حِكَمُ الأعراب.. عمق في الدلالات ونضج في الرؤى

حِكَمُ الأعراب.. عمق في الدلالات ونضج في الرؤى

الحِكم‭ ‬عند‭ ‬جميع‭ ‬الأمم‭ ‬تمثل‭ ‬نضج‭ ‬فكر‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬أفرادها،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تصدر‭ ‬إلا‭ ‬ممن‭ ‬اختبروا‭ ‬الحياة‭ ‬ونالوا‭ ‬قسطاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭.‬

ولذلك‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تظل‭ ‬حبيسة‭ ‬وطن‭ ‬أو‭ ‬بيئة‭ ‬معيّنة،‭ ‬إنها‭ ‬تنتقل‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬لتصبح‭ ‬ملكاً‭ ‬للإنسانية،‭ ‬تستفيد‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬العامة‭ ‬وفي‭ ‬توسيع‭ ‬ثقافتها‭ ‬واكتمال‭ ‬معارفها‭ ‬وتوضيح‭ ‬رؤيتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭. ‬والحكم‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬من‭ ‬الأعراب‭ ‬تمثّل‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬سعة‭ ‬الثقافة‭ ‬ونضج‭ ‬الفكر‭ ‬وعمق‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬اكتسبها‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صحراوية‭ ‬شحيحة‭ ‬في‭ ‬عطائها‭.‬

وهذه‭ ‬الحكم‭ ‬مكملة‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬العصر،‭ ‬مثل‭ ‬الشعر‭ ‬والخطب‭ ‬والأمثال،‭ ‬فالدارس‭ ‬للفكر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬لا‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬فكراً‭ ‬وثقافة‭ ‬وأسلوب‭ ‬حياة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السلم‭ ‬والحرب،‭ ‬لكونها‭ ‬تمثّل‭ ‬عصارة‭ ‬فكرهم‭ ‬ومنتهى‭ ‬ما‭ ‬وصلوا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬رؤيتهم‭ ‬للطبيعة‭ ‬وما‭ ‬وراءها‭ ‬وفي‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالإنسان‭ ‬والكائنات‭ ‬الحية‭ ‬والجامدة‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬بيئتهم،‭ ‬ولكل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬بالهم‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬اجتماعية‭ ‬وخلقية‭ ‬ونفسية‭ ‬وتربوية‭. ‬

والدارس‭ ‬لحِكم‭ ‬الأعراب‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬واحدة‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬فيها‭ ‬اثنان،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬أمة‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬عريق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الناضج‭ ‬والمواقف‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬البطولة‭ ‬والكرم‭ ‬والحلم‭ ‬والوفاء‭ ‬بالعهود،‭ ‬إنها‭ ‬مواقف‭ ‬تكوَنت‭ ‬عند‭ ‬أفرادها‭ ‬نتيجة‭ ‬صراعهم‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬حرمتهم‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬متع‭ ‬الحياة‭ ‬ولذاتها،‭ ‬فجعلت‭ ‬الخير‭ ‬يتغلب‭ ‬على‭ ‬الشر‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أفرادها‭ ‬الذين‭ ‬ذاقوا‭ ‬ويلات‭ ‬الحروب‭ ‬والجوع‭ ‬واعتداء‭ ‬الجماعات‭ ‬الظالمة‭ ‬على‭ ‬المستضعفين‭.‬

 

عصارة‭ ‬التجارب

ومن‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬نستغرب‭ ‬أن‭ ‬يبرز‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬حكماء‭ ‬وشعراء‭ ‬وخطباء‭ ‬ملأوا‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغلوا‭ ‬الناس‭ ‬بما‭ ‬صدر‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أقوال‭ ‬تمثل‭ ‬عصارة‭ ‬تجارب‭ ‬الإنسان‭ ‬الجاهلي‭ ‬الناضجة‭ ‬في‭ ‬آماله‭ ‬وطموحاته‭ ‬ونظرته‭ ‬لهذا‭ ‬الكون‭.‬

‭ ‬وتاريخ‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬الذي‭ ‬مزج‭ ‬بين‭ ‬شتى‭ ‬الإبداعات‭ ‬وتوحّد‭ ‬في‭ ‬تمجيد‭ ‬قيم‭ ‬الخير‭ ‬والعطاء‭ ‬والنبل‭ ‬الإنساني‭ ‬وذم‭ ‬الشر‭ ‬والبخل‭ ‬والجبن؛‭ ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬العلماء‭ ‬حينما‭ ‬أرادوا‭ ‬جمع‭ ‬التراث‭ ‬عنوا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬قالته‭ ‬العرب،‭ ‬وكان‭ ‬للحِكَم‭ ‬نصيب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام،‭ ‬لأنها‭ ‬تضمنت‭ ‬تلك‭ ‬الثقافة‭ ‬العميقة‭ ‬والصادقة‭ ‬في‭ ‬تجاربهم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬صورة‭ ‬حياة‭ ‬العرب‭ ‬إلا‭ ‬بدراسة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬منهم،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬الأصمعي‭ ‬وعلماء‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬جمع‭ ‬التراث‭ ‬وشرحه‭ ‬وتدوينه‭ ‬لا‭ ‬يغفلون‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬قالته‭ ‬العرب‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬بسيطاً‭ ‬وهيّناً،‭ ‬لأنه‭ ‬يمثل‭ ‬الصورة‭ ‬الكاملة‭ ‬لحياة‭ ‬الأعراب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيه‭ ‬الكتابة‭ ‬والتدوين‭.‬

إن‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬دلالات‭ ‬الحكم‭ ‬عند‭ ‬الأعراب‭ ‬يشعر‭ ‬بإعجاب‭ ‬كبير‭ ‬وتقدير‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬له‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬الأعراب‭ ‬من‭ ‬كمال‭ ‬العقل‭ ‬وسعة‭ ‬التجارب‭ ‬ونضج‭ ‬الرؤى‭ ‬التي‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬دعوتهم‭ ‬إلى‭ ‬أسمى‭ ‬ما‭ ‬تطمح‭ ‬إليه‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬تقدمت‭ ‬فيه‭ ‬المعارف‭ ‬واكتملت‭ ‬فيه‭ ‬الرؤى‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬المثُل‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬أقرتها‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭. ‬

 

نضج‭ ‬فكري

إن‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬توصل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الرؤى‭ ‬برغم‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صحراوية‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬لها‭ ‬بالمدنية‭ ‬والحضارة،‭ ‬مثل‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬معاصرة‭ ‬له،‭ ‬فما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬رؤى‭ ‬فيها‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬الحلم‭ ‬والعفو‭ ‬عند‭ ‬المقدرة،‭ ‬وإلى‭ ‬الإيثار‭ ‬والجود‭ ‬والشجاعة‭ ‬وإغاثة‭ ‬الملهوف،‭ ‬وإلى‭ ‬حماية‭ ‬المستضعفين‭ ‬من‭ ‬الظَّلمة‭ ‬والمعتدين،‭ ‬إنها‭ ‬تمثل‭ ‬النضج‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬أسمى‭ ‬تجلياته؛‭ ‬إن‭ ‬قسوة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬الأعراب‭ ‬نمّت‭ ‬فيهم‭ ‬روح‭ ‬التضامن‭ ‬والتكافل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والصبر‭ ‬والاحتمال،‭ ‬وهي‭ ‬السمات‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬مستقرة‭ ‬وآمنة‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬والفتن‭. ‬

إن‭ ‬الفرد‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬بوجوب‭ ‬مد‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬للمحتاجين‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬العسر‭ ‬والشدة،‭ ‬حيث‭ ‬يقل‭ ‬الطعام،‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬نضجاً‭ ‬فكرياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬وإنسانياً،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تغنى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬وما‭ ‬تمثّل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حكم؛‭ ‬وبرغم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬البعض‭ ‬بدافع‭ ‬الافتخار‭ ‬والظهور‭ ‬بمظهر‭ ‬الجود‭ ‬والشجاعة‭ ‬والإقدام،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬مثلت‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬صميم‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يطمحون‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬بيئتهم‭ ‬القاسية‭. ‬

وننظر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحكم‭ ‬التي‭ ‬رواها‭ ‬عالم‭ ‬جليل‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬عناية‭ ‬كبيرة‭ ‬بالتراث‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة،‭ ‬وهو‭ ‬الأصمعي،‭ ‬ولما‭ ‬تضمنت‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والروابط‭ ‬الإنسانية،‭ ‬كانت‭ ‬توقظ‭ ‬ذهن‭ ‬كثير‭ ‬ممن‭ ‬غفل‭ ‬عن‭ ‬تقلبات‭ ‬الزمن‭ ‬وتلون‭ ‬سلوك‭ ‬الناس‭. ‬

قال‭ ‬الأصمعي‭: ‬حدثني‭ ‬من‭ ‬سمع‭ ‬أعرابياً‭ ‬يقول‭ ‬لصديق‭ ‬له‭: ‬‮«‬دع‭ ‬ما‭ ‬يسبق‭ ‬إلى‭ ‬القلوب‭ ‬إنكاره،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عندك‭ ‬اعتذاره،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬حكى‭ ‬عنك‭ ‬نكراً،‭ ‬توسعه‭ ‬فيك‭ ‬عذراً‮»‬‭. ‬

إن‭ ‬المتأمل‭ ‬في‭ ‬حكمة‭ ‬هذا‭ ‬الأعرابي‭ ‬يلاحظ‭ ‬كم‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬يقي‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬شرور‭ ‬كثيرة‭ ‬إذا‭ ‬تحلى‭ ‬بالصبر‭ ‬والحكمة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬لينال‭ ‬مراده،‭ ‬ويتجنب‭ ‬عداء‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعاشرهم‭.‬

 

صفات‭ ‬نبيلة

إن‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬تعد‭ ‬تربية‭ ‬لنهج‭ ‬سلوك‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬يجعل‭ ‬الناس‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬سلام‭ ‬ومحبة‭ ‬وأمن؛‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬موطن‭ ‬معيّن‭ ‬ولا‭ ‬تختص‭ ‬بفئة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬ولا‭ ‬بعصر‭ ‬من‭ ‬العصور،‭ ‬إنها‭ ‬حكمة‭ ‬بليغة‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬النضج‭ ‬الفكري‭ ‬والسمو‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يهذب‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬وتعلمهم‭ ‬كيف‭ ‬يختارون‭ ‬طريق‭ ‬السلم‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬يختلط‭ ‬فيها‭ ‬الأخيار‭ ‬بالأشرار،‭ ‬ولو‭ ‬حققت‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬تقدماً‭ ‬زاهراً‭ ‬في‭ ‬الصناعة‭ ‬والتجارة‭ ‬وعالم‭ ‬المال‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحاضر‭.‬

وقال‭ ‬أيضاً‭: ‬‮«‬سمعت‭ ‬أعرابياً‭ ‬يقول‭: ‬صُن‭ ‬عقلك‭ ‬بالحلم،‭ ‬ومروءتك‭ ‬بالعفاف،‭ ‬ونجدتك‭ ‬بمجانبة‭ ‬الخيلاء،‭ ‬وخلَتك‭ ‬–‭ ‬بفتح‭ ‬الخاء‭ ‬–‭ ‬بالإجمال‭ ‬في‭ ‬الطلب‮»‬‭.‬

حينما‭ ‬نقرأ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الأعراب‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬التمدن‭ ‬والحضارة‭ ‬والجامعات،‭ ‬وحرموا‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬الهنيء‭ ‬والأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬مثل‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى،‭ ‬نشعر‭ ‬بأن‭ ‬بيئتهم‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬البداوة‭ ‬قد‭ ‬صنعت‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تصنعه‭ ‬البيئات‭ ‬المتحضرة‭ ‬التي‭ ‬أنعم‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ ‬بالخصب‭ ‬والنماء‭ ‬والعيش‭ ‬الهنيء،‭ ‬بل‭ ‬بالعلم‭ ‬والتقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المدنية‭ ‬والحقوقية‭. ‬

إن‭ ‬امتلاك‭ ‬الحلم‭ ‬والمروءة‭ ‬وتجنب‭ ‬الصفات‭ ‬الذميمة‭ ‬من‭ ‬خيلاء‭ ‬وإعجاب‭ ‬بالنفس‭ ‬وعدم‭ ‬الكسل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬طلب‭ ‬السعادة‭ ‬والكمال‭ ‬هي‭ ‬صفات‭ ‬نبيلة‭ ‬ومقاصد‭ ‬شريفة‭ ‬لا‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭ ‬إلا‭ ‬الأكابر‭ ‬وذوو‭ ‬العزائم‭. ‬وهذه‭ ‬الحكمة‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬همم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تكونهم‭ ‬الجامعات‭ ‬والمدارس‭ ‬العليا‭. ‬

 

مجتمع‭ ‬فاضل

ومما‭ ‬رواه‭ ‬الأصمعي‭ ‬عن‭ ‬شبيب‭ ‬بن‭ ‬شبَة‭ ‬أنه‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إخوان‭ ‬الصدق‭ ‬خير‭ ‬مكاسب‭ ‬الدنيا؛‭ ‬هم‭ ‬زينة‭ ‬في‭ ‬الرخاء،‭ ‬وعدة‭ ‬في‭ ‬البلاء،‭ ‬ومعونة‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬المعاش‭ ‬والمعاد‮»‬‭. ‬

لله‭ ‬در‭ ‬هذا‭ ‬القائل‭ ‬في‭ ‬دعوة‭ ‬الناس‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الفضائل‭ ‬التي‭ ‬تسعدهم،‭ ‬فاختيار‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والجلساء‭ ‬الذين‭ ‬يتصفون‭ ‬بالصفات‭ ‬النبيلة،‭ ‬كالحلم‭ ‬والكرم‭ ‬والصدق‭ ‬والوفاء‭ ‬مما‭ ‬يعين‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬قدماً‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬يكونون‭ ‬عوناً‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬الشدائد‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬طلب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يسعده‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬والأخرى‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يرجوه‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬سوي‭.‬

وروى‭ ‬عن‭ ‬أعرابي‭ ‬آخر‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬عوّد‭ ‬لسانك‭ ‬الخير‭ ‬تسلم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الشر‮»‬‭. ‬

فلو‭ ‬عمل‭ ‬الأفراد‭ ‬بهذه‭ ‬الحكمة‭ ‬لرأينا‭ ‬مجتمعاً‭ ‬فاضلاً‭ ‬لم‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬أفلاطون‭ ‬في‭ ‬‮«‬جمهوريته‮»‬‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الاستقرار‭ ‬والتعاون‭ ‬والأمن،‭ ‬لأن‭ ‬الكلمة‭ ‬الطيبة،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬مثل‭ ‬الشجرة‭ ‬الضاربة‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الأرض‭ ‬والممتدة‭ ‬أغصانها‭ ‬في‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ ‬تعطي‭ ‬ثماراً‭ ‬وخضرة‭ ‬وظلالاً‭. ‬وأهل‭ ‬الشر‭ ‬الذين‭ ‬يسلم‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬شرهم‭ ‬بالكلمة‭ ‬الطيبة‭ ‬ربما‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬أخيار،‭ ‬بفضل‭ ‬وجود‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬كلمة‭ ‬طيبة‭ ‬تغسل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬أدران،‭ ‬وتعلمهم‭ ‬كيف‭ ‬يعيشون‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بسلام‭.‬

وروي‭ ‬قول‭ ‬أكثم‭ ‬بن‭ ‬صيفي،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬حكماء‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬خير‭ ‬السخاء‭ ‬ما‭ ‬وافق‭ ‬الحاجة،‭ ‬ومن‭ ‬عرف‭ ‬قدره‭ ‬لم‭ ‬يهلك،‭ ‬ومن‭ ‬صبر‭ ‬ظفر،‭ ‬وأكرم‭ ‬أخلاق‭ ‬الرجال‭ ‬العفو‮»‬‭.‬

ما‭ ‬أجمل‭ ‬أن‭ ‬نسمع‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬‮«‬وأكرم‭ ‬أخلاق‭ ‬الرجال‭ ‬العفو‮»‬‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬فيه‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والعفو‭ ‬عند‭ ‬المقدرة‭ ‬هدفاً‭ ‬وغاية‭ ‬يسعى‭ ‬إليها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬تعج‭ ‬بالصراع‭ ‬والاقتتال،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات‭ ‬جنت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفضائل‭ ‬بهذه‭ ‬الخصلة‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬تجنب‭ ‬الاقتتال‭ ‬وتغرس‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬المحبة‭ ‬والصبر‭.‬

 

ثقافة‭ ‬عميقة

إن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكم‭ ‬تزرع‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬بأن‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬خير‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أمثال‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬موجودين‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭. ‬

ولا‭ ‬نستغرب‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الأصمعي‭ ‬نفسه‭ ‬حكماً‭ ‬بليغة‭ ‬نبعت‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬ومعاناته‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬ومما‭ ‬اكتسبه‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬أشعار‭ ‬العرب‭ ‬ولغاتها‭ ‬وأمثالها‭ ‬وحكمها،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬قول‭ ‬أبي‭ ‬حاتم‭: ‬سمعت‭ ‬الأصمعي‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬من‭ ‬قعد‭ ‬به‭ ‬نسبه،‭ ‬نهض‭ ‬به‭ ‬أدبه‮»‬‭. ‬

وصدق‭ ‬كل‭ ‬الصدق،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬أبناء‭ ‬الأعيان‭ ‬وأصحاب‭ ‬الثراء‭ ‬أصبحت‭ ‬لهم‭ ‬مكانة‭ ‬وتقدير‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬بفضل‭ ‬ما‭ ‬اكتسبوا‭ ‬من‭ ‬آداب‭ ‬وما‭ ‬نهلوا‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬وما‭ ‬عرفوا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬نبيل‭ ‬في‭ ‬وسطهم‭ ‬الاجتماعي‭.‬

ولعل‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬قد‭ ‬انطبقت‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬علمائنا‭ ‬وفقهائنا‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬فقيرة‭ ‬وفقدوا‭ ‬الأب‭ ‬والمعيل،‭ ‬لكنهم‭ ‬بفضل‭ ‬أدبهم‭ ‬وعلمهم‭ ‬واجتهادهم‭ ‬أصبحوا‭ ‬من‭ ‬خيرة‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭. ‬

وروى‭ ‬الأصمعي‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬حكماً‭ ‬بليغة‭ ‬ومواعظ‭ ‬دينية‭ ‬تنبه‭ ‬الغافلين‭ ‬والذين‭ ‬جعلوا‭ ‬سعيهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اكتساب‭ ‬الشهرة‭ ‬والمال،‭ ‬فضاعوا‭ ‬وكانوا‭ ‬الأخسرين‭ ‬أعمالاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شعور‭. ‬ومنها‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬كان‭ ‬من‭ ‬دعاء‭ ‬أبي‭ ‬المحبب‭: ‬اللهم‭ ‬اجعل‭ ‬خير‭ ‬عملي‭ ‬ما‭ ‬قارب‭ ‬أجلي‮»‬،‭ ‬وقوله‭ ‬أيضاً‭: ‬‮«‬اللهم‭ ‬لا‭ ‬تكلنا‭ ‬إلى‭ ‬أنفسنا‭ ‬فنعجز،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬فنضيع‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬رواه‭ ‬الأصـــــــــمعي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأقوال‭ ‬الرصينة‭ ‬المحكمة‭ ‬جواب‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬الخليفة‭ ‬العادل‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬حينما‭ ‬وفد‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الأمصار،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬الخليفة‭: ‬كيف‭ ‬تركت‭ ‬الناس؟‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬تركت‭ ‬غنيهم‭ ‬موفوراً،‭ ‬وفقيرهم‭ ‬محبوراً،‭ ‬وظالمهم‭ ‬مقهوراً،‭ ‬ومظلومهم‭ ‬منصوراً‭. ‬فقال‭: ‬الحمد‭ ‬لله،‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخصال‭ ‬إلا‭ ‬بعضو‭ ‬من‭ ‬أعضائي‭ ‬لكان‭ ‬يسيراً‮»‬‭.‬

ليت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬أمور‭ ‬المسلمين‭ ‬يحرص‭ ‬عليهم‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الحرص‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬طبقة‭ ‬تنال‭ ‬حظها‭ ‬بعدل‭ ‬وسوية‭.‬

 

فصل‭ ‬الخطاب

هذه‭ ‬الأقوال‭ ‬المأثورة‭ ‬والحكم‭ ‬الرصينة‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الإنسانية‭ ‬قد‭ ‬أسست‭ ‬منظمات‭ ‬قانونية‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تشريعية‭ ‬وجمعيات‭ ‬مدنية‭ ‬ومعاهد‭ ‬عليا‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وفي‭ ‬العلاقات‭ ‬الفردية‭ ‬والدولية‭ ‬لتعد‭ ‬من‭ ‬كمال‭ ‬العقل‭ ‬وصواب‭ ‬الرأي‭ ‬وفصل‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬إليه‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬البداوة‭ ‬والبساطة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والفكرية،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬أدرك‭ ‬الإسلام‭ ‬وعمل‭ ‬بما‭ ‬دعاه‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬فضائل‭ ‬وإحسان؛‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬العليا،‭ ‬ولم‭ ‬يجلس‭ ‬تحت‭ ‬قبة‭ ‬برلمان،‭ ‬ولم‭ ‬يجتمع‭ ‬مع‭ ‬ملوك‭ ‬ورؤساء‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى،‭ ‬ولكن‭ ‬الحياة‭ ‬علَمته‭ ‬أفضل‭ ‬مما‭ ‬يتعلمه‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المنابر‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭.‬

ومما‭ ‬رواه‭ ‬الأصمعي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الضرب‭ ‬أقوال‭ ‬لبعض‭ ‬الحكماء،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يذكـــــر‭ ‬لـــــنا،‭ ‬أهم‭ ‬جاهليون‭ ‬أم‭ ‬إسلاميون،‭ ‬لكن‭ ‬محــــتواها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الروح‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬دعت‭ ‬إليها‭ ‬الشريعة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ائتـــلاف‭ ‬قلوب‭ ‬الأبرار‭ ‬وبُعد‭ ‬قلوب‭ ‬الفجار‭ ‬من‭ ‬الائتلاف،‭ ‬وهي‭ ‬ألفاظ‭ ‬ومعان‭ ‬إسلامية‭ ‬كثرت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬وسنة‭ ‬رسوله‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬ومنها‭ ‬قول‭ ‬بعض‭ ‬الحكماء‭ ‬لابنه‭: ‬‮«‬يا‭ ‬بنيَ،‭ ‬اقبل‭ ‬وصـــــــيتي‭ ‬وعهـــــدي،‭ ‬إن‭ ‬سرعة‭ ‬ائتلاف‭ ‬قلوب‭ ‬الأبرار‭ ‬كسرعة‭ ‬اختلاط‭ ‬قطر‭ ‬المطر‭ ‬بماء‭ ‬الأنهار،‭ ‬وبُعد‭ ‬قلوب‭ ‬الفجار‭ ‬من‭ ‬الائتلاف‭ ‬كبعد‭ ‬البهائم‭ ‬من‭ ‬التعاطف‭ ‬وإن‭ ‬طال‭ ‬اعتلافها‭ ‬على‭ ‬آريَ‭ ‬واحد‭. ‬كن‭ ‬يا‭ ‬بنيَ‭ ‬بصالح‭ ‬الوزراء‭ ‬أغنى‭ ‬منك‭ ‬بكثرة‭ ‬عدَتهم،‭ ‬فإن‭ ‬اللؤلؤة‭ ‬خفيف‭ ‬محملها‭ ‬كثير‭ ‬ثمنها،‭ ‬والحجر‭ ‬فادح‭ ‬حمله‭ ‬قليل‭ ‬غناؤه‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬الحكم‭ ‬البليغة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تعليق‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬إضافة،‭ ‬فهي‭ ‬تحمل‭ ‬عمق‭ ‬السلوك‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يختاره‭ ‬العقلاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭. ‬

 

سبع‭ ‬خصال

وقال‭: ‬والـــــظاهر‭ ‬أنها‭ ‬لبعض‭ ‬الوعاظ‭ ‬والحكماء‭ ‬الإسلاميين‭ ‬منطوقاً‭ ‬ومضمــــوناً‭ - ‬‮«‬بلغني‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الحكماء‭ ‬كان‭ ‬يقــول‭: ‬إني‭ ‬لأعظكم‭ ‬وإني‭ ‬لكثير‭ ‬الذنوب،‭ ‬مسرف‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬غير‭ ‬حامد‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬حاملها‭ ‬على‭ ‬المكروه‭ ‬في‭ ‬طاعة‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬قد‭ ‬بلوتها‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬لها‭ ‬شكراً‭ ‬في‭ ‬الرخاء،‭ ‬ولا‭ ‬صبراً‭ ‬على‭ ‬البلاء؛‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬المرء‭ ‬لا‭ ‬يعظ‭ ‬أخاه‭ ‬حتى‭ ‬يحكم‭ ‬أمر‭ ‬نفسه‭ ‬لترك‭ ‬الأمر‭ ‬بالخير‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر،‭ ‬ولكن‭ ‬محادثة‭ ‬الإخوان‭ ‬حياة‭ ‬للقلوب‭ ‬وجلاء‭ ‬للنفوس‭ ‬وتذكير‭ ‬من‭ ‬النسيان؛‭ ‬واعلموا‭ ‬أن‭ ‬الدنيا‭ ‬سرورها‭ ‬أحزان،‭ ‬وإقبالها‭ ‬إدبار،‭ ‬وآخر‭ ‬حياتها‭ ‬الموت،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬مستقبلٍ‭ ‬يوماً‭ ‬لا‭ ‬يستكمله،‭ ‬ومنتظرٍ‭ ‬غداً‭ ‬لا‭ ‬يبلغه،‭ ‬ولو‭ ‬تنظرون‭ ‬إلى‭ ‬الأجل‭ ‬ومسيره‭ ‬لأبغضتم‭ ‬الأمل‭ ‬وغروره‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬الحكم‭ ‬والمواعظ‭ ‬فيها‭ ‬تعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الزهد‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وعدم‭ ‬الاغترار‭ ‬ببريقها‭ ‬وزخرفها؛‭ ‬فالإنسان‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا،‭ ‬بعد‭ ‬عبادة‭ ‬الله‭ ‬وطاعته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أمر‭ ‬به‭ ‬ونهى‭ ‬عنه،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬الصالح‭ ‬الذي‭ ‬يقربه‭ ‬من‭ ‬خالقه‭ ‬وينفع‭ ‬به‭ ‬مجتمعه‭ ‬ويحفظ‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلها‭.‬

ومما‭ ‬رواه‭ ‬أيضاً‭ ‬لبعض‭ ‬الحكماء‭ ‬‮«‬من‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬سبع‭ ‬خصال‭ ‬لم‭ ‬يَعدم‭ ‬سبعاً‭: ‬من‭ ‬كان‭ ‬جواداً‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬الشرف،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬وفاء‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬المقدرة،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬صدوقاً‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬القبول،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬شكوراً‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬الزيادة،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬رعاية‭ ‬للحقوق‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬السؤدد،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬منصفاً‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬العافية،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬متواضعاً‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬الكرامة‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬الأقوال‭ ‬والحكم‭ ‬التــــــي‭ ‬رواهـــا‭ ‬الأصمعي‭ ‬عن‭ ‬أعراب‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬أو‭ ‬أدركوا‭ ‬الإسلام‭ ‬وعملوا‭ ‬بتعاليمه‭ ‬السمحة،‭ ‬راعى‭ ‬فيها‭ ‬إبراز‭ ‬الجوانب‭ ‬الســــلوكية‭ ‬والنفسية‭ ‬والأدبية‭ ‬والتربوية‭ ‬والخلقـــــية‭ ‬التــــي‭ ‬تقـــوي‭ ‬دعائم‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬الوحدة‭ ‬والصبر‭ ‬والاحتمال،‭ ‬فهي‭ ‬تصلح‭ ‬الفرد‭ ‬وتـــــنبهه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬فـــــيه‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭ ‬تضره‭ ‬وتضر‭ ‬مجتمعه،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تقوي‭ ‬التلاحم‭ ‬بين‭ ‬الجماعة‭ ‬وتذكي‭ ‬الهمم‭ ‬وتـــــشد‭ ‬العزائم‭ ‬وتعيد‭ ‬الغافل‭ ‬إلى‭ ‬رشده،‭ ‬فما‭ ‬أحوج‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬إلى‭ ‬مـــــثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكم‭ ‬لتضــيء‭ ‬طريقهم‭ ‬إذا‭ ‬ضلوا‭ ‬ولم‭ ‬يجدوا‭ ‬معيناً‭ ‬لينبههم‭! ‬■