الكتاباتُ الجديدة.. قراءة في أحد نماذجها
نعني بـ «الكتابات الجديدة» ما يكتبه الشَّباب والشَّابَّات، في هذه الأيَّام، في غير قطر عربي، من كتاباتٍ متحرِّرة من الوزن والقافية والإيقاع، أيِّ وزن وإيقاع، وليس العروضيَّ فحسب. يسمّي هؤلاء الكتّاب كتاباتهم الجديدة شعراً وقصائد نثر، يؤيِّدهم في ذلك شعراء ونقَّاد، ويعارضهم شعراء ونقّاد آخرون، يرون أنَّ هذه الكتابات لا تعدو كونها، إن توافرت فيها خصائص الأدب، نثراً أدبيَّاً.
وإذ تشهد الحياة الأدبيَّة، في هذه الأيَّام، غزارة في نشر هذه الكتابات، في مؤلَّفات ورقيَّة و«إلكترونيَّة»، وعلى صفحات كثير من الدَّوريَّات والمواقع، مما جعل منها ظاهرة لها حضورها الفاعل، وإذ يغيب النَّقد الموضوعي المواكب لها، رأينا أن نقدّم قراءة في أحد نماذج هذه المؤلَّفات، لعلَّها تثير نقاشاً جدّياً لا تخفى حاجة الحياة الأدبيَّة إليه.
الأنموذج، موضوع القراءة، هو «العبور بلا ضوء» لدارين حوماني، الصَّادر عن دار فواصل في بيروت، في طبعة أولى سنة 2017.
يعود اختيار هذا الأنموذج إلى عدَّة أسباب، منها: أولاً أن هذا الكتاب هو الإصدار الخامس للكاتبة؛ إذ صدر لها قبله: «أكبر من نافذة قطار - 2008»؛ «الياطر الحزين - 2011»؛ «ملاءات رقيقة في غرفة واحدة - 2014»؛ «مقامات الخيبة - 2016»، مما يعني أنَّ هذا الكتاب ليس محاولةً أولى أملتها حماسة الشَّباب للخروج على القيم والتقاليد الشعرية السَّائدة، وإنَّما هو وليد تجربة متَّصلة امتدَّت طوال سنوات، وأتاحت للكاتبة أن تشحذ موهبتها، وتراكم خبراتها، وتطوِّر أدواتها، وثانياً أنَّ هذا الكتاب يرفق بنقد يقدِّمه، ويعرِّف به، فتتيح قراءته فرصتين: أولاهما معرفة هذا النقد، ومعرفة رؤيته إلى هذه الظَّاهرة، وثانيتهما التعرُّف إلى هذا النَّوع من الكتابة.
عبور بلا ضوء
عنوان هذا الأنموذج: «عبور بلا ضوء» جملةٌ غير مكتملة. يُترك للقارئ أن يكملها، فيحدِّد «ما» يتم العبور فيه وإليه، ويجيب عن أسئلة منها: كيف يتمُّ هذا العبور؟ وهل يتمُّ فعلاً؟ وما هي معوِّقاته؟ ولم كان بلا ضوء؟
العنوان مشوِّق، ودافعٌ للبحث عن إجابات، فيبادر القارئ للبحث عن هذه الإجابات. يقرأ في الغلاف، بوصفه علامةَ دالَّة: العابرون وقوف في جانب الطَّريق، وأمام الأبواب المقفلة، الطريق فارغ، ليس من عبور فيها، البيوت سوداء ورمادية، معتمة، والطَّريق مبسوطة وغير معتمة. هذا الفضاء ينطق بـ «الانتظار»، والسؤال الذي يُطرح هنا هو: ماذا ينتظر العابرون ليعبروا؟ هل ينتظرون الضَّوء؟
لا يقدِّم الغلاف إجابة، وإنَّما يضيف أسئلةً إلى الأسئلة التي يثيرها العنوان، وهذا يعني أنَّ معدَّ هذا الكــتــــاب يُعنى بإخراجه إلى القارئ ثريّاً بالعلامات الدَّالَّة، والمثيرة للأسئلة وللتشويق.
من مظاهر هذه العناية، إضافة إلى ما سبق، أن ظلال الغلاف ترتسم على كل صفحة من صفحات الكتاب، كأنَّها صدى ما يقوله يتكرَّر مع كلِّ قراءة لهذه الصفحة أو تلك.
من هذه المظاهر، أيضاً، أنَّ الكتاب يبدأ بمقدِّمةٍ لعبَّاس بيضون، وينتهي بكلمة للنَّاشر نعيم تلحوق، تملأ صفحة الغلاف الأخيرة، مما يعني أنَّ خطاباً نقديّاً يرافق النَّص، ويقدِّمه للقارئ، ويقدِّم له معرفة به هو في حاجةٍ إليها، لأنَّه يتلقَّى كتابةً جديدة لم يألفها. يعوِّل القارئ أهمَّيةً على هذا الخطاب، خصوصاً أنَّ صاحبيه رائدان من روَّاد هذا النَّوع من الكتابة، وأن الكاتبة تهدي نصّاً من نصوص كتابها إلى أوَّلهما، بيضون، وتعنونه بـ «المعلِّم»؛ ولا تخفى دلالة هذا العنوان، فالمعلِّم يقدِّم الدُّروس، ويرشد، وينظِّر، ويقدِّم الضَّوء، فماذا علَّم هذا المعلِّم في مقدِّمته؟ وأيَّ ضوء قدَّم؟ وإن قدَّم ضوءاً، فلم كان العبور بلا ضوء؟
سهولة ممتعة
يعرب «المعلِّم» عمَّا يشعر به لدى قراءة الكتاب، فيبدأ بالقول: «يشعر قارئ دارين حوماني بخفَّةٍ قلَّما تتاح لقارئ الشِّعر، فهو يقرأ كما يتمشَّى، ولا يصادف، في طريقه، إلاَّ ما تألفه عيناه وما يشبهه، أو هو على الأقلِّ من دنياه» (ص7).
يُلفت، في هذا القـــول، أوَّلاً، ما لم يقله بيضون، فهو لم يقل: «يشعر قارئ شعر دارين حوماني ...»، فلمَ النَّصُّ على قراءة الكاتبة، وليس على نوع مــــا يقـــرأه؟ ويفــــيد ما يقـــــوله بأن الميزة الأساس، في كتابة حوماني، هي السهولة الممتعة كـ «التمشي»، وألفة الأشــــياء والكائنـــــات التي تراها عينا المتمشِّي في دنياه. غير أنَّه لا يلبث أن يقول ما يناقــــض هذا الشُّعور، فنقرأ: «إنَّه - أي ما يقرأه كما
يتمشَّى - في استرسال المحكي، لكنــــه، في الوقـــت ذاته، تغريــــب المحكيِّ وانسحاره»، ونقرأ: «... إنَّها العواطف الأولى، البدائيّة البرِّيَّة، وتخرج بدون جهد، وتنتظم بــدون تقصُّد أو تعب» (ص7 و8).
السؤال الذي تثــيره أقــــوال بيضــــون هــــو: هل تغريب المحكيِّ وانسحاره يُشعر بخفَّة التمشِّي، وبمصادفة الأليف؟ وهل القيام بفعلي «التغريب» و«الانسحار» يتم من دون قصد وجهد وتعب؟ وقبل أن نجيب عن هذين السؤالين، نقرأ ما أهدته دارين إلى بيضون، تحت عنوان: «المعلِّم»، ونرى إن كان ينطبق عليه شعوره/ حكمه:
«عبَّاس مرَّة أخرى/ يلقي التحيَّة بقبلة/ يكلِّمنا، وهو يسجِّل ما يمرُّ به/»، هذا كلام مباشر يصف أفعالاً مألوفةً. ونكمل: «على قصاصاتٍ ورقٍ في رأسه/ يدوِّنها كلَّ صباح» (ص42)، فنلتقي «التغريب»، وفعل السِّحر، فهل تسجيل المرء ما يمر به على قصاصات من ورق في رأسه من المحكيَّ والمألوف؟ وهل تأتي هذه الصُّورة «الغرائبيّة» من دون قصد أو جهد وتعب؟ وهل يتلقاها القارئ كما يتمشَّى؟
مشهدية عميقة
لم ينطق «المعلِّم» بخطاب متناقض فحسب، وإنَّما لم يقدِّم معرفةً بالكتاب، ولا بهذا النوع من الكتابة، وإنَّما وصف شعوراً تولِّده قراءة هذا الكتاب أو ذاك، وهذا الكلام العام يتكرَّر في مقالة لمحمَّد مظلوم (أصوات شابَّة من الشِّعر اللبناني، جريدة الحياة، 20/2/2018)، وهو، أيضاً، من كتَّاب هذا النَّوع من الكتابة ونقَّاده، يقول مظلوم: إن لغة هذا الكتاب «أكثر أناقةً ونقاءً»، وإن صوره «مشيَّدة لا بحرص، حيث تهتم بالتقاط حركة الخارج لترسم مشهديَّة أكثر عمقاً، وبضجيج أقل، وهي أكثر انتباهاً للتفاصيل، فتلتقطها بعين بصيرة، وتحيكها (تحوكها) لتخلق قصيدتها، قصيدة درامية عالية الوضوح، ولعل هذا ما دفع عباس بيضون إلى التأكيد أنَّ الألفة شيء أساس في قصائد الشاعرة».
إن هذا الكلام عام قد يصدق على هذا النَّص أو ذاك، إضافة إلى أن لغته تفتقر إلى دقَّة الدَّلالة، أو إلى الدَّلالة على خصائص النَّص، فماذا نفهم من «لغة أكثر أناقة ونقاءً»؟ ومن «صور مشيَّدة بحرص»، و«مشهديَّة أكثر عمقاً وبضجيج أقل»؟ والطريف النَّصُّ على «درامية» القصيدة و«وضوحها» على مستوى المضمون والمعمار، أن هذه الأحكام عامَّة، تحتاج إلى تبيُّن، وهي، كما يبدو لي، لا تصف نصوص هذا الكتاب.
ويعبِّر الناشر نعيم تلحوق عمَّا تحدثه قراءة دارين حوماني فيه، فيقول: «يهتزُّ فيك شيءٌ ما، وأنت تقرأ دارين حوماني، لتعيش أبعاداً لا لحظة فيها».
هزة جمالية
يبدو واضحاً أن تلحـــــوق يتحدَّث عن التلقِّي، وعن الهزَّة الجمالية التـــــي أكثر متلقُّو الشعر عنها، واللافت حديث تلحوق عن تلقِّي حوماني، وليس عن تلقِّي شعرها، فهل من المصادفة أن يلتقي «المعلِّم» و«النَّاشر» في استخدام هذا التعبــــير الدَّال؟ ثـــــم إنَّ «النَّاشر» يواصل كلامه الشِّعري المعبِّر عن شعوره العام لا المعرِّف بالنَّص، فنقرأ: «امرأة لا تجرح الكلمات، لهذا تعتذر منها الحروف حين تناغشها...»، فهل الكلمات غير المجروحة، هنا، هي الكلمات الأنيقة النقيَّة هناك؟
يبدو واضحاً أنَّ هذا الخطاب الذي يواكب هذا الكتاب لا يقدِّم نقداً له، بمعنى النَّقد الذي يميِّز النَّصَّ ويتبيَّن خصائصه، فهل يعني هذا أن هذه الكتابة تَعْبُر إلى تكوُّنها نوعاً أدبيّاً متميِّزاً من دون ضوء؟ وهل عبَّرت حوماني عن هذا الأمر، واعيَةً أو غير واعية، بعبارة وضعتها عنواناً لكتابها؟
يعيدنا هذان السّؤالان إلى الأسئلة التي أثرناها في بداية المقالة. في سبيل الإجابة عن تلك الأسئلة، نقرأ إشاراتٍ دالَّة، منها ما جاء في التَّصدير: «إن كان هو الموت دائماً. فهو يأتي تالياً، الحرِّية، أبداً، هي الأولى» (ص10). يفيد هذا التَّصدير بأنَّ «الموت» هو الدَّائم والعبور إنَّما يتم إليه، بوصفه تالياً للحياة التي ينبغي أن تعاش بحرِّيَّة. إنَّ العبور، إذاً، هو عبور الحياة إلى الموت بحرِّية، إن يكن الأمر هكذا، فما هو الضَّوء؟
نقرأ النُّصوص، ونختار منها، على سبيل المثال، القول: «الوقت/ مثل حديقة/ ملأناها خراباً/ لم نكتف بدفن موتانا فيها/ بل دفَّنا أحياءنا أيضاً» (ص84). يثير هذا القول أسئلةً منها: هل هو الوقت/ الزَّمن/ العمر/... ما يتم عبوره؟ وهل الحديقة التي ملأناها خراباً هي الحياة؟ وهل الضَّوء هو القضيَّة، التي تجعل العمر ذا جدوى؟ وتملأ الحديقة التي ملأناها خراباً عمراناً؟ إنَّ ما يجعل الحديقة/ الحياة/ الدنيا عامرةً هو الضَّوء/ قضيّة العمر، وقد نجد صورة مركبة/ علامة تدلُّ عليه: «عيناها قصيدة خضراء/ عيناها عينا أبي/ تنسكب على قلبي مثل غطاء دافئ في ليلة ممطرة» (ص48).
إنَّ هذا الغطاء، كما يبدو لي، هو
الضَّوء الدافئ في صقيع الحديقة التي ملأناها خراباً.
صورة مركّبة
إن هذه الصُّورة مركَّبة من ثلاث صور، أولاها: «عيناها قصيدة خضراء»، صورة تشبَّه المدرَك الحسيِّ بما يحتاج إدراكه إلى تأمِّل ذهني، فأي قصيدة هي العينان؟ وماذا تعني القصيدة الخضراء؟ يبدو لي أنَّ هذه الصُّورة وليدة صنيع ذهني يفتعل المفارقة.
يبقى، وقد حاولنــــا الإجابة عــــن الأسئلة التي تثيرها قضيّة هذا الكتاب الأساس، أن نجيب عن أسئلة هي: ما هو نـــوع هذه الكــــتابة؟ هل هو شعر؟ هل هو قصيدة نثر؟ أحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة، وبدهي أن تكون إجاباتي موضع تداول ونقاش نرى أن هذه الظاهرة في أمسِّ الحاجة إليهما.
من المعروف أنَّ مكوِّنات الشِّعر هي رؤية شعريَّة إلى العالم وأشيائه وقضاياه تتمثل لغةً شعرية مفارقة للغة العاديَّة، من مكوِّناتها، الإيقاع: الوزني والنغمي، إيقاع ما، وليس شرطاً لازماً أن يكون وزناً عروضيّاً، وانزياح معجمي وتركيبي ومجازي ودلالي.
تفيد الدِّراسات العلميَّة بأن الإيقاع الوزني والنغمي حاجة عضويَّة ترافق التجربة الشعريَّة، وهي تجربة انفعاليَّة عموماً، ويرافق الإيقاع، خصوصاً، ذلك الانفعال الذي يعيشه الشاعر الموهوب، وهو ينتج شعره، ولعلنا نعرف دلالة اسم «الرَّجز»، أول أشكال الشِّعر على هذا النَّوع من الانفعال، وهذا يعني أن التجربة الشعرية الخاصَّة تلد نظاماً موسيقياً خاصاً، وأن ليس من شعر حقيقي من دون نظام موسيقي. وأن تعطيل الانفعال الخاص = الوجد يعطِّل إنتاج النِّظام الشعري الخاص بالشَّاعر الفرد والمرحلة التاريخية.
تجويد النص
ومن المعروف، فيما يتعلَّق بقصيدة النَّثر، أنَّ القصيدة هي فعيلة، أي صيغة مبالغة، من قصد، وتعني القصد إلى تجويد النَّص، الممثِّل تجربة عيش كاملة، وإحكام بنائه، والمبالغة في ذلك، ليأتي محكم البناء، ذا وحدة عضويَّة، مكثف اللغة، ينطق بدلالة كلِّيَّة. بهذا المعنى، يمكن أن يصنع الأديب من الشِّعر، ومن النثر قصيدة، وقد نصَّ روَّاد قصيدة النثر العربيَّة، نقلاً عن سوزان برنار، الفرنسيَّة، على هذه الخصائص، وذهب بعضهم إلى القول: إنَّ ما كتبه محمَّد الماغوط لا ينتمي إلى قصيدة النَّثر، لأنَّه يفتقر إلى البناء المحكم الممثِّل تجربة حياة كاملة.
في ضوء هذا الفهم، نقرأ نصوص هذا الكتاب، فنلاحظ أنها تخلو من أيِّ نظام موسيقي، من أي إيقاع وزني أو نغمي، مما يعني أن التجربة التي تلد هذه الــنُّصوص ليست تلك التجربة الشعرية الانفعاليَّة التي تلد النّظام الموسيقي تلقائياً، وإن حاولنا تبيُّن الرؤية التي تملي هذه النصوص، نلاحظ أنها، في كثير من الحالات، رؤية تؤنسن الأشياء والأماكن، كما في القول: «... ينام بهدوء/ جفونه مزرَّرة بأحلام كبيرة/ في الخارج/ حمام يلقي بالطُّمأنينة فوق كتف النَّافذة/ النَّافذة تُفاجأ/ تبتسم.../ هديَّة أخرى من الله...» (ص30 و31). يرسم هذا القول مشهداً محسوساً، ناطقاً، تزرَّر فيه الجفون، ويحمل الحمام الطمأنينة، وتُفاجأ النَّافذة، لكنَّ هذه الصُّور تغدو غرائبيّة عندما يوغل الصَّنيع الذِّهني في الإغراب المغْلَق، كما في القول، على سبيل المثال: «الصَّوت/ الذي يرى البشر من بعيد/ يتمسَّك بالموت/ يبحث عن الحقيقة» (ص14).
تجربة ذهنية
في كلا القولين السَّابقين مفارقة للغة العادية، والفرق يتمثل في أنَّ القول الأوَّل وليد تجربة شخصيَّة انفعالية، والقول الثاني وليد تجربة ذهنيَّة تحتذي غرائبيَّات رائجة يُرَاد لها إحداث الدَّهشة.
إنَّ المفارقة اللُّغوية، لكي تكون لغةً شعريَّة، ينبغي أن تكون لغة في المقام الأوَّل، بحسبان اللُّغة ظاهرة اتِّصالية، وتتصف بما سمَّاه الجاحظ، قديماً، «الفهم والإفهام».
لنقرأ هذه الصُّورة الفرديَّة: «الغرفة خاليةٌ من الشِّعر/ خرج العازفون من اللَّوحة/ إنَّهم يقطعون الخبز للأطفال/ ليذهبوا إلى مدارسهم» (ص11)، ونسأل: هل تنطق هذه الصُّورة أو أنَّها بكماء؟
ولنقرأ نصّاً آخر هو «فلسطين في قلبي»، يبدأ هذا النَّص بصورةٍ سرديَّة تبدو كأنَّها خبر صحفي، لكنَّها تنتظم في علاقات مع صورتين سرديتين أُخريَين، فيتشكَّل نظام سياقي يمتلك فاعلية دلاليَّة فحواها أنَّ جيلاً جديداً سيعيد بناء البيت الذي هُدم.
وهذه الفاعليّة ليست دلاليّة فحسب، وإنَّما هي جماليَّة في الوقت نفسه لم يُضرها سوى الوقوع في المباشر لدى وصف القدمين بـ «مواد خام».
الفرق بين هذين النَّصين هو الفرق نفسه الذي تبيَّناه بين النَّصين السَّابقين، فالثاني وليد تجربة حياتية معيشة، والأوَّل وليد تجربة ذهنيَّة تحتذي غرائبيّة شائعة في هذا النَّوع من الكتابة.
ثلج وشمس
وفي نصٍّ آخر هو «قصيدتي» (ص21)، على سبيل المثال، يلاحظ تداخل التَّجربتين، جاء في هذا النَّص: «قصيدة مكتوبة بقطع الثَّلج/ تتوقّف كلَّ حينٍ عن الحراك/ ثمَّة كلبٌ يحرِّك ذيله للقصيدة/ وأنا أقدح عود ثقاب/ كي يذوب الثلج ...» (ص21). الصُّورة محسوسة فيها غرابة، وناطقة بدلالة مفادها العجز، فماذا يفعل عود ثقاب إزاء قطع ثلج تتوقَّف كل حين عن الحراك؟ تذكِّرني هذه الصورة بحوارٍ ثنائي جرى معي على «الفيسبوك». «قالت: ثلجٌ أنا، قال: شمسك أنا...».
لكن كان الأفضل أن يترك الاستنتاج: «كي يذوب الثلج» للقارئ. لكنَّ هذه الصُّورة الناطقة يقتحمها عنصر غريب، هو الكلب الذي يحرِّك ذيله للقصيدة. فلم وُجد الكلبُ هنا؟ ولم يحرِّك ذيله؟ هل يهزأ؟ هل يقول: إنَّ ذيله يبقى هو هو ولو بقي سنواتٍ في القالب؟ هل يراد منه أن يكثِّف غرائبية الصُّورة؟ أسئلة كثيرة تُطرح، وتدلّ على تداخل تجربتين تمليان نصوص هذا الكتاب.
في الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها آنفاً، يمكن القول:
إن لغة نصوص هذا الكتاب متنوِّعة كما تبيَّن لنا آنفاً، وهي مفارقة للُّغة العاديَّة، مما يعني أنَّها، في الغالب، لغة شعريَّة، والسؤال: هل هي شعر؟ يبدو لي أنها تتصف بما هو لازم وغير كافٍ لتكون شعراً ذا نظام موسيقيٍّ: إيقاع وزني ونغمي، كما يبدو لي أنَّها لغة نصٍّ أدبي منثور، هو النَّصُّ الأدبي المنثور الذي يُمكن أن تُصنع منه قصيدة نثر، إن قُصد إلى ذلك، والواضح أنَّ الكاتبة لم تقصد إلى إحكام بناء نصوصها، وتجويدها■