الحدثُ النابض في الوصف الحيّ قراءة في المجموعة القصصية «ياسمينة وقصص أخرى»

القارئ للمجموعة القصصية «ياسمينة وقصص أخرى» تسترعيه وتثيره روعة الوصف الجميل والعميق للطبيعة ولكل المعطيات المحيطة بالحدث، فالفضاء بكل ما يحمله من مظاهر الطبيعة ومن مؤثثات مختلفة يجد في القصة ما يجعله حياً نابضاً يساهم بارتباطية حميمية مع الحدث ومع الشخصية التي تديره.
الوصف في المجموعة القصصية يضفي الحياة على الموصوفات، فتساهم في جلب التعاطف مع اتجاه الحدث وطبيعته، قبل أن تسوقك الوقائع إلى الوقوف على الشخصية المحورية التي ستكون البؤرة الرئيسة التي تساق من أجلها التوصيفات الرائعة الحاملة للبهجة تارة وللرتابة والشجن تارة أخرى.
فهي أوصاف تتجاوز تصوير ظواهر الأشياء، بل تنفخ فيها الحياة فتجعلها تشعر وتقلق وترتاح، على شاكلة الإنسان، وبذلك تتضاعف الحياة في الأحداث المشكّلة للقصة.
وهذه الإبداعية في الوصف والتصوير لا تتأتى إلا لمن له القدرة على تطويع اللغة لسبر الأغوار وتجاوز سطوح وظواهر الأشياء. فالوصف الظاهري تصويري فحسب، في حين أننا نجد الوصف في المجموعة يزخر بالكنايات والتشبيهات والتشخيص في حركية وانسجام يحولان الفضاء فاعلاً وممازجاً للشخصية والحدث المسند إليها. والوصف من هذا القبيل يجعل القارئ بعيداً عن الإحساس بالملل، إذ يصير الوصف عنصراً من عناصر تشكيل الحدث.
الحدث في المجموعة يذوب في نسيج التوصيفات الدقيقة والحيوية المصورة لنبض الموجودات والفضاءات المحيطة بالشخصية والحدث المحوري المرتبط بها. الوصف بهذا الشكل ينقل إلى القارئ التفاعل العاطفي والوجداني بين الواصف والموصوف وما يحيط به.
الغريمة
تقول الكاتبة في قصة «الغريمة»: «في أحد الصباحات، توقفت الأمطار المشجية فجأة، وأطلت الشمس في سماء صافية صراح، ذات زرقة بالغة، وقد اغتسلت من أبخرة الشتاء الباهتة.
في الحديقة المنزوية كانت شجرة الأرجوان الكبيرة تمد أذرعها الموسوقة بالأزهار الوردية الصينية. إلى اليمين يمتد الانعطاف الباذخ لروابي مصطفى، وينأى في شفافية لا متناهية...» (ص 31).
والمتأمل في هذه العبارات القليلة يقف على حيوية الوصف انطلاقاً من إسناد أفعال إلى الموصوفات، مما يحوّلها إلى كائنات فاعلة أفعال الإنسان، فالأمطار المشجية توقفت، والشمس أطلت وقداغتسلت، وشجرة الأرجوان تمد أذرعها بالأزهار الوردية، والانعطاف يمتد وينأى.
أوصاف تجعلك تعيش في عمق أشياء الطبيعة وكأنها تشعر وتتألم وتفرح كما نفرح، كما تضعك أمام مشهدية رائعة تنقاد لتتفاعل معها، منتظراً حدثاً يسوقه بطل القصة قبل أن تنخرط في التعايش مع الوصف الجميل من جديد.
في القصة تداخُل متين للوصف مع الحدث لنسج فضاء موسيقي تعبيري جميل يجعل بطل القصة الحالم بحبيبته التي لا مجال للقياها إلا عبر الحلم والتذكر، والقصة ترسم بذلك حلماً تتوزعه الأشجار والشمس والحديقة والروابي مع البطل، الرجل الهائم الحالم بمن لا يأتي إلا عبر الحلم، هذا الأخير الذي سيبتلعه كي يعيش في المجهول إلى الأبد.
تقول الكاتبة في آخر القصة: «ثم صمت كل شيء في المدى الشاسع الأخرس، نائماً كان المتشرد، قرب نار نصف مطفأة وقد تسربل ببرنوسه، متكـــئاً برأسه على ذراعه، منهك القوى، استسلم إلى السكينة اللامتناهية في أن ينام وحيداً مجـــــهولاً بين أناس بـــسطاء وأجلاف، مجهولاً حتى من الأرض، الأرض الطيبة المهدهدة، في مكان مجهــــول من الصحراء وحيث لا يعود أبداً» (ص 35).
نحيب اللوز
ويستمر الوصف النافخ للدفء والحياة على الموصوفات في قصة «نحيب اللوز»، وتتعلق أحداثها بامرأتين؛ حبيبة وسعدية، وهما تسترجعان ذكرياتهما حين كانتا شابتين فاتنتين، وتموت حبيبة لتترك سعدية وحيدة بلا أنيس.
فالحدث المحوري في القصة بسيط، لكنه وُشِّي بالتوصيفات المفسحة للتأمل وتتبّع التفاصيل الموحية بالمعاناة وعقد المفارقة بين ماضي المرح والفرح وحاضر التذكر والأسى.
في بداية القصة نجد الوصف المحول لأشياء إلى أشخاص، تقول الكاتبة «تنام بوسعادة، الملكة الضارية متسربلة بحدائقها الداكنة ومحروسة بروابيها البنفسجية؛ لذيذة مثيرة على الضفة المنحدرة للوادي، حيث يدمدم الماء على الأحجار البيضاء والوردية. وقد انحنت كما على لامبالاة حلم على الجدران الطينية الصغيرة، أشجار اللوز تذرف دموعها البيضاء تحت مداعبة الريح... وأريجها الزكي يحلّق في دفء الجو الرطب ناثراً كآبة مبهمة فاتنة...» (ص 37).
وتستمر الكاتبة في الوصف على هذا النهج الرائق الجميل قبل أن تربط ذلــــك بالشخصية التي تشكل نواة القصة برمتها، والوصــف على هذه الشاكلة يجعل الحركة والرمز متوزعين باتّزان وتداخُل بين الزمـــــان والمكان والشخصيات، فالوصف يتدفق قبل التلميح إلى الشخصية، وسرعان ما يتدفق من جديد، وهكذا حتى آخر القصة، حيث نقف على الشخصية/ البطل.
الوصف في قصص الكاتبة لا يترك فراغاً يجعلك تحس بالانتقال من الوصف إلى تطور الحدث، بل تظل القصة متسربلة بإيحاءات تجعل منك المتأمل للفضاء متداخلاً متكاملاً مع الشخصية.
وأمام جمالية الوصف المبني على الإيحائية الترميزية، يظل التحفيز والتشويق قائمين يرافقان القارئ حتى نهاية القصة. إن مثل هذا الوصف يؤدي الوظيفة الاندماجية بين عناصر القصة بامتياز.
تقول الكاتبة في آخر القصة: «انتهى كل شيء... وسعدية وحيدة منذ الآن قد أخذت مكانها. تتم زفرات الرمق القليل الذي تبقى من حياتها مع الدخان الأزرق لسيجارتها الأبدية، بينما كانت على ضفاف النهر المشرق، وفي ظل الحدائق شجرات اللوز تتم ذرف دموعها في بسمة ربيعية حزينة...» (ص 41).
ياسمينة
في هذه القصة نجد الحدث في علاقته بالشخصية يطــــغى على حســـاب الأوصاف، وربما يعود ذلك إلى أن القصة طويلة (من الصفحة 43 إلى الصفحة 79)، مما حتم على الكاتبة العدول عن التكثيف للوصف احتمالاً من كونه قد يعرقل حركية الحدث نحو نهاية محددة. لكن القصة، بالرغم من ذلك، لا تخلو من أوصاف تجعلك تتعايش مع الحدث والشخصيات.
تقول الكاتبة في بدايتها «كانت قد ترعرعت في وسط جنائزي، وفي ظل الإقفار المطوق تطفو الروح الغريبة للعهود الخوالي.
هنا انقضت طفولتها على الأطلال الرمادية، بين الأنقاض وغبار ماض تجهل عنه كل شيء» (ص 43).
إنها قصة ترسم الجمال المنتهي قبحاً وفجيعة، وهي صرخة في وجه المستعمر الذي يفسد الأشياء ثم يتركها، فالقصة تصور ياسمينة فتاة بدوية جميلة ساذجة محافظة ترعى الغنم لتسقط في حب أجنبي رومي، فيفقدها أعز ما تملك، ويتركها عائداً إلى فرنسا.
إنها القصة المصـــــورة للظــــلم واللامـــــبالاة إزاء الأبرياء الصادقين في مشاعرهم وعهودهم.
من عبارات القصة «لم تعد ياسمينة تنتظر شيئاً غير الموت، وقد استسلمت لقدرها.
مكتوب، لا مجال للشكوى والانتحاب، بكل بساطة، يجب انتظار النهاية... كل شيء تهاوى فيها وحولها، لا شيء بمقدوره الآن أن يدغدغ قلبها، أن يسعده أو أن يحزنه». (ص 78).
تاعليث
تتعلق فكرة القصة بامرأة متزوجة برجل تحبه ويحبها، وبعد موته كانت أمها الأرملة وزوجها الجديد يلحّان عليها لتتزوج رجُلاً مسناً، وحين قبلت الزواج به، تزينت وتجملت، وفي لحظة قصيرة تأجج الرفض داخلها، فقادها إلى الانتحار.
القصة لا تبتعد بك أجواؤها عن القصص المضمومة في المجموعة، إلا أن الرائق والرائع فيها، على غرار القصص الأخرى، هذا الوصف المتميز بدقة التصوير عبر المزج بين نقل وصف الظاهر وما تختلج به النفس، معكوساً على معطيات الفضاءات الحاضنة للأحداث، علاوة على استعمال الأفعال الماضية والمضارعة، مما يساعد على التقدم بالحدث تقدماً محاطاً بما يضفي عليه جاذبية خاصة.
قدمت الكـــــاتبة بداية القصة هكــــــذا: «كأنها تعيش حلماً جميلاً، تذكر الأيام السعيدة، تلك التي قضتها بين أحضان سفــــوح التلال النشــــوى التي سربلتها الشمس رداء ذهبياً، هناك في أسفل الجبال الشامخة التي تشقها المضايق السحيقة والمنفتحة على دفء الأفق الأزرق.
كانت هناك غابات الصنوبر والبلوط العذراء، صامتة متوعدة، وشجيرات كثيفة صغيرة تتصاعد منها أنفاس حارة في صفاء الخريف وثمالة الربيع العنيفة.
كانت هناك شجيرات الرند الخضراء، ونبات الغار الوردي ذو النجمات تحضن ضفاف الأودية الهادئة، وعبر بساتين التين والزيتون، يرسل السرخس الشفيف ضبابه الخفيف على الصخور الحمراء المقبورة قرب شلالات الجوهر، فتبعث المجاري جذلانة تحت الشمس، أو تصرخ مدوية في ليالي الشتاء المخيفة» (ص 111).
هكذا، وبلُغة قريبة إلى الرسم والموسيقى، بلغة شفيفة تتخذ من اللون والمشاعر عدتها الجمالية الساحرة، تحمل رؤية فنية خاصة، بأوصاف أقرب إلى صفاء ورقَّة الشعر، تتخذ القاصة فنيتها التي تجعل الحدث والشخصية والفضاء أعمق وأقدر على عكس إحساساتنا إزاء ما نراه.
تحوّل الكاتبة كل المرئيات إلى كائنات تفكر وتحس مثلنا، إنها تتميز بالقدرة على أنسنة الأشياء والمظاهر الطبيعية. إن المراهنة على التكثيف الوصفي الموحد، حول أشياء الطبيعة إلى مرايا نقرأ فيها أحزاننا، ليس إلا تمهيداً نحو تقديم الصورة القاتمة التي واجهتها بطلات قصصها.
إن قصص المجموعة تعكس عبر قوالب جمالية متقاربة استباحة حقوق المرأة: الغدر بها، التفكير في الاستمتاع بها فحسب، الدفع بها نحو براثن الفاحشة أو الموت أو الانتحار، أو إلى اللجوء للسحر، كما في قصة «اليد» التي تصور امرأة تنبش قبراً كي تقطع يد ميت وتفر بها، كي تصنع بها ما يُخضع الرجال لينقادوا لرغبات النساء وأوامرهن.
إنها هموم النساء وتظلماتهن موزعة عبر القصص، ومقدمة في قالب قصصي معزز بتوصيفات حية جميلة تبرز معاناة بطلات القصص، فحبيبة وسعدية تشعران بفقدانهما المنزلة التي كانت لهما أيام زمان، وياسمينة انتهى بها المطاف والشقاء والبحث عن تحقيق الذات إلى ماخور الفحش، حيث المرض والموت، و"تاعليث" أنهت حياتها بالانتحار، والمرأة التي لم تذكر الكاتبة اسمها في قصة «اليد» تبدو وقد افترسها الجهل لتسقط في ظلمات السحر والشعوذة.
إن قصص القاصة برمتها مبنية بحذق على تقنية الوصف الحي المنعش للفضاء ومؤثثاته، أوصاف توقظ فينا التشويق ونحن نستحضر الحدث في واقعيته ضمن صور محبوكة تزيده عمقاً وتأثيراً... بهذا الوصف الحي تستحيل القصص بساطاً من الذكريات المشجية، لتصير قريبة الوقع والومض، وهي في الآن نفسه بعيدة تلفّها الأطياف والكوابيس المخيفة المشعرة بظلم البشر للبشر.
فالقصص، برغم اختلاف عناوينها وموضوعاتها، متصلة ضمن هذا الوصف الموزع بمهارة بين الشخصيات وبقية المعطيات المحيطة بها، كل ذلك يجعل القارئ يعيش الأحداث، يتردد فيه صدى الواقع بقساوته وأعبائه التي يتحملها البعض على حساب البعض، القصص بهذا المنحى ستظل كوة تطل بنا على آهات الأبرياء أمام الظلم الاجتماعي المُغِّيب للمشاعر الإنسانية■