. لم يعبّروا عن شوفينية ضيقة، بل انطلقوا إلى الآفاق العربية الرحبة، ومنها إلى الآفاق الإنسانية الأشد رحابة. 

منهاج حياة
العالم يتجه إلينا كعرب، يخاطبنا، ويستمع إلينا بهذه الصفة، يتعرف إلى إبداعاتنا بالعربية، يشاهدها، يقرأها، يستمع إليها، لا تعزله إقليمية الموطن عن الوطن الفسيح، ما يتعرف إليه ينتسب إلى الإبداع العربي مطلقاً.
وعلى حد تعبير جمال حمدان، فإن مصر محكوم عليها بالعروبة، هي واسطة كتاب الجغرافيا، تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ.
العروبة ليست مجرد كلمة، ولا شعار، ولا نظرية، ولا فكرة. إنها حياة كاملة، تبدأ منذ إرهاصات المعنى، وظهوره، ومحاولات تعميقه، وتحويله إلى منهاج حياة.
ثمة إحساس بالماضي المشترك، والمصير المشترك، والوحدة، والدفع بالجيوش لمناصرة قطر عربي يتهدده الخطر، وثمة ملتقيات ومعارك وسجون ومعتقلات. كان ذلك كله هو الخيوط التي نسجت منها كلمة العروبة.
إن تمايز العروبة بين الثقافة والعِرق واللسان يفقدها معناها إذا شكّلت - في مجموعها - ما نسميه العروبة.
صارت «العربي» – ولا تزال – مثلًا للمطبوعة التي تصدر عن ثقافة ما، لتخاطب مثقفي العالم، تعنى بالماضي، وتتصل بالتراث، وتطرح تجليات المعاصرة والحداثة، إضافة إلى الباب الثابت الذي أبرز من خلاله صديقي الشاعر الكبير الراحل فاروق شوشة «جمال العربية»، جاوز إفادة ثقافتي اللغوية إلى آفاق لا تحد من جماليات لغة الضاد.

دعوة إيجابية
كما أرى، فإن الدعوة إلى الارتباط بالتراث، إلى إحيائه، وتحقيق التواصل معه في إبداعاتنا الحديثة (أسمح لنفسي بأن أشير إلى روايتي «زهرة الصباح» ذات الليالي المتماهية مع ليالي ألف ليلة) هي دعوة صحيحة وإيجابية، لأنها تمثّل خطوة مؤكدة في سبيل استرداد الذات، وإعادة اكتشافها. فالأديب العربي ليس مجرد مقلّد للأعمال الأدبية الغربية، مع بدهية الإفادة المحسوبة من فنياتها، أذكّرك - في المقابل - بإفادة الأدب الغربي من فنيات «ألف ليلة وليلة» - لكنه يجد إرهاصات أعماله، وبداياته الفعلية، في تراث العرب، وفي تراث المصريين القدامى كذلك.
من هنا تأتي إعادة النظر في التراث الأدبي المصري والعربي، حتى ذلك التراث الذي تصورناه خاليًا من الفنون الأدبية المعاصرة، كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة.
***
كيف تحولت العلاقة بين «العربي» وبيني من صداقة القراءة إلى صداقة الكتابة؟ 
لا أذكر المناسبة، بل إني لا أذكر أول ما أسهمت به في «العربي»، لعله قصة، أو دراسة قصيرة، أو حوار أجرته معي المبدعة الكويتية فاطمة يوسف العلي. 
قال صديقي المبدع الراحل محمد أبوالمعاطي أبوالنجا: أقرأ قصصك القصيرة في «الأهرام»... لماذا لا تنشر في «العربي»؟
لم أخيب ظنه، ولا مناوشات أحلامي. أرسلت إليه قصة قصيرة – لا أذكر اسمها – كانت أول إسهاماتي في «العربي». سبقت ذلك، ولحقته، دراسات نقدية مهمة في كتاباتي الإبداعية ليوسف الشاروني وأحمد درويش وغيرهما.

قومية التوجه والتوزيع
ربما لطول العِشرة كقارئ لـ «العربي»، لم يحدث رد الفعل الذي أحسست به وأنا أقرأ اسمي في صحف تنقصها مكانة «العربي». كان ذلك كذلك، على حد تعبير رياض قلدس لصديقه كمال عبدالجواد في «ثلاثية» نجيب محفوظ.
ساعد على تعدد إسهاماتي منهجية «العربي» التي تتيح لتباين الأفكار والاجتهادات والإبداعات أن تشارك في تحريرها أقلام عربية، أو مترجمة إلى «العربية»، تنقل ثقافة العرب إلى العالم، وتنقل ثقافات العالم إلى الوطن العربي.
ولعلي أذكر مشاركتي في الملتقى الذي دعتني إليه مكتبة الجزائر الوطنية. قبل أن ألقي مداخلتي، قرأ المسؤول – من الأوراق أمامه – اسمي الثلاثي، ثم بادرني بنظرة متحيّرة تطلب الصفة التي يقدمني بها.
علا صوت في مقدمة الصفوف: نحن قرأنا له في «العربي».
ثمة من يعرفني إذن.
أنقذت كلمات الشاب مسؤول المكتبة من حيرته، وأنقذتني من قسوة الإحساس بالغربة. أدركت – في اللحظة التالية – معنى أن أكتب في مجلة قومية التوجه والتوزيع.

«العربي» ومسقط
أول تعرّفي إلى العاصمة العمانية مسقط قبل أن أسافر إليها. حرصت – في اليوم التالي لوصولي إلى السلطنة – أن أزور الميدان الصغير قبالة الباب الكبير، يتوسطه شرطي ينظم حركة المرور بين أحياء العاصمة، والأبواب المفضية إلى مسقط القديمة. علقت الصورة في بالي منذ تأملي لها في عدد لا أذكره من «العربي»، وإن سبق تاريخه فبراير 1976، موعد سفري إلى السلطنة.
لم يكن ذلك المشهد وحده هو ما طالعتني به «العربي»، فسيفساء المحيطات والبحار والجزر والصحارى والأودية والمدن والموانئ شكلت – في توالي الأعداد – بانوراما دائمة التجدد.
أفدت من رحلة «العربي» إلى مسقط في التعرف إلى ما لم أكن أعرفه من التاريخ والمعتقدات والعادات والتقاليد، هو أرضية الأحداث في روايتي «إمام آخر الزمان». ثم صارت مسقط القديمة - بسمتها التراثي، البنايات والشوارع الضيقة والأزقة والمصاطب والأسواق والقيساريات والضوء الشاحب وتضوع البخور - مظاهر حياة استعدتها وأنا أخلو إلى روايتي «زهرة الصباح».
إذا كانت «العربي» قد جعلت من رحلات كتّابها إلى بقاع العالم ما يشبه المادة الثابتة، فالمؤكد أني أفدت من تلك الرحلات بما أثرى حصيلتي المعرفية والوجدانية، وانعكس، بالتالي، على فهمي للكون الذي يشكّل كوكبنا الأرضي أحد تكويناته. 
كتب الراحل أحمد بهاء الدين سلسلة مقالات في «صباح الخير» القاهرية، عنوانها – فيما أذكر – «مسافر على الورق»، عرض فيها رحلات عاشها بالقراءة في ثنايا الكتب. 
كانت الكلمة المكتوبة آنذاك دليل القارئ إلى بقاع الدنيا، تطالعه بما يحياه البشر في تعدد بلدانهم، ثم صارت للصورة الفيلمية مكانة عليا من خلال وسائل الاتصال الإلكتروني، وإن ظلت رحلات «العربي» القلمية، أو استطلاعاتها، تشكّل زادًا وزوادًا لمن تربّوا على الكلمة المقروءة. يتابعون الصورة المتماهية بالكلمة المنطوقة في وسائل الاتصال الإلكترونية، دون أن تشحب مكانة الكلمة المكتوبة في نفوسهم.

موسوعة كتاب العربي
من المهم أن نشير إلى «كتاب العربي» الإصدار المتولد من المجلة، بما أضافه إلى المكتبة العربية. 
بديهي أن يكون الكمّ المتباين، والجدير بإعادة القراءة، في كتابات المجلة هو الدافع لنشرها في دورية باسم «كتاب العربي»، تضم نماذج من موضوعات النهر الواحد، أي المتقاربة منهجيًا، وإن اختلفت الاجتهادات، ووجهات النظر، وطرائق الإبداع. للتراث كتابه المستقل، وللتاريخ في عصر ما كتاب آخر، ولعلوم الطب والفيزياء اكتشافاتها، وللقصة الحديثة موضعها، وللشعر موضعه كذلك، وللدراسات النقدية كتبها المستقلة، إلى آخر القائمة، الدورية الثقافية تصدر عن مؤسسة في بلد ما، لكنها تتجه إلى القارئين بلغتها في تعدد جنسياتهم.
لعلي أقترح أن تصدر «العربي» أكثر من موسوعة للشخصيات التي ترجم لها كتابها. مئات المشاعل من العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين والساسة، يشكلون – على نحو وآخر – صورة العالم منذ فجر تاريخه. 
قيمة الموسوعة – في تقديري – أنها حصيلة دراسات عُني بها أصحابها، وليست مقصورة على أفراد من الباحثين، قد يجدون في النقلية ما يغنيهم عن الدراسة المتعمقة.
كلما كانت الموسوعة جهد الكثيرين قاربت الموضوعية التي تقدم المعلومة الصحيحة، لأنها تصدر عن تخصصات كاتبيها، وإخلاصهم في البحث عن كل ما يتصل بالشخصية التي شغلوا بالترجمة لها، فلا يكتفون بالتقوّت الخاطف من موائد الآخرين. أشير إلى الأخطاء الفادحة التي تضمنها العديد من الموسوعات، سواء في الأسماء، أو التواريخ، أو الأماكن، ما أسعفت به النقلية محرريها، وتتسع دوائر الأخطاء بما تطرحه وسائل الاتصال الاجتماعي، والإنترنت بعامة، من معلومات اقتصرت على استدعاءات الذاكرة، أو على النقل الذي ينقصه التدبر.
باختصار، فإن الرحلة المشتركة طويلة بين «العربي» وبيني، وهي رحلة قوامها الوعي، والمعرفة، والإبداع الغيري والشخصي ■