نحو تأصيل المجاز ذهنيّاً
نستبعد في هذه المقالة التطرق إلى الاختلافات المذهبية بين القائلين بوجود المجاز والقائلين بنفيه أو الذين يعمدون إلى حصره في جوانب محدودة.
ويقتصر اهتمامنا بالمجاز، فيها، على الناحية الذهنية الإدراكية التي يمكن أن نُبرزها في الظواهر القولية التي يجري تصنيفها على أنها مجازات.
لقد جرى تمييز ضروب المجاز في سياق البلاغة العربيّة الكلاسيكيّة إلى الأنواع المعروفة: المجاز العقليّ، والمجاز المرسل، والكناية (مع وعينا بإشكال الأمر وبالحاجة إلى تفصيل)، والاستعارة.
وقد انبنى التّمييز بينها على الأسس التّصنيفية الآتية:
المجاز ينقسم إلى عقلي ولغوي، والأخير ينقسم إلى مجاز قائم على المشابهة (الاستعارة)، وآخر قائم على غير المشابهة (المجاز المرسل).
وتختلف وضعية الكناية في نسبتها إلى المجاز نسبة تامة، أو جعلها في منزلة تقع بين الحقيقة والمجاز، أو جعلها تجمع بينهما في قراءتين مختلفتين.
ولقد جرى تفريع كل نوع من المجاز إلى فروع؛ فقُسّم المجاز العقلي إلى سببي ومسبّبي وزماني ومكاني، ووُزِّع المجاز المرسل إلى أنواع بحسب علاقات الجزئية والكليّة والسببيّة والمسبّبيّة، والحاليّة والمحليّة، واعتبار ما كان واعتبار ما يكون.
أما الاستعارة فنُظر إليها بحسب أنواعها؛ مكنيّة أو تصريحية، أصلية أو تبعيّة، مطلقة أو مجرّدة أو مرشّحة، فضلاً عن أنواع أخرى كالعناديّة.
كما تحدّث بعض البيانيّين والأصوليّين في بعض السّياقات عن مجاز المجاز، مثلما تحدّث الجرجانيّ عن معنى المعنى.
ولعلّ مثل هذه الشّبكة من تحليل ضروب المجاز وتوزيعه متناسقة ضمن سياق البلاغة الكلاسيكيّة، ومستجيبة إلى الأفق المعرفيّ الذي ساد طوال قرون.
ولكنّه يبدو اليوم من الأهمية بمكان مراجعة الاعتبارات الإبستيمولوجيّة التي أُسّست عليها تلك الشبكة، مع الطموح إلى تأسيس رؤية أكثر اتّساقاً مع المعارف التي تراكمت في العقود الأخيرة بفضل تطوّر العلوم العرفانيّة والدّراسات اللسانيّة، التي قدّمت مقترحات جديرة بالفحص والمعالجة، ولم لا يكون التّجريب، بوضعها على محكّ شبكة التحليل البلاغيّ الكلاسيكيّة؟
العنصر الحاسم
إنّ العقل التّحليليّ السّاعي إلى السّيطرة على الظواهر جميعها عبر إرجاعها إلى مولّد جامع، يحفّزنا إلى طلب إبراز القوانين التي يتولّد عنها اختلاف التّصنيف، قبل الاستغراق في حيثيّاته وتفريعاته.
فما العنصر الحاسم في التمييز بين الوجوه المجازيّة إذا تشابهت؟ وما الأسس التي يمكن أن نأنس بها للترجيح بين التحاليل إن اختلفت أو تضاربت عند قراءة القول الواحد؟
يمكن اقتراح إجابة وقتيّة نتّخذها افتراض عمل، عسى أن نصل في نهاية التّحليل إلى إجابة مقنعة ومطّردة.
نرى أنّ المجاز العقليّ كلّه وعدداً من علاقات المجاز المرسل، يمكن اعتباره مجاز الحذف، أمّا الكناية فهي مجاز المجاورة، والاستعارة هي مجاز المشابهة.
فالحذف والمجاورة والمشابهة هي قوانين المجاز التي تتحكّم في طريقة انتصابه في الخطاب وسبيل تعقُّله في الإدراك. أو قُل بعبارة تراثيّة إدراكه في الأذهان وحضوره في الأعيان.
قد يكون من المزعج أن نحاول إيجاد تناظُر بين هذه الوجوه البيانيّة على مستوى واحد، والحال أنّها لا تتساوى حدسيًّا (على الأقلّ) في التجريد. كما أنّ بعض الوجوه أكثر تركيباً وتعقيداً بنيويًّا من بعض. فما الفائدة من محاولة تجميعها تحت مظلّة واحدة؟
هل سيكون ذلك التّجميع جسراً لتوحيد منهجيّة تحليلها؟ أم سيكون الأمر مجرّد كشف لعناصر الاتّصال والانفصال بينها؟
ألا يحجب عنّا مثل هذا الطّرح المشكليّات التي كانت بعض أنواع الاستعارة تطرحها من حيث ارتباط الاستعارة بالكناية في الاسم، (ونعني «الاستعارة المكنيّة» تحديداً)، وما يطرحه ذلك من تداعيات على مستوى التّصوّر والتّمثيل؟
وهل يمكن الجمع بين «حلّ مشكلات» عدم اتّساق التّحليل التّقليديّ لهذه الظّواهر البيانيّة وبين عدم الشّطط في تجميعها تحت لافتة واحدة، إشكاليّةٍ بدورها هي لافتة «المجاز»؟
نظريّة كورماك العرفانيّة في المجاز
قد لا يكون إيرل ماك كورماك معروفاً بمجال العرفانيّات في السّياق العربي قياساً بأعلام اشتهروا، منهم لايكوف وجونسن جاكندوف وتالمي وفوكونييه وفيلمور ولانغاكير وغيرهم.
ولا يعكس ضعف حضور هذا الباحث في هذا السياق عدم أهمّيّته أو ضعف طرحه، ولكنه يعبّر عن عدم اتّساع الرؤية لدى المشتغلين بالمجال العرفانيّ من الدارسين العرب، وعدم تغلغل الاهتمام بهذا المجال في الأوساط البحثية اللسانية العربية أصلاً.
ولعلّ ترجمة كتاب لايكوف وجونسن «الاستعارات التي نحيا بها»، التي قام بها عبدالمجيد جحفة عام 1996(ط2، عام 2009) قد ألقت بظلالها على الدرس اللساني، ولكن كثيراً من المهتمّين من الباحثين العرب استفادوا منها لازمةً ولم يتعدَّوا منها إلى غيرها من الأدبيات العرفانية، حتى في مجال الاستعارة تحديداً. ومثال ذلك نظريّة كورماك عن الاستعارة العرفانيّة التي نُشرت عام 1985 (بعد خمس سنوات من ظهور Metaphors we live by) التي لا نجد لها صدى يُذكر في الدراسات العربية التي اهتمت بالاستعارة العرفانيّة.
لذلك نرى أنه من المفيد أن نفتح زاوية الرؤية على هذه النّظريّة، بوصفها أحد المقترحات الواردة في المجال العرفانيّ.
نلفت العناية إلى أنّنا نترجم «metaphor» لا بـ «الاستعارة»، بل بـ «المجاز» في هذا المقام، لاعتبارات كثيرة، لعلّ أعمّها وأقربها أنْ لا غناء يُذكر من التّنقير بحثاً عن تطابقٍ لا يتجاوز الافتراض بين الجدولين الاصطلاحيين المعتمدين في كل من التّقاليد البلاغيّة العربية والتّقاليد البلاغية الغربية.
ولعل التقريب الحذر والتّنصيص على الفروق ديدن الباحث الحريص على الدّقّة.
المجازات مسارات عرفانيّة
لتفسير المجازات بوصفها مسارات عرفانية، يفترض كورماك، وهو أحد العرفانيّين الذين وضعوا نظريّة عرفانيّة في المجاز (الاستعارة)، وجود بنى عميقة في الذّهن البشريّ، بوصفها جهازاً مولّداً للّغة.
وعند الحديث عن «وجود» بنى عميقة، فإننا نفهم ذلك بمعنى وجود أبنية عقلية وليست آليات تنهض على معطيات بيولوجية. عن طريق مسارات الدماغ يعمل العقل البشري تراتبيًّا نحو تجاور مفاهيم دلالية شديدة التفاوت تنتج مجازات قابلة للفهم.
إن المراجع الدّلالية للمجاز تتوقّف على بعض التّماثل بين محمولاتها لكي تُفهم وبعض اللّاتماثل لكي تكون مُوحِيَة.
ويمكن تنظيم تراتبيّة الأبنية العقليّة هذه في مستويين للبنى العميقة: مستوى دلاليّ وآخر عرفانيّ. هذان المستويان ليسا استثنائيّين بشكل متبادل، ولكنّهما وُضعا للإشارة إلى اعتبار كورماك أن المسار العرفانيّ يقع ضمن المسار الدّلاليّ.
ولا يمكن تحديد المسارين كليهما؛ لأن الباحث يقرّ بوجود وظائف عرفانيّة غير لفظيّة، من قبيل تلك الوظائف التي تسمح للرسامين بأن يعبّروا عن أحاسيسهم ورؤاهم من دون أن ينبسوا ببنت شفة.
إنّ سطح اللّغة يوجد على قمّة تراتبيّة الأبنية العقليّة. ولا يمكن له أن ينجو من التّفاعل مع البنى العميقة للدّلالة والعرفان. إنّ سطح اللّغة يؤدّي دوراً في توفير سياقٍ للتّأويل، ولاسيّما عبر تحديد معنى المكوّن الدّلاليّ لمراجع المجاز.
فثمّة ثلاثة مستويات للتّفسير:
المستوى الأول: سطح اللّغة.
المستوى الثّاني: علم الدّلالة والإعراب (التّركيب).
المستوى الثّالث: العرفان (الإدراك).
مثلما يُمكن أن يُنظر إلى هذه المستويات التّراتبية بوصفها أجهزة استكشافيّة للمساعدة في فهم المسار العرفانيّ الذي تولّد المجاز عَبْره.
مسار عرفاني
المسار المفهوميّ نفسه جرى تمثيله في الأبنية العقليّة عبر هذه المستويات الثلاثة التي تتعالق كذلك مع مستويات إنتاج المجازات عبر مسار أكثر قابليّة للفهم الذي يُوصف بأنّه «مسار المعرفة».
فإذا نُظر إلى المجازات داخليًّا، تبيّن أنّها تعمل بوصفها وسيطة بين الذّهن البشريّ والثّقافة. المجازات الجديدة تُغيّر كلًّا من اللّغة العاديّة التي نستعملها والطّرائق التي نتلقّى عَبْرها الأشياء في العالم ونفهمها بها. وبما أنّ المجازات تدخل ضمن الاستعمال المشترك، فإنّ مداخل المعاجم والقواميس تنمو.
وكثيراً ما تتلاشى المجازات أو تموت عندما تصبح مألوفةً ومبتذلةً. وما دامت المجازات تغيّر اللّغة، فإنّها تؤدّي دوراً في تطوّرها الثقافي. ومثلما تؤثر اللغة في سلوكنا، فإنّ المجازات قد تؤدّي دوراً في التّطوّر البيولوجي. وعبر الاشتراك في هذه الأنماط المتوازية، ولكن المختلفة من التّطوّر، يمكن للمجاز أن يتمّ تضمينه بوصفه مكوناً مندمجاً ضمن ما أسماه دونالد كمبل «إبستيمولوجيا تطوّريّة».
إنّ مشكل الدَّوْر يواجه في الحال هذا التّقريرَ التّفسيريَّ للمجاز القائمَ على تراتبيّةِ البنى العميقة. كيف يمكن للمرء أن يفسّر أيّ شيء، عندما يفترض التّقرير المقدَّم لتوفير فهم المجاز بوصفه مساراً عرفانيًّا أنّ المسار العرفانيّ يُماثل تنظيماً ذا ثلاثة مستويات؟ هذا الدَّور لا يمكن تلافيه بشكل تامّ، ولكن يمكن تخفيف حدّته. هذا الضّرب من الدَّور يوازي الدّور الذي نجده عند تفسير طبيعة «المعنى» دون افتراض «معنى» مسبق في الوصف.
لقد حاولنا تخفيف حدّة الدّور بالمحافظة على تقسيمٍ بين ضربين من اللّغة نقف فيهما على المستوى الأوّل: اللّغة العاديّة، وهي حرفيّة، واللّغة المجازيّة التي ندعوها تمثيليّة أو غير حرفيّة.
نقطة انطلاق
إنّ وجود لغة حرفيّة بوصفها شكلاً مستقلًّا عن المجازات يوفّر نقطة انطلاق موضوعيّة مشتركة، انطلاقاً منها نحكم على المعنى وعلى حقيقة المجاز الجزئيّة.
هذا الاستقلال للُّغةِ الحرفيّةِ عن المسار العرفانيّ للمجاز، يسمح بالحُكم على المجاز، حُكماً متحرّراً من الحلقة المفرغة للدَّور القائم على استعمال المسار الذي يسعى الباحث إلى تفسيره فحسب، مثله في ذلك مثل التّفسير في حدّ ذاته.
لكنّ المرء لا ينجو من الدّور بشكل كامل، مثلما لاحظتُ من قبل، فإنّ معنى مراجع المجازات ينبغي أن يتمّ تحديده عبر المرجعيّة إلى سياق المجاز الموجود في سطح اللّغة (المستوى الأوّل).
ولعل أيّ دور قريب لا يُغطّيه اكتشاف أنّ أيّ نظريّة تفسيريّة للمجاز ينبغي أن تفترض «مجازاً أساسيًّا» مُتضمَّناً ينبني التّقرير التّفسيريّ عليه. فالمجازات الأساسيّة هي تلك الادّعاءات (الافتراضات) النّظريّة الأساسيّة عن طبيعة المجاز التي يضعها المنظّرون، من قبيل «المجاز يولّد تناقضاً عندما يُقرأ بطريقة حرفيّة» (نظريّة التّناقض) أو «المجاز مماثلة» (نظرية التشبيه).
مجدَّداً، لا يمكننا تلافي الدور بشكل مطلق، وما دمنا سنبني تقريراً تفسيريًّا بديهيًّا للمجاز فإنّه ينبغي عينا أن نفترض أن المجاز يحدّد جزئيًّا مع أيّ العناصر لا يكون مجازاً.
إنّ إدراك أن نظريات المجاز تفترض مجازات أساسيّة متضمّنة لا تولّد بالضرورة إثبات أنّ كلّ اللغة، من ثمّة، ينبغي أن تكون هي في حدّ ذاتها مجازيّة.
هذه الدعوى لا تتبع الاعتراف بأن نظريّات المجاز هي ذاتها مجازية. إذ يمكن التمييز بين الأمرين، وإن الفشل في تمييز الاختلافات بين المجازات واللّغة الحرْفيّة لا يُضعف فهم توصيفات طبيعة المجاز، ولكنّه يفرض كذلك نظريّة الحقيقة النّسبويّة غير المرغوب فيها.
تداعيات مهمة
إنّ الدّفاع عن وجود لغة عاديّة له تداعيات مهمّة في نظريّة المجاز التي يتبنّاها كورماك والمتضمّنة لطبيعة معنى المجاز، ولقيمة الحقيقة فيه ودور المجاز وسيطاً بين الذّهن والثّقافة.
قد يكون أحد أكثر الافتراضات إثارةً للجدل حول نظريّة المجاز هو مخالفة الرّأي القائل إنّه يمكن تمثيل البنى العميقة في المستويين الثّاني والثّالث أحسن تمثيل عبر التّجريدات. وتشمل مزايا هذا الافتراض كونيّة البنى الرّياضيّة ودقّة في التّعبير أشدّ من تلك التي نجدها في اللّغات الطّبيعيّة.
وسعياً إلى أكبر قدر ممكن من الدّقّة حول الظّاهرة التي تشهد غموضاً متأصّلاً، لجأ كورماك إلى بنى صوريّة من قبيل المجموعات الغامضة والمنطق المتعدّد القيم، التي توفّر كلًّا من الدّقّة والمرونة في آن. ولا يقصد كورماك بتبنّي تجريداتٍ لوصف البنى العميقة ادّعاء أيّ موضوعيّة أخرى غير تلك التي يثبّتها باستعمال كلمات عاديّة تنطلق من مستوى اللغة الشارحة لتفسير المجاز. إنّ اللّغة الصّوريّة المستعملة في البنى الصّوريّة توفّر منهجاً بديلاً للتّعبير عن تفسير.
وددنا من خلال هذا المدخل الموجز أن نعرّج على طرائق جديدة للنظر إلى المجاز من زوايا تجاوز الطرح التقليدي بلاغيًّا وكلاميًّا، وتفسح المجال إلى ربط تحليل الأقوال بالمسارات الذهنية التي تمثّل مشتركات وكلّيات لسانية تحضر في الملَكة اللغوية الإنسانية، على الرغم من اختلاف الألسن وطرائق تصريفها للكلام. وهذه الطرائق تستحق النقاش والطرح والمساءلة، لأنها اجتهادات قابلة للدحض والمجادلة ■