السكن والساكن.. وجهان لعملة واحدة
حين تتعتقُ المدنُ تروحُ فيها السنونُ طولاً وعرضاً فتغدو صادقة فلا تذهبُ أضواؤها أبداً... ويكون معها القول للسكن لأنها لا ترتجل الكلمات... والتاريخ تأريخ بنيان، وهي التي لم ترتجلْ التكويناتِ والملامح قطُّ.
لازَمتْ مدننا وقرانا التقليدية ميثاقها مع الأرض منبتها ومنشأها وإليها تُرجعُ... فلم تكن أبوابُها تقفُ بصلفها وغرورها وبحجارتها وحدَهَا، ولا تقفُ بأبعادها الهندسية وحدَها، ولا بإصرارها التاريخي وحدَهُ... بل بإنسانيتها.
«شننّي تطاوين»، عمارة الجبل لها من القابليّة لاستيعاب كلّ وافد... على أرضها تعاقبت حضارات، وتفاعلت، كلّ ترك بمروره أثراً، كما ترك كلّ لغيره مُتّسعاً ليخُطّ له أثراً، لتكون القرية على هذه الشّاكلة... لِلكلّ نصيبٌ في تحديد ملامحها، ومساكنها هي أرض مِبْكارٌ في استيعاب دائم لكلّ مُتحوّلٍ، فضاء سكني يتأثّث دائماً... وكأنني به إنشاء لم يكتمل.
مجال يستدعيني، أقرأ فيه المنظور سكناً وأستقري غير المنظور سُكنَى... سبرٌ لماضي أثرٍ أمامي، لأكون في المراوحة مع الماضي/ الحاضر... مجال كأنني بصُوره حيّة، تنبُض لخفقان الماضي فيها ولوجود الحاضر معها، أو لعلّه ملازمَتِهِما لها دائماً... فكأنّ بالتّأمل يُوازي الماضي حاضره، لتكون الصّورة حاضرة بوجوه الواحد الكلّ، أو هو وجه الجمع الواحد! بمعنى، سكنٌ أمكنني أن أقول إنّ جزءه يُماهي كلّه حضوراً... لنستوضح ذلك الواحد /الجمع أمامنا، تأمّلٌ لمَبَايِنِ السّكن وموضعه بقراءات.
تشاهد وأنت بالمكان جبلاً وكُتل مساكن فتقول: هي صوامت، هي جماد، هنا السكون والهدوء، إنها الجمود واللاّحركة... السكون هو كل ما أراه... لعلّه السكون الذي يصل إلى مرحلة سماع صوت الهواء العادي وهو يمرّ في رحلته، مصطدماً بكل ما يقف أمامه، ليشكل له فراغاً يناسبه حتى يعبره.
على امتداد بصري لا أرى سوى لون أصفر متعرّج يلتقي عند نهاية عالَم نظري بلون السماء الأزرق والخضرة... لا صوت ولا حركة سوى صوت الهواء وذرّات الرمال التي أبعثرها وأنا أمشي... أماكن ما هي إلاّ السكون... هواء، رمال، صخور، مساكن... صورة هي بعض من كلٍّ، تعترضك كلّما أوليت بنظرك في المتّسع أمامك... أو هي تناسخ لوحدات سكنيّة يجمعها مجال واحد!
أنظر وأنا بالمكان إلى المساكن ذاتها فأقول: هي صوامت، هي ليست بجماد... هنا النمو والتطور... لعلّه التحول والحركة؟! أو لعلّه السكون الثائر؟! أو ربّما هو غموض صمت متحرك؟! لكن كيف؟ أتوسّم مسكناً! فأين الحركة منه؟ وأين النّموّ؟ لعلّه تشكّلٌ على مراحل وائتلاف مكوّنات السّكن؟ أو أنّه تقاربٌ حدّ التوازي، حدّ تماهي المتجاور من «ديار» و«أحواش» و«غيران»؟
أدخل المسكن/ الغار، لا عفواً الغار/المسكن! بل الجبل! مسكن، غار أم جبل؟! فواصل الأجزاء ألغيت لأكون في الكل، على أن المفردات لا تزال قائمة: أبواب، فتحات، غُرف وبعض من حياة... أبحث لي عن حدود فلا أجِد، إنّني في المفضى... يصعب حقّا تبيّن الحدود بين الوحدات، ويتعذّر تمييز سمعها من بصرها... أين المسكن من الغار والغار من الجبل؟
ألقي بنظري إلى المدَى أمامي... أجدني أمام مبانٍ متداعية، أحْرُس متقاربة أو لعلها وحدة! أجول حولها، أجوبها لأعيد الكرّة مرات ومرات، أبحث عن حقيقة وجودها أو لعلّه وجودي أو هو حضورنا... أحسبني بالخطّ الفاصل بين هذه الوحدات هو تصوّر مجرّد! أو لعلّه وجودٌ مُحتشم!
كأنّني به هنا ينفي الحضور ليتبنّى وظيفة أخرى... هو جزء من وحدة وليس فاصلةً في هذه الوحدة، فالعناصر المكوّنة للفضاء السّكني الجبلي تتقارب، تتجاور لتتكتّل مع أنّ كلّ خط يفصل بين مساحتين في حاجة إلى سُمكٍ ليظهر ويكون فاصلة بين المتقارب من الوحدات... ففي الفصل وصل وفي الحصر امتداد السّكن. فالسّكن هنا بين انغلاق وانفتاح، ينغلق شكلاً لينفتح معنى.
شبكة علاقات ترتسم فيها ملامح «الحوش» بأشكال عدّة لعلّها ائتلاف الأجزاء ليكون الكلّ/ الوحدة والجمع المتّصل.
تتشكّل الشبكة على مراحل وبنسق تطوّري، فهو انسياب يجعل من الأجزاء كلّا: تكُون النواة المَبنى الأصغر لآخر أكبر هي الخلية تفضي إلى خلايا... حوش وسقيفة وغار فغرفة وغرف لنكون في الكلّ.
مساكن الدويرات بـ «شنني تطاوين» وحدات ملتحمة أو شبه ملتحمة في نسيج عشوائي منظّم، هو التخطيط المدمج أو النسيج المتضامّ، تلتفّ الوحدات حول الفراغات الخارجية لأفنيتها، ويعتبر تكامل الفراغات وتداخل وحداته ميزة الفضاء السّكني. ولعلّ هذا «التخطيط» العضوي رسم لملامح المسكن الدويري من منطلق علاقات تجمع وحداته ■