نحو تأصيل المجاز ذهنيّاً

نحو تأصيل المجاز ذهنيّاً

نستبعد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬الاختلافات‭ ‬المذهبية‭ ‬بين‭ ‬القائلين‭ ‬بوجود‭ ‬المجاز‭ ‬والقائلين‭ ‬بنفيه‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬يعمدون‭ ‬إلى‭ ‬حصره‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬محدودة‭.‬

ويقتصر‭ ‬اهتمامنا‭ ‬بالمجاز،‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬الناحية‭ ‬الذهنية‭ ‬الإدراكية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُبرزها‭ ‬في‭ ‬الظواهر‭ ‬القولية‭ ‬التي‭ ‬يجري‭ ‬تصنيفها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مجازات‭.‬

لقد‭ ‬جرى‭ ‬تمييز‭ ‬ضروب‭ ‬المجاز‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬البلاغة‭ ‬العربيّة‭ ‬الكلاسيكيّة‭ ‬إلى‭ ‬الأنواع‭ ‬المعروفة‭: ‬المجاز‭ ‬العقليّ،‭ ‬والمجاز‭ ‬المرسل،‭ ‬والكناية‭ (‬مع‭ ‬وعينا‭ ‬بإشكال‭ ‬الأمر‭ ‬وبالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تفصيل‭)‬،‭ ‬والاستعارة‭.‬

وقد‭ ‬انبنى‭ ‬التّمييز‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬الأسس‭ ‬التّصنيفية‭ ‬الآتية‭:‬

المجاز‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬عقلي‭ ‬ولغوي،‭ ‬والأخير‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬مجاز‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬المشابهة‭ (‬الاستعارة‭)‬،‭ ‬وآخر‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬المشابهة‭ (‬المجاز‭ ‬المرسل‭).‬

وتختلف‭ ‬وضعية‭ ‬الكناية‭ ‬في‭ ‬نسبتها‭ ‬إلى‭ ‬المجاز‭ ‬نسبة‭ ‬تامة،‭ ‬أو‭ ‬جعلها‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمجاز،‭ ‬أو‭ ‬جعلها‭ ‬تجمع‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬قراءتين‭ ‬مختلفتين‭.‬

ولقد‭ ‬جرى‭ ‬تفريع‭ ‬كل‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المجاز‭ ‬إلى‭ ‬فروع؛‭ ‬فقُسّم‭ ‬المجاز‭ ‬العقلي‭ ‬إلى‭ ‬سببي‭ ‬ومسبّبي‭ ‬وزماني‭ ‬ومكاني،‭ ‬ووُزِّع‭ ‬المجاز‭ ‬المرسل‭ ‬إلى‭ ‬أنواع‭ ‬بحسب‭ ‬علاقات‭ ‬الجزئية‭ ‬والكليّة‭ ‬والسببيّة‭ ‬والمسبّبيّة،‭ ‬والحاليّة‭ ‬والمحليّة،‭ ‬واعتبار‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬واعتبار‭ ‬ما‭ ‬يكون‭.‬

أما‭ ‬الاستعارة‭ ‬فنُظر‭ ‬إليها‭ ‬بحسب‭ ‬أنواعها؛‭ ‬مكنيّة‭ ‬أو‭ ‬تصريحية،‭ ‬أصلية‭ ‬أو‭ ‬تبعيّة،‭ ‬مطلقة‭ ‬أو‭ ‬مجرّدة‭ ‬أو‭ ‬مرشّحة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنواع‭ ‬أخرى‭ ‬كالعناديّة‭.‬

كما‭ ‬تحدّث‭ ‬بعض‭ ‬البيانيّين‭ ‬والأصوليّين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬السّياقات‭ ‬عن‭ ‬مجاز‭ ‬المجاز،‭ ‬مثلما‭ ‬تحدّث‭ ‬الجرجانيّ‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬المعنى‭.‬

ولعلّ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الشّبكة‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬ضروب‭ ‬المجاز‭ ‬وتوزيعه‭ ‬متناسقة‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬البلاغة‭ ‬الكلاسيكيّة،‭ ‬ومستجيبة‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭ ‬المعرفيّ‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬طوال‭ ‬قرون‭.‬

ولكنّه‭ ‬يبدو‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬مراجعة‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الإبستيمولوجيّة‭ ‬التي‭ ‬أُسّست‭ ‬عليها‭ ‬تلك‭ ‬الشبكة،‭ ‬مع‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬رؤية‭ ‬أكثر‭ ‬اتّساقاً‭ ‬مع‭ ‬المعارف‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬بفضل‭ ‬تطوّر‭ ‬العلوم‭ ‬العرفانيّة‭ ‬والدّراسات‭ ‬اللسانيّة،‭ ‬التي‭ ‬قدّمت‭ ‬مقترحات‭ ‬جديرة‭ ‬بالفحص‭ ‬والمعالجة،‭ ‬ولم‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬التّجريب،‭ ‬بوضعها‭ ‬على‭ ‬محكّ‭ ‬شبكة‭ ‬التحليل‭ ‬البلاغيّ‭ ‬الكلاسيكيّة؟‭ ‬

 

العنصر‭ ‬الحاسم

إنّ‭ ‬العقل‭ ‬التّحليليّ‭ ‬السّاعي‭ ‬إلى‭ ‬السّيطرة‭ ‬على‭ ‬الظواهر‭ ‬جميعها‭ ‬عبر‭ ‬إرجاعها‭ ‬إلى‭ ‬مولّد‭ ‬جامع،‭ ‬يحفّزنا‭ ‬إلى‭ ‬طلب‭ ‬إبراز‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬يتولّد‭ ‬عنها‭ ‬اختلاف‭ ‬التّصنيف،‭ ‬قبل‭ ‬الاستغراق‭ ‬في‭ ‬حيثيّاته‭ ‬وتفريعاته‭.‬

فما‭ ‬العنصر‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الوجوه‭ ‬المجازيّة‭ ‬إذا‭ ‬تشابهت؟‭ ‬وما‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نأنس‭ ‬بها‭ ‬للترجيح‭ ‬بين‭ ‬التحاليل‭ ‬إن‭ ‬اختلفت‭ ‬أو‭ ‬تضاربت‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬القول‭ ‬الواحد؟

يمكن‭ ‬اقتراح‭ ‬إجابة‭ ‬وقتيّة‭ ‬نتّخذها‭ ‬افتراض‭ ‬عمل،‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬التّحليل‭ ‬إلى‭ ‬إجابة‭ ‬مقنعة‭ ‬ومطّردة‭.‬

نرى‭ ‬أنّ‭ ‬المجاز‭ ‬العقليّ‭ ‬كلّه‭ ‬وعدداً‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬المجاز‭ ‬المرسل،‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬مجاز‭ ‬الحذف،‭ ‬أمّا‭ ‬الكناية‭ ‬فهي‭ ‬مجاز‭ ‬المجاورة،‭ ‬والاستعارة‭ ‬هي‭ ‬مجاز‭ ‬المشابهة‭.‬

فالحذف‭ ‬والمجاورة‭ ‬والمشابهة‭ ‬هي‭ ‬قوانين‭ ‬المجاز‭ ‬التي‭ ‬تتحكّم‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬انتصابه‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬وسبيل‭ ‬تعقُّله‭ ‬في‭ ‬الإدراك‭. ‬أو‭ ‬قُل‭ ‬بعبارة‭ ‬تراثيّة‭ ‬إدراكه‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬وحضوره‭ ‬في‭ ‬الأعيان‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المزعج‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬إيجاد‭ ‬تناظُر‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬البيانيّة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬واحد،‭ ‬والحال‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تتساوى‭ ‬حدسيًّا‭ (‬على‭ ‬الأقلّ‭) ‬في‭ ‬التجريد‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬الوجوه‭ ‬أكثر‭ ‬تركيباً‭ ‬وتعقيداً‭ ‬بنيويًّا‭ ‬من‭ ‬بعض‭. ‬فما‭ ‬الفائدة‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬تجميعها‭ ‬تحت‭ ‬مظلّة‭ ‬واحدة؟

هل‭ ‬سيكون‭ ‬ذلك‭ ‬التّجميع‭ ‬جسراً‭ ‬لتوحيد‭ ‬منهجيّة‭ ‬تحليلها؟‭ ‬أم‭ ‬سيكون‭ ‬الأمر‭ ‬مجرّد‭ ‬كشف‭ ‬لعناصر‭ ‬الاتّصال‭ ‬والانفصال‭ ‬بينها؟

ألا‭ ‬يحجب‭ ‬عنّا‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الطّرح‭ ‬المشكليّات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬الاستعارة‭ ‬تطرحها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ارتباط‭ ‬الاستعارة‭ ‬بالكناية‭ ‬في‭ ‬الاسم،‭ (‬ونعني‭ ‬‮«‬الاستعارة‭ ‬المكنيّة‮»‬‭ ‬تحديداً‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬يطرحه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التّصوّر‭ ‬والتّمثيل؟

وهل‭ ‬يمكن‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬‮«‬حلّ‭ ‬مشكلات‮»‬‭ ‬عدم‭ ‬اتّساق‭ ‬التّحليل‭ ‬التّقليديّ‭ ‬لهذه‭ ‬الظّواهر‭ ‬البيانيّة‭ ‬وبين‭ ‬عدم‭ ‬الشّطط‭ ‬في‭ ‬تجميعها‭ ‬تحت‭ ‬لافتة‭ ‬واحدة،‭ ‬إشكاليّةٍ‭ ‬بدورها‭ ‬هي‭ ‬لافتة‭ ‬‮«‬المجاز»؟

 

نظريّة‭ ‬كورماك‭ ‬العرفانيّة‭ ‬في‭ ‬المجاز

قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إيرل‭ ‬ماك‭ ‬كورماك‭ ‬معروفاً‭ ‬بمجال‭ ‬العرفانيّات‭ ‬في‭ ‬السّياق‭ ‬العربي‭ ‬قياساً‭ ‬بأعلام‭ ‬اشتهروا،‭ ‬منهم‭ ‬لايكوف‭ ‬وجونسن‭ ‬جاكندوف‭ ‬وتالمي‭ ‬وفوكونييه‭ ‬وفيلمور‭ ‬ولانغاكير‭ ‬وغيرهم‭.‬

ولا‭ ‬يعكس‭ ‬ضعف‭ ‬حضور‭ ‬هذا‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬عدم‭ ‬أهمّيّته‭ ‬أو‭ ‬ضعف‭ ‬طرحه،‭ ‬ولكنه‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬اتّساع‭ ‬الرؤية‭ ‬لدى‭ ‬المشتغلين‭ ‬بالمجال‭ ‬العرفانيّ‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬العرب،‭ ‬وعدم‭ ‬تغلغل‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذا‭ ‬المجال‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬البحثية‭ ‬اللسانية‭ ‬العربية‭ ‬أصلاً‭.‬

ولعلّ‭ ‬ترجمة‭ ‬كتاب‭ ‬لايكوف‭ ‬وجونسن‭ ‬‮«‬الاستعارات‭ ‬التي‭ ‬نحيا‭ ‬بها‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬عبدالمجيد‭ ‬جحفة‭ ‬عام‭ ‬1996‭(‬ط2،‭ ‬عام‭ ‬2009‭) ‬قد‭ ‬ألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬الدرس‭ ‬اللساني،‭ ‬ولكن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المهتمّين‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬استفادوا‭ ‬منها‭ ‬لازمةً‭ ‬ولم‭ ‬يتعدَّوا‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأدبيات‭ ‬العرفانية،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاستعارة‭ ‬تحديداً‭. ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬نظريّة‭ ‬كورماك‭ ‬عن‭ ‬الاستعارة‭ ‬العرفانيّة‭ ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬عام‭ ‬1985‭ (‬بعد‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬ظهور‭ ‬Metaphors‭ ‬we‭ ‬live‭ ‬by‭) ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬صدى‭ ‬يُذكر‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬بالاستعارة‭ ‬العرفانيّة‭.‬

لذلك‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬أن‭ ‬نفتح‭ ‬زاوية‭ ‬الرؤية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النّظريّة،‭ ‬بوصفها‭ ‬أحد‭ ‬المقترحات‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العرفانيّ‭. 

نلفت‭ ‬العناية‭ ‬إلى‭ ‬أنّنا‭ ‬نترجم‭ ‬‮«‬metaphor‮»‬‭ ‬لا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الاستعارة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المجاز‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام،‭ ‬لاعتبارات‭ ‬كثيرة،‭ ‬لعلّ‭ ‬أعمّها‭ ‬وأقربها‭ ‬أنْ‭ ‬لا‭ ‬غناء‭ ‬يُذكر‭ ‬من‭ ‬التّنقير‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬تطابقٍ‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الافتراض‭ ‬بين‭ ‬الجدولين‭ ‬الاصطلاحيين‭ ‬المعتمدين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬التّقاليد‭ ‬البلاغيّة‭ ‬العربية‭ ‬والتّقاليد‭ ‬البلاغية‭ ‬الغربية‭.‬

ولعل‭ ‬التقريب‭ ‬الحذر‭ ‬والتّنصيص‭ ‬على‭ ‬الفروق‭ ‬ديدن‭ ‬الباحث‭ ‬الحريص‭ ‬على‭ ‬الدّقّة‭.‬

 

المجازات‭ ‬مسارات‭ ‬عرفانيّة

لتفسير‭ ‬المجازات‭ ‬بوصفها‭ ‬مسارات‭ ‬عرفانية،‭ ‬يفترض‭ ‬كورماك،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬العرفانيّين‭ ‬الذين‭ ‬وضعوا‭ ‬نظريّة‭ ‬عرفانيّة‭ ‬في‭ ‬المجاز‭ (‬الاستعارة‭)‬،‭ ‬وجود‭ ‬بنى‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬الذّهن‭ ‬البشريّ،‭ ‬بوصفها‭ ‬جهازاً‭ ‬مولّداً‭ ‬للّغة‭.‬

وعند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬وجود‮»‬‭ ‬بنى‭ ‬عميقة،‭ ‬فإننا‭ ‬نفهم‭ ‬ذلك‭ ‬بمعنى‭ ‬وجود‭ ‬أبنية‭ ‬عقلية‭ ‬وليست‭ ‬آليات‭ ‬تنهض‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬بيولوجية‭. ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مسارات‭ ‬الدماغ‭ ‬يعمل‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬تراتبيًّا‭ ‬نحو‭ ‬تجاور‭ ‬مفاهيم‭ ‬دلالية‭ ‬شديدة‭ ‬التفاوت‭ ‬تنتج‭ ‬مجازات‭ ‬قابلة‭ ‬للفهم‭. ‬

إن‭ ‬المراجع‭ ‬الدّلالية‭ ‬للمجاز‭ ‬تتوقّف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬التّماثل‭ ‬بين‭ ‬محمولاتها‭ ‬لكي‭ ‬تُفهم‭ ‬وبعض‭ ‬اللّاتماثل‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬مُوحِيَة‭.‬

ويمكن‭ ‬تنظيم‭ ‬تراتبيّة‭ ‬الأبنية‭ ‬العقليّة‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬مستويين‭ ‬للبنى‭ ‬العميقة‭: ‬مستوى‭ ‬دلاليّ‭ ‬وآخر‭ ‬عرفانيّ‭. ‬هذان‭ ‬المستويان‭ ‬ليسا‭ ‬استثنائيّين‭ ‬بشكل‭ ‬متبادل،‭ ‬ولكنّهما‭ ‬وُضعا‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬كورماك‭ ‬أن‭ ‬المسار‭ ‬العرفانيّ‭ ‬يقع‭ ‬ضمن‭ ‬المسار‭ ‬الدّلاليّ‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تحديد‭ ‬المسارين‭ ‬كليهما؛‭ ‬لأن‭ ‬الباحث‭ ‬يقرّ‭ ‬بوجود‭ ‬وظائف‭ ‬عرفانيّة‭ ‬غير‭ ‬لفظيّة،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬تلك‭ ‬الوظائف‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للرسامين‭ ‬بأن‭ ‬يعبّروا‭ ‬عن‭ ‬أحاسيسهم‭ ‬ورؤاهم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينبسوا‭ ‬ببنت‭ ‬شفة‭.‬

إنّ‭ ‬سطح‭ ‬اللّغة‭ ‬يوجد‭ ‬على‭ ‬قمّة‭ ‬تراتبيّة‭ ‬الأبنية‭ ‬العقليّة‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬التّفاعل‭ ‬مع‭ ‬البنى‭ ‬العميقة‭ ‬للدّلالة‭ ‬والعرفان‭. ‬إنّ‭ ‬سطح‭ ‬اللّغة‭ ‬يؤدّي‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬سياقٍ‭ ‬للتّأويل،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬عبر‭ ‬تحديد‭ ‬معنى‭ ‬المكوّن‭ ‬الدّلاليّ‭ ‬لمراجع‭ ‬المجاز‭.‬

فثمّة‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستويات‭ ‬للتّفسير‭:‬

المستوى‭ ‬الأول‭: ‬سطح‭ ‬اللّغة‭.‬

المستوى‭ ‬الثّاني‭: ‬علم‭ ‬الدّلالة‭ ‬والإعراب‭ (‬التّركيب‭).‬

المستوى‭ ‬الثّالث‭: ‬العرفان‭ (‬الإدراك‭).‬

مثلما‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المستويات‭ ‬التّراتبية‭ ‬بوصفها‭ ‬أجهزة‭ ‬استكشافيّة‭ ‬للمساعدة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬المسار‭ ‬العرفانيّ‭ ‬الذي‭ ‬تولّد‭ ‬المجاز‭ ‬عَبْره‭.‬

 

مسار‭ ‬عرفاني

المسار‭ ‬المفهوميّ‭ ‬نفسه‭ ‬جرى‭ ‬تمثيله‭ ‬في‭ ‬الأبنية‭ ‬العقليّة‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬المستويات‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬تتعالق‭ ‬كذلك‭ ‬مع‭ ‬مستويات‭ ‬إنتاج‭ ‬المجازات‭ ‬عبر‭ ‬مسار‭ ‬أكثر‭ ‬قابليّة‭ ‬للفهم‭ ‬الذي‭ ‬يُوصف‭ ‬بأنّه‭ ‬‮«‬مسار‭ ‬المعرفة‮»‬‭. ‬

فإذا‭ ‬نُظر‭ ‬إلى‭ ‬المجازات‭ ‬داخليًّا،‭ ‬تبيّن‭ ‬أنّها‭ ‬تعمل‭ ‬بوصفها‭ ‬وسيطة‭ ‬بين‭ ‬الذّهن‭ ‬البشريّ‭ ‬والثّقافة‭. ‬المجازات‭ ‬الجديدة‭ ‬تُغيّر‭ ‬كلًّا‭ ‬من‭ ‬اللّغة‭ ‬العاديّة‭ ‬التي‭ ‬نستعملها‭ ‬والطّرائق‭ ‬التي‭ ‬نتلقّى‭ ‬عَبْرها‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ونفهمها‭ ‬بها‭. ‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬المجازات‭ ‬تدخل‭ ‬ضمن‭ ‬الاستعمال‭ ‬المشترك،‭ ‬فإنّ‭ ‬مداخل‭ ‬المعاجم‭ ‬والقواميس‭ ‬تنمو‭.‬

وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تتلاشى‭ ‬المجازات‭ ‬أو‭ ‬تموت‭ ‬عندما‭ ‬تصبح‭ ‬مألوفةً‭ ‬ومبتذلةً‭. ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬المجازات‭ ‬تغيّر‭ ‬اللّغة،‭ ‬فإنّها‭ ‬تؤدّي‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تطوّرها‭ ‬الثقافي‭. ‬ومثلما‭ ‬تؤثر‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬سلوكنا،‭ ‬فإنّ‭ ‬المجازات‭ ‬قد‭ ‬تؤدّي‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬التّطوّر‭ ‬البيولوجي‭. ‬وعبر‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأنماط‭ ‬المتوازية،‭ ‬ولكن‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬التّطوّر،‭ ‬يمكن‭ ‬للمجاز‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬تضمينه‭ ‬بوصفه‭ ‬مكوناً‭ ‬مندمجاً‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬دونالد‭ ‬كمبل‭ ‬‮«‬إبستيمولوجيا‭ ‬تطوّريّة‮»‬‭.‬

إنّ‭ ‬مشكل‭ ‬الدَّوْر‭ ‬يواجه‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬هذا‭ ‬التّقريرَ‭ ‬التّفسيريَّ‭ ‬للمجاز‭ ‬القائمَ‭ ‬على‭ ‬تراتبيّةِ‭ ‬البنى‭ ‬العميقة‭. ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يفسّر‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬عندما‭ ‬يفترض‭ ‬التّقرير‭ ‬المقدَّم‭ ‬لتوفير‭ ‬فهم‭ ‬المجاز‭ ‬بوصفه‭ ‬مساراً‭ ‬عرفانيًّا‭ ‬أنّ‭ ‬المسار‭ ‬العرفانيّ‭ ‬يُماثل‭ ‬تنظيماً‭ ‬ذا‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستويات؟‭ ‬هذا‭ ‬الدَّور‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تلافيه‭ ‬بشكل‭ ‬تامّ،‭ ‬ولكن‭ ‬يمكن‭ ‬تخفيف‭ ‬حدّته‭. ‬هذا‭ ‬الضّرب‭ ‬من‭ ‬الدَّور‭ ‬يوازي‭ ‬الدّور‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬تفسير‭ ‬طبيعة‭ ‬‮«‬المعنى‮»‬‭ ‬دون‭ ‬افتراض‭ ‬‮«‬معنى‮»‬‭ ‬مسبق‭ ‬في‭ ‬الوصف‭. ‬

لقد‭ ‬حاولنا‭ ‬تخفيف‭ ‬حدّة‭ ‬الدّور‭ ‬بالمحافظة‭ ‬على‭ ‬تقسيمٍ‭ ‬بين‭ ‬ضربين‭ ‬من‭ ‬اللّغة‭ ‬نقف‭ ‬فيهما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأوّل‭: ‬اللّغة‭ ‬العاديّة،‭ ‬وهي‭ ‬حرفيّة،‭ ‬واللّغة‭ ‬المجازيّة‭ ‬التي‭ ‬ندعوها‭ ‬تمثيليّة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬حرفيّة‭. ‬

 

نقطة‭ ‬انطلاق

إنّ‭ ‬وجود‭ ‬لغة‭ ‬حرفيّة‭ ‬بوصفها‭ ‬شكلاً‭ ‬مستقلًّا‭ ‬عن‭ ‬المجازات‭ ‬يوفّر‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬موضوعيّة‭ ‬مشتركة،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬منها‭ ‬نحكم‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬وعلى‭ ‬حقيقة‭ ‬المجاز‭ ‬الجزئيّة‭.‬

هذا‭ ‬الاستقلال‭ ‬للُّغةِ‭ ‬الحرفيّةِ‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬العرفانيّ‭ ‬للمجاز،‭ ‬يسمح‭ ‬بالحُكم‭ ‬على‭ ‬المجاز،‭ ‬حُكماً‭ ‬متحرّراً‭ ‬من‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة‭ ‬للدَّور‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬استعمال‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬تفسيره‭ ‬فحسب،‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬التّفسير‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭.‬

لكنّ‭ ‬المرء‭ ‬لا‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬الدّور‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬مثلما‭ ‬لاحظتُ‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬فإنّ‭ ‬معنى‭ ‬مراجع‭ ‬المجازات‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬تحديده‭ ‬عبر‭ ‬المرجعيّة‭ ‬إلى‭ ‬سياق‭ ‬المجاز‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬سطح‭ ‬اللّغة‭ (‬المستوى‭ ‬الأوّل‭).‬

ولعل‭ ‬أيّ‭ ‬دور‭ ‬قريب‭ ‬لا‭ ‬يُغطّيه‭ ‬اكتشاف‭ ‬أنّ‭ ‬أيّ‭ ‬نظريّة‭ ‬تفسيريّة‭ ‬للمجاز‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تفترض‭ ‬‮«‬مجازاً‭ ‬أساسيًّا‮»‬‭ ‬مُتضمَّناً‭ ‬ينبني‭ ‬التّقرير‭ ‬التّفسيريّ‭ ‬عليه‭. ‬فالمجازات‭ ‬الأساسيّة‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الادّعاءات‭ (‬الافتراضات‭) ‬النّظريّة‭ ‬الأساسيّة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬المجاز‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬المنظّرون،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬‮«‬المجاز‭ ‬يولّد‭ ‬تناقضاً‭ ‬عندما‭ ‬يُقرأ‭ ‬بطريقة‭ ‬حرفيّة‮»‬‭ (‬نظريّة‭ ‬التّناقض‭) ‬أو‭ ‬‮«‬المجاز‭ ‬مماثلة‮»‬‭ (‬نظرية‭ ‬التشبيه‭). ‬

مجدَّداً،‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬تلافي‭ ‬الدور‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق،‭ ‬وما‭ ‬دمنا‭ ‬سنبني‭ ‬تقريراً‭ ‬تفسيريًّا‭ ‬بديهيًّا‭ ‬للمجاز‭ ‬فإنّه‭ ‬ينبغي‭ ‬عينا‭ ‬أن‭ ‬نفترض‭ ‬أن‭ ‬المجاز‭ ‬يحدّد‭ ‬جزئيًّا‭ ‬مع‭ ‬أيّ‭ ‬العناصر‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مجازاً‭. ‬

إنّ‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬نظريات‭ ‬المجاز‭ ‬تفترض‭ ‬مجازات‭ ‬أساسيّة‭ ‬متضمّنة‭ ‬لا‭ ‬تولّد‭ ‬بالضرورة‭ ‬إثبات‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬اللغة،‭ ‬من‭ ‬ثمّة،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاتها‭ ‬مجازيّة‭.‬

هذه‭ ‬الدعوى‭ ‬لا‭ ‬تتبع‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬نظريّات‭ ‬المجاز‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬مجازية‭. ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الأمرين،‭ ‬وإن‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬تمييز‭ ‬الاختلافات‭ ‬بين‭ ‬المجازات‭ ‬واللّغة‭ ‬الحرْفيّة‭ ‬لا‭ ‬يُضعف‭ ‬فهم‭ ‬توصيفات‭ ‬طبيعة‭ ‬المجاز،‭ ‬ولكنّه‭ ‬يفرض‭ ‬كذلك‭ ‬نظريّة‭ ‬الحقيقة‭ ‬النّسبويّة‭ ‬غير‭ ‬المرغوب‭ ‬فيها‭. ‬

 

تداعيات‭ ‬مهمة

إنّ‭ ‬الدّفاع‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬لغة‭ ‬عاديّة‭ ‬له‭ ‬تداعيات‭ ‬مهمّة‭ ‬في‭ ‬نظريّة‭ ‬المجاز‭ ‬التي‭ ‬يتبنّاها‭ ‬كورماك‭ ‬والمتضمّنة‭ ‬لطبيعة‭ ‬معنى‭ ‬المجاز،‭ ‬ولقيمة‭ ‬الحقيقة‭ ‬فيه‭ ‬ودور‭ ‬المجاز‭ ‬وسيطاً‭ ‬بين‭ ‬الذّهن‭ ‬والثّقافة‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬أحد‭ ‬أكثر‭ ‬الافتراضات‭ ‬إثارةً‭ ‬للجدل‭ ‬حول‭ ‬نظريّة‭ ‬المجاز‭ ‬هو‭ ‬مخالفة‭ ‬الرّأي‭ ‬القائل‭ ‬إنّه‭ ‬يمكن‭ ‬تمثيل‭ ‬البنى‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬المستويين‭ ‬الثّاني‭ ‬والثّالث‭ ‬أحسن‭ ‬تمثيل‭ ‬عبر‭ ‬التّجريدات‭. ‬وتشمل‭ ‬مزايا‭ ‬هذا‭ ‬الافتراض‭ ‬كونيّة‭ ‬البنى‭ ‬الرّياضيّة‭ ‬ودقّة‭ ‬في‭ ‬التّعبير‭ ‬أشدّ‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬اللّغات‭ ‬الطّبيعيّة‭.‬

وسعياً‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الدّقّة‭ ‬حول‭ ‬الظّاهرة‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬غموضاً‭ ‬متأصّلاً،‭ ‬لجأ‭ ‬كورماك‭ ‬إلى‭ ‬بنى‭ ‬صوريّة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المجموعات‭ ‬الغامضة‭ ‬والمنطق‭ ‬المتعدّد‭ ‬القيم،‭ ‬التي‭ ‬توفّر‭ ‬كلًّا‭ ‬من‭ ‬الدّقّة‭ ‬والمرونة‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬ولا‭ ‬يقصد‭ ‬كورماك‭ ‬بتبنّي‭ ‬تجريداتٍ‭ ‬لوصف‭ ‬البنى‭ ‬العميقة‭ ‬ادّعاء‭ ‬أيّ‭ ‬موضوعيّة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يثبّتها‭ ‬باستعمال‭ ‬كلمات‭ ‬عاديّة‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭ ‬الشارحة‭ ‬لتفسير‭ ‬المجاز‭. ‬إنّ‭ ‬اللّغة‭ ‬الصّوريّة‭ ‬المستعملة‭ ‬في‭ ‬البنى‭ ‬الصّوريّة‭ ‬توفّر‭ ‬منهجاً‭ ‬بديلاً‭ ‬للتّعبير‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭.‬

وددنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المدخل‭ ‬الموجز‭ ‬أن‭ ‬نعرّج‭ ‬على‭ ‬طرائق‭ ‬جديدة‭ ‬للنظر‭ ‬إلى‭ ‬المجاز‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬تجاوز‭ ‬الطرح‭ ‬التقليدي‭ ‬بلاغيًّا‭ ‬وكلاميًّا،‭ ‬وتفسح‭ ‬المجال‭ ‬إلى‭ ‬ربط‭ ‬تحليل‭ ‬الأقوال‭ ‬بالمسارات‭ ‬الذهنية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬مشتركات‭ ‬وكلّيات‭ ‬لسانية‭ ‬تحضر‭ ‬في‭ ‬الملَكة‭ ‬اللغوية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬الألسن‭ ‬وطرائق‭ ‬تصريفها‭ ‬للكلام‭. ‬وهذه‭ ‬الطرائق‭ ‬تستحق‭ ‬النقاش‭ ‬والطرح‭ ‬والمساءلة،‭ ‬لأنها‭ ‬اجتهادات‭ ‬قابلة‭ ‬للدحض‭ ‬والمجادلة‭ ■