حِكَمُ الأعراب.. عمق في الدلالات ونضج في الرؤى

الحِكم عند جميع الأمم تمثل نضج فكر ما وصلت إليه النخبة من أفرادها، فهي لا تصدر إلا ممن اختبروا الحياة ونالوا قسطاً كبيراً من المعرفة.
ولذلك فهي لا تظل حبيسة وطن أو بيئة معيّنة، إنها تنتقل بين الشعوب والأمم لتصبح ملكاً للإنسانية، تستفيد منها في حياتها العامة وفي توسيع ثقافتها واكتمال معارفها وتوضيح رؤيتها في كل ما يحيط بها. والحكم التي صدرت من الأعراب تمثّل هذا اللون من سعة الثقافة ونضج الفكر وعمق التجارب التي اكتسبها الإنسان العربي في بيئة صحراوية شحيحة في عطائها.
وهذه الحكم مكملة للثقافة العربية في ذاك العصر، مثل الشعر والخطب والأمثال، فالدارس للفكر العربي في تلك المرحلة لا يفصل بين هذه النماذج إذا أراد التوصل إلى ما كان عليه المجتمع العربي فكراً وثقافة وأسلوب حياة في زمن السلم والحرب، لكونها تمثّل عصارة فكرهم ومنتهى ما وصلوا إليه في رؤيتهم للطبيعة وما وراءها وفي علاقتهم بالإنسان والكائنات الحية والجامدة التي وجدت في بيئتهم، ولكل ما كان يشغل بالهم من قضايا اجتماعية وخلقية ونفسية وتربوية.
والدارس لحِكم الأعراب لا يمكنه أن يصل إلا إلى نتيجة واحدة لا يختلف فيها اثنان، وهي أن العرب أمة لها تاريخ عريق في الفكر الناضج والمواقف الإنسانية التي تتجلى في البطولة والكرم والحلم والوفاء بالعهود، إنها مواقف تكوَنت عند أفرادها نتيجة صراعهم مع البيئة التي حرمتهم من كثير من متع الحياة ولذاتها، فجعلت الخير يتغلب على الشر عند كثير من أفرادها الذين ذاقوا ويلات الحروب والجوع واعتداء الجماعات الظالمة على المستضعفين.
عصارة التجارب
ومن هنا لا نستغرب أن يبرز في هذه البيئة حكماء وشعراء وخطباء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بما صدر منهم من أقوال تمثل عصارة تجارب الإنسان الجاهلي الناضجة في آماله وطموحاته ونظرته لهذا الكون.
وتاريخ العرب قبل الإسلام لم يعرف إلا من دراسة هذا التراث الذي مزج بين شتى الإبداعات وتوحّد في تمجيد قيم الخير والعطاء والنبل الإنساني وذم الشر والبخل والجبن؛ ولهذا نجد العلماء حينما أرادوا جمع التراث عنوا بكل ما قالته العرب، وكان للحِكَم نصيب كبير من هذا الاهتمام، لأنها تضمنت تلك الثقافة العميقة والصادقة في تجاربهم، ولا يمكن أن تكتمل صورة حياة العرب إلا بدراسة كل ما صدر منهم، ولذلك كان الأصمعي وعلماء آخرون في مرحلة جمع التراث وشرحه وتدوينه لا يغفلون عن شيء قالته العرب ولو كان بسيطاً وهيّناً، لأنه يمثل الصورة الكاملة لحياة الأعراب في زمن لم تكن فيه الكتابة والتدوين.
إن الباحث في دلالات الحكم عند الأعراب يشعر بإعجاب كبير وتقدير لا حد له لما كان عليه الأعراب من كمال العقل وسعة التجارب ونضج الرؤى التي تمثلت في دعوتهم إلى أسمى ما تطمح إليه الإنسانية في عصرنا الحديث الذي تقدمت فيه المعارف واكتملت فيه الرؤى القريبة من تحقيق المثُل العليا في حقوق الإنسان والعلاقات الاجتماعية التي أقرتها المنظمات الدولية.
نضج فكري
إن الإنسان العربي توصل إلى تلك الرؤى برغم وجوده في بيئة صحراوية لا صلة لها بالمدنية والحضارة، مثل شعوب أخرى كانت معاصرة له، فما توصل إليه من رؤى فيها دعوة إلى الحلم والعفو عند المقدرة، وإلى الإيثار والجود والشجاعة وإغاثة الملهوف، وإلى حماية المستضعفين من الظَّلمة والمعتدين، إنها تمثل النضج الفكري في أسمى تجلياته؛ إن قسوة العيش في بيئة الأعراب نمّت فيهم روح التضامن والتكافل الاجتماعي والصبر والاحتمال، وهي السمات التي تجعل المجتمعات البشرية مستقرة وآمنة من الاضطرابات والفتن.
إن الفرد الذي يشعر بوجوب مد يد العون للمحتاجين في زمن العسر والشدة، حيث يقل الطعام، يكون قد بلغ نضجاً فكرياً واجتماعياً وإنسانياً، وهذا ما عبّر عنه العربي في كل ما تغنى به من شعر وما تمثّل به من حكم؛ وبرغم أن هذه المواقف كانت تصدر من البعض بدافع الافتخار والظهور بمظهر الجود والشجاعة والإقدام، لكنها في الواقع مثلت عند كثير منهم صميم الحياة التي كانوا يطمحون إليها في بيئتهم القاسية.
وننظر في بعض الحكم التي رواها عالم جليل كانت له عناية كبيرة بالتراث في مرحلة مبكرة، وهو الأصمعي، ولما تضمنت من دلالات عميقة في الحياة والعلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، كانت توقظ ذهن كثير ممن غفل عن تقلبات الزمن وتلون سلوك الناس.
قال الأصمعي: حدثني من سمع أعرابياً يقول لصديق له: «دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فليس من حكى عنك نكراً، توسعه فيك عذراً».
إن المتأمل في حكمة هذا الأعرابي يلاحظ كم تحمل من الدلالات التي تجعل الإنسان يقي نفسه من شرور كثيرة إذا تحلى بالصبر والحكمة في التعامل مع الناس لينال مراده، ويتجنب عداء أقرب الناس الذين يعاشرهم.
صفات نبيلة
إن هذه الحكمة تعد تربية لنهج سلوك في الحياة العامة يجعل الناس يعيشون في سلام ومحبة وأمن؛ ومثل هذه الحكمة ليس لها موطن معيّن ولا تختص بفئة من الناس ولا بعصر من العصور، إنها حكمة بليغة تعبّر عن النضج الفكري والسمو الإنساني الذي يهذب سلوك الأفراد في كل زمان ومكان، وتعلمهم كيف يختارون طريق السلم في مجتمعات يختلط فيها الأخيار بالأشرار، ولو حققت تلك المجتمعات تقدماً زاهراً في الصناعة والتجارة وعالم المال مثل ما هي عليه الحال في عصرنا الحاضر.
وقال أيضاً: «سمعت أعرابياً يقول: صُن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، وخلَتك – بفتح الخاء – بالإجمال في الطلب».
حينما نقرأ مثل هذه الحكمة لهؤلاء الأعراب الذين عاشوا بعيدين عن كل مظاهر التمدن والحضارة والجامعات، وحرموا من العيش الهنيء والأمن والاستقرار، مثل شعوب أخرى، نشعر بأن بيئتهم الموغلة في البداوة قد صنعت منهم ما لم تصنعه البيئات المتحضرة التي أنعم الله عليها بالخصب والنماء والعيش الهنيء، بل بالعلم والتقنيات الحديثة والمؤسسات المدنية والحقوقية.
إن امتلاك الحلم والمروءة وتجنب الصفات الذميمة من خيلاء وإعجاب بالنفس وعدم الكسل من أجل طلب السعادة والكمال هي صفات نبيلة ومقاصد شريفة لا يسعى إلى تحقيقها إلا الأكابر وذوو العزائم. وهذه الحكمة عبّرت عن همم هؤلاء الرجال الذين لم تكونهم الجامعات والمدارس العليا.
مجتمع فاضل
ومما رواه الأصمعي عن شبيب بن شبَة أنه قال: «إخوان الصدق خير مكاسب الدنيا؛ هم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، ومعونة على حسن المعاش والمعاد».
لله در هذا القائل في دعوة الناس لمثل هذه الفضائل التي تسعدهم، فاختيار الأصدقاء والجلساء الذين يتصفون بالصفات النبيلة، كالحلم والكرم والصدق والوفاء مما يعين الإنسان على السير قدماً في الاتجاه الصحيح، فهؤلاء يكونون عوناً له على احتمال الشدائد والسعي إلى طلب كل ما يسعده في الدنيا والأخرى. وهذا ما يرجوه كل إنسان سوي.
وروى عن أعرابي آخر قوله: «عوّد لسانك الخير تسلم من أهل الشر».
فلو عمل الأفراد بهذه الحكمة لرأينا مجتمعاً فاضلاً لم يحلم به حتى أفلاطون في «جمهوريته» من حيث الاستقرار والتعاون والأمن، لأن الكلمة الطيبة، كما وصفها الله عز وجل، مثل الشجرة الضاربة جذورها في عمق الأرض والممتدة أغصانها في عنان السماء تعطي ثماراً وخضرة وظلالاً. وأهل الشر الذين يسلم الإنسان من شرهم بالكلمة الطيبة ربما يتحولون إلى أخيار، بفضل وجود من يقول لهم في كل حين كلمة طيبة تغسل ما في قلوبهم من أدران، وتعلمهم كيف يعيشون بين الناس بسلام.
وروي قول أكثم بن صيفي، وهو من حكماء العرب «خير السخاء ما وافق الحاجة، ومن عرف قدره لم يهلك، ومن صبر ظفر، وأكرم أخلاق الرجال العفو».
ما أجمل أن نسمع مثل هذه الحكمة «وأكرم أخلاق الرجال العفو» في زمن لم تعد فيه القيم الأخلاقية والعفو عند المقدرة هدفاً وغاية يسعى إليها الإنسان في حياة تعج بالصراع والاقتتال، فكم من الأفراد والمجتمعات جنت الكثير من الفضائل بهذه الخصلة النبيلة التي تجنب الاقتتال وتغرس في النفوس المحبة والصبر.
ثقافة عميقة
إن مثل هذه الحكم تزرع الأمل في النفوس بأن الحياة فيها خير ما دام أمثال هؤلاء الرجال موجودين في المجتمعات.
ولا نستغرب أن يقول الأصمعي نفسه حكماً بليغة نبعت من تجربته ومعاناته في الحياة، ومما اكتسبه من ثقافة عميقة في أشعار العرب ولغاتها وأمثالها وحكمها، من ذلك قول أبي حاتم: سمعت الأصمعي كثيراً ما يقول: «من قعد به نسبه، نهض به أدبه».
وصدق كل الصدق، فكم من الناس لم يكونوا أبناء الأعيان وأصحاب الثراء أصبحت لهم مكانة وتقدير في المجتمع بفضل ما اكتسبوا من آداب وما نهلوا من علم وما عرفوا به من خلق نبيل في وسطهم الاجتماعي.
ولعل هذه الحكمة قد انطبقت على كثير من علمائنا وفقهائنا الذين عاشوا في أسر فقيرة وفقدوا الأب والمعيل، لكنهم بفضل أدبهم وعلمهم واجتهادهم أصبحوا من خيرة هذه الأمة.
وروى الأصمعي عن أبيه حكماً بليغة ومواعظ دينية تنبه الغافلين والذين جعلوا سعيهم في هذه الحياة الدنيا من أجل اكتساب الشهرة والمال، فضاعوا وكانوا الأخسرين أعمالاً من دون شعور. ومنها قوله: «كان من دعاء أبي المحبب: اللهم اجعل خير عملي ما قارب أجلي»، وقوله أيضاً: «اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع».
ومن أجمل ما رواه الأصـــــــــمعي من هذه الأقوال الرصينة المحكمة جواب أحدهم عن سؤال الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز حينما وفد عليه من أحد الأمصار، حيث قال له الخليفة: كيف تركت الناس؟ فقال: «تركت غنيهم موفوراً، وفقيرهم محبوراً، وظالمهم مقهوراً، ومظلومهم منصوراً. فقال: الحمد لله، لو لم تتم واحدة من هذه الخصال إلا بعضو من أعضائي لكان يسيراً».
ليت كل من يتولى أمور المسلمين يحرص عليهم بمثل هذا الحرص الذي يجعل كل طبقة تنال حظها بعدل وسوية.
فصل الخطاب
هذه الأقوال المأثورة والحكم الرصينة التي صدرت من هؤلاء الرجال في زمن لم تكن الإنسانية قد أسست منظمات قانونية ومؤسسات تشريعية وجمعيات مدنية ومعاهد عليا للنظر في حقوق الإنسان وفي العلاقات الفردية والدولية لتعد من كمال العقل وصواب الرأي وفصل الخطاب الذي بلغ إليه الإنسان العربي البسيط الذي عاش في زمن البداوة والبساطة في كل مظاهر الحياة الاجتماعية والفكرية، ومنهم من أدرك الإسلام وعمل بما دعاه إليه من فضائل وإحسان؛ هذا الإنسان لم يتعلم في الجامعة ولا في المدارس العليا، ولم يجلس تحت قبة برلمان، ولم يجتمع مع ملوك ورؤساء الدول الكبرى، ولكن الحياة علَمته أفضل مما يتعلمه الناس من تلك المنابر الفكرية والثقافية والسياسية.
ومما رواه الأصمعي في هذا الضرب أقوال لبعض الحكماء، لكنه لم يذكـــــر لـــــنا، أهم جاهليون أم إسلاميون، لكن محــــتواها أقرب إلى الروح الإسلامية التي دعت إليها الشريعة من حيث ائتـــلاف قلوب الأبرار وبُعد قلوب الفجار من الائتلاف، وهي ألفاظ ومعان إسلامية كثرت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومنها قول بعض الحكماء لابنه: «يا بنيَ، اقبل وصـــــــيتي وعهـــــدي، إن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار، وبُعد قلوب الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على آريَ واحد. كن يا بنيَ بصالح الوزراء أغنى منك بكثرة عدَتهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه».
هذه الحكم البليغة لا تحتاج إلى تعليق ولا إلى إضافة، فهي تحمل عمق السلوك المثالي الذي ينبغي أن يختاره العقلاء في كل زمان ومكان.
سبع خصال
وقال: والـــــظاهر أنها لبعض الوعاظ والحكماء الإسلاميين منطوقاً ومضمــــوناً - «بلغني أن بعض الحكماء كان يقــول: إني لأعظكم وإني لكثير الذنوب، مسرف على نفسي، غير حامد لها ولا حاملها على المكروه في طاعة الله عز وجل، قد بلوتها فلم أجد لها شكراً في الرخاء، ولا صبراً على البلاء؛ ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه لترك الأمر بالخير والنهي عن المنكر، ولكن محادثة الإخوان حياة للقلوب وجلاء للنفوس وتذكير من النسيان؛ واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت، فكم من مستقبلٍ يوماً لا يستكمله، ومنتظرٍ غداً لا يبلغه، ولو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره».
هذه الحكم والمواعظ فيها تعاليم الإسلام الذي دعا إلى الزهد في الحياة وعدم الاغترار ببريقها وزخرفها؛ فالإنسان وجد في هذه الحياة الدنيا، بعد عبادة الله وطاعته في كل ما أمر به ونهى عنه، من أجل العمل الصالح الذي يقربه من خالقه وينفع به مجتمعه ويحفظ الإنسانية كلها.
ومما رواه أيضاً لبعض الحكماء «من كانت فيه سبع خصال لم يَعدم سبعاً: من كان جواداً لم يعدم الشرف، ومن كان ذا وفاء لم يعدم المقدرة، ومن كان صدوقاً لم يعدم القبول، ومن كان شكوراً لم يعدم الزيادة، ومن كان ذا رعاية للحقوق لم يعدم السؤدد، ومن كان منصفاً لم يعدم العافية، ومن كان متواضعاً لم يعدم الكرامة».
هذه الأقوال والحكم التــــــي رواهـــا الأصمعي عن أعراب عاشوا في الجاهلية أو أدركوا الإسلام وعملوا بتعاليمه السمحة، راعى فيها إبراز الجوانب الســــلوكية والنفسية والأدبية والتربوية والخلقـــــية التــــي تقـــوي دعائم المجتمع على الوحدة والصبر والاحتمال، فهي تصلح الفرد وتـــــنبهه إلى ما يقع فـــــيه من أخطاء تضره وتضر مجتمعه، كما أنها تقوي التلاحم بين الجماعة وتذكي الهمم وتـــــشد العزائم وتعيد الغافل إلى رشده، فما أحوج الناس في كل زمان إلى مـــــثل هذه الحكم لتضــيء طريقهم إذا ضلوا ولم يجدوا معيناً لينبههم! ■