رحلتي مع مجلة العربي

رَحَلْتُ مع مجلة العربي ورحَلَتْ معي طوال عمرها الستيني، أما أنا فقد تجاوزتها بعشر سنوات. صاحب هذه الرحلة بعض المنغصات، فرح وحزن، وفراق ولقاء، بدأ ذلك في ديسمبر 1958، كنت حينها في السنة الأولى من المرحلة الإعدادية في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية، وفيما يلي رحلتي مع مجلة العربي.
كانت جريدة «البلاد» اليومية تبشر بصدور مجلة العربي الشهرية هدية من دولة الكويت للناطقين بلغة الضاد. سارعت بالذهاب إلى إحدى المكتبات في الطائف، ورجوت صاحبها أن يحجز لي نسخة، بل ووضعت لديه مبلغاً من المال عربوناً لشراء أول نسخة.
وفعلاً، تسلمت أول عدد من مجلة العربي بفرح شديد، وأخبرني صاحب المكتبة أنها أول نسخة يبيعها في مدينة الطائف، ومازلت أفاخر حتى الآن بأنني اقتنيت النسخة الأولى من مجلة العربي. تركت الكتب الدراسية جانباً، وبدأت أتصفح أول عدد من المجلة.
كان والدي، رحمه الله، مدرساً في منطقة نائية من مناطق مكة المكرمة، وكان من عادته أن يقتني مجلة المنهل الشهرية لصاحبها عبدالقدوس الأنصاري، وأذكر في هذه المناسبة أن لديه مكتبة خاصة تحتوي على أمهات الكتب قديمها وحديثها، بل من محتوياتها أعداد من مجلة «العروة الوثقى» التي أصدرها جمال الدين الأفغاني بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده، حيث اقتناها والدي من مكة المكرمة في إحدى رحلاته المتكررة إلى الحجاز في أربعينيات القرن الماضي.
كما أن في مكتبته أعداداً من مجلة الحكمة التي كان رئيس تحريرها أحمد عبدالوهاب الوريث، نابغة اليمن، كما كان يسمى في ذلك الوقت، ولديه أيضاً أعداد من صحيفة «صوت اليمن» لسان حال الأحرار اليمنيين، التي كانت تصدر في عدن، حيث كانت تعبّر عن حال اليمنيين قبل الثورة الدستورية في عام 1948، وكانت حالهم كما تلخصها الأبيات التالية:
ما لليمانيين في لحظاتهم
بؤس وفي كلماتهم آلامُ؟
جهل وأمراض وظلم فادح
ومجاعة ومخافة وإمامُ
كتب لي الوالد أنه اشترى بجوار مجلة المنهل مجلة العربي التي تصدر في الكويت، ووصف لي طباعتها الراقية وموضوعاتها الشائقة، بل وأشار إلى المقال الذي كتبه «أبو الأحرار»، الشهيد محمود الزبيري، حول شجرة القات بعنوان «الشيطان في صورة شجرة»، وهكذا استمر الوالد في اقتناء «العربي» في مكة، وأنا بدوري أقتنيها وأنا أدرس بالمرحلة الإعدادية في الطائف.
كنا في مواسم الحج نرسل النسخ المكررة من «العربي» للخال محمد بن محمد السماوي، وكان يحملها الحجاج إلى اليمن، حيث كان اليمن يعيش حالة عزلة تامة قبل قيام ثورة سبتمبر 1962. كان الخال، رحمه الله، يسعد كثيراً بوصول مجلة العربي إلى القرية النائية الواقعة في قمة جبل شاهق، وكان يقرأها مع آخرين، كما كان عاكفاً في ذلك التاريخ على استكمال كتابه «الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذرات اللغوية» (9 مجلدات)، وكان يعبّر لي شعراً عن امتنانه بمجلة العربي وغيرها من الكتب التي كنت أرسلها إليه بقوله:
وأهـديت لي كتباً كلها
ترفرف فوقي كمزن الغمامة
وأفنيت عمري بها دائماً
أشاهـــــد أعلامها والفخامة
وانتقلت إلى القاهرة لاستكمال دراسة الثانوية العامة، وكانت مجلة العربي بما تحتويه من شتى المعارف نعم الواحة التي تخفف من كابوس المقررات الدراسية الصماء والجامدة، واستمرت الحال كذلك أثناء الدراسة الجامعية بجامعة الإسكندرية، وعلى مدى بضع سنوات، وخلال فترة الدراسة في القاهرة والإسكندرية جمعت كنزاً ثميناً من مجلة العربي يفوق الـ 70 عدداً.
العودة إلى الوطن
حان وقت العودة إلى الوطن في أواخر عام 1968، أي بعد عشر سنوات من صدور أول عدد من مجلة العربي، وكانت أعداد المجلة، والكتب الدراسية، والمراجع، حملاً ثقيلاً لا يمكن نقله إلا عن طريق البحر، وكنت حريصاً على شحنها إلى صنعاء، وكان أحد الزملاء عائداً بطريق البحر، فأوكلت إليه نقل هذه الثروة إلى الحديدة، ومنها إلى صنعاء، فوجودها في مكتبتي بصنعاء يعتبر كنزاً لا يقدر بثمن، أما الأعداد التي اقتنيتها أثناء الدراسة في السعودية، فقد تم إرسال كثير منها إلى اليمن عن طريق الحجاج، كما أسلفت.
فقدان «العربي» أحزنني
عدت إلى صنعاء مستبشراً، فسيكون لديّ ما أقرأه هناك، بدلاً من الانغماس في مضغ القات، وإذا بالزميل يدّعي أن مجلة العربي وكتبي الأخرى قد فقدت، وشكّل لي هذا الخبر حزناً بليغاً، إذ كانت خسارة فادحة لا تعوض، فشكوته لوكيل وزارة الإعلام في ذلك الوقت، عبدالكريم العنسي، رحمه الله، ولكن دون جدوى.
أمضيت فترة في وزارة الاقتصاد بصنعاء، وشرعت في إعداد بحث بعنوان «القروض والمساعدات الأجنبية من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن»، ولاستكمال البحث زرت دولة الكويت، إذ كانت تنفذ العديد من المشاريع المقدمة كمساعدات مجانية عن طريق الهيئة العامة للخليج والجنوب، أو قروض ميسّرة عن طريق الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، الذي كان يرأسه عبداللطيف الحمد، وكان لابد من زيارة السيد أحمد السقاف، حيث كان، رحمه الله، عضواً منتدباً للهيئة، التي تنفذ الكثير من المشاريع في اليمن، وخاصة في مجالي الصحة والتعليم، وأعرف أن السقاف هو الذي استقطب د. أحمد زكي ليكون أول رئيس تحرير لمجلة العربي، ورغم أن د. زكي يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء، فإنه طوّع المواد العلمية لأسلوبه الأدبي البليغ المتميز، وتجلى ذلك في «حديث الشهر»، الذي كان يتصدر صفحات المجلة والمواضيع العلمية الأخرى التي كان يكتب حولها.
واجب علينا
دار الحديث مع السقاف عن مجلة العربي، ودورها التثقيفي في الوطن العربي، وكيف فتحت صفحاتها للكتّاب العرب أياً كانت مواقعهم وجنسياتهم من دون تمييز أو تحيّز، وكانت أسعارها رمزية قد لا تغطي حتى تكلفة النقل، حيث كانت تصل إلى مغرب الوطن العربي، كالمغرب وموريتانيا، وإلى جنوبه كالسودان وجيبوتي والصومال، وتتجاوز الحدود إلى كل مَن يرغب في اقتنائها من الناطقين باللغة العربية.
هكذا دار الحديث مع السقاف حول مجلة العربي ودورها التنويري للعقول الذي لا يقل أهمية عن بناء المستشفيات والمدارس والجامعات التي تشيّدها الكويت. وعندما شرعت في الحديث عن رغبتي في الحصول على بيانات للمشاريع التي تنفذها الهيئة في اليمن، لأضمها للدراسة التي أعدّها، اعتذر بكل لطف، وقال لي: «لا نريد أن تظهر هذه المشاريع في دراستك، حتى لا يفسر ذلك بأنه نوع من التباهي والمنّ والتفاخر بما نقدمه لأشقائنا، فما نقوم به إنما هو واجب علينا». حاولت إقناعه، ولكن دون جدوى، فاستعنت بالزميل محمد حزام الشوحطي، رحمه الله، الذي كان يعمل في الصندوق، لعله يقنع السقاف، فالبحث يشمل الهيئة والصندوق، لكن السقاف أصر على رأيه، فاكتفيت بذكر المشاريع التي ينفذها الصندوق.
«العربي» مع مسلم إسباني
في أحد أزقة قرطبة، وفي مكتب يروج للسياحة، لمحت أحدهم وبيده مجلة العربي، كان ذلك في أواخر عام 1981، وعرفت أن اسمه Jaim Sellan، وكان معتزاً بأن صورة ابنته تتصدر غلاف المجلة، إذ كان ذلك من ضمن استطلاع مصور لـ «العربي» عن قرطبة، وما أكثر استطلاعات المجلة للآثار العربية والإسلامية أنى وجدت؛ في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب.
علاقتي مع د. زكي
علاقتي بـالدكتور زكي علاقة قديمة من خلال كتاباته، وقبل أن يعيّن في مجلة العربي.
ففي الطائف كان هناك تنافس مع زميل الدراسة عبدالسلام خالد كرمان، رحمه الله، على مَن منا يقرأ أكثر، ومن يقتني أعداداً من مجلة الهلال المصرية، وكنا نلجأ إلى بسطات الكتب القديمة المعروضة بأثمان زهيدة، فلديّ في مكتبتي - على سبيل المثال - بعض أعداد من مجلة الهلال عندما كان د. أحمد زكي رئيساً لتحريرها في الفترة من 1946 إلى 1950، ثم تولى رئاسة تحريرها إميل زيدان وشكري زيدان. في القاهرة كانت تحلو لي زيارة سور الأزبكية، وهو معرض كتاب مفتوح، واقتنيت ذات يوم كتاب «مع الله في السماء»، تأليف
د. أحمد زكي، ويتحدث فيه عن السماء ومكوناتها بلغة أدبية راقية، وبهذا الكتاب وغيره من الكتب التي تتحدث عن الكون، ألّفت كتابي «تأملات في الكون والحياة».
جامع قرطبة
أما العلاقة الحديثة مع د. زكي، فهي تبادل رسائل معه عندما كان رئيساً لتحرير «العربي»، ففي أحد أعدادها، ربما في ثنايا استطلاع صحفي أو مقال عن جامع قرطبة، ورد ما يفيد بأن محراب جامع قرطبة ليس موجهاً نحو القبلة، بل نحو الجنوب تماماً، وكان يفترض أن يكون نحو الشرق، مع ميل نحو الجنوب، وقد ناقشت معه الموضوع، بل وأرسلت له كتابي «رحلة إلى الفردوس المفقود - الأندلس»، وأوردت له قصة من قصص المحراب الذي شيده الخليفة الحكَم الثاني، وينسب المحراب إلى الحكم.
ومما يروى أن الحكم أراد أن يوجه القبلة الاتجاه الصحيح، لكن قاضي قرطبة نصحه قائلاً له: «يا أمير المؤمنين، لقد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم، منذ أن فتحت الأندلس إلى هذا الوقت، متأسين بأول من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهما، رحمهم الله تعالى، وإنما فُضّل مَن فضّل بالاتباع، وهلك من هلك بالابتداع».
واقتنع الحكم، وبقيت القبلة بنفس الاتجاه إلى الآن، وقد راسلني د. زكي، ووعد بأن كتابي المذكور سيستعرض بمجلة العربي في المستقبل، ولا أدري هل تم استعراضه أم لا، فمشاغل الحياة وكثرة التنقل من بلد إلى بلد، ومن موقع إلى آخر، حالا دون المتابعة، فقد انقطعت عنا مجلة العربي في فترة الدراسة العليا بجامعة مانشستر في بريطانيا، في الفترة من 1974 إلى 1976.
انقطاع وعودة
لكن الانقطاع الذي فجع قراء مجلة العربي هو الذي حدث نتيجة الغزو الغاشم لدولة الكويت عام 1990، وكنتُ في ذلك الوقت رئيساً لمجلس إدارة البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وقد فقدنا خلال هذه الفترة مجلة العربي وغيرها من الصحف والمجلات التي كانت تصدر في الكويت، بل وفقدنا كل وسائل الاتصال في الجوانب المالية والاقتصادية، وشعرنا بذلك في القطاع المصرفي اليمني، حين توقفت حركة المشاريع التي كانت تمولها الكويت، وانقطعت تحويلات المغتربين، وافتقدنا المجلة لفترة، لكننا التقينا بها مرة أخرى وعاودت الصدور من مهجرها بصورة مؤقتة، وسرعان ما عادت الأمور إلى أهلها، واندحر العدوان، وتحركت عجلة الحياة بزخم وقوة، وعادت مجلة العربي إلى عرينها الكويت، بفضل الله، وبمثابرة الشعب الكويتي وقيادته الحكيمة والمساندة الدولية. ولا بد لي هنا من الإشادة برؤساء التحرير المتعاقبين على المجلة، فلكل واحد منهم بصماته وعطاؤه وجهده في تطويرها.
عطاء وجودة
أكتب هذا الموضوع بمناسبة احتفالية مجلة العربي بذكرى ستينيتها، وهي مازالت شعلة، كما وعد رئيس التحرير في مقدمة العدد الأول، حيث كتب «سيكون هذا العدد الأول جيداً، والعدد الثاني سيكون أجود، والعدد الثالث سيكون أكثر جودة». نعم، ومازالت مجلة العربي في كل أعدادها التي وصلت حتى شهر مايو 2018م إلى 714 عدداً كلها أكثر جودة وأكثر عطاء، تقدم لقرّائها كل جديد في شتى المجالات، ومازالت أفضل هدية شهرية تقدم من الكويت للناطقين بلغة الضاد، كما وعدت في عددها الأول الصادر في ديسمبر 1958. ولاتزال «العربي» تحتل حيزاً كبيراً في رفوف مكتبتي، رغم ما أشرت إليه من فترات حزن ولقاء وفراق، وقد اخترت رفاً بمقدوره تحمّل أعداد كثيرة من المجلة، وباستطاعة أحفادي تناول أي عدد من الأعداد بيسر وسهولة، بل ويستطيع هذا الرف استيعاب سنوات الذكريات في رحلتنا مع هذه المجلة التي ندعو لها بالاستمرار بنفس التألق والعطاء، ليستمر دورها في الحياة الثقافية العربية إلى ما شاء الله■