إن ما دفعني
لمناقشة ومطارحة أفكار هذا الموضوع الحيوي على صفحات (منتدى العربي) إنما هو الحرص
على ضرورة بلورة رؤية فكرية ومنهجية لهذه الإشكالية التي أراها بما تنطوي عليه من
زخم فكري وتوهج عقلي، تمثل قطب الرحى في كل ما حدث ويحدث من صراع وتفاعل أو إبداع
وانتكاس، في تاريخنا الفكري والثقافي على مدى القرون والمراحل والأجيال.
ثنائيات الفكر
العربي
وما من شك أن هذه
الإشكالية تثير في الذهن معاني وتداعيات جميع الثنائيات التي ظلت مطروحة على العقل
العربي والإسلامي في شتى مراحل عطائه وتألقه.. مثل: "الاجتهاد والتقليد".. "الأصالة
والمعاصرة".. "التراث والحداثة".. "التنوير والجمود".. وغيرها، وبغض النظر عن كيفية
تعامل المجتهدين والمبدعين مع هذه الثنائيات - لأن الوقوف على ذلك وحصره بدقة قد
يفوق الجهد الفردي - فإن الخط الذي ظل يستقطب النظر ويحوز التقدير، ومنذ القرن
الثاني الهجري، هو خط ما يمكن تسميته ب "العقلانية الإسلامية" أو خط "التأسيس
المنهجي للفكر والنظر الإسلامي"، ولعله يمكن اعتبار كتاب "الرسالة" للإمام محمد بن
إدريس الشافعي (150 - 204 ه) البداية العلمية الحقيقية لهذا الاتجاه الذي تطور فيما
بعد على يد بعض المدارس الفكرية وكذا بمجهودات بعض رجالات العلم والفكر في حضارتنا
كأبي حامد الغزالي، والفارابي، وابن تيمية، والشاطبي، وابن رشد،
وغيرهم..
لكن القضية في
جوهرها لابد أن يتم تناولها من زاوية تأصيلية أولا، بمعنى إذا كان العقل المسلم
المنهجي يبارك الاجتهاد والتجديد والتنوير، أو بمعنى إذا كان هذا هو الأصل عند
تمحيص النصوص، أو عند الوقوف على الأدلة والترجيح فإن عدة قضايا أخرى تتداعى على
الذهن طارحة نفسها على العقل بإلحاح وتحفز، لعل أولها قضية الموازنة بين المعقول
والمنقول. ومن ثم فإن عملية التجديد والتنوير تضحى منضبطة بعدة ضوابط ضرورية هي من
خصائص العقل العربي الإسلامي ذاته. أما إذا لم يكن ذلك فلاشك أننا سنجد أنفسنا حيال
تعميمات وعموميات لا تساعد العقل وتنير مساراته، بقدر ما تكبله وتشل حركيته، وإذا
أردنا التحديد أكثر فإننا - حينئذ - نفتقد معايير التفريق بين ما هو "غزو ثقافي"،
وما هو "مشترك عام" يمكن استثماره وتوظيفه ضمن حركة التجديد، وجهود الاستنارة
والتنوير.
التكامل بين الوحي
والعقل والكون
يقول المفكر
السعودي الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابة "أزمة العقل المسلم" : "إن الرؤية
الإسلامية القويمة التي يتكامل فيها الوحي والعقل والكون ويصرف فيها العقل المسلم
إلى النظر والتدبر والعمل في عالم الشهادة وشئونه، كما يوجهه الوحي، هي الرؤية التي
مكنت للسلف الأول ناصية الإبداع، وفتحت أمام العقل المسلم أبواب التجريب والنظر
والتنقيب في سنن الحياة والكائنات، وفتحت للإنسانية آفاقا جديدة في مجال الحضارة
كانت هي الأساس الذي أقامت الحضارة الحديثة عليه منهجها العلمي التجريبي وإنجازاتها
المادية التجريبية التي لم تعرف لها الإنسانية من قبل سبيلا ولا مثيلا. وبقدر ما
تيسر للعقل المسلم خلال ما مضى من عصور من صفاء الرؤية الإسلامية، بقدر ما تمكن من
الانصراف إلى بناء الحياة وحمل مسئولياته في خلافة عالم الشهادة وإعماره" (ص
114)
من هذا المنطلق
نفهم أن هناك ضرورة ماسة للعودة لخلفية معينة تكون بمثابة المرجعية في الانطلاق
الذهني الاجتهادي، وإعمال العقل والفكر، ذلك أن إطلاق العنان للعقل دونما حاجة لهذه
الخلفية المرجعية، والتي يقصد بها في الأفق والإطار الإسلامي "الوحي المعصوم"..
معناه الاضطراب والتخبط، بل التمرد السلبي للعقل، وطرائق إعماله.. وهذا بطبيعة
الحال إذا تجاوزنا قضية المصطلح بحد ذاته.. مصطلح "التنوير".. لا سيما إذا كان
بوسعنا استخدام مصطلحات بديلة وأصيلة، وهي في الوقت نفسه إفرازات طبيعية - انسجاما
وبناء - لمسارنا الحضاري ولحركيتنا الفكرية والثقافية مثل "التجديد" و "الاجتهاد"..
يقول المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة:
"التنوير مصطلح
غربي يعني عبادة العقل ونقض الدين، وعصر التنوير في الغرب يقوم على هذا المعنى،
وفلاسفة التنوير هذه هي آراؤهم ومقولاتهم، والتنوير في المفهوم العربي والإسلامي،
انطلاقا من القرآن، له معنى آخر، لأن الإسلام نور والرسول نور، فالمتدين بالإسلام
مستنير ب (تنوير) مختلف"
على ضوء هذه
الإضاءة أرى أن قول الأستاذ سامح كريم، وهو بصدد استخلاص تعريف عام للتنوير: "وعلى
ضوء المعنى العام للتنوير، ومعناه الفلسفي وشعاره والتأريخ له يمكن القول بأن
الإنسان الذي توصف أعماله بأنها تنويرية هو ذلك الإنسان الذي يستخدم عقله دون مؤثر
خارجي أو بغير مرشد أو موجه.. فيما يقوم به من عمل".
أرى أن هذا
القول، أو هذا الاستخلاص يحتاج إلى إعادة نظر، أو على الأقل إلى إعادة بسط وعرض
المراد المتضمن في الصياغة سالفة الذكر.
يتأكد ذلك أكثر
إذا وقفنا على طبيعة العلاقة بين العقل والنقل في الفكر الإسلامي، وكذا كيفية تفاعل
هذا العقل وإعماله في اتجاهين لمعادلة واحدة، اتجاه النص "الوحي" من جهة، واتجاه
الواقع من جهة أخرى.
ثم تأتي القضية
الأخرى في مقال الأستاذ سامح كريم وهي قضية الانتماء الحضاري، والتي يبدو أن الكاتب
لا يتوفر فيها على رؤية واضحة، فنجده مثلا يسوي بين طه حسين والعقاد وعلي عبدالرازق
وعبدالحميد بدوي وزكي نجيب محمود ويحيى حقي ونجيب محفوظ وغيرهم بحجة أنهم من رموز
التنوير في العالم العربي خلال هذا القرن العشرين، ولا شك أن هذا الخلط ذاته يعود
إلى افتقاد الخلفية الفكرية التي أشرت إليها في بداية هذا المقال. ذلك أن هذه
الخلفية الفكرية، أو هذه "المرجعية الحضارية" هي التي تحكم على عمل ما، أو اجتهاد
ما بالأصالة والمشروعية أم بعدم ذلك.
وبمعنى أكثر
وضوحا إنه لكي نحكم على اجتهاد معين بأنه اجتهاد إسلامي لا بد أن يكون صاحب هذا
الاجتهاد ينطلق من التصور الإسلامي وينتمي في جذوره المرجعية إلى الحضارة
الإسلامية!
بقي أن أشكر
الأستاذ سامح على فتحه المجال لهذه المطارحة الفكرية على صفحات العربي، وآمل أن
يستجيب لهذا التواصل الثقافي، فيكتب مرة أخرى في الموضوع ويضع النقاط على
الحروف.