مجلة العربي... سيرة ومسيرة ومسار

مجلة العربي... سيرة ومسيرة ومسار

عندما‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬فحتماً‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬رديفتها‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬،‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬فروعها‭ ‬للجميع،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬حينما‭ ‬تحتفل‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬بمرور‭ ‬ستين‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬إصدار‭ ‬لها،‭ ‬إنما‭ ‬يحتفل‭ ‬كل‭ ‬القراء‭ ‬العرب‭ ‬أطفالاً‭ ‬وكباراً‭ ‬بهذه‭ ‬الأيقونة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالثقافة‭ ‬العربية‭ ‬ومنهل‭ ‬المعرفة‭ ‬من‭ ‬ينابيعها‭ ‬العلمية‭.‬

وبالمناسبة‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬فكرة‭ ‬قديمة‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬بال،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سنحت‭ ‬مناسبة‭ ‬ستينيتها،‭ ‬فخرجت‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬الصادقة‭ ‬تجاه‭ ‬مجلة‭ ‬أحبتنا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نحبها‭.‬

وسأسرد‭ ‬لكم‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬هذه‭...‬

انطلقت‭ ‬بداية‭ ‬مسيرتي‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬حينما‭ ‬زرت‭ ‬عمي؛‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬الجلوس‭ ‬ودسستُ‭ ‬يدي‭ ‬بين‭ ‬كتب‭ ‬مكدسة‭ ‬على‭ ‬الأرفف،‭ ‬وأخرجت‭ ‬مجلة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬بها‭ ‬ملحق‭ ‬صغير‭ ‬طالعته،‭ ‬استوقفني‭ ‬فن‭ ‬الألوان‭ ‬والصور‭ ‬والمواضيع‭ ‬الشائقة،‭ ‬كان‭ ‬سهلاً‭ ‬عليّ‭ ‬فهم‭ ‬مضمونها،‭ ‬لذا‭ ‬استمتعت‭ ‬بقراءتها‭.‬

لو‭ ‬سُئل‭ ‬أي‭ ‬مواطن‭ ‬عربي‭ ‬من‭ ‬جيلي،‭ ‬مُحب‭ ‬للقراءة،‭ ‬عن‭ ‬باكورة‭ ‬هواية‭ ‬المطالعة‭ ‬عنده،‭ ‬فسينسب‭ ‬الفضل‭ ‬
لـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬الأساس‭. ‬فما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬الثقافية‭ ‬إلا‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬المجلة،‭ ‬ومعظمهم‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬تعرّف‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬والديه‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أقربائه‭.‬

حرص‭ ‬عمي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعطيني‭ ‬المجلة‭ ‬وملاحقها‭ ‬ملاحظاً‭ ‬ميلي‭ ‬للمطالعة،‭ ‬كما‭ ‬شجعني‭ ‬أبي‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬أيضاً‭. ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬مواضيع‭ ‬صغيرة،‭ ‬فأتركها‭ ‬بجانب‭ ‬سرير‭ ‬أبي‭ ‬لمراجعتها،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬الصبْحُ‭ ‬أتى،‭ ‬ناقشني‭ ‬في‭ ‬المحتوى‭. ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬عاملاً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬صقل‭ ‬موهبتي‭ ‬وتنمية‭ ‬ملَكة‭ ‬الكتابة‭ ‬لديّ‭.‬

هاجر‭ ‬عمي‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا،‭ ‬تاركاً‭ ‬زوجته‭ ‬وثلاثة‭ ‬أطفال‭. ‬حزّ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬سفره‭ ‬وحزنت‭ ‬حزناً‭ ‬لم‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬أحد،‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬تقريباً‭. ‬وبقي‭ ‬سؤالان‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬لهما‭ ‬إجابة‭:‬

الأول‭: ‬أين‭ ‬اختفت‭ ‬كتبه‭ ‬ومجلاته،‭ ‬وهل‭ ‬أخذها‭ ‬معه،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬زوجته‭ ‬تخلصت‭ ‬منها،‭ ‬أم‭ ‬وزعتها‭ ‬على‭ ‬صبايا‭ ‬الحي؟

أما‭ ‬الثاني‭: ‬فيتعلق‭ ‬به‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر؛‭ ‬فعندما‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬صغيرة‭ ‬بإحدى‭ ‬الولايات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؟‭ ‬

‭ ‬

نكسة‭ ‬واحتلال

خلال‭ ‬حرب‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬قُتل‭ ‬والدي‭ (‬عن‭ ‬39‭ ‬عاماً‭) ‬خلال‭ ‬جولة‭ ‬من‭ ‬الغارات‭ ‬الجوية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬أريحا‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭. ‬قُتل‭ ‬أمام‭ ‬عينيّ‭ ‬وعيون‭ ‬خمسة‭ ‬من‭ ‬إخوتي‭ ‬الآخرين،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬قادت‭ ‬والدتي‭ ‬السيارة‭ ‬وفيها‭ ‬جسد‭ ‬والدي‭ ‬المضرج‭ ‬بالدماء‭ ‬من‭ ‬أريحا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬السلط‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬قيادةً‭ ‬خيّم‭ ‬عليها‭ ‬بكاء‭ ‬ستة‭ ‬أطفال‭ ‬يحتضنون‭ ‬جسد‭ ‬والدهم‭ ‬المُسجّى‭. ‬فعَرفنا‭ ‬الحرب‭ ‬والموت‭ ‬واليتم‭ ‬في‭ ‬آن‭!‬

عدنا‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬الطريق‭ ‬ذاته،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أبي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬استشهاده‭ ‬نقطة‭ ‬غيّرت‭ ‬مسار‭ ‬حياتنا‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬وعينا‭ ‬وأهالي‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وغزة‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬جديد؛‭ ‬احتلت‭ ‬سلطات‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬بقية‭ ‬فلسطين‭. ‬صادرت‭ ‬السلطات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات،‭ ‬ومنعت‭ ‬وصولها‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬الرازحة‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭. ‬فلا‭ ‬أزال‭ ‬أبحث‭ ‬عند‭ ‬الجيران‭ ‬وعند‭ ‬معلماتي‭ ‬عن‭ ‬كتب‭ ‬ومجلات‭ ‬أتغلب‭ ‬بقراءتها‭ ‬على‭ ‬همّي‭ ‬وواقعي‭ ‬المرير‭. ‬ومعظمهم‭ ‬كانت‭ ‬عندهم‭ ‬أعداد‭ ‬من‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المجلات‭ ‬والكتب‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬أبي‭ ‬وعمي‭. ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬أطالعها‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مختلف‭.  ‬قطبان‭ ‬مهمان‭ ‬غابا‭ ‬عن‭ ‬حياتي‭: ‬عمي‭ ‬وأبي‭. ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬عندما‭ ‬رأيت‭ ‬أحلامي‭ ‬تندثر‭ ‬لأتحول‭ ‬إلى‭ ‬زهرة‭ ‬برية‭ ‬تعتني‭ ‬بها‭ ‬الفطرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إرشاد‭. ‬أحسست‭ ‬بأن‭ ‬الوقت‭ ‬قد‭ ‬توقف،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬بدأت‭ ‬مسيرة‭ ‬غربتي‭ ‬وسيرة‭ ‬حياة‭ ‬مختلفة‭.‬

بعد‭ ‬سنوات،‭ ‬عادت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬مكتبات‭ ‬فلسطين‭. ‬ومازلت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمجلة‭ ‬وكأنها‭ ‬جزء‭ ‬مني،‭ ‬وكلما‭ ‬كنت‭ ‬أكبر‭ ‬كانت‭ ‬تكبر‭ ‬معي،‭ ‬إذ‭ ‬كنت‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬اقتنائها‭ ‬وشرائها‭ ‬أينما‭ ‬حللت‭ ‬وسكنت‭... ‬وبقيت‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬أنتظر‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭ ‬أول‭ ‬الشهر‭ ‬لشرائها‭. ‬

 

الكويت‭ ‬منبع‭ ‬الثقافات

في‭ ‬سبعينيات‭ ‬وثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬الكويتية‭ ‬شُعلة‭ ‬نشاط‭: ‬خمس‭ ‬صحف‭ ‬يومية‭ ‬وأخرى‭ ‬تصدر‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عميدة‭ ‬المجلات‭ (‬العربي‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مجلات‭ ‬ودوريات‭ ‬متعددة‭ ‬ومختلفة‭ ‬كلها‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬وفنون،‭ ‬وكانت‭ ‬الكويت‭ ‬تصدر‭ ‬الثقافة‭ ‬كما‭ ‬تستقطب‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭: ‬ندوات،‭ ‬معرض‭ ‬الكتاب‭ ‬السنوي،‭ ‬ومعارض‭ ‬للفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬الندوة‭ ‬السنوية‭ ‬لمجلة‭ ‬العربي،‭ ‬محاضرات‭... ‬إلخ‭. ‬وكانت‭ ‬الحكومة‭ ‬الكويتية‭ ‬تدعم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الثقافات‭ ‬وتشجعها‭.‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات‭ ‬كانت‭ ‬بداياتي‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الكويتية‭: ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬‮«‬القبس‮»‬،‭ ‬وأصبحت‭ ‬محررة‭ ‬لصفحة‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الرسالة‭ ‬الأسبوعية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬رئيس‭ ‬تحريرها‭ ‬المرحوم‭ ‬جاسم‭ ‬مبارك‭ ‬الجاسم‭ (‬بو‭ ‬مبارك‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬الوطن‭ ‬وكان‭ ‬مدير‭ ‬التحرير‭ ‬المرحوم‭ ‬جاسم‭ ‬المطوع،‭ ‬الذي‭ ‬أوكل‭ ‬إليّ‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬طاقم‭ ‬تحرير‭ ‬صفحة‭ ‬المرأة‭ ‬والطفل‭. ‬

عملت‭ ‬وقتها‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬نادية‭ ‬كمال‭ ‬وناديا‭ ‬لطفي‭ ‬وغالية‭ ‬قباني‭ ‬وأشواق‭ ‬المالك،‭ ‬وكانت‭ ‬أيضاً‭ ‬الصحفية‭ ‬ليلى‭ ‬الأحمد‭ ‬ضمن‭ ‬كاتبات‭ ‬صحيفة‭ ‬الوطن‭.‬

وفي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الوطن‮»‬‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬مساعد‭ ‬الصالح‭ (‬أبو‭ ‬طلال‭) ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬آنذاك،‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬له‭ ‬دوره‭ ‬المميز‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الكويتية،‭ ‬لذلك‭ ‬لقّب‭ ‬بفارسها،‭ ‬وكان‭ ‬يكتب‭ ‬زاويته‭ ‬اليومية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الله‭ ‬بالخير‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يذيّلها‭ ‬بعبارة‭: ‬‮«‬والله‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬القصد‮»‬‭! ‬وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬رجال‭ ‬القانون‭ ‬والمحاماة‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬وكانت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬قد‭ ‬خصصت‭ ‬ملفاً‭ ‬عن‭ ‬الراحل‭ ‬قرأته‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الطائرة،‭ ‬فالمجلة‭ ‬ونيستي‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬أيضاً‭. ‬عندما‭ ‬سكنتُ‭ ‬الكويت‭ ‬أبديت‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬لكن‭ ‬أحدهم‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬وهل‭ ‬تظنين‭ ‬أن‭ ‬للعربي‭ ‬مكاتب‭ ‬فارهة‭! ‬ما‭ ‬العربي‭ ‬إلا‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬الزخم‭ ‬والوميض‭ ‬إنما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬مكاتب‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬الوزارة‮»‬‭! ‬

 

وكالة‭ ‬الأنباء‭ ‬الكويتية‭ (‬كونا‭)‬

في‭ ‬أوائل‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬عُينت‭ ‬في‭ ‬وكالة‭ ‬الأنباء‭ ‬الكويتية‭ (‬كونا‭) ‬بدائرة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬والمكاتب‭ ‬الخارجية،‭ ‬وكانت‭ ‬تضم‭ ‬في‭ ‬كادر‭ ‬‮«‬كونا‮»‬‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشابات‭ ‬الكويتيات،‭ ‬أذكر‭ ‬منهن‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭: ‬إقبال‭ ‬الأحمد،‭ ‬لمياء‭ ‬الحميضي،‭ ‬فتوح‭ ‬الجاسم،‭ ‬هيفاء‭ ‬الخنيني،‭ ‬سندس‭ ‬المباركي،‭ ‬وإيمان‭ ‬عبيد،‭ ‬وغيرهن‭.‬

وكان‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الإدارة‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬آنذاك‭ ‬المرحوم‭ ‬برجس‭ ‬حمود‭ ‬البرجس،‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬ومبادراته‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬‮«‬الهلال‭ ‬الأحمر‮»‬‭ ‬ووزارة‭ ‬الصحة‭ ‬الكويتية‭. ‬إنما‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬خالد‮»‬‭ ‬الإنسان؛‭ ‬فوفق‭ ‬تعبيره‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬خلال‭ ‬حياته‭ ‬العملية‭ ‬كلها‭ ‬أن‭ ‬وقّع‭ ‬أي‭ ‬رسالة‭ ‬أو‭ ‬قرار‭ ‬فصل‭ ‬تعسفي‭ ‬لأي‭ ‬موظف،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أتحداكم‭ ‬إن‭ ‬فعلت‮»‬‭! ‬وكان‭ ‬شعاره‭ ‬دائماً‭ ‬وأبداً‭ ‬‮«‬قطع‭ ‬الأعناق‭ ‬ولا‭ ‬قطع‭ ‬الأرزاق‮»‬‭! ‬أذكر‭ ‬مقولته‭ ‬هذه‭ ‬دائماً‭ ‬وأبداً،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المواضيع‭ ‬إثارة‭ ‬للجدل،‭ ‬فالفصل‭ ‬التعسفي‭ ‬وإنهاء‭ ‬الخدمات‭ ‬يدوران‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ - ‬بشكل‭ ‬يومي‭ ‬أرزاق‭ ‬تقطع‭ ‬بسبب‭ ‬‮«‬التفنيش‮»‬‭ - ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬عالم‭ ‬متغير‭.‬

طلبت‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الثمانينيات‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إعارة‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الصغير،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬نفكر‭ ‬بطلبك‭ ‬وأرد‭ ‬عليك‭ ‬بالموافقة‭ ‬من‭ ‬عدمها‭ ‬بعد‭ ‬عودتك‭ ‬من‭ ‬الإجازة‮»‬‭.  ‬سافرت‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬خلال‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬1990،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬استودعت‭ ‬زميلاتي‭ ‬أوراقي‭ ‬ومسودات‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬مؤجل‭ ‬نشرها،‭ ‬وأوصيت‭ ‬زميلاتي‭: ‬أنا‭ ‬ذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬الانتفاضة،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أصابتني‭ ‬رصاصة‭ ‬من‭ ‬مستوطن‭ ‬أو‭ ‬قتلني‭ ‬قناص‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬دورية،‭ ‬أمانة‭ ‬عليكن‭ ‬نشر‭ ‬كتبي‭... ‬مسوداتها‭ ‬في‭ ‬الجارور‭ (‬الدرج‭)... ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أدري‭ ‬ساعة‭ ‬وداع‭ ‬بأنه‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭.‬

 

الثاني‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1990

في‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬ذهبت‭ ‬منذ‭ ‬الفجر‭ ‬لاستكمال‭ ‬معاملات‭ ‬تتعلق‭ ‬بالهوية‭. ‬كانت‭ ‬وقتها‭ ‬دائرة‭ ‬الأحوال‭ ‬المدنية‭ ‬من‭ ‬مسؤوليات‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وعدت‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬أنتظر‭ ‬دوري،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صارت‭ ‬الساعة‭ ‬الثالثة‭ ‬عصراً‭ ‬سمعت‭ ‬هرجاً‭ ‬ومرجاً‭ ‬في‭ ‬المكان‭: ‬‮«‬دخلت‭ ‬القوات‭ ‬العراقية‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‮»‬‭... ‬لم‭ ‬آخذ‭ ‬الموضوع‭ ‬بجديّة،‭ ‬إذ‭ ‬ظننت‭ ‬أنها‭ ‬مناوشات‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬وتنتهي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬فتأكد‭ ‬الخبر‭. ‬بعد‭ ‬سنوات‭... ‬سألت‭ ‬صديقتي‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬مسوداتي؟‮»‬‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬بعد‭ ‬التحرير،‭ ‬وجدنا‭ ‬المبنى‭ ‬فارغاً،‭ ‬فبعد‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مكاتب‭ ‬الوكالة‭ ‬جمعت‭ ‬القوات‭ ‬العراقية‭ ‬كل‭ ‬الملفات‭ ‬وأفرغوا‭ ‬الجوارير‭ (‬الأدراج‭)‬،‭ ‬وصادروا‭ ‬كل‭ ‬ورقة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬المبنى‭. ‬ومكتبنا‭ ‬كذلك‭ ‬كان‭ ‬خاوياً‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬وريقات‭ ‬تخصك‭ ‬وجدناها‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وأعداد‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬متناثرة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‮»‬‭.‬

كان‭ ‬موضوع‭ ‬احتلال‭ ‬العراق‭ ‬للكويت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كتاباتي‭ ‬وأمره‭ ‬أهمّ‭! ‬ما‭ ‬قيمة‭ ‬أوراقي‭ ‬أمام‭ ‬الحدث‭ ‬الجلل؟‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬وريقات‭ ‬عزيزة‭ ‬علي،‭ ‬من‭ ‬يعيد‭ ‬إليّ‭ ‬الكلمات‭ ‬والأحرف؟‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬الأخبار‭ ‬بيوتاً‭ ‬مهدمة،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬ما‭ ‬الأثر‭ ‬المحزن‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬طفل‭ ‬كل‭ ‬أغراضه‭ ‬دُمرت‭ ‬والمكان‭.‬

 

العائدون‭ ‬من‭ ‬الكويت‭... ‬نقطة‭ ‬تحوّل

بقيت‭ ‬في‭ ‬القدس،‭ ‬وكنت‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬عينة،‭ ‬وباحثة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬بدراسة‭ ‬حول‭ ‬‮«‬العائدين‭ ‬من‭ ‬الكويت‮»‬،‭ ‬أجراها‭ ‬مركز‭ ‬المعلومات‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬أحد‭ ‬مراكز‭ ‬جمعية‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرأسها‭ ‬المرحوم‭ ‬فيصل‭ ‬الحسيني،‭ ‬الذي‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منيته‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ (‬31/5/2001‭). ‬شملت‭ ‬الدراسة‭ ‬جميع‭ ‬العائدين‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وغزة،‭ ‬وسلطت‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬واقعهم‭ ‬الجديد‭ ‬وأوضاعهم،‭ ‬وخرجت‭ ‬بتوصيات‭ ‬لتساعدهم‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬العمالة‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ذلك‭ ‬السوق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متعثراً‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭. ‬وكان‭ ‬ضمان‭ ‬إيجاد‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬للعائدين‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬غير‭ ‬الحكومية‭ ‬والدولية‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬المحتلة،‭ ‬مدعوماً‭ ‬من‭ ‬البرنامج‭ ‬الكندي‭ ‬لمساعدة‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬ومن‭ ‬مهامه‭ ‬توفير‭ ‬الدعم‭ ‬المادي‭ ‬والمالي‭ ‬لتوظيف‭ ‬العائدين،‭ ‬وهكذا‭ ‬عُينت‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬المعلومات‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭: ‬سَجلتُ‭ ‬وزملائي‭ ‬يوميات‭ ‬الانتفاضة‭ ‬ودونت‭ ‬ويلات‭ ‬النزاعات‭ ‬المسلحة‭ ‬والنزوح‭ ‬واللجوء‭ ‬والتشرد،‭ ‬جابهت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بي‭ ‬بالكفاح‭ ‬والصبر،‭ ‬وكتبت‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬القدس‭ ‬المقدسية‭ ‬لسنوات‭.‬

‭ ‬

‮«‬العربي‮»‬‭ ‬والمحتل

قاومت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الاحتلال‭ ‬ودخلت‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬متخطية‭ ‬الحواجز‭ ‬العسكرية‭ ‬والجدران‭ ‬والسياج‭. ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬استطاعت‭ ‬الدخول‭ ‬لكل‭ ‬أرجاء‭ ‬فلسطين،‭ ‬متجاوزة‭ ‬بذلك‭ ‬كل‭ ‬الصعاب‭.‬

أسأل‭ ‬دائماً‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭: ‬‮«‬وصلت‭ ‬العربي‮»‬؟

فيكرر‭ ‬جملته‭ ‬المعهودة‭: ‬‮«‬دخلت‭ ‬المعابر،‭ ‬لكنها‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬مقص‭ ‬الرقيب‭ ‬الإسرائيلي‭!‬‮»‬‭.‬

حَسَب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ثقافته‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬مقاومة‭ ‬الاحتلال‭ ‬والنضال‭ ‬ضده‭. ‬المحتل‭ ‬كما‭ ‬يجَزَع‭ ‬من‭ ‬المقلاع‭ ‬والحجر،‭ ‬ترهبه‭ ‬الكلمة،‭ ‬فيصادر‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات،‭ ‬ويحاول‭ ‬سد‭ ‬منابع‭ ‬الثقافة،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬محاولاته‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل،‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بقيت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مناهضة‭ ‬لممارسته‭ ‬وتشق‭ ‬طريقها‭ ‬إلينا‭. ‬أكاد‭ ‬أجزم‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬تنتظر‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات‭ ‬العربية‭ ‬عندما‭ ‬ترسو‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬المتعطشة‭ ‬للحرية‭ ‬والاستقلال‭. ‬منع‭ ‬تجول‭... ‬إضرابات‭ ‬عامة‭... ‬مدن‭ ‬وقرى‭ ‬يغلق‭ ‬سكانها‭ ‬أبواب‭ ‬بيوتهم‭ ‬من‭ ‬الخامسة‭ ‬مساءً‭... ‬مساءات‭ ‬ساكنة‭... ‬يمر‭ ‬الوقت‭ ‬طويلاً‭ ‬كدهر‭... ‬لا‭ ‬يقوّي‭ ‬عزمهم‭ ‬إلا‭ ‬المطالعة‭ ‬والقراءة‭.‬

ما‭ ‬هذا‭ ‬التفاني‭ ‬والإخلاص؟‭ ‬وما‭ ‬هذه‭ ‬المثابرة‭ ‬والإصرار‭ ‬من‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬عقر‭ ‬دار‭ ‬المحتل؟‭! ‬

وقفت‭ ‬المجلة‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬وجالت‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة،‭ ‬وقفزت‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬الأسوار‭ ‬وسافرت‭ ‬عبر‭ ‬الطرق‭ ‬المتعرجة‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬مصور‭ ‬أو‭ ‬استطلاع‭ ‬عن‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬الصامدة‭. ‬كما‭ ‬احتضنت‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬الكُتّاب‭ ‬والأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬أدب‭ ‬المقاومة‭ ‬وأدب‭ ‬السجون،‭ ‬كما‭ ‬وقوفها‭ ‬بقوة‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬القدس‭ ‬والمقدسات‭.‬

 

تمثيل‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬المؤتمرات‭ ‬العالمية

في‭ ‬الأراضي‭ ‬المحتلة‭ ‬كان‭ ‬العمل‭ ‬جاداً،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مقاومة‭ ‬المحتل‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬مواكبة‭ ‬التطورات‭ ‬العالمية‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الصّعد،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬والطفل‭.‬

في‭ ‬المؤتمر‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬بفيينا‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬شاركت‭ ‬الوفود‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬حقوق‭ ‬الطفل‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬عُقد‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬المؤتمر،‭ ‬كما‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الميثاق‭ ‬والملحق‭ ‬الأممي‭ ‬لحقوق‭ ‬الطفل،‭ ‬وفرضت‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والقيم‭ ‬العربية‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬بنود‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الملحقة‭ ‬للإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الطفل‭. ‬

وكان‭ ‬حضور‭ ‬وفد‭ ‬الكويت‭ ‬لافتاً،‭ ‬وشملت‭ ‬أجندته‭ ‬قضية‭ ‬الأسرى‭ ‬والمفقودين‭ ‬خلال‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭. ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬الوفد‭ ‬خلود‭ ‬الفيلي‭ ‬مع‭ ‬كوكبة‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬وشابات‭ ‬الكويت‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬العالمي‭ ‬الرابع‭ ‬للمرأة‭: ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المساواة‭ ‬والتنمية‭ ‬والسلام،‭ ‬مؤتمر‭ ‬بكين‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬إلى‭ ‬15‭ ‬سبتمبر‭ ‬1995،‭ ‬مثلت‭ ‬الكويت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬الكويتيات‭ ‬البارزات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬ومجالات‭ ‬اجتماعية‭ ‬أخرى،‭ ‬أذكر‭ ‬من‭ ‬بينهن‭ ‬إقبال‭ ‬الأحمد‭. ‬ولم‭ ‬يختلف‭ ‬الهمّ،‭ ‬فمن‭ ‬ضمن‭ ‬فعاليات‭ ‬كثيرة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الوفد‭ ‬الكويتي‭ ‬برئاسة‭ ‬الشيخة‭ ‬حصة‭ ‬سعد‭ ‬العبدالله،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬الأسرى‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬الأولوية‭.‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينيات‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬عمَّان‭ ‬وعملت‭ ‬لمدة‭ ‬عقدين‭ ‬في‭ ‬وكالة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬لإغاثة‭ ‬وتشغيل‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ (‬الأونروا‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬بقيت‭ ‬مع‭ ‬اللاجئ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬أحمل‭ ‬همه‭ ‬حتى‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬التقاعد،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬هذا‭ ‬اللاجئ‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬عالقة‭ ‬معلّقة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حلول‭.‬

باختصار‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬مسيرتي‭ ‬العملية،‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وحولها،‭ ‬وكأني‭ ‬أحفر‭ ‬الصخر،‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬شاءت‭ ‬المقادير‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬معاناته‭ ‬تشبهني‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬السياسية‭.‬

 

مسيرة‭ ‬حياة

ورّثتُ‭ ‬حب‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬و«العربي‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أبنائي‭ ‬وأحفادي،‭ ‬ومرت‭ ‬الأيام‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬حفيدتي‭ ‬سما‭ ‬تنبش‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬تشدني‭ ‬لتأخذني‭ ‬إلى‭ ‬رف‭ ‬عرض‭ ‬المجلة‭. ‬

دخلت‭ ‬ابنتي‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬ضخمة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬الكبيرة‭... ‬أَضواؤها‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬محتوياتها‭... ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬بلدتي‭: ‬صغيرة‭..‬‭. ‬متواضعة‭... ‬أرففها‭ ‬مغبرة‭... ‬لكنها‭ ‬المزودة‭ ‬والناشرة‭ ‬للثقافة‭ ‬للمدينة،‭ ‬كما‭ ‬لكل‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭.‬

لموظف‭ ‬الاستقبال‭: ‬مجلة‭ ‬العربي‭.‬

‭- ‬مستغرباً‭: ‬‮«‬العربي؟‮»‬‭. ‬

‭- ‬‮«‬نعم،‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية‭!‬‮»‬،‭ ‬أجاب‭ ‬باستهجان‭: ‬‮«‬هل‭ ‬هذه‭ ‬مجلة‭ ‬جديدة»؟

‭- ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الكار‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬المجلة‭! ‬ردت‭ ‬عليه‭.‬

‮«‬العربي‮»‬‭ ‬رفيقة‭ ‬الطفولة‭ ‬والاحتلال‭ ‬والهجرة‭ ‬والاغتراب،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬الصبا‭ ‬والشباب،‭ ‬عاشت‭ ‬همّي،‭ ‬وكانت‭ ‬صديقتي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عاصمة‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬غربية‭.‬

لم‭ ‬أنفصل‭ ‬عن‭ ‬أعدادها‭ ‬وأعداد‭ ‬توأمها‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬الترحال‭ ‬والرحيل،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كنت‭ ‬أغادر‭ ‬مكاناً‭ ‬سكنت‭ ‬فيه،‭ ‬كان‭ ‬يعز‭ ‬عليّ‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬أعدادها‭ ‬لصعوبة‭ ‬النقل،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كنت‭ ‬أهدي‭ ‬المجلة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬سيصونها‭ ‬ويحافظ‭ ‬عليها‭.  ‬أنا‭ ‬و«العربي‮»‬‭ ‬و«العربي‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬مسار‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخط‭ ‬المستقيم‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينحنِ‭ ‬لنحو‭ ‬خمسين‭ ‬عاماً،‭ ‬بدايته‭ ‬مكتبة‭ ‬عمي‭ ‬ونهايته‭ ‬النشر‭ ‬على‭ ‬صفحاتها‭! ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬حلماً‭ ‬راودني‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭: ‬أصبحت‭ ‬قاصّة‭ ‬فيها،‭ ‬أختار‭ ‬أبنائي‭ ‬وأحفادي‭ ‬أبطال‭ ‬قصصي؛‭ ‬أخرجتُ‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬الأستاذ‭ ‬نعيم‭ ‬ونقلتها‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬متنقلة‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬سما‭ ‬والقلادة‮»‬‭ ‬كتبت‭ ‬سما‭ ‬حفيدتي‭ ‬بطاقة‭ ‬أهدتها‭ ‬إلى‭ ‬لاجئة،‭ ‬وأخرجتُ‭ ‬ابني‭ ‬وأصدقاءه‭ ‬للعب‭ ‬بالثلج،‭ ‬وبدوري‭ ‬أسكنتُ‭ ‬رجل‭ ‬الثلج‭ ‬هذا‭ ‬بيتاً،‭ ‬ومنحته‭ ‬عنواناً‭ ‬وهوية‭. ‬

‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬الإبداع‭ ‬والجمال‭ ‬والمعرفة،‭ ‬ثقافة،‭ ‬أدب،‭ ‬فن‭ ‬وعلوم،‭ ‬إنها‭ ‬مساحات‭ ‬الود،‭ ‬و«البيت‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬ونافذة‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬عالمية،‭ ‬مجلة‭ ‬راسخة‭ ‬الجذور‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬مبادئها،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحارس‭ ‬الأمين‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شعرائها‭ ‬وأدبائها‭ ‬ومبدعيها‭ ‬وفنانيها‭. ‬يقال‭ ‬دائماً‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أردت‭ ‬التثقف‭ ‬والتزود‭ ‬بالمعرفة،‭ ‬وأن‭ ‬تتحسن‭ ‬لغتك‭ ‬العربية‭ ‬وتصار‭ ‬إلى‭ ‬بلاغة،‭ ‬فواظب‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬العربي‮»‬‭. ‬

قد‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬ومُلحقاتها‭ ‬وكتيباتها‭ ‬وفروعها،‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬بأزمات‭ ‬سياسية‭ ‬ومالية‭ ‬وإدارية،‭ ‬من‭ ‬المحتمل،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تخذل‭ ‬كّتابها‭ ‬ولا‭ ‬قرّاءها،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬بقيت‭ ‬ثابتة‭ ‬متجذرة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬أحد‭ ‬بهذه‭ ‬المصاعب‭ ‬التي‭ ‬تتغلب‭ ‬عليها‭ ‬دائماً‭... ‬أبداً‭... ‬لتبقى‭ ‬شامخة‭... ‬عالية‭...‬‭ ‬جائبة‭ ‬بتألق‭ ‬أينما‭ ‬كانت‭ ‬وأينما‭ ‬ستكون‭ ■‬