الحدثُ النابض في الوصف الحيّ قراءة في المجموعة القصصية «ياسمينة وقصص أخرى»

الحدثُ النابض في الوصف الحيّ قراءة في المجموعة القصصية «ياسمينة وقصص أخرى»

القارئ‭ ‬للمجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬ياسمينة‭ ‬وقصص‭ ‬أخرى‮»‬‭ ‬تسترعيه‭ ‬وتثيره‭ ‬روعة‭ ‬الوصف‭ ‬الجميل‭ ‬والعميق‭ ‬للطبيعة‭ ‬ولكل‭ ‬المعطيات‭ ‬المحيطة‭ ‬بالحدث،‭ ‬فالفضاء‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الطبيعة‭ ‬ومن‭ ‬مؤثثات‭ ‬مختلفة‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬حياً‭ ‬نابضاً‭ ‬يساهم‭ ‬بارتباطية‭ ‬حميمية‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭ ‬ومع‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تديره‭.‬

الوصف‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬يضفي‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الموصوفات،‭ ‬فتساهم‭ ‬في‭ ‬جلب‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬اتجاه‭ ‬الحدث‭ ‬وطبيعته،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسوقك‭ ‬الوقائع‭ ‬إلى‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬البؤرة‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تساق‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬التوصيفات‭ ‬الرائعة‭ ‬الحاملة‭ ‬للبهجة‭ ‬تارة‭ ‬وللرتابة‭ ‬والشجن‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭.‬

فهي‭ ‬أوصاف‭ ‬تتجاوز‭ ‬تصوير‭ ‬ظواهر‭ ‬الأشياء،‭ ‬بل‭ ‬تنفخ‭ ‬فيها‭ ‬الحياة‭ ‬فتجعلها‭ ‬تشعر‭ ‬وتقلق‭ ‬وترتاح،‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبذلك‭ ‬تتضاعف‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬المشكّلة‭ ‬للقصة‭.‬

وهذه‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬والتصوير‭ ‬لا‭ ‬تتأتى‭ ‬إلا‭ ‬لمن‭ ‬له‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬اللغة‭ ‬لسبر‭ ‬الأغوار‭ ‬وتجاوز‭ ‬سطوح‭ ‬وظواهر‭ ‬الأشياء‭. ‬فالوصف‭ ‬الظاهري‭ ‬تصويري‭ ‬فحسب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أننا‭ ‬نجد‭ ‬الوصف‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬يزخر‭ ‬بالكنايات‭ ‬والتشبيهات‭ ‬والتشخيص‭ ‬في‭ ‬حركية‭ ‬وانسجام‭ ‬يحولان‭ ‬الفضاء‭ ‬فاعلاً‭ ‬وممازجاً‭ ‬للشخصية‭ ‬والحدث‭ ‬المسند‭ ‬إليها‭. ‬والوصف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الإحساس‭ ‬بالملل،‭ ‬إذ‭ ‬يصير‭ ‬الوصف‭ ‬عنصراً‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬تشكيل‭ ‬الحدث‭.‬

الحدث‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬يذوب‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬التوصيفات‭ ‬الدقيقة‭ ‬والحيوية‭ ‬المصورة‭ ‬لنبض‭ ‬الموجودات‭ ‬والفضاءات‭ ‬المحيطة‭ ‬بالشخصية‭ ‬والحدث‭ ‬المحوري‭ ‬المرتبط‭ ‬بها‭. ‬الوصف‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬ينقل‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬التفاعل‭ ‬العاطفي‭ ‬والوجداني‭ ‬بين‭ ‬الواصف‭ ‬والموصوف‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭.‬

 

الغريمة

تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الغريمة‮»‬‭: ‬‮«‬في‭ ‬أحد‭ ‬الصباحات،‭ ‬توقفت‭ ‬الأمطار‭ ‬المشجية‭ ‬فجأة،‭ ‬وأطلت‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬صافية‭ ‬صراح،‭ ‬ذات‭ ‬زرقة‭ ‬بالغة،‭ ‬وقد‭ ‬اغتسلت‭ ‬من‭ ‬أبخرة‭ ‬الشتاء‭ ‬الباهتة‭.‬

في‭ ‬الحديقة‭ ‬المنزوية‭ ‬كانت‭ ‬شجرة‭ ‬الأرجوان‭ ‬الكبيرة‭ ‬تمد‭ ‬أذرعها‭ ‬الموسوقة‭ ‬بالأزهار‭ ‬الوردية‭ ‬الصينية‭. ‬إلى‭ ‬اليمين‭ ‬يمتد‭ ‬الانعطاف‭ ‬الباذخ‭ ‬لروابي‭ ‬مصطفى،‭ ‬وينأى‭ ‬في‭ ‬شفافية‭ ‬لا‭ ‬متناهية‭...‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬31‭).‬

والمتأمل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬القليلة‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬حيوية‭ ‬الوصف‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬إسناد‭ ‬أفعال‭ ‬إلى‭ ‬الموصوفات،‭ ‬مما‭ ‬يحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬فاعلة‭ ‬أفعال‭ ‬الإنسان،‭ ‬فالأمطار‭ ‬المشجية‭ ‬توقفت،‭ ‬والشمس‭ ‬أطلت‭ ‬وقداغتسلت،‭ ‬وشجرة‭ ‬الأرجوان‭ ‬تمد‭ ‬أذرعها‭ ‬بالأزهار‭ ‬الوردية،‭ ‬والانعطاف‭ ‬يمتد‭ ‬وينأى‭.‬

أوصاف‭ ‬تجعلك‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬أشياء‭ ‬الطبيعة‭ ‬وكأنها‭ ‬تشعر‭ ‬وتتألم‭ ‬وتفرح‭ ‬كما‭ ‬نفرح،‭ ‬كما‭ ‬تضعك‭ ‬أمام‭ ‬مشهدية‭ ‬رائعة‭ ‬تنقاد‭ ‬لتتفاعل‭ ‬معها،‭ ‬منتظراً‭ ‬حدثاً‭ ‬يسوقه‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الوصف‭ ‬الجميل‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

في‭ ‬القصة‭ ‬تداخُل‭ ‬متين‭ ‬للوصف‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭ ‬لنسج‭ ‬فضاء‭ ‬موسيقي‭ ‬تعبيري‭ ‬جميل‭ ‬يجعل‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬الحالم‭ ‬بحبيبته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للقياها‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬الحلم‭ ‬والتذكر،‭ ‬والقصة‭ ‬ترسم‭ ‬بذلك‭ ‬حلماً‭ ‬تتوزعه‭ ‬الأشجار‭ ‬والشمس‭ ‬والحديقة‭ ‬والروابي‭ ‬مع‭ ‬البطل،‭ ‬الرجل‭ ‬الهائم‭ ‬الحالم‭ ‬بمن‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬الحلم،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬سيبتلعه‭ ‬كي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬المجهول‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.‬

تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬القصة‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬صمت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬الشاسع‭ ‬الأخرس،‭ ‬نائماً‭ ‬كان‭ ‬المتشرد،‭ ‬قرب‭ ‬نار‭ ‬نصف‭ ‬مطفأة‭ ‬وقد‭ ‬تسربل‭ ‬ببرنوسه،‭ ‬متكـــئاً‭ ‬برأسه‭ ‬على‭ ‬ذراعه،‭ ‬منهك‭ ‬القوى،‭ ‬استسلم‭ ‬إلى‭ ‬السكينة‭ ‬اللامتناهية‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬وحيداً‭ ‬مجـــــهولاً‭ ‬بين‭ ‬أناس‭ ‬بـــسطاء‭ ‬وأجلاف،‭ ‬مجهولاً‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬الأرض‭ ‬الطيبة‭ ‬المهدهدة،‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬مجهــــول‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭ ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬أبداً‮»‬‭ (‬ص‭ ‬35‭). ‬

 

نحيب‭ ‬اللوز

ويستمر‭ ‬الوصف‭ ‬النافخ‭ ‬للدفء‭ ‬والحياة‭ ‬على‭ ‬الموصوفات‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬نحيب‭ ‬اللوز‮»‬،‭ ‬وتتعلق‭ ‬أحداثها‭ ‬بامرأتين؛‭ ‬حبيبة‭ ‬وسعدية،‭ ‬وهما‭ ‬تسترجعان‭ ‬ذكرياتهما‭ ‬حين‭ ‬كانتا‭ ‬شابتين‭ ‬فاتنتين،‭ ‬وتموت‭ ‬حبيبة‭ ‬لتترك‭ ‬سعدية‭ ‬وحيدة‭ ‬بلا‭ ‬أنيس‭.‬

فالحدث‭ ‬المحوري‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬بسيط،‭ ‬لكنه‭ ‬وُشِّي‭ ‬بالتوصيفات‭ ‬المفسحة‭ ‬للتأمل‭ ‬وتتبّع‭ ‬التفاصيل‭ ‬الموحية‭ ‬بالمعاناة‭ ‬وعقد‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬ماضي‭ ‬المرح‭ ‬والفرح‭ ‬وحاضر‭ ‬التذكر‭ ‬والأسى‭. ‬

في‭ ‬بداية‭ ‬القصة‭ ‬نجد‭ ‬الوصف‭ ‬المحول‭ ‬لأشياء‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص،‭ ‬تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬‮«‬تنام‭ ‬بوسعادة،‭ ‬الملكة‭ ‬الضارية‭ ‬متسربلة‭ ‬بحدائقها‭ ‬الداكنة‭ ‬ومحروسة‭ ‬بروابيها‭ ‬البنفسجية؛‭ ‬لذيذة‭ ‬مثيرة‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬المنحدرة‭ ‬للوادي،‭ ‬حيث‭ ‬يدمدم‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬الأحجار‭ ‬البيضاء‭ ‬والوردية‭. ‬وقد‭ ‬انحنت‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬لامبالاة‭ ‬حلم‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬الطينية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬أشجار‭ ‬اللوز‭ ‬تذرف‭ ‬دموعها‭ ‬البيضاء‭ ‬تحت‭ ‬مداعبة‭ ‬الريح‭... ‬وأريجها‭ ‬الزكي‭ ‬يحلّق‭ ‬في‭ ‬دفء‭ ‬الجو‭ ‬الرطب‭ ‬ناثراً‭ ‬كآبة‭ ‬مبهمة‭ ‬فاتنة‭...‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬37‭).‬

وتستمر‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬الرائق‭ ‬الجميل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تربط‭ ‬ذلــــك‭ ‬بالشخصية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬نواة‭ ‬القصة‭ ‬برمتها،‭ ‬والوصــف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشاكلة‭ ‬يجعل‭ ‬الحركة‭ ‬والرمز‭ ‬متوزعين‭ ‬باتّزان‭ ‬وتداخُل‭ ‬بين‭ ‬الزمـــــان‭ ‬والمكان‭ ‬والشخصيات،‭ ‬فالوصف‭ ‬يتدفق‭ ‬قبل‭ ‬التلميح‭ ‬إلى‭ ‬الشخصية،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يتدفق‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وهكذا‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬القصة،‭ ‬حيث‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬الشخصية‭/ ‬البطل‭.‬

الوصف‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬الكاتبة‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬فراغاً‭ ‬يجعلك‭ ‬تحس‭ ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬الوصف‭ ‬إلى‭ ‬تطور‭ ‬الحدث،‭ ‬بل‭ ‬تظل‭ ‬القصة‭ ‬متسربلة‭ ‬بإيحاءات‭ ‬تجعل‭ ‬منك‭ ‬المتأمل‭ ‬للفضاء‭ ‬متداخلاً‭ ‬متكاملاً‭ ‬مع‭ ‬الشخصية‭.‬

وأمام‭ ‬جمالية‭ ‬الوصف‭ ‬المبني‭ ‬على‭ ‬الإيحائية‭ ‬الترميزية،‭ ‬يظل‭ ‬التحفيز‭ ‬والتشويق‭ ‬قائمين‭ ‬يرافقان‭ ‬القارئ‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القصة‭. ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬يؤدي‭ ‬الوظيفة‭ ‬الاندماجية‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬القصة‭ ‬بامتياز‭.‬

تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬القصة‭: ‬‮«‬انتهى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭... ‬وسعدية‭ ‬وحيدة‭ ‬منذ‭ ‬الآن‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬مكانها‭. ‬تتم‭ ‬زفرات‭ ‬الرمق‭ ‬القليل‭ ‬الذي‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬حياتها‭ ‬مع‭ ‬الدخان‭ ‬الأزرق‭ ‬لسيجارتها‭ ‬الأبدية،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬النهر‭ ‬المشرق،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬الحدائق‭ ‬شجرات‭ ‬اللوز‭ ‬تتم‭ ‬ذرف‭ ‬دموعها‭ ‬في‭ ‬بسمة‭ ‬ربيعية‭ ‬حزينة‭...‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬41‭).‬

 

ياسمينة

في‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬نجد‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالشخصية‭ ‬يطــــغى‭ ‬على‭ ‬حســـاب‭ ‬الأوصاف،‭ ‬وربما‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القصة‭ ‬طويلة‭ (‬من‭ ‬الصفحة‭ ‬43‭ ‬إلى‭ ‬الصفحة‭ ‬79‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬حتم‭ ‬على‭ ‬الكاتبة‭ ‬العدول‭ ‬عن‭ ‬التكثيف‭ ‬للوصف‭ ‬احتمالاً‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬قد‭ ‬يعرقل‭ ‬حركية‭ ‬الحدث‭ ‬نحو‭ ‬نهاية‭ ‬محددة‭. ‬لكن‭ ‬القصة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أوصاف‭ ‬تجعلك‭ ‬تتعايش‭ ‬مع‭ ‬الحدث‭ ‬والشخصيات‭.‬

تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬قد‭ ‬ترعرعت‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬جنائزي،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬الإقفار‭ ‬المطوق‭ ‬تطفو‭ ‬الروح‭ ‬الغريبة‭ ‬للعهود‭ ‬الخوالي‭.‬

هنا‭ ‬انقضت‭ ‬طفولتها‭ ‬على‭ ‬الأطلال‭ ‬الرمادية،‭ ‬بين‭ ‬الأنقاض‭ ‬وغبار‭ ‬ماض‭ ‬تجهل‭ ‬عنه‭ ‬كل‭ ‬شيء‮»‬‭ (‬ص‭ ‬43‭).‬

إنها‭ ‬قصة‭ ‬ترسم‭ ‬الجمال‭ ‬المنتهي‭ ‬قبحاً‭ ‬وفجيعة،‭ ‬وهي‭ ‬صرخة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المستعمر‭ ‬الذي‭ ‬يفسد‭ ‬الأشياء‭ ‬ثم‭ ‬يتركها،‭ ‬فالقصة‭ ‬تصور‭ ‬ياسمينة‭ ‬فتاة‭ ‬بدوية‭ ‬جميلة‭ ‬ساذجة‭ ‬محافظة‭ ‬ترعى‭ ‬الغنم‭ ‬لتسقط‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬أجنبي‭ ‬رومي،‭ ‬فيفقدها‭ ‬أعز‭ ‬ما‭ ‬تملك،‭ ‬ويتركها‭ ‬عائداً‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭.‬

إنها‭ ‬القصة‭ ‬المصـــــورة‭ ‬للظــــلم‭ ‬واللامـــــبالاة‭ ‬إزاء‭ ‬الأبرياء‭ ‬الصادقين‭ ‬في‭ ‬مشاعرهم‭ ‬وعهودهم‭.‬

من‭ ‬عبارات‭ ‬القصة‭ ‬‮«‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ياسمينة‭ ‬تنتظر‭ ‬شيئاً‭ ‬غير‭ ‬الموت،‭ ‬وقد‭ ‬استسلمت‭ ‬لقدرها‭.‬

مكتوب،‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للشكوى‭ ‬والانتحاب،‭ ‬بكل‭ ‬بساطة،‭ ‬يجب‭ ‬انتظار‭ ‬النهاية‭... ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تهاوى‭ ‬فيها‭ ‬وحولها،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬بمقدوره‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬يدغدغ‭ ‬قلبها،‭ ‬أن‭ ‬يسعده‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يحزنه‮»‬‭. (‬ص‭ ‬78‭).‬

 

تاعليث

تتعلق‭ ‬فكرة‭ ‬القصة‭ ‬بامرأة‭ ‬متزوجة‭ ‬برجل‭ ‬تحبه‭ ‬ويحبها،‭ ‬وبعد‭ ‬موته‭ ‬كانت‭ ‬أمها‭ ‬الأرملة‭ ‬وزوجها‭ ‬الجديد‭ ‬يلحّان‭ ‬عليها‭ ‬لتتزوج‭ ‬رجُلاً‭ ‬مسناً،‭ ‬وحين‭ ‬قبلت‭ ‬الزواج‭ ‬به،‭ ‬تزينت‭ ‬وتجملت،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬قصيرة‭ ‬تأجج‭ ‬الرفض‭ ‬داخلها،‭ ‬فقادها‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭.‬

القصة‭ ‬لا‭ ‬تبتعد‭ ‬بك‭ ‬أجواؤها‭ ‬عن‭ ‬القصص‭ ‬المضمومة‭ ‬في‭ ‬المجموعة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الرائق‭ ‬والرائع‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬القصص‭ ‬الأخرى،‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬المتميز‭ ‬بدقة‭ ‬التصوير‭ ‬عبر‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬نقل‭ ‬وصف‭ ‬الظاهر‭ ‬وما‭ ‬تختلج‭ ‬به‭ ‬النفس،‭ ‬معكوساً‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬الفضاءات‭ ‬الحاضنة‭ ‬للأحداث،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬استعمال‭ ‬الأفعال‭ ‬الماضية‭ ‬والمضارعة،‭ ‬مما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬التقدم‭ ‬بالحدث‭ ‬تقدماً‭ ‬محاطاً‭ ‬بما‭ ‬يضفي‭ ‬عليه‭ ‬جاذبية‭ ‬خاصة‭. ‬

قدمت‭ ‬الكـــــاتبة‭ ‬بداية‭ ‬القصة‭ ‬هكــــــذا‭: ‬‮«‬كأنها‭ ‬تعيش‭ ‬حلماً‭ ‬جميلاً،‭ ‬تذكر‭ ‬الأيام‭ ‬السعيدة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قضتها‭ ‬بين‭ ‬أحضان‭ ‬سفــــوح‭ ‬التلال‭ ‬النشــــوى‭ ‬التي‭ ‬سربلتها‭ ‬الشمس‭ ‬رداء‭ ‬ذهبياً،‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬الجبال‭ ‬الشامخة‭ ‬التي‭ ‬تشقها‭ ‬المضايق‭ ‬السحيقة‭ ‬والمنفتحة‭ ‬على‭ ‬دفء‭ ‬الأفق‭ ‬الأزرق‭.‬

كانت‭ ‬هناك‭ ‬غابات‭ ‬الصنوبر‭ ‬والبلوط‭ ‬العذراء،‭ ‬صامتة‭ ‬متوعدة،‭ ‬وشجيرات‭ ‬كثيفة‭ ‬صغيرة‭ ‬تتصاعد‭ ‬منها‭ ‬أنفاس‭ ‬حارة‭ ‬في‭ ‬صفاء‭ ‬الخريف‭ ‬وثمالة‭ ‬الربيع‭ ‬العنيفة‭. ‬

كانت‭ ‬هناك‭ ‬شجيرات‭ ‬الرند‭ ‬الخضراء،‭ ‬ونبات‭ ‬الغار‭ ‬الوردي‭ ‬ذو‭ ‬النجمات‭ ‬تحضن‭ ‬ضفاف‭ ‬الأودية‭ ‬الهادئة،‭ ‬وعبر‭ ‬بساتين‭ ‬التين‭ ‬والزيتون،‭ ‬يرسل‭ ‬السرخس‭ ‬الشفيف‭ ‬ضبابه‭ ‬الخفيف‭ ‬على‭ ‬الصخور‭ ‬الحمراء‭ ‬المقبورة‭ ‬قرب‭ ‬شلالات‭ ‬الجوهر،‭ ‬فتبعث‭ ‬المجاري‭ ‬جذلانة‭ ‬تحت‭ ‬الشمس،‭ ‬أو‭ ‬تصرخ‭ ‬مدوية‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬الشتاء‭ ‬المخيفة‮»‬‭ (‬ص‭ ‬111‭).‬

هكذا،‭ ‬وبلُغة‭ ‬قريبة‭ ‬إلى‭ ‬الرسم‭ ‬والموسيقى،‭ ‬بلغة‭ ‬شفيفة‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬اللون‭ ‬والمشاعر‭ ‬عدتها‭ ‬الجمالية‭ ‬الساحرة،‭ ‬تحمل‭ ‬رؤية‭ ‬فنية‭ ‬خاصة،‭ ‬بأوصاف‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬صفاء‭ ‬ورقَّة‭ ‬الشعر،‭ ‬تتخذ‭ ‬القاصة‭ ‬فنيتها‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬الحدث‭ ‬والشخصية‭ ‬والفضاء‭ ‬أعمق‭ ‬وأقدر‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬إحساساتنا‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬نراه‭.‬

تحوّل‭ ‬الكاتبة‭ ‬كل‭ ‬المرئيات‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬تفكر‭ ‬وتحس‭ ‬مثلنا،‭ ‬إنها‭ ‬تتميز‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬أنسنة‭ ‬الأشياء‭ ‬والمظاهر‭ ‬الطبيعية‭. ‬إن‭ ‬المراهنة‭ ‬على‭ ‬التكثيف‭ ‬الوصفي‭ ‬الموحد،‭ ‬حول‭ ‬أشياء‭ ‬الطبيعة‭ ‬إلى‭ ‬مرايا‭ ‬نقرأ‭ ‬فيها‭ ‬أحزاننا،‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬تمهيداً‭ ‬نحو‭ ‬تقديم‭ ‬الصورة‭ ‬القاتمة‭ ‬التي‭ ‬واجهتها‭ ‬بطلات‭ ‬قصصها‭.‬

إن‭ ‬قصص‭ ‬المجموعة‭ ‬تعكس‭ ‬عبر‭ ‬قوالب‭ ‬جمالية‭ ‬متقاربة‭ ‬استباحة‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭: ‬الغدر‭ ‬بها،‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بها‭ ‬فحسب،‭ ‬الدفع‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬براثن‭ ‬الفاحشة‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬الانتحار،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬للسحر،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬اليد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬امرأة‭ ‬تنبش‭ ‬قبراً‭ ‬كي‭ ‬تقطع‭ ‬يد‭ ‬ميت‭ ‬وتفر‭ ‬بها،‭ ‬كي‭ ‬تصنع‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يُخضع‭ ‬الرجال‭ ‬لينقادوا‭ ‬لرغبات‭ ‬النساء‭ ‬وأوامرهن‭.‬

إنها‭ ‬هموم‭ ‬النساء‭ ‬وتظلماتهن‭ ‬موزعة‭ ‬عبر‭ ‬القصص،‭ ‬ومقدمة‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬قصصي‭ ‬معزز‭ ‬بتوصيفات‭ ‬حية‭ ‬جميلة‭ ‬تبرز‭ ‬معاناة‭ ‬بطلات‭ ‬القصص،‭ ‬فحبيبة‭ ‬وسعدية‭ ‬تشعران‭ ‬بفقدانهما‭ ‬المنزلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لهما‭ ‬أيام‭ ‬زمان،‭ ‬وياسمينة‭ ‬انتهى‭ ‬بها‭ ‬المطاف‭ ‬والشقاء‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬ماخور‭ ‬الفحش،‭ ‬حيث‭ ‬المرض‭ ‬والموت،‭ ‬و‭"‬تاعليث‭" ‬أنهت‭ ‬حياتها‭ ‬بالانتحار،‭ ‬والمرأة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تذكر‭ ‬الكاتبة‭ ‬اسمها‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬اليد‮»‬‭ ‬تبدو‭ ‬وقد‭ ‬افترسها‭ ‬الجهل‭ ‬لتسقط‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬السحر‭ ‬والشعوذة‭.‬

إن‭ ‬قصص‭ ‬القاصة‭ ‬برمتها‭ ‬مبنية‭ ‬بحذق‭ ‬على‭ ‬تقنية‭ ‬الوصف‭ ‬الحي‭ ‬المنعش‭ ‬للفضاء‭ ‬ومؤثثاته،‭ ‬أوصاف‭ ‬توقظ‭ ‬فينا‭ ‬التشويق‭ ‬ونحن‭ ‬نستحضر‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬واقعيته‭ ‬ضمن‭ ‬صور‭ ‬محبوكة‭ ‬تزيده‭ ‬عمقاً‭ ‬وتأثيراً‭...   ‬بهذا‭ ‬الوصف‭ ‬الحي‭ ‬تستحيل‭ ‬القصص‭ ‬بساطاً‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬المشجية،‭ ‬لتصير‭ ‬قريبة‭ ‬الوقع‭ ‬والومض،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬بعيدة‭ ‬تلفّها‭ ‬الأطياف‭ ‬والكوابيس‭ ‬المخيفة‭ ‬المشعرة‭ ‬بظلم‭ ‬البشر‭ ‬للبشر‭.‬

فالقصص،‭ ‬برغم‭ ‬اختلاف‭ ‬عناوينها‭ ‬وموضوعاتها،‭ ‬متصلة‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬الموزع‭ ‬بمهارة‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬وبقية‭ ‬المعطيات‭ ‬المحيطة‭ ‬بها،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يعيش‭ ‬الأحداث،‭ ‬يتردد‭ ‬فيه‭ ‬صدى‭ ‬الواقع‭ ‬بقساوته‭ ‬وأعبائه‭ ‬التي‭ ‬يتحملها‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬البعض،‭ ‬القصص‭ ‬بهذا‭ ‬المنحى‭ ‬ستظل‭ ‬كوة‭ ‬تطل‭ ‬بنا‭ ‬على‭ ‬آهات‭ ‬الأبرياء‭ ‬أمام‭ ‬الظلم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المُغِّيب‭ ‬للمشاعر‭ ‬الإنسانية‭■