عندما صدرت «العربي»

عندما صدرت «العربي»

لا يمكن لأحد من أبناء جيلنا أن يعود بذاكرته إلى يوم صدور مجلة العربي وعام ظهورها، إلا وتتدفق الذكريات عليه من كل لون، وتتراقص الأحلام والأماني من حوله، وتتزاحم في مخيّلته المناسبات السعيدة، مختلطة بالوقائع المؤلمة الشقية.
ذلك أننا عايشنا خلال هذه العقود الستة، ما بين ديسمبر 1958، عندما صدر العدد الأول، وشهر ديسمبر الحالي، تراكمًا هائلا من الأيام والسنوات والمناسبات مختلفة المذاق والألوان، في كل بلد من بلدان العالم العربي، مما نجهد اليوم كي لا نتذكرها أو نسترجعها، وبخاصة المكفهّرة منها، خصوصاً في مناسبة سعيدة أو تاريخية كهذه، حيث تحتفل مجلة العربي بعامها الستين.

 

صادفت المجلة عندما صدرت عام 1958، الكثيرين مثلي ممن كانوا في بداية عهدهم بالقراءة الحرة العامة، والتفتّح على ما حولهم من أحداث وشخصيات وأفكار.
وكذلك مع تنامي الاهتمامات السياسية والفكرية، وازدهار ثقافة المذياع والصحافة والسينما، ثم التلفاز، أعجوبة الأعاجيب تلك، في بداية ستينيات القرن. 
فكم كنا نسمع في أواخر الخمسينيات أن هناك من أنواع «الراديو» ما لا تسمع منه الصوت والغناء فحسب، بل وترى الصور والشخصيات تتحرك، كما في السينما... ولم نكن بالطبع نصدق!
رافقت صدور «العربي» بداية انتشار الاهتمام بالثقافة العامة ومتابعة الأحداث، وكذلك نمو الشريحة المتعلمة وبداية اهتمام الأقطار العربية بالتعارف فيما بينها، والقراءة عن المناطق المجهولة منها، وبخاصة في دولة كالكويت، حيث هاجر إليها للعمل والمساهمة في التنمية وغيرها العديد من أبناء الدول العربية والآسيوية، وكانت في مقدمة هذه المناطق المجهولة للقارئ العربي يومذاك وللكويتيين أنفسهم، بعض البلدان الخليجية ومناطق شمال إفريقيا وكذلك الأقليات الدينية كالصابئة، أو القومية، كالكرد والطوارق مثلاً.
وفي هذا المجال، كما في غيره، وجد القارئ ضالته في مجلة العربي، بإمكاناتها المادية وطاقم تحريرها الفذّ، بما لا تستطيع أي مجلة أخرى أن تنافسها أو «تشق لها غبارًا»، وهو تعبير ألغاه تطور الطرقات ورصفها اليوم!
وساعد في جمال التقديم وحسن الصياغة، الورق المصقول والطباعة المتقنة والصور الملونة، والإحساس بأن «العربي» تنافس حتى المجلات الأجنبية الرائجة آنذاك، وساعد في هذا كذلك السعر المعقول للمجلة، وتحمّل الكويت كذلك مصاريف شحنها إلى كل الأقطار، حيث لا تزال معاناة الناشر العربي مستمرة إلى اليوم.

قرار ذكي
واصلت «العربي»، في جانب أساسي من تراثها وكيانها، ما بدأته مجلة الهلال العريقة، حيث جددت «العربي» رسالة تلك المجلة ذات المكانة، وكانت خير عون لها في هذا المجال، وجدّدت روحها بما يتناسب وثقافة النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان من أذكى قرارات «العربي»، وهي تصدر وسط الأجواء العربية السياسية المشحونة، تجنّبها الاختلافات والخوض فيما يغضب هذا الطرف أو ذاك، والتركيز على «الوسط المقبول»، دون تنازل عن جودة الفكر أو موضوعية التغطية.
ولم يكن تنفيذ مثل هذه المسيرة بالأمر اليسير دومًا، ولكنّها جعلت المجلة محور التقاء ومصدر توادّ وتفاهم، ووثيقة شهرية تعكس طموحات الثقافة العربية وتطلعات شريحتها المتعلمة والطموحة في تلك المرحلة.
فإذا وقفنا أمام العددين الأول والثاني من المجلة، والأعداد اللاحقة بالطبع، فسنكتشف كيف استطاعت «العربي» أن ترسّخ علوم الطب وأخبار الاكتشافات وسير علماء الفيزياء والرياضيات وعلم النفس، في ثقافة عامة الناس، وبذلك ساعدت - بلا ريب - في توسيع سلطان الحداثة والعلم والكلمات العلمية والتعابير الجديدة وتحديد معانيها عامًا بعد عام.
ولم تنقل هذه الصفحات العلمية الجديد فقط، بل وكذلك الطريف المفاجئ، الذي ربما لا يزال يدهشنا اليوم. 
ففي زاوية أخبار العلم والعلماء، العدد الأول ص119، قالت «العربي»، نقلاً عن بعض التجارب العلمية على مدى 30 عامًا في الولايات المتحدة في مجال مكافحة القوارض «إن الجبن ليس عند الفئران بالطعام المفضل، وإن خيرًا منه كثيرًا، قليل من مربّى الفراولة، تقدمه للفأر فيأكله عن آخره، سواء كان ذلك داخل المصيدة تنغلق عليه، أو كانت المربى ممزوجة بسمّ كالزرنيخ قاتل!».

تجسير الفجوة
أذكر أنني شخصيًا لم أكن من المتحمّسين للرياضيات والعلوم البحتة خاصة، لكنني صرت مع قراءة «العربي»، أكثر اهتمامًا بعلمَي الفلك والطب، وصرت أقرأ بعض الكتب المبسّطة في هذا المجال، وألخّص منها بعض الحقائق والمعلومات.
وكان يدهشني - ولايزال - أن بعض الأطباء أنفسهم ليسوا على دراية أو اهتمام بمعلومات نشرتها «العربي»، أو حتى التي تنشرها بعض المجلات حاليًا أحيانًا، ويبادر البعض إلى هاتفه النقال بإمكاناته المذهلة، للتحقق مما سمع.
وكان من الكتب التي قرأتها آنذاك «غزو الفضاء» لمحمد جمال الدين الفندي، و«قصص العلماء والمخترعين» لمحمد عاطف البرقوقي، و«نظرية التطور» لعصام الدين حفني ناصف. وقد سجلت في دفتر التلخيص عن هذا الكتاب أن «الفم الواسع أصلح لإصدار أصوات قوية، ولذلك يصف العرب خطباءهم المجيدين بأنهم مفوهون»!
القليل منا ينتبه إلى أن «العربي» جسّرت باقتدار الفجوة بين أهل الاختصاص وعامة القرّاء، ونجحت في مطلع كل شهر، على امتداد سنوات جاوزت نصف القرن، في أن تقدم للشريحة المتعلمة الصاعدة غذاء ثقافيًّا عصريًّا محايدًا بعيدًا عن الأيديولوجيات المتصارعة، وسط «حرب باردة» عربية سياسية وثقافية، من المحيط إلى الخليج، ووسط تجاذب شديد يبن الشعارات الثورية والدعوات المحافظة، وبخاصة خلال سنوات ما قبل حرب يونيو 1967.
وكانت «العربي» قد فتحت كذلك حوارات بين مختلف التيارات بقدر إمكاناتها كمجلة ثقافية، وبالفعل انفتح حوار صامت/ صاخب، شارك فيه كتّاب ومثقفون من خلال مقالاتهم في مجال تخصصهم ومتابعتهم، خلال سنوات الستينيات الخصبة، التي يتحسّر اليوم على ثرائها كثيرون.

ثقافة متنوعة
اهتمت «العربي»، منذ البداية، بمختلف جوانب الثقافة والحياة في المجتمعات العربية، ولم تهمل الفنون والقصة القصيرة وطرائف التراث. 
كما نشرت مع مقالاتها وزواياها صور أدباء الغرب وعلمائه، إلى جانب الشرقيين والعرب وطرائف أقوالهم، فرأى الناس في كل مكان، ربما للمرة الأولى، صور فيكتور هوجو، وبرنارد شو، وأوغست كانت، وكارل ماركس، وهيجل، وباستور، وألفريد نوبل.
وكما تدعو قنوات التلفاز اليوم جمهورها لإرسال ما يلتقطون من صور طريفة ومشاهد نادرة، نشرت «العربي» في العدد الخامس، (أبريل 1959) دعوة إلى «كتّاب العرب ومصوّريهم»، قالت فيها:
«الآن، وقد بلغنا بـ «العربي» عددها الخامس، وعرف الكتّاب هدفها، وأسلوبها ومستواها، نرحب بكل ما يتحفنا به كُتّاب العرب من الكويت شرقًا، إلى المغرب غربًا، ونطلب منهم أن يتحفوا «العربي» من ثمرات عقولهم، وما أنتجته أقلامهم، مما لم يكن سبق له نشر. ولكل ما ينشر منها أجر هو بمثابة الشكر. كذلك للمصوّرين الهواة والمحترفين، أجر عن لقطة واحدة، أو لقطات في موضوع طريف واحد. لقطات لها حظ موفور من الفن الفوتوغرافي، لم تكن نُشرت من قبل».
لم تكن «العربي» بالطبع مجرّدة من الاهتمامات السياسية، كما كان انطباعنا وانطباع الكثيرين. ولكنها اختارت في الأغلب الفكر المتروّي والتحليل الذي يحمل ثمار التجربة التاريخية ودروسها، وبذلت جهدها في تعميق الرؤية وتمحيص الشعارات.

توثيق العلاقات
نشرت المجلة في العدد الثالث، (فبراير 1959)، مقالاً مهمًّا بعنوان «الديمقراطية والحُكم في الإسلام»، للباحث اللبناني المعروف د. حسن صعب، وقد تناول فيه صراعات المفاهيم وتضاربها، وضرورة استخدام العالم العربي العقل في اختيار ما هو أفضل من بين التيارات، وتحدث بحكمة طريفة قال فيها: «الملائكة لا يستطيعون إلا الخير، والشياطين لا يستطيعون إلا الشر، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع الاختيار بين فعل الاثنين».
وأورد الآية القرآنية المعروفة حول تحمّل الإنسان للأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها، وقال د. صعب إن تفسير الأمانة هو الحرية، وقبول التجربة والخطأ و«تحمّل مسؤولية ما ينجم عن ذلك من عواقب».
قامت مجلة العربي بدور معروف في توثيق العلاقات العربية الـ «ما بينية»، كما تسمّى اليوم، إلى جانب تعريفها بأوجه نهضة الكويت بعد استقلالها سنة 1961.
وكانت الكويت منذ ذلك التاريخ ولعقود عدة، من أهم الدول التي تتفاعل فيها الثقافة العربية، وتنعقد فيها أهم الندوات، وتصدر فيها صحافة تتمتع بهامش واسع من الحرية وذات تأثير ووزن في الإعلام العربي، وتتعايش على أرضها جاليات عربية تموج وتنشط في أوساطها التيارات السياسية القومية والدينية واليسارية، ويزدهر فيها النشاط الفلسطيني على وجه الخصوص.
كثيرًا ما وُصفت «العربي» بأنها موسوعة قائمة بذاتها، وهذا صحيح. وقد وقع بين يدي مع «العربي» آنذاك معجم «المنجد في اللغة والأعلام»، الذي كنت قد انبهرت بحجمه عندما رأيته للمرة الأولى في مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء، بمدينة النجف الأشرف في العراق، فأحضر لي والدي نسخة منه في إحدى سفراته.

«المنجد» و«العربي»
كثيرًا ما كنت أطالع «العربي» وأقارن بعض ما يورده صاحب المنجد عن مدينة ما أو شخصية أو اتفاقية أو دولة وغير ذلك، فنَمت لديّ حصيلة فكرية ثرية من المعلومات العامة مازالت تسعفني في الملمات.
وصار «المنجد» بداية اهتمامي بالقواميس وولعي بالموسوعات العربية والأجنبية والقراءة فيها، إلى جانب متابعة «العربي».
وسهّلت لي هذه المعلومات، فيما بعد، التقدم في قراءة الكتب الإنجليزية والفارسية، إذ كنت أخمّن معاني الكلمات في هذه المراجع بسهولة، وكذا المعلومات التعريفية بالشخصيات والوقائع التاريخية وغيرها. 
وكنت، كلما سنحت الفرصة، أذهب إلى المكتبة العامة في السوق، وأطالع كثيرًا في الأعداد الأولى من مجلة الهلال ومجلدات موسوعة «دائرة معارف البستاني»، فساعد ذلك كله في تنمية اهتمامي بمواضيع لا حصر لها.
كان مدرسو تلك الأيام في المرحلة المتوسطة يطلبون من التلاميذ جمع الصور والمعلومات عن دول وشعوب العالم في كرّاس يسمى «المجهود الشخصي»، وكثيرًا ما كانت أعداد من مجلة العربي تُمزّق منها صور مدن وخرائط ورسوم شخصيات، تلصق على صفحات كرّاس «المجهود الشخصي». وكلما زادت هذه الصور وتنوّعت، كان ذلك مبعث مباهاة الطالب وحصوله على أفضل الدرجات.
وكان بعض الطلاب يضع أحيانًا صورة لمدينة ويكتب تحتها اسم مدينة أو بلدة أخرى... بقصد أو من دون قصد!
هكذا غدت مجلة العربي ذات مكانة خاصة في أوساط الطلبة الذين كانوا يشترونها أو يحصلون عليها من بعض أقاربهم، ويكون مصيرها المؤسف أحيانًا التقطيع وعرض الصور... من دون مراعاة - مع الأسف - لحقوق النشر!
اكتشفت بعد مضيّ نحو سنة أو أقل، أن مجموعة من مجلة العربي، التي حرصت على الاحتفاظ بها دون تمزيق، تبدأ بالعدد الثاني! فأين العدد الأول؟
وأذكر أنني ذهبت مع والدي صباح أحد الأيام إلى مكتب السيد عبدالله حرمي في «السوق الداخلي» بوسط مدينة الكويت. ووضع الموظف كرسيًّا صعد فوقه لتصل يده إلى رزمة مكدّسة من العدد الأول كانت آنذاك فوق خزان الملفات في المكتب... وهكذا اكتملت مجموعتي.
وعندما أعيدت طباعة العدد الأول قبل سنوات، اشتريت نسخة أو نسختين من المجلة، ولا أدري أين اختفت الثانية! ■