الكتاباتُ الجديدة.. قراءة في أحد نماذجها

الكتاباتُ الجديدة.. قراءة في أحد نماذجها

نعني‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الكتابات‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬الشَّباب‭ ‬والشَّابَّات،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيَّام،‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬قطر‭ ‬عربي،‭ ‬من‭ ‬كتاباتٍ‭ ‬متحرِّرة‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬والإيقاع،‭ ‬أيِّ‭ ‬وزن‭ ‬وإيقاع،‭ ‬وليس‭ ‬العروضيَّ‭ ‬فحسب‭. ‬يسمّي‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكتّاب‭ ‬كتاباتهم‭ ‬الجديدة‭ ‬شعراً‭ ‬وقصائد‭ ‬نثر،‭ ‬يؤيِّدهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شعراء‭ ‬ونقَّاد،‭ ‬ويعارضهم‭ ‬شعراء‭ ‬ونقّاد‭ ‬آخرون،‭ ‬يرون‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬كونها،‭ ‬إن‭ ‬توافرت‭ ‬فيها‭ ‬خصائص‭ ‬الأدب،‭ ‬نثراً‭ ‬أدبيَّاً‭.‬

وإذ‭ ‬تشهد‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبيَّة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيَّام،‭ ‬غزارة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات،‭ ‬في‭ ‬مؤلَّفات‭ ‬ورقيَّة‭ ‬و«إلكترونيَّة‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬صفحات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدَّوريَّات‭ ‬والمواقع،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬ظاهرة‭ ‬لها‭ ‬حضورها‭ ‬الفاعل،‭ ‬وإذ‭ ‬يغيب‭ ‬النَّقد‭ ‬الموضوعي‭ ‬المواكب‭ ‬لها،‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬نقدّم‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬نماذج‭ ‬هذه‭ ‬المؤلَّفات،‭ ‬لعلَّها‭ ‬تثير‭ ‬نقاشاً‭ ‬جدّياً‭ ‬لا‭ ‬تخفى‭ ‬حاجة‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبيَّة‭ ‬إليه‭.‬

الأنموذج،‭ ‬موضوع‭ ‬القراءة،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬العبور‭ ‬بلا‭ ‬ضوء‮»‬‭ ‬لدارين‭ ‬حوماني،‭ ‬الصَّادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬فواصل‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬أولى‭ ‬سنة‭ ‬2017‭.‬

يعود‭ ‬اختيار‭ ‬هذا‭ ‬الأنموذج‭ ‬إلى‭ ‬عدَّة‭ ‬أسباب،‭ ‬منها‭: ‬أولاً‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬الإصدار‭ ‬الخامس‭ ‬للكاتبة؛‭ ‬إذ‭ ‬صدر‭ ‬لها‭ ‬قبله‭: ‬‮«‬أكبر‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬قطار‭ - ‬2008‮»‬؛‭ ‬‮«‬الياطر‭ ‬الحزين‭ - ‬2011‮»‬؛‭ ‬‮«‬ملاءات‭ ‬رقيقة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬واحدة‭ - ‬2014‮»‬؛‭ ‬‮«‬مقامات‭ ‬الخيبة‭ - ‬2016‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ليس‭ ‬محاولةً‭ ‬أولى‭ ‬أملتها‭ ‬حماسة‭ ‬الشَّباب‭ ‬للخروج‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬والتقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬السَّائدة،‭ ‬وإنَّما‭ ‬هو‭ ‬وليد‭ ‬تجربة‭ ‬متَّصلة‭ ‬امتدَّت‭ ‬طوال‭ ‬سنوات،‭ ‬وأتاحت‭ ‬للكاتبة‭ ‬أن‭ ‬تشحذ‭ ‬موهبتها،‭ ‬وتراكم‭ ‬خبراتها،‭ ‬وتطوِّر‭ ‬أدواتها،‭ ‬وثانياً‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يرفق‭ ‬بنقد‭ ‬يقدِّمه،‭ ‬ويعرِّف‭ ‬به،‭ ‬فتتيح‭ ‬قراءته‭ ‬فرصتين‭: ‬أولاهما‭ ‬معرفة‭ ‬هذا‭ ‬النقد،‭ ‬ومعرفة‭ ‬رؤيته‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الظَّاهرة،‭ ‬وثانيتهما‭ ‬التعرُّف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭.‬

 

عبور‭ ‬بلا‭ ‬ضوء

عنوان‭ ‬هذا‭ ‬الأنموذج‭: ‬‮«‬عبور‭ ‬بلا‭ ‬ضوء‮»‬‭ ‬جملةٌ‭ ‬غير‭ ‬مكتملة‭. ‬يُترك‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يكملها،‭ ‬فيحدِّد‭ ‬‮«‬ما‮»‬‭ ‬يتم‭ ‬العبور‭ ‬فيه‭ ‬وإليه،‭ ‬ويجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬منها‭: ‬كيف‭ ‬يتمُّ‭ ‬هذا‭ ‬العبور؟‭ ‬وهل‭ ‬يتمُّ‭ ‬فعلاً؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬معوِّقاته؟‭ ‬ولم‭ ‬كان‭ ‬بلا‭ ‬ضوء؟

العنوان‭ ‬مشوِّق،‭ ‬ودافعٌ‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬إجابات،‭ ‬فيبادر‭ ‬القارئ‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الإجابات‭. ‬يقرأ‭ ‬في‭ ‬الغلاف،‭ ‬بوصفه‭ ‬علامةَ‭ ‬دالَّة‭: ‬العابرون‭ ‬وقوف‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬الطَّريق،‭ ‬وأمام‭ ‬الأبواب‭ ‬المقفلة،‭ ‬الطريق‭ ‬فارغ،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬فيها،‭ ‬البيوت‭ ‬سوداء‭ ‬ورمادية،‭ ‬معتمة،‭ ‬والطَّريق‭ ‬مبسوطة‭ ‬وغير‭ ‬معتمة‭. ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬ينطق‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الانتظار‮»‬،‭ ‬والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يُطرح‭ ‬هنا‭ ‬هو‭: ‬ماذا‭ ‬ينتظر‭ ‬العابرون‭ ‬ليعبروا؟‭ ‬هل‭ ‬ينتظرون‭ ‬الضَّوء؟

لا‭ ‬يقدِّم‭ ‬الغلاف‭ ‬إجابة،‭ ‬وإنَّما‭ ‬يضيف‭ ‬أسئلةً‭ ‬إلى‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يثيرها‭ ‬العنوان،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬معدَّ‭ ‬هذا‭ ‬الكــتــــاب‭ ‬يُعنى‭ ‬بإخراجه‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬ثريّاً‭ ‬بالعلامات‭ ‬الدَّالَّة،‭ ‬والمثيرة‭ ‬للأسئلة‭ ‬وللتشويق‭.‬

من‭ ‬مظاهر‭ ‬هذه‭ ‬العناية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬أن‭ ‬ظلال‭ ‬الغلاف‭ ‬ترتسم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب،‭ ‬كأنَّها‭ ‬صدى‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬يتكرَّر‭ ‬مع‭ ‬كلِّ‭ ‬قراءة‭ ‬لهذه‭ ‬الصفحة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬المظاهر،‭ ‬أيضاً،‭ ‬أنَّ‭ ‬الكتاب‭ ‬يبدأ‭ ‬بمقدِّمةٍ‭ ‬لعبَّاس‭ ‬بيضون،‭ ‬وينتهي‭ ‬بكلمة‭ ‬للنَّاشر‭ ‬نعيم‭ ‬تلحوق،‭ ‬تملأ‭ ‬صفحة‭ ‬الغلاف‭ ‬الأخيرة،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬خطاباً‭ ‬نقديّاً‭ ‬يرافق‭ ‬النَّص،‭ ‬ويقدِّمه‭ ‬للقارئ،‭ ‬ويقدِّم‭ ‬له‭ ‬معرفة‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬حاجةٍ‭ ‬إليها،‭ ‬لأنَّه‭ ‬يتلقَّى‭ ‬كتابةً‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يألفها‭. ‬يعوِّل‭ ‬القارئ‭ ‬أهمَّيةً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنَّ‭ ‬صاحبيه‭ ‬رائدان‭ ‬من‭ ‬روَّاد‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأن‭ ‬الكاتبة‭ ‬تهدي‭ ‬نصّاً‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬كتابها‭ ‬إلى‭ ‬أوَّلهما،‭ ‬بيضون،‭ ‬وتعنونه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المعلِّم»؛‭ ‬ولا‭ ‬تخفى‭ ‬دلالة‭ ‬هذا‭ ‬العنوان،‭ ‬فالمعلِّم‭ ‬يقدِّم‭ ‬الدُّروس،‭ ‬ويرشد،‭ ‬وينظِّر،‭ ‬ويقدِّم‭ ‬الضَّوء،‭ ‬فماذا‭ ‬علَّم‭ ‬هذا‭ ‬المعلِّم‭ ‬في‭ ‬مقدِّمته؟‭ ‬وأيَّ‭ ‬ضوء‭ ‬قدَّم؟‭ ‬وإن‭ ‬قدَّم‭ ‬ضوءاً،‭ ‬فلم‭ ‬كان‭ ‬العبور‭ ‬بلا‭ ‬ضوء؟

 

سهولة‭ ‬ممتعة

يعرب‭ ‬‮«‬المعلِّم‮»‬‭ ‬عمَّا‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬لدى‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب،‭ ‬فيبدأ‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬يشعر‭ ‬قارئ‭ ‬دارين‭ ‬حوماني‭ ‬بخفَّةٍ‭ ‬قلَّما‭ ‬تتاح‭ ‬لقارئ‭ ‬الشِّعر،‭ ‬فهو‭ ‬يقرأ‭ ‬كما‭ ‬يتمشَّى،‭ ‬ولا‭ ‬يصادف،‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬إلاَّ‭ ‬ما‭ ‬تألفه‭ ‬عيناه‭ ‬وما‭ ‬يشبهه،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬الأقلِّ‭ ‬من‭ ‬دنياه‮»‬‭ (‬ص7‭).‬

يُلفت،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القـــول،‭ ‬أوَّلاً،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقله‭ ‬بيضون،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يقل‭: ‬‮«‬يشعر‭ ‬قارئ‭ ‬شعر‭ ‬دارين‭ ‬حوماني‭ ...‬‮»‬،‭ ‬فلمَ‭ ‬النَّصُّ‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الكاتبة،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬مــــا‭ ‬يقـــرأه؟‭ ‬ويفــــيد‭ ‬ما‭ ‬يقـــــوله‭ ‬بأن‭ ‬الميزة‭ ‬الأساس،‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬حوماني،‭ ‬هي‭ ‬السهولة‭ ‬الممتعة‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬التمشي‮»‬،‭ ‬وألفة‭ ‬الأشــــياء‭ ‬والكائنـــــات‭ ‬التي‭ ‬تراها‭ ‬عينا‭ ‬المتمشِّي‭ ‬في‭ ‬دنياه‭. ‬غير‭ ‬أنَّه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ما‭ ‬يناقــــض‭ ‬هذا‭ ‬الشُّعور،‭ ‬فنقرأ‭: ‬‮«‬إنَّه‭ - ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يقرأه‭ ‬كما‭ ‬
يتمشَّى‭ - ‬في‭ ‬استرسال‭ ‬المحكي،‭ ‬لكنــــه،‭ ‬في‭ ‬الوقـــت‭ ‬ذاته،‭ ‬تغريــــب‭ ‬المحكيِّ‭ ‬وانسحاره‮»‬،‭ ‬ونقرأ‭: ‬‮«‬‭... ‬إنَّها‭ ‬العواطف‭ ‬الأولى،‭ ‬البدائيّة‭ ‬البرِّيَّة،‭ ‬وتخرج‭ ‬بدون‭ ‬جهد،‭ ‬وتنتظم‭ ‬بــدون‭ ‬تقصُّد‭ ‬أو‭ ‬تعب‮»‬‭ (‬ص7‭ ‬و8‭).‬

السؤال‭ ‬الذي‭ ‬تثــيره‭ ‬أقــــوال‭ ‬بيضــــون‭ ‬هــــو‭: ‬هل‭ ‬تغريب‭ ‬المحكيِّ‭ ‬وانسحاره‭ ‬يُشعر‭ ‬بخفَّة‭ ‬التمشِّي،‭ ‬وبمصادفة‭ ‬الأليف؟‭ ‬وهل‭ ‬القيام‭ ‬بفعلي‭ ‬‮«‬التغريب‮»‬‭ ‬و«الانسحار‮»‬‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قصد‭ ‬وجهد‭ ‬وتعب؟‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬هذين‭ ‬السؤالين،‭ ‬نقرأ‭ ‬ما‭ ‬أهدته‭ ‬دارين‭ ‬إلى‭ ‬بيضون،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬المعلِّم‮»‬،‭ ‬ونرى‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬شعوره‭/ ‬حكمه‭:‬

‮«‬عبَّاس‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى‭/ ‬يلقي‭ ‬التحيَّة‭ ‬بقبلة‭/ ‬يكلِّمنا،‭ ‬وهو‭ ‬يسجِّل‭ ‬ما‭ ‬يمرُّ‭ ‬به‭/‬‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬كلام‭ ‬مباشر‭ ‬يصف‭ ‬أفعالاً‭ ‬مألوفةً‭. ‬ونكمل‭: ‬‮«‬على‭ ‬قصاصاتٍ‭ ‬ورقٍ‭ ‬في‭ ‬رأسه‭/ ‬يدوِّنها‭ ‬كلَّ‭ ‬صباح‮»‬‭ (‬ص42‭)‬،‭ ‬فنلتقي‭ ‬‮«‬التغريب‮»‬،‭ ‬وفعل‭ ‬السِّحر،‭ ‬فهل‭ ‬تسجيل‭ ‬المرء‭ ‬ما‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬قصاصات‭ ‬من‭ ‬ورق‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬من‭ ‬المحكيَّ‭ ‬والمألوف؟‭ ‬وهل‭ ‬تأتي‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬‮«‬الغرائبيّة‮»‬‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قصد‭ ‬أو‭ ‬جهد‭ ‬وتعب؟‭ ‬وهل‭ ‬يتلقاها‭ ‬القارئ‭ ‬كما‭ ‬يتمشَّى؟

 

مشهدية‭ ‬عميقة

لم‭ ‬ينطق‭ ‬‮«‬المعلِّم‮»‬‭ ‬بخطاب‭ ‬متناقض‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنَّما‭ ‬لم‭ ‬يقدِّم‭ ‬معرفةً‭ ‬بالكتاب،‭ ‬ولا‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة،‭ ‬وإنَّما‭ ‬وصف‭ ‬شعوراً‭ ‬تولِّده‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وهذا‭ ‬الكلام‭ ‬العام‭ ‬يتكرَّر‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬لمحمَّد‭ ‬مظلوم‭ (‬أصوات‭ ‬شابَّة‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬اللبناني،‭ ‬جريدة‭ ‬الحياة،‭ ‬20‭/‬2‭/‬2018‭)‬،‭ ‬وهو،‭ ‬أيضاً،‭ ‬من‭ ‬كتَّاب‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬ونقَّاده،‭ ‬يقول‭ ‬مظلوم‭: ‬إن‭ ‬لغة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬أناقةً‭ ‬ونقاءً‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬صوره‭ ‬‮«‬مشيَّدة‭ ‬لا‭ ‬بحرص،‭ ‬حيث‭ ‬تهتم‭ ‬بالتقاط‭ ‬حركة‭ ‬الخارج‭ ‬لترسم‭ ‬مشهديَّة‭ ‬أكثر‭ ‬عمقاً،‭ ‬وبضجيج‭ ‬أقل،‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬انتباهاً‭ ‬للتفاصيل،‭ ‬فتلتقطها‭ ‬بعين‭ ‬بصيرة،‭ ‬وتحيكها‭ (‬تحوكها‭) ‬لتخلق‭ ‬قصيدتها،‭ ‬قصيدة‭ ‬درامية‭ ‬عالية‭ ‬الوضوح،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬عباس‭ ‬بيضون‭ ‬إلى‭ ‬التأكيد‭ ‬أنَّ‭ ‬الألفة‭ ‬شيء‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬الشاعرة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬عام‭ ‬قد‭ ‬يصدق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النَّص‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لغته‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬دقَّة‭ ‬الدَّلالة،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬الدَّلالة‭ ‬على‭ ‬خصائص‭ ‬النَّص،‭ ‬فماذا‭ ‬نفهم‭ ‬من‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬أكثر‭ ‬أناقة‭ ‬ونقاءً‮»‬؟‭ ‬ومن‭ ‬‮«‬صور‭ ‬مشيَّدة‭ ‬بحرص‮»‬،‭ ‬و«مشهديَّة‭ ‬أكثر‭ ‬عمقاً‭ ‬وبضجيج‭ ‬أقل»؟‭ ‬والطريف‭ ‬النَّصُّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬درامية‮»‬‭ ‬القصيدة‭ ‬و«وضوحها‮»‬‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المضمون‭ ‬والمعمار،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬عامَّة،‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تبيُّن،‭ ‬وهي،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬لي،‭ ‬لا‭ ‬تصف‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.‬

ويعبِّر‭ ‬الناشر‭ ‬نعيم‭ ‬تلحوق‭ ‬عمَّا‭ ‬تحدثه‭ ‬قراءة‭ ‬دارين‭ ‬حوماني‭ ‬فيه،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬يهتزُّ‭ ‬فيك‭ ‬شيءٌ‭ ‬ما،‭ ‬وأنت‭ ‬تقرأ‭ ‬دارين‭ ‬حوماني،‭ ‬لتعيش‭ ‬أبعاداً‭ ‬لا‭ ‬لحظة‭ ‬فيها‮»‬‭.‬

 

هزة‭ ‬جمالية

يبدو‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬تلحـــــوق‭ ‬يتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬التلقِّي،‭ ‬وعن‭ ‬الهزَّة‭ ‬الجمالية‭ ‬التـــــي‭ ‬أكثر‭ ‬متلقُّو‭ ‬الشعر‭ ‬عنها،‭ ‬واللافت‭ ‬حديث‭ ‬تلحوق‭ ‬عن‭ ‬تلقِّي‭ ‬حوماني،‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬تلقِّي‭ ‬شعرها،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬المصادفة‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬‮«‬المعلِّم‮»‬‭ ‬و«النَّاشر‮»‬‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬التعبــــير‭ ‬الدَّال؟‭ ‬ثـــــم‭ ‬إنَّ‭ ‬‮«‬النَّاشر‮»‬‭ ‬يواصل‭ ‬كلامه‭ ‬الشِّعري‭ ‬المعبِّر‭ ‬عن‭ ‬شعوره‭ ‬العام‭ ‬لا‭ ‬المعرِّف‭ ‬بالنَّص،‭ ‬فنقرأ‭: ‬‮«‬امرأة‭ ‬لا‭ ‬تجرح‭ ‬الكلمات،‭ ‬لهذا‭ ‬تعتذر‭ ‬منها‭ ‬الحروف‭ ‬حين‭ ‬تناغشها‭...‬‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬الكلمات‭ ‬غير‭ ‬المجروحة،‭ ‬هنا،‭ ‬هي‭ ‬الكلمات‭ ‬الأنيقة‭ ‬النقيَّة‭ ‬هناك؟

يبدو‭ ‬واضحاً‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬يواكب‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يقدِّم‭ ‬نقداً‭ ‬له،‭ ‬بمعنى‭ ‬النَّقد‭ ‬الذي‭ ‬يميِّز‭ ‬النَّصَّ‭ ‬ويتبيَّن‭ ‬خصائصه،‭ ‬فهل‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬تَعْبُر‭ ‬إلى‭ ‬تكوُّنها‭ ‬نوعاً‭ ‬أدبيّاً‭ ‬متميِّزاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضوء؟‭ ‬وهل‭ ‬عبَّرت‭ ‬حوماني‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬واعيَةً‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬واعية،‭ ‬بعبارة‭ ‬وضعتها‭ ‬عنواناً‭ ‬لكتابها؟

يعيدنا‭ ‬هذان‭ ‬السّؤالان‭ ‬إلى‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬أثرناها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬المقالة‭. ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة،‭ ‬نقرأ‭ ‬إشاراتٍ‭ ‬دالَّة،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬التَّصدير‭: ‬‮«‬إن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الموت‭ ‬دائماً‭. ‬فهو‭ ‬يأتي‭ ‬تالياً،‭ ‬الحرِّية،‭ ‬أبداً،‭ ‬هي‭ ‬الأولى‮»‬‭ (‬ص10‭). ‬يفيد‭ ‬هذا‭ ‬التَّصدير‭ ‬بأنَّ‭ ‬‮«‬الموت‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الدَّائم‭ ‬والعبور‭ ‬إنَّما‭ ‬يتم‭ ‬إليه،‭ ‬بوصفه‭ ‬تالياً‭ ‬للحياة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تعاش‭ ‬بحرِّيَّة‭. ‬إنَّ‭ ‬العبور،‭ ‬إذاً،‭ ‬هو‭ ‬عبور‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬بحرِّية،‭ ‬إن‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬هكذا،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬الضَّوء؟

نقرأ‭ ‬النُّصوص،‭ ‬ونختار‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬القول‭: ‬‮«‬الوقت‭/ ‬مثل‭ ‬حديقة‭/ ‬ملأناها‭ ‬خراباً‭/ ‬لم‭ ‬نكتف‭ ‬بدفن‭ ‬موتانا‭ ‬فيها‭/ ‬بل‭ ‬دفَّنا‭ ‬أحياءنا‭ ‬أيضاً‮»‬‭ (‬ص84‭). ‬يثير‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬أسئلةً‭ ‬منها‭: ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الوقت‭/ ‬الزَّمن‭/ ‬العمر‭/... ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬عبوره؟‭ ‬وهل‭ ‬الحديقة‭ ‬التي‭ ‬ملأناها‭ ‬خراباً‭ ‬هي‭ ‬الحياة؟‭ ‬وهل‭ ‬الضَّوء‭ ‬هو‭ ‬القضيَّة،‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬العمر‭ ‬ذا‭ ‬جدوى؟‭ ‬وتملأ‭ ‬الحديقة‭ ‬التي‭ ‬ملأناها‭ ‬خراباً‭ ‬عمراناً؟‭ ‬إنَّ‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الحديقة‭/ ‬الحياة‭/ ‬الدنيا‭ ‬عامرةً‭ ‬هو‭ ‬الضَّوء‭/ ‬قضيّة‭ ‬العمر،‭ ‬وقد‭ ‬نجد‭ ‬صورة‭ ‬مركبة‭/ ‬علامة‭ ‬تدلُّ‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬عيناها‭ ‬قصيدة‭ ‬خضراء‭/ ‬عيناها‭ ‬عينا‭ ‬أبي‭/ ‬تنسكب‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬مثل‭ ‬غطاء‭ ‬دافئ‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬ممطرة‮»‬‭ (‬ص48‭).‬

إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الغطاء،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬لي،‭ ‬هو
الضَّوء‭ ‬الدافئ‭ ‬في‭ ‬صقيع‭ ‬الحديقة‭ ‬التي‭ ‬ملأناها‭ ‬خراباً‭.‬

 

صورة‭ ‬مركّبة

إن‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬مركَّبة‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬صور،‭ ‬أولاها‭: ‬‮«‬عيناها‭ ‬قصيدة‭ ‬خضراء‮»‬،‭ ‬صورة‭ ‬تشبَّه‭ ‬المدرَك‭ ‬الحسيِّ‭ ‬بما‭ ‬يحتاج‭ ‬إدراكه‭ ‬إلى‭ ‬تأمِّل‭ ‬ذهني،‭ ‬فأي‭ ‬قصيدة‭ ‬هي‭ ‬العينان؟‭ ‬وماذا‭ ‬تعني‭ ‬القصيدة‭ ‬الخضراء؟‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬وليدة‭ ‬صنيع‭ ‬ذهني‭ ‬يفتعل‭ ‬المفارقة‭.‬

يبقى،‭ ‬وقد‭ ‬حاولنــــا‭ ‬الإجابة‭ ‬عــــن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تثيرها‭ ‬قضيّة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الأساس،‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬هي‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬نـــوع‭ ‬هذه‭ ‬الكــــتابة؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬شعر؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬قصيدة‭ ‬نثر؟‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أجيب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وبدهي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إجاباتي‭ ‬موضع‭ ‬تداول‭ ‬ونقاش‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬أمسِّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إليهما‭.‬

من‭ ‬المعروف‭ ‬أنَّ‭ ‬مكوِّنات‭ ‬الشِّعر‭ ‬هي‭ ‬رؤية‭ ‬شعريَّة‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬وأشيائه‭ ‬وقضاياه‭ ‬تتمثل‭ ‬لغةً‭ ‬شعرية‭ ‬مفارقة‭ ‬للغة‭ ‬العاديَّة،‭ ‬من‭ ‬مكوِّناتها،‭ ‬الإيقاع‭: ‬الوزني‭ ‬والنغمي،‭ ‬إيقاع‭ ‬ما،‭ ‬وليس‭ ‬شرطاً‭ ‬لازماً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وزناً‭ ‬عروضيّاً،‭ ‬وانزياح‭ ‬معجمي‭ ‬وتركيبي‭ ‬ومجازي‭ ‬ودلالي‭.‬

تفيد‭ ‬الدِّراسات‭ ‬العلميَّة‭ ‬بأن‭ ‬الإيقاع‭ ‬الوزني‭ ‬والنغمي‭ ‬حاجة‭ ‬عضويَّة‭ ‬ترافق‭ ‬التجربة‭ ‬الشعريَّة،‭ ‬وهي‭ ‬تجربة‭ ‬انفعاليَّة‭ ‬عموماً،‭ ‬ويرافق‭ ‬الإيقاع،‭ ‬خصوصاً،‭ ‬ذلك‭ ‬الانفعال‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬الشاعر‭ ‬الموهوب،‭ ‬وهو‭ ‬ينتج‭ ‬شعره،‭ ‬ولعلنا‭ ‬نعرف‭ ‬دلالة‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الرَّجز‮»‬،‭ ‬أول‭ ‬أشكال‭ ‬الشِّعر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الانفعال،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬الخاصَّة‭ ‬تلد‭ ‬نظاماً‭ ‬موسيقياً‭ ‬خاصاً،‭ ‬وأن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬حقيقي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬نظام‭ ‬موسيقي‭.‬‭ ‬وأن‭ ‬تعطيل‭ ‬الانفعال‭ ‬الخاص‭ = ‬الوجد‭ ‬يعطِّل‭ ‬إنتاج‭ ‬النِّظام‭ ‬الشعري‭ ‬الخاص‭ ‬بالشَّاعر‭ ‬الفرد‭ ‬والمرحلة‭ ‬التاريخية‭.‬

 

تجويد‭ ‬النص

ومن‭ ‬المعروف،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بقصيدة‭ ‬النَّثر،‭ ‬أنَّ‭ ‬القصيدة‭ ‬هي‭ ‬فعيلة،‭ ‬أي‭ ‬صيغة‭ ‬مبالغة،‭ ‬من‭ ‬قصد،‭ ‬وتعني‭ ‬القصد‭ ‬إلى‭ ‬تجويد‭ ‬النَّص،‭ ‬الممثِّل‭ ‬تجربة‭ ‬عيش‭ ‬كاملة،‭ ‬وإحكام‭ ‬بنائه،‭ ‬والمبالغة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬ليأتي‭ ‬محكم‭ ‬البناء،‭ ‬ذا‭ ‬وحدة‭ ‬عضويَّة،‭ ‬مكثف‭ ‬اللغة،‭ ‬ينطق‭ ‬بدلالة‭ ‬كلِّيَّة‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬الأديب‭ ‬من‭ ‬الشِّعر،‭ ‬ومن‭ ‬النثر‭ ‬قصيدة،‭ ‬وقد‭ ‬نصَّ‭ ‬روَّاد‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربيَّة،‭ ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬سوزان‭ ‬برنار،‭ ‬الفرنسيَّة،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص،‭ ‬وذهب‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬إنَّ‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬محمَّد‭ ‬الماغوط‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬النَّثر،‭ ‬لأنَّه‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬البناء‭ ‬المحكم‭ ‬الممثِّل‭ ‬تجربة‭ ‬حياة‭ ‬كاملة‭.‬

في‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬الفهم،‭ ‬نقرأ‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬فنلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أيِّ‭ ‬نظام‭ ‬موسيقي،‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إيقاع‭ ‬وزني‭ ‬أو‭ ‬نغمي،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬تلد‭ ‬هذه‭ ‬الــنُّصوص‭ ‬ليست‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬الانفعاليَّة‭ ‬التي‭ ‬تلد‭ ‬النّظام‭ ‬الموسيقي‭ ‬تلقائياً،‭ ‬وإن‭ ‬حاولنا‭ ‬تبيُّن‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬تملي‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنها،‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات،‭ ‬رؤية‭ ‬تؤنسن‭ ‬الأشياء‭ ‬والأماكن،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬القول‭: ‬‮«‬‭... ‬ينام‭ ‬بهدوء‭/ ‬جفونه‭ ‬مزرَّرة‭ ‬بأحلام‭ ‬كبيرة‭/ ‬في‭ ‬الخارج‭/ ‬حمام‭ ‬يلقي‭ ‬بالطُّمأنينة‭ ‬فوق‭ ‬كتف‭ ‬النَّافذة‭/ ‬النَّافذة‭ ‬تُفاجأ‭/ ‬تبتسم‭.../ ‬هديَّة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الله‭...‬‮»‬‭ (‬ص30‭ ‬و31‭). ‬يرسم‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬مشهداً‭ ‬محسوساً،‭ ‬ناطقاً،‭ ‬تزرَّر‭ ‬فيه‭ ‬الجفون،‭ ‬ويحمل‭ ‬الحمام‭ ‬الطمأنينة،‭ ‬وتُفاجأ‭ ‬النَّافذة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الصُّور‭ ‬تغدو‭ ‬غرائبيّة‭ ‬عندما‭ ‬يوغل‭ ‬الصَّنيع‭ ‬الذِّهني‭ ‬في‭ ‬الإغراب‭ ‬المغْلَق،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬القول،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬‮«‬الصَّوت‭/ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬بعيد‭/ ‬يتمسَّك‭ ‬بالموت‭/ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‮»‬‭ (‬ص14‭).‬

 

تجربة‭ ‬ذهنية‭ ‬

في‭ ‬كلا‭ ‬القولين‭ ‬السَّابقين‭ ‬مفارقة‭ ‬للغة‭ ‬العادية،‭ ‬والفرق‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬أنَّ‭ ‬القول‭ ‬الأوَّل‭ ‬وليد‭ ‬تجربة‭ ‬شخصيَّة‭ ‬انفعالية،‭ ‬والقول‭ ‬الثاني‭ ‬وليد‭ ‬تجربة‭ ‬ذهنيَّة‭ ‬تحتذي‭ ‬غرائبيَّات‭ ‬رائجة‭ ‬يُرَاد‭ ‬لها‭ ‬إحداث‭ ‬الدَّهشة‭.‬

إنَّ‭ ‬المفارقة‭ ‬اللُّغوية،‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬لغةً‭ ‬شعريَّة،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لغة‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأوَّل،‭ ‬بحسبان‭ ‬اللُّغة‭ ‬ظاهرة‭ ‬اتِّصالية،‭ ‬وتتصف‭ ‬بما‭ ‬سمَّاه‭ ‬الجاحظ،‭ ‬قديماً،‭ ‬‮«‬الفهم‭ ‬والإفهام‮»‬‭.‬

لنقرأ‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬الفرديَّة‭: ‬‮«‬الغرفة‭ ‬خاليةٌ‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭/ ‬خرج‭ ‬العازفون‭ ‬من‭ ‬اللَّوحة‭/ ‬إنَّهم‭ ‬يقطعون‭ ‬الخبز‭ ‬للأطفال‭/ ‬ليذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬مدارسهم‮»‬‭ (‬ص11‭)‬،‭ ‬ونسأل‭: ‬هل‭ ‬تنطق‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬أو‭ ‬أنَّها‭ ‬بكماء؟

ولنقرأ‭ ‬نصّاً‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬قلبي‮»‬،‭ ‬يبدأ‭ ‬هذا‭ ‬النَّص‭ ‬بصورةٍ‭ ‬سرديَّة‭ ‬تبدو‭ ‬كأنَّها‭ ‬خبر‭ ‬صحفي،‭ ‬لكنَّها‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬مع‭ ‬صورتين‭ ‬سرديتين‭ ‬أُخريَين،‭ ‬فيتشكَّل‭ ‬نظام‭ ‬سياقي‭ ‬يمتلك‭ ‬فاعلية‭ ‬دلاليَّة‭ ‬فحواها‭ ‬أنَّ‭ ‬جيلاً‭ ‬جديداً‭ ‬سيعيد‭ ‬بناء‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬هُدم‭. ‬

وهذه‭ ‬الفاعليّة‭ ‬ليست‭ ‬دلاليّة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنَّما‭ ‬هي‭ ‬جماليَّة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يُضرها‭ ‬سوى‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬المباشر‭ ‬لدى‭ ‬وصف‭ ‬القدمين‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مواد‭ ‬خام‮»‬‭.‬

الفرق‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬النَّصين‭ ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬تبيَّناه‭ ‬بين‭ ‬النَّصين‭ ‬السَّابقين،‭ ‬فالثاني‭ ‬وليد‭ ‬تجربة‭ ‬حياتية‭ ‬معيشة،‭ ‬والأوَّل‭ ‬وليد‭ ‬تجربة‭ ‬ذهنيَّة‭ ‬تحتذي‭ ‬غرائبيّة‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭.‬

 

ثلج‭ ‬وشمس

وفي‭ ‬نصٍّ‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬قصيدتي‮»‬‭ (‬ص21‭)‬،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬يلاحظ‭ ‬تداخل‭ ‬التَّجربتين،‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النَّص‭: ‬‮«‬قصيدة‭ ‬مكتوبة‭ ‬بقطع‭ ‬الثَّلج‭/ ‬تتوقّف‭ ‬كلَّ‭ ‬حينٍ‭ ‬عن‭ ‬الحراك‭/ ‬ثمَّة‭ ‬كلبٌ‭ ‬يحرِّك‭ ‬ذيله‭ ‬للقصيدة‭/ ‬وأنا‭ ‬أقدح‭ ‬عود‭ ‬ثقاب‭/ ‬كي‭ ‬يذوب‭ ‬الثلج‭ ...‬‮»‬‭ (‬ص21‭). ‬الصُّورة‭ ‬محسوسة‭ ‬فيها‭ ‬غرابة،‭ ‬وناطقة‭ ‬بدلالة‭ ‬مفادها‭ ‬العجز،‭ ‬فماذا‭ ‬يفعل‭ ‬عود‭ ‬ثقاب‭ ‬إزاء‭ ‬قطع‭ ‬ثلج‭ ‬تتوقَّف‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬عن‭ ‬الحراك؟‭ ‬تذكِّرني‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬بحوارٍ‭ ‬ثنائي‭ ‬جرى‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬‮«‬الفيسبوك‮»‬‭. ‬‮«‬قالت‭: ‬ثلجٌ‭ ‬أنا،‭ ‬قال‭: ‬شمسك‭ ‬أنا‭...‬‮»‬‭. ‬

لكن‭ ‬كان‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬الاستنتاج‭: ‬‮«‬كي‭ ‬يذوب‭ ‬الثلج‮»‬‭ ‬للقارئ‭. ‬لكنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬الناطقة‭ ‬يقتحمها‭ ‬عنصر‭ ‬غريب،‭ ‬هو‭ ‬الكلب‭ ‬الذي‭ ‬يحرِّك‭ ‬ذيله‭ ‬للقصيدة‭. ‬فلم‭ ‬وُجد‭ ‬الكلبُ‭ ‬هنا؟‭ ‬ولم‭ ‬يحرِّك‭ ‬ذيله؟‭ ‬هل‭ ‬يهزأ؟‭ ‬هل‭ ‬يقول‭: ‬إنَّ‭ ‬ذيله‭ ‬يبقى‭ ‬هو‭ ‬هو‭ ‬ولو‭ ‬بقي‭ ‬سنواتٍ‭ ‬في‭ ‬القالب؟‭ ‬هل‭ ‬يراد‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يكثِّف‭ ‬غرائبية‭ ‬الصُّورة؟‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬تُطرح،‭ ‬وتدلّ‭ ‬على‭ ‬تداخل‭ ‬تجربتين‭ ‬تمليان‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.‬

في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحناها‭ ‬آنفاً،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭:‬

إن‭ ‬لغة‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬متنوِّعة‭ ‬كما‭ ‬تبيَّن‭ ‬لنا‭ ‬آنفاً،‭ ‬وهي‭ ‬مفارقة‭ ‬للُّغة‭ ‬العاديَّة،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنَّها،‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬لغة‭ ‬شعريَّة،‭ ‬والسؤال‭: ‬هل‭ ‬هي‭ ‬شعر؟‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنها‭ ‬تتصف‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬لازم‭ ‬وغير‭ ‬كافٍ‭ ‬لتكون‭ ‬شعراً‭ ‬ذا‭ ‬نظام‭ ‬موسيقيٍّ‭: ‬إيقاع‭ ‬وزني‭ ‬ونغمي،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنَّها‭ ‬لغة‭ ‬نصٍّ‭ ‬أدبي‭ ‬منثور،‭ ‬هو‭ ‬النَّصُّ‭ ‬الأدبي‭ ‬المنثور‭ ‬الذي‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬تُصنع‭ ‬منه‭ ‬قصيدة‭ ‬نثر،‭ ‬إن‭ ‬قُصد‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬والواضح‭ ‬أنَّ‭ ‬الكاتبة‭ ‬لم‭ ‬تقصد‭ ‬إلى‭ ‬إحكام‭ ‬بناء‭ ‬نصوصها،‭ ‬وتجويدها‭■‬