«حنين بالنعناع» لربيعة جلطي بين تراكبية النَّص وسلاسة المضمون
يصعب التكهن بما كانت تطمح إليه المبدعة ربيعة جلطي في روايتها «حنين بالنعناع»، بشأن طبيعة الرسالة التي توجِّهُها للقارئ، لكن لا شك في أن ما أسفر عنه عملها الأدبي هو ملحمة كونيَّة تتلمَّس الحب والخير والجمال في زمنٍ موجِعٍ لضميرِ البشريَّةِ جميعاً، يتهدَّدُ فيه الخطر كل حياة على سطح الأرض من فرط الاستخدام الجائر لموارد هذا الكون من ناحية، والاعتداءات المتكررة بين البشر من ناحية ثانية، ثم ظهور خطر الإرهاب باسم الإسلام من ناحية ثالثة، ومن وسط هذا الخوف الموجع على البشرية جمعاء، وعلى الأوطان العربية خصوصاً، تكتب ربيعة جلطي روايتها، متحديةً كل ذلك بنكهة «الشاي بالنعناع» لا سيما، عندما يكون في فم الحبيب.
بأسلوب فانتازي، تغمس المأساة في قلب العقلانية في رحم الخيال، لتدمج بين مفاهيم عربية وعالمية فيتجاور بيتهوفن مع زرياب في توحُّدٍ يُنتِجُ إبداعيةً جماليةً تحتاجُ إلى قارئ مغامر يكتشف أبعاد التجريب لفهم رسائلها المتضمنة.
رواية «حنين بالنعناع» من تلك الروايات التي لا يمكن اعتبارها نصاً مفتوحاً يُقدّم ذاته بذاتِه دون إعمالٍ لجهد القارئ، ولا تُعدُ أيضاً نصاً مُغلقاً يحتاج إلى إعادة فتح أبوابِه، وترتيب أفكاره لدرجة تصل إلى حدِّ الإلغاز والإبهام، وإنما هي نصٌّ مُتَرَاكِبٌ، يبني ذاته على ذاته بشكل يتخذ مساراً زمنياً وتأويلياً خاصاً، يتَّخذ فيه العنصران الأساسيان – الراوي والمروي له – أسلوبَ الخِطاب من (الضاوية) حفيدة (سيدي الشريف) إلى جدتها (حنة نوحة) التي فارقت الحياة ولم يبقَ مِنها إلا حضور حنانها ونصائحها، وعلى امتداد زمن السرد تحكي «الضَّاويَة» الشخصية الرئيسية، والراوية لكل التفاصيل من وجهة نظرها هي، متوجهةً بحديثها ومناداتها إلى جدتها، تقول: «آه يا حنة نوحة لو تعلمين ما جرى... لو فقط تعلمين! أتدرين أنني تلكأت قليلاً قبل أن أفتح عينيَّ للنور هذا الصباح كالعادةِ؟ لم أنم هذه الليلة أيضاً، لأن لا جنبَ يريحني فأهدأ عليه وفيه... فمازلت لم أتعود».
الجمال نقمة ونعمة
بهذا الأسلوب التشويقي تبدأ مؤلفتنا في شدِّ القارئ - ولا أقول توريطه - لكي يكمل قصتها، عبر تفاصيل كثيرة، تتميَّز بدقة الالتقاط، وعذوبة الوصف والتصوير؛ فيجد نفسه في مواجهة ومقارنة مســـــتمرة بين الجمال والقبح، تقول الراوية: «ثم يا حنة ما قيمة أن تكوني جميلة في هذا العالم القبيح الملوث... ما الفائدة يا حنة؟.. إنه لا غِنَى غير غِنَى الجمال بكل شمائله»، حتى وكأن القارئ يشعر بأنه يسير في اتجاه التعبير عن قضايا المرأة وأنثويتها، وهو أمرٌ وإن كان موجوداً في ثنايا النص، إلا أن الكاتبة تتــــجـــاوزه إلى مناقشة همّ الكرة الأرضية بمجملها! ونقف هنا عند مقولة الكاتبة: «نعم الجمال نقمة ونعمة، الجمال ألم ولذة.
أن تستفيق الواحدة من بــــــيـــن إناث الأرض وقد نضجت واستوَت مثل ثـــمرةٍ مُغرية بعد مرور زمن من الحساب الميلادي أو الهجري أو الصيني، أو غيرها من الحسابات اللاحقة برقــــــصات الأرض حول نفسها وحـــــول الشمس، سنوات بعد مجــــــيئها من الدنيـــــا، فتواجهها صفحة المرآة بالحــقيـــــقة وتخبرها أنها هكذا.. هكذا وفقط».
نحن هنا إزاء حالة من حالات التحليل الجمالي، حيث تقدِّم المؤلفة رؤيةً حول المرأة، خاصةً إذا كانت جميلة – وكل امرأة جميلة بصورةٍ ما - وإذا ربطنا طوال الوقت الاستمتاع بالآداب والفنون، مع الشخصيات التي تستحضرها الراوية في الجزء الأخــــير منها، من ملحنين ومؤلفين وعلـــماء وفلاسفة، فإنـــــنا إزاء رؤية جمالية للكون، رؤية تحاول أن تفتح عين القارئ وأذنه على تقدير الجمال، حتى أن المؤلفة حاولت أن تمسك بتلابيب بصر وسمع القارئ، فكان الفاصل الذي تستعمله طوال الوقت بين الفصول وبعضها رموزاً لمفاتيح موسيــقيــــة، وكأن هناك موسيقى تعزف في خلفية القارئ، وهو ما يجعل القراءة عمليةً تستغرِقُ كامل الوجدان، وليس عملية تقوم على تحريك الأعين فقط.
يقول صبري حافظ: «إن هندسة المكان تساهم أحياناً في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم»، وبالعودة إلى البيئة المكانية للرواية، نجدها تدور بين ثلاث عواصم، الجزائر، ودمشق، وباريس، ومن قبيل أن شرط تعريف المكان تعريف الزمان، فما بين استعادات من الذاكرة عن الجزائر قديماً، وعن دِمشق قديماً، نجد أن باريس تتم مقارنتها بين صورة مُتخيَّلَة، وبين واقع تحيا فيه البطلة الآن، وفي كلتا الحالتين، فإن المُدن الثلاث: الجزائر، ودمشق، وباريس، تقع تحت تهديد التطرف، وبينما تقع دمشق أسيرة تامة لما أسمت نفسها بـ «الدولة الإسلامية»، فإن مما يؤرق الراوية ويطفو على ذهنها قولها: «من جديد تندلع نيران الحروب والأحقاد الدينية والعقائدية والكراهيات العرقية. أرى الناس صغاراً مثل نقل تعجب، رؤوسهم ملقاة تحت أجسادهم، والنار في كل مكان...».
الجرأة في المواجهة
ووجهاً لوجه تقف ربيعة في مواجهة هذه الأفكار، بكل جرأة تـــقول، بعد مشاهدتها العشاق وهم يمرحون معاً في شوارع باريس: «يسألني لماذا يحدث كل هذا هنا، ولا يحدث هناك من حيث أتينا معاً؟ لماذا عندنا يختبئ العشاق بينما يخرج القتلةُ شاهرين الكراهية؟ لماذا ينعت الحب بالعيب والحرام وتنعت الضغينة بالملائكية والجنة والقدسية والقتل بالطهرانية»؟ وتحدد موقفها من مواجهة الواقع المرير بالكتابة، عبر شخصية (نزهة) الكاتبة التي تواجه واقع المجتمع الجزائري المتشدِّد، والتي تقف بمفردها في وجه التهديد بالقتل، دونَ سندٍ من أحد، وتتخذ من باريس ملجأً لها، وهي الشخصية التي تقف كمعادلٍ موضوعيّ لـربيعة جلطي نفسها، وهي شخصية متسقة مع ذاتها، متوافقة مع أفعالها ومتصالحة مع شخصيتها، لا تبخل على صديقاتها من المعذَّبات بأن تمنحهن مسكنها في باريس.
في إطار الفانتازيا تقول الكاتبة: «كل صباح أفيق على عدد الريش الذي يتكاثر يوماً بعد يوم فوقهما، وأعد ما نبتت عليه من ريشات جديدات، أحصيها بدقة، حتى التي لم يظهر منها بعد سوى الرؤوس الصغيرة المدبَّبَة الهشّة البيضاء منها أو الشفافة أو الوردية اللينة»، بهذه الكيفية اختارت الكاتبة أن تميّز مجموعة من البشر بأن لصاحباتها أجنحة، قادرة على أن تحلق بهن، هذه الأجنحة تعبيرٌ استعاري عن سمو المعرفة، فكل من ذكره التاريخ من شخصيات عظيمة أثرت في تاريخ البشرية بالإيجاب هي من أصحاب الأجنحة، سواء أكانوا مؤلّفيــن أو ملحنين أو كُتَّاباً أو فلاسفة، فنجدهم في اجتماعٍ مجازيٍّ يخلط بين الحي والميت، حيث الميت يعيش في قارة سادسة، ولديهم جميعاً القدرة على التواصل معا، فنجد: «زرياب»، و«سيرفانتس»، و«ولَّادة بنت المستكفي» جنباً إلى جنب مع «ابن زيدون»، ونجد «ألفونس دوديه»، و«ديـــميس روسوس»، و«أبــوليوس» بجانب «أم كلثوم»، و«إدوارد سعيد»، وهكذا، كل هؤلاء ممن يبدو أن الكاتــــبة تأثرت بهم، وتركوا لديها انطباعا ما حول الرؤية الجمالية في العالم، يصبحون من «أصحاب الأجنحة»، الذين يعقدون اجتماعاً، وينظرون كيف حال الأرض، وبعد رؤيتهم للوضع الســـيئ الذي تعيشه البشرية، وما سيحيق بها من دمار مؤكد من اقتتال البشــــر جميعاً، يتخـــــذون قرار إهلاك الأرض، وإحلال القارة السادسة التي لا تضم إلا المجنَّحِين فقط من الأحياء والأموات على سطح الأرض، بما في ذلك من طابع فلسفي يذكرنا بقضية المدينة الفاضلة، أو قارة أتلانتس المفقودة.
أزعم أنه لا يندر أن توجد رواية نسويَّة لا تتحدث عن الحب، وتقدم رؤية خاصة بها عن الحب والشعور به، وهو ما احتلَّ مساحةً كبيرةً في عنوان الرواية، فمن بين هذه المشكلات العالمية، وهذا الصراع الذي يكاد يودي بحياة البشرية جمعاء، تُولَدُ قصة حبٍ بين أحد المجنحين (إبراهيم) ومجنحتنا بطلة الرواية (الضاوية)، وفي خضم ذلك يحكي لها إبراهيم عن اشتياقه للشاي بالنعــــناع الذي كانـــت تعده له أمه، وهو ما أوجد محبة وطعــــماً خاصاً لنكهة النعناع لدى الضاوية، وكأن الحب أمرٌ مقدَّسٌ من بين كل ما يحدث من مشاعر على الأرض، لا يجب إغفاله حتى لو كانت الأرض على وشك الهلاك، يستحق القدر أن يتوقف ولو لحظات لكي يروي محبان عاشقان ظمأهما لبعضهما بعضاً، فيسمح لهما بأن يرتشفا معا «شاياً بالنعناع»، ويشعر كل منهما بحنينه تجاه الآخر، حنين بطعم ونكهة النعناع، كأيقونةِ حبٍ وحياةٍ تتصدى لما يحيق بالعالم من تصدع وانهيار، وهي أيــقونةٌ مواجِهةٌ منتصرةٌ بما تحمله من رمزية الطزاجة والخلق واللذة والسَّكينة ■