«حنين بالنعناع» لربيعة جلطي بين تراكبية النَّص وسلاسة المضمون

«حنين بالنعناع» لربيعة جلطي بين تراكبية النَّص وسلاسة المضمون

يصعب‭ ‬التكهن‭ ‬بما‭ ‬كانت‭ ‬تطمح‭ ‬إليه‭ ‬المبدعة‭ ‬ربيعة‭ ‬جلطي‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬حنين‭ ‬بالنعناع‮»‬،‭ ‬بشأن‭ ‬طبيعة‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬توجِّهُها‭ ‬للقارئ،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أسفر‭ ‬عنه‭ ‬عملها‭ ‬الأدبي‭ ‬هو‭ ‬ملحمة‭ ‬كونيَّة‭ ‬تتلمَّس‭ ‬الحب‭ ‬والخير‭ ‬والجمال‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬موجِعٍ‭ ‬لضميرِ‭ ‬البشريَّةِ‭ ‬جميعاً،‭ ‬يتهدَّدُ‭ ‬فيه‭ ‬الخطر‭ ‬كل‭ ‬حياة‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الاستخدام‭ ‬الجائر‭ ‬لموارد‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والاعتداءات‭ ‬المتكررة‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬ثم‭ ‬ظهور‭ ‬خطر‭ ‬الإرهاب‭ ‬باسم‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة،‭ ‬ومن‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬الموجع‭ ‬على‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء،‭ ‬وعلى‭ ‬الأوطان‭ ‬العربية‭ ‬خصوصاً،‭ ‬تكتب‭ ‬ربيعة‭ ‬جلطي‭ ‬روايتها،‭ ‬متحديةً‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بنكهة‭ ‬‮«‬الشاي‭ ‬بالنعناع‮»‬‭ ‬لا‭ ‬سيما،‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الحبيب‭.‬

بأسلوب‭ ‬فانتازي،‭ ‬تغمس‭ ‬المأساة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العقلانية‭ ‬في‭ ‬رحم‭ ‬الخيال،‭ ‬لتدمج‭ ‬بين‭ ‬مفاهيم‭ ‬عربية‭ ‬وعالمية‭ ‬فيتجاور‭ ‬بيتهوفن‭ ‬مع‭ ‬زرياب‭ ‬في‭ ‬توحُّدٍ‭ ‬يُنتِجُ‭ ‬إبداعيةً‭ ‬جماليةً‭ ‬تحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬قارئ‭ ‬مغامر‭ ‬يكتشف‭ ‬أبعاد‭ ‬التجريب‭ ‬لفهم‭ ‬رسائلها‭ ‬المتضمنة‭.‬

رواية‭ ‬‮«‬حنين‭ ‬بالنعناع‮»‬‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬نصاً‭ ‬مفتوحاً‭ ‬يُقدّم‭ ‬ذاته‭ ‬بذاتِه‭ ‬دون‭ ‬إعمالٍ‭ ‬لجهد‭ ‬القارئ،‭ ‬ولا‭ ‬تُعدُ‭ ‬أيضاً‭ ‬نصاً‭ ‬مُغلقاً‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬فتح‭ ‬أبوابِه،‭ ‬وترتيب‭ ‬أفكاره‭ ‬لدرجة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدِّ‭ ‬الإلغاز‭ ‬والإبهام،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬نصٌّ‭ ‬مُتَرَاكِبٌ،‭ ‬يبني‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬ذاته‭ ‬بشكل‭ ‬يتخذ‭ ‬مساراً‭ ‬زمنياً‭ ‬وتأويلياً‭ ‬خاصاً،‭ ‬يتَّخذ‭ ‬فيه‭ ‬العنصران‭ ‬الأساسيان‭ ‬–‭ ‬الراوي‭ ‬والمروي‭ ‬له‭ ‬–‭ ‬أسلوبَ‭ ‬الخِطاب‭ ‬من‭ (‬الضاوية‭) ‬حفيدة‭ (‬سيدي‭ ‬الشريف‭) ‬إلى‭ ‬جدتها‭ (‬حنة‭ ‬نوحة‭) ‬التي‭ ‬فارقت‭ ‬الحياة‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬مِنها‭ ‬إلا‭ ‬حضور‭ ‬حنانها‭ ‬ونصائحها،‭ ‬وعلى‭ ‬امتداد‭ ‬زمن‭ ‬السرد‭ ‬تحكي‭ ‬‮«‬الضَّاويَة‮»‬‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسية،‭ ‬والراوية‭ ‬لكل‭ ‬التفاصيل‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرها‭ ‬هي،‭ ‬متوجهةً‭ ‬بحديثها‭ ‬ومناداتها‭ ‬إلى‭ ‬جدتها،‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬آه‭ ‬يا‭ ‬حنة‭ ‬نوحة‭ ‬لو‭ ‬تعلمين‭ ‬ما‭ ‬جرى‭... ‬لو‭ ‬فقط‭ ‬تعلمين‭! ‬أتدرين‭ ‬أنني‭ ‬تلكأت‭ ‬قليلاً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أفتح‭ ‬عينيَّ‭ ‬للنور‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬كالعادةِ؟‭ ‬لم‭ ‬أنم‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬أيضاً،‭ ‬لأن‭ ‬لا‭ ‬جنبَ‭ ‬يريحني‭ ‬فأهدأ‭ ‬عليه‭ ‬وفيه‭... ‬فمازلت‭ ‬لم‭ ‬أتعود‮»‬‭.‬

 

الجمال‭ ‬نقمة‭ ‬ونعمة

بهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬التشويقي‭ ‬تبدأ‭ ‬مؤلفتنا‭ ‬في‭ ‬شدِّ‭ ‬القارئ‭ - ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬توريطه‭ - ‬لكي‭ ‬يكمل‭ ‬قصتها،‭ ‬عبر‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة،‭ ‬تتميَّز‭ ‬بدقة‭ ‬الالتقاط،‭ ‬وعذوبة‭ ‬الوصف‭ ‬والتصوير؛‭ ‬فيجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ومقارنة‭ ‬مســـــتمرة‭ ‬بين‭ ‬الجمال‭ ‬والقبح،‭ ‬تقول‭ ‬الراوية‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬يا‭ ‬حنة‭ ‬ما‭ ‬قيمة‭ ‬أن‭ ‬تكوني‭ ‬جميلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬القبيح‭ ‬الملوث‭... ‬ما‭ ‬الفائدة‭ ‬يا‭ ‬حنة؟‭.. ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬غِنَى‭ ‬غير‭ ‬غِنَى‭ ‬الجمال‭ ‬بكل‭ ‬شمائله‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬وكأن‭ ‬القارئ‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المرأة‭ ‬وأنثويتها،‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬النص،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬تتــــجـــاوزه‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬همّ‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬بمجملها‭! ‬ونقف‭ ‬هنا‭ ‬عند‭ ‬مقولة‭ ‬الكاتبة‭: ‬‮«‬نعم‭ ‬الجمال‭ ‬نقمة‭ ‬ونعمة،‭ ‬الجمال‭ ‬ألم‭ ‬ولذة‭. ‬

أن‭ ‬تستفيق‭ ‬الواحدة‭ ‬من‭ ‬بــــــيـــن‭ ‬إناث‭ ‬الأرض‭ ‬وقد‭ ‬نضجت‭ ‬واستوَت‭ ‬مثل‭ ‬ثـــمرةٍ‭ ‬مُغرية‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬زمن‭ ‬من‭ ‬الحساب‭ ‬الميلادي‭ ‬أو‭ ‬الهجري‭ ‬أو‭ ‬الصيني،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الحسابات‭ ‬اللاحقة‭ ‬برقــــــصات‭ ‬الأرض‭ ‬حول‭ ‬نفسها‭ ‬وحـــــول‭ ‬الشمس،‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬مجــــــيئها‭ ‬من‭ ‬الدنيـــــا،‭ ‬فتواجهها‭ ‬صفحة‭ ‬المرآة‭ ‬بالحــقيـــــقة‭ ‬وتخبرها‭ ‬أنها‭ ‬هكذا‭.. ‬هكذا‭ ‬وفقط‮»‬‭.‬

نحن‭ ‬هنا‭ ‬إزاء‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬التحليل‭ ‬الجمالي،‭ ‬حيث‭ ‬تقدِّم‭ ‬المؤلفة‭ ‬رؤيةً‭ ‬حول‭ ‬المرأة،‭ ‬خاصةً‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬جميلة‭ ‬–‭ ‬وكل‭ ‬امرأة‭ ‬جميلة‭ ‬بصورةٍ‭ ‬ما‭ - ‬وإذا‭ ‬ربطنا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالآداب‭ ‬والفنون،‭ ‬مع‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تستحضرها‭ ‬الراوية‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأخــــير‭ ‬منها،‭ ‬من‭ ‬ملحنين‭ ‬ومؤلفين‭ ‬وعلـــماء‭ ‬وفلاسفة،‭ ‬فإنـــــنا‭ ‬إزاء‭ ‬رؤية‭ ‬جمالية‭ ‬للكون،‭ ‬رؤية‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تفتح‭ ‬عين‭ ‬القارئ‭ ‬وأذنه‭ ‬على‭ ‬تقدير‭ ‬الجمال،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬المؤلفة‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تمسك‭ ‬بتلابيب‭ ‬بصر‭ ‬وسمع‭ ‬القارئ،‭ ‬فكان‭ ‬الفاصل‭ ‬الذي‭ ‬تستعمله‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬بين‭ ‬الفصول‭ ‬وبعضها‭ ‬رموزاً‭ ‬لمفاتيح‭ ‬موسيــقيــــة،‭ ‬وكأن‭ ‬هناك‭ ‬موسيقى‭ ‬تعزف‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬القارئ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬القراءة‭ ‬عمليةً‭ ‬تستغرِقُ‭ ‬كامل‭ ‬الوجدان،‭ ‬وليس‭ ‬عملية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬الأعين‭ ‬فقط‭.‬

يقول‭ ‬صبري‭ ‬حافظ‭: ‬‮«‬إن‭ ‬هندسة‭ ‬المكان‭ ‬تساهم‭ ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬تقريب‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأبطال‭ ‬أو‭ ‬خلق‭ ‬التباعد‭ ‬بينهم‮»‬،‭ ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬البيئة‭ ‬المكانية‭ ‬للرواية،‭ ‬نجدها‭ ‬تدور‭ ‬بين‭ ‬ثلاث‭ ‬عواصم،‭ ‬الجزائر،‭ ‬ودمشق،‭ ‬وباريس،‭ ‬ومن‭ ‬قبيل‭ ‬أن‭ ‬شرط‭ ‬تعريف‭ ‬المكان‭ ‬تعريف‭ ‬الزمان،‭ ‬فما‭ ‬بين‭ ‬استعادات‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬عن‭ ‬الجزائر‭ ‬قديماً،‭ ‬وعن‭ ‬دِمشق‭ ‬قديماً،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬تتم‭ ‬مقارنتها‭ ‬بين‭ ‬صورة‭ ‬مُتخيَّلَة،‭ ‬وبين‭ ‬واقع‭ ‬تحيا‭ ‬فيه‭ ‬البطلة‭ ‬الآن،‭ ‬وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين،‭ ‬فإن‭ ‬المُدن‭ ‬الثلاث‭: ‬الجزائر،‭ ‬ودمشق،‭ ‬وباريس،‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬تهديد‭ ‬التطرف،‭ ‬وبينما‭ ‬تقع‭ ‬دمشق‭ ‬أسيرة‭ ‬تامة‭ ‬لما‭ ‬أسمت‭ ‬نفسها‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬الإسلامية‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬مما‭ ‬يؤرق‭ ‬الراوية‭ ‬ويطفو‭ ‬على‭ ‬ذهنها‭ ‬قولها‭: ‬‮«‬من‭ ‬جديد‭ ‬تندلع‭ ‬نيران‭ ‬الحروب‭ ‬والأحقاد‭ ‬الدينية‭ ‬والعقائدية‭ ‬والكراهيات‭ ‬العرقية‭. ‬أرى‭ ‬الناس‭ ‬صغاراً‭ ‬مثل‭ ‬نقل‭ ‬تعجب،‭ ‬رؤوسهم‭ ‬ملقاة‭ ‬تحت‭ ‬أجسادهم،‭ ‬والنار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭...‬‮»‬‭.‬

 

الجرأة‭ ‬في‭ ‬المواجهة

ووجهاً‭ ‬لوجه‭ ‬تقف‭ ‬ربيعة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار،‭ ‬بكل‭ ‬جرأة‭ ‬تـــقول،‭ ‬بعد‭ ‬مشاهدتها‭ ‬العشاق‭ ‬وهم‭ ‬يمرحون‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬باريس‭: ‬‮«‬يسألني‭ ‬لماذا‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هنا،‭ ‬ولا‭ ‬يحدث‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتينا‭ ‬معاً؟‭ ‬لماذا‭ ‬عندنا‭ ‬يختبئ‭ ‬العشاق‭ ‬بينما‭ ‬يخرج‭ ‬القتلةُ‭ ‬شاهرين‭ ‬الكراهية؟‭ ‬لماذا‭ ‬ينعت‭ ‬الحب‭ ‬بالعيب‭ ‬والحرام‭ ‬وتنعت‭ ‬الضغينة‭ ‬بالملائكية‭ ‬والجنة‭ ‬والقدسية‭ ‬والقتل‭ ‬بالطهرانية»؟‭ ‬وتحدد‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع‭ ‬المرير‭ ‬بالكتابة،‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ (‬نزهة‭) ‬الكاتبة‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬واقع‭ ‬المجتمع‭ ‬الجزائري‭ ‬المتشدِّد،‭ ‬والتي‭ ‬تقف‭ ‬بمفردها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬التهديد‭ ‬بالقتل،‭ ‬دونَ‭ ‬سندٍ‭ ‬من‭ ‬أحد،‭ ‬وتتخذ‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬ملجأً‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬كمعادلٍ‭ ‬موضوعيّ‭ ‬لـربيعة‭ ‬جلطي‭ ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬شخصية‭ ‬متسقة‭ ‬مع‭ ‬ذاتها،‭ ‬متوافقة‭ ‬مع‭ ‬أفعالها‭ ‬ومتصالحة‭ ‬مع‭ ‬شخصيتها،‭ ‬لا‭ ‬تبخل‭ ‬على‭ ‬صديقاتها‭ ‬من‭ ‬المعذَّبات‭ ‬بأن‭ ‬تمنحهن‭ ‬مسكنها‭ ‬في‭ ‬باريس‭.‬

في‭ ‬إطار‭ ‬الفانتازيا‭ ‬تقول‭ ‬الكاتبة‭: ‬‮«‬كل‭ ‬صباح‭ ‬أفيق‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬الريش‭ ‬الذي‭ ‬يتكاثر‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬فوقهما،‭ ‬وأعد‭ ‬ما‭ ‬نبتت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ريشات‭ ‬جديدات،‭ ‬أحصيها‭ ‬بدقة،‭ ‬حتى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬منها‭ ‬بعد‭ ‬سوى‭ ‬الرؤوس‭ ‬الصغيرة‭ ‬المدبَّبَة‭ ‬الهشّة‭ ‬البيضاء‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬الشفافة‭ ‬أو‭ ‬الوردية‭ ‬اللينة‮»‬،‭ ‬بهذه‭ ‬الكيفية‭ ‬اختارت‭ ‬الكاتبة‭ ‬أن‭ ‬تميّز‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬بأن‭ ‬لصاحباتها‭ ‬أجنحة،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تحلق‭ ‬بهن،‭ ‬هذه‭ ‬الأجنحة‭ ‬تعبيرٌ‭ ‬استعاري‭ ‬عن‭ ‬سمو‭ ‬المعرفة،‭ ‬فكل‭ ‬من‭ ‬ذكره‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬عظيمة‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬بالإيجاب‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الأجنحة،‭ ‬سواء‭ ‬أكانوا‭ ‬مؤلّفيــن‭ ‬أو‭ ‬ملحنين‭ ‬أو‭ ‬كُتَّاباً‭ ‬أو‭ ‬فلاسفة،‭ ‬فنجدهم‭ ‬في‭ ‬اجتماعٍ‭ ‬مجازيٍّ‭ ‬يخلط‭ ‬بين‭ ‬الحي‭ ‬والميت،‭ ‬حيث‭ ‬الميت‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬قارة‭ ‬سادسة،‭ ‬ولديهم‭ ‬جميعاً‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬معا،‭ ‬فنجد‭: ‬‮«‬زرياب‮»‬،‭ ‬و«سيرفانتس‮»‬،‭ ‬و«ولَّادة‭ ‬بنت‭ ‬المستكفي‮»‬‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬زيدون‮»‬،‭ ‬ونجد‭ ‬‮«‬ألفونس‭ ‬دوديه‮»‬،‭ ‬و«ديـــميس‭ ‬روسوس‮»‬،‭ ‬و«أبــوليوس‮»‬‭ ‬بجانب‭ ‬‮«‬أم‭ ‬كلثوم‮»‬،‭ ‬و«إدوارد‭ ‬سعيد‮»‬،‭ ‬وهكذا،‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬ممن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الكاتــــبة‭ ‬تأثرت‭ ‬بهم،‭ ‬وتركوا‭ ‬لديها‭ ‬انطباعا‭ ‬ما‭ ‬حول‭ ‬الرؤية‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬يصبحون‭ ‬من‭ ‬‮«‬أصحاب‭ ‬الأجنحة‮»‬،‭ ‬الذين‭ ‬يعقدون‭ ‬اجتماعاً،‭ ‬وينظرون‭ ‬كيف‭ ‬حال‭ ‬الأرض،‭ ‬وبعد‭ ‬رؤيتهم‭ ‬للوضع‭ ‬الســـيئ‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬البشرية،‭ ‬وما‭ ‬سيحيق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬دمار‭ ‬مؤكد‭ ‬من‭ ‬اقتتال‭ ‬البشــــر‭ ‬جميعاً،‭ ‬يتخـــــذون‭ ‬قرار‭ ‬إهلاك‭ ‬الأرض،‭ ‬وإحلال‭ ‬القارة‭ ‬السادسة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تضم‭ ‬إلا‭ ‬المجنَّحِين‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬والأموات‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬طابع‭ ‬فلسفي‭ ‬يذكرنا‭ ‬بقضية‭ ‬المدينة‭ ‬الفاضلة،‭ ‬أو‭ ‬قارة‭ ‬أتلانتس‭ ‬المفقودة‭.‬

أزعم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬رواية‭ ‬نسويَّة‭ ‬لا‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الحب،‭ ‬وتقدم‭ ‬رؤية‭ ‬خاصة‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬والشعور‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬احتلَّ‭ ‬مساحةً‭ ‬كبيرةً‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية،‭ ‬فمن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المشكلات‭ ‬العالمية،‭ ‬وهذا‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يودي‭ ‬بحياة‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء،‭ ‬تُولَدُ‭ ‬قصة‭ ‬حبٍ‭ ‬بين‭ ‬أحد‭ ‬المجنحين‭ (‬إبراهيم‭) ‬ومجنحتنا‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ (‬الضاوية‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬ذلك‭ ‬يحكي‭ ‬لها‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬اشتياقه‭ ‬للشاي‭ ‬بالنعــــناع‭ ‬الذي‭ ‬كانـــت‭ ‬تعده‭ ‬له‭ ‬أمه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أوجد‭ ‬محبة‭ ‬وطعــــماً‭ ‬خاصاً‭ ‬لنكهة‭ ‬النعناع‭ ‬لدى‭ ‬الضاوية،‭ ‬وكأن‭ ‬الحب‭ ‬أمرٌ‭ ‬مقدَّسٌ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬إغفاله‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الأرض‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الهلاك،‭ ‬يستحق‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬ولو‭ ‬لحظات‭ ‬لكي‭ ‬يروي‭ ‬محبان‭ ‬عاشقان‭ ‬ظمأهما‭ ‬لبعضهما‭ ‬بعضاً،‭ ‬فيسمح‭ ‬لهما‭ ‬بأن‭ ‬يرتشفا‭ ‬معا‭ ‬‮«‬شاياً‭ ‬بالنعناع‮»‬،‭ ‬ويشعر‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬بحنينه‭ ‬تجاه‭ ‬الآخر،‭ ‬حنين‭ ‬بطعم‭ ‬ونكهة‭ ‬النعناع،‭ ‬كأيقونةِ‭ ‬حبٍ‭ ‬وحياةٍ‭ ‬تتصدى‭ ‬لما‭ ‬يحيق‭ ‬بالعالم‭ ‬من‭ ‬تصدع‭ ‬وانهيار،‭ ‬وهي‭ ‬أيــقونةٌ‭ ‬مواجِهةٌ‭ ‬منتصرةٌ‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬رمزية‭ ‬الطزاجة‭ ‬والخلق‭ ‬واللذة‭ ‬والسَّكينة‭ ■