سيف الدين الدسوقي آخر المغادرين (1936 - 2018)
سيف الدين مصطفى الدسوقي أو سيف الدسوقي، كما اشتهر به.. يترجل عن جواد الشعر في نهاية شهر يناير 2018 مغادراً إلى عالم الخلود ليلتحق بالزمرة الأعلام من شعراء بلادي من أمراء الميكروفون في الإذاعة والتلفزيون، ليس في السودان فقط، ولكن تعداه إلى المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية عبر برامجه التي قدمها هنا وهناك، ولايزال تلاميذه من الإذاعيين يذكرونه بالخير، إذ أعطاهم من أسرار التعامل بالميكروفون ما صاروا به من ملوك الإذاعة والإلقاء الشعري. أبصر الشاعر الدسوقي النور عام 1936 في مدينة أم درمان، العاصمة الوطنية للسودان، في منزل والده الشيخ مصطفى الدسوقي، المدرس بمعهد أم درمان العلمي، الذي كان له دور كبير في النهضة الثقافية والأدبية والشعرية عموما في السودان.
كان الشاعر منذ طفولته الباكرة تستمع أذناه وقلبه قبلهما إلى إيقاعات الطبول والدفوف والنوبة والمدائح والأذكار، التي كانت تقام في منزل والده وغيره من مشايخ الطريقة الطيبية، ولربما فهم الطفل أو لم يفهم آنذاك كلمات الصادح المادح، ولكنه يتأثر بالإيقاع وصوت النوبة والدفوف، وهو يقول:
لي بالحمى قوم عرفت بحبهم
وإذا مرضت فصحبتي في طبّهم
قوم كرام هائمون بربهم
هذه الطريقة الطيبة بما تنشده من مدائح وقصائد لا تنشد إلا الشعر الفصيح بما فيه من رشاقة اللفظ والموسيقى الداخلية الصاخبة.
يقول الدسوقي: «وتركت هذه الإيقاعات في داخلي حتى اليوم أثراً عميقاً بأشعارها ورنينها، حتى أنني حين أفكر فيها اليوم وأغمض عيني أسمعها كأنها حدثت في الساعة والتوّ، وكان لهذه الإيقاعات فيما بعد من المؤثرات التي أثرت في إنتاجي، لقد حفظ الطفل آنذاك كثيراً من المعلقات وأشعار الحكمة والغزل العربي العفيف، وكذلك الخمريات وأشعار عمر بن الفارض بموسيقاه الوافرة، وما فيها من أنواع البديع من تورية وجناس وغيرها من المحسنات البديعية... كل ذلك جاء مختلطاً بروح التدين مضافاً إليه الفقه والسيرة واللغة العربية وتاريخ العرب وأسمارهم وأخبارهم.
ثم جاءت مرحلة الدراسة الجامعية بجامعة القاهرة ــ فرع الخرطوم، حيث كانت الانطلاقة الشعرية بتوجيه من الأساتذة النابهين فيها أمثال الدكتور النويهي ود. عبدالمجيد عبدين، وكذلك الأديب الفلسطيني المعروف
د. إحسان عباس، وتفتحت مداركه على آفاق جديدة وعوالم لم يشهدها من قبل في أساليب الدراسة والطلاب والأساتذة والرحلات الجماعية في الداخل والخارج، وانفتح للشعر باب في الاحتفالات والصحف وأجهزة الإعلام المختلفة، واتجه بشعره إلى الصحافة السودانية، حيث رعاه الشاعر منير صالح عبدالقادر في صفحته الأدبية، واعتنى بشعره عناية خاصة، فكان ذلك مدعاة لمشاركته بالمسابقات الشعرية المختلفة والفوز فيها.
إذاعي كبير
هناك جانب من حياة سيف الدين الدسوقي ظل يتجاهله كثيرون عند الحديث عنه، حيث ظلوا يسردون قصائده ويصفون شاعريته لاسيما الغنائية التي برع فيها أيّما براعة، ولكنهم ينسون سيف الدين الدسوقي الإذاعي الكبير، حيث لم تعرف إذاعة أم درمان مقدما للبرامج في شفافية سيف الدسوقي، الذي كان عندما يجلس خلف الميكروفون ويعانق آذان المستمعين لا يشبه أحداً في أسلوبه ونداوة صوته ورقته في التعبير عن الجمال والغزل، وقد حباه الله بحنجرة قلّ أن يجود الزمان بمثلها في تقديم البرامج ذات الطابع الرومانسي. وظل الملايين من المستمعين ينتظرون برنامجه الشهير «الحرف والليل والنغم» الذي كان يعدّه ويقدمه على مدى ما يزيد على عشر سنوات متتابعة، ثم واتت الدسوقي الفرصة فالتحق بإذاعة المملكة العربية السعودية مديراً للإخراج والمنوعات. لكنه عاد في بدايات الثمانينيات للسودان، بعد أن أضنته الغربة وأبعدته سنين عدداً عن أبنائه ومحبوبته الكبرى... المدينة الأنثى، كما يصفها هو، وأعني أم درمان.
نشط سيف الدين الدسوقي بشكلٍ مكثف في المجال الأدبي والثقافي عندما كان بالمملكة، لأنه بقي فيها لسنوات واكبت سنوات النهضة الأدبية في الخليج العربي بأكمله. وسرعان ما تبوأ الدسوقي، بعد عودته، منصب مدير إذاعة وادي النيل بالخرطوم في أوائل السبعينيات. لم يكن الدسوقي شاعرا فحسب، بل كان ناقداً من الطراز الأول، وراوياً لتاريخ الأدب وفن الغناء بالسودان بشكل مذهل، وكان موسوعة في الثقافة السودانية والفكر والأدب، وكان من ضيوف مهرجان المربد بالعراق مواسم
عديدة، ولعل آخرها حضوراً كان عام 2000.
كان شاعراً رومانسياً يرى في الشعر السلوى والمتنفس والمملكة التي لا ترقى لها ولا تجاريها عوالم الأثرياء وأصحاب السطوة والسلطان، بل هو مكانة من الله اختارها ليرى الشاعر بعينيه ما لا يراه الآخرون، بل الشعر عنده هو الجمال المطلق والمعبر عن الناس، وهو الحنجرة التي ألقت فيها ملائكة الشعر الأحرف والفواصل والتعابير التي لا يعرفها إلا الملهمون. يفتتح ديوانه «لنا الغد» بقصيدة قصيرة، يقول فيها:
ما كان بعدك في المسافة والزمنْ
ينسي الفؤادَ حرارة الوجدِ القديمِ
وبهجة الوجه الحسنْ
حتى إذا كان اللقاءُ، حبيبتي
من بعد خمسٍ في السنينْ
همستُ للزمن البعيدِ بأنَّ موعِدنا غدًا
يا صورة الأهلِ الكرامِ ونفحة الأهل الوطنْ
ومعانيَ العشق النبيل وموئلَ الشعرِ الجميلِ
وراحة الإنسانِ... يا أغلَى سكنْ
عُدنا مع القدر السعيدِ برغمِ أزمانِ الصِّعاب
ورغم أيام المِحنْ
طفل كبير
وللقارئ أن ينتبه لهذه الموسيقى الداخلية الكثيفة التي تسكن هذه المقطوعة، وروح التفاؤل الممتزجة بالوطن امتزاجاً لا فكاك منه... يا صورة الأهل الكرام ونفحة الأهل الوطن.
سيف الدسوقي في شعره العاطفي تشعر به طفلاً كبيراً لا يريد أن يكبر... تأسره الكلمات العذبة وهي تنساب من بين شفتي الفتاة التي يحبها. يعيش في عالم جديد من صنعها... العينان والصوت هما مدخلاه إلى مرحلة الجنون، يجعلانه يصرخ بأعلى استفهام لها:
هل تعلمين ما فعلتِ بي؟
وإنني اندهشت حين رؤيتِك
عرفتُ بسمتَك...
وإنني رأيت وجهك الجميل في الأحلام؟
رأيته من ألف عام
وحين رحتِ تفتنّين في الكلام
ذهلت من حديثك العجيب
وصوتك المنغَّم الحبيب
أحسست أن في دمي
سعادةً يحسها الغريب
إذ غاب بعد غيبة إلى الوطن
تحدرت من عينه الدموع
ونوّرت في ليله الشموع
وصار في الوجودْ
حقيقةً على الزمن
وكطفل صغير يفرح بالهدية لا بقيمتها، بل لأنها تذكره بأن هناك من يضعه في خاطره نجده يدعو حبيبته إلى السلام المجرد:
سلّم عليّ
إذا مررت بحيّنا سلم عليّ
وابعث إشارتك البهيةْ
بالمودة والتحيةْ
وانظر بطرفك إن نظرت تعطّفا وابسم إليّ
إني بأشواقي هنا
منذ الصباح إلى العشيّة
سلّم عليّ لأنني أنفقت عمري في السلام
وظللت من أجل المحبة أصطلي نار الغرام
وأتوه في الليل البهيمِ
ألمّ أجزاء الكلام
حتّى إذا انفلق الصباحُ عن الضياء على الأنام
غنيت أشعاري الجديدة في الهوى وعن الهيام
كلمات راقصة
كم هي راقصة هذه الكلمات... متى ألقيتها كما ينبغي تجد أنك تغني وإن كان صوتك أجشّ... وهذا راجع إلى تلك الإيقاعات المحتشدة في ذاكرته التي يقول عنها إنها لا تفارقه رغم مرّ السنوات بينها وبينه، وفي إحدى رباعياته نجد تلك الروح السمحة:
أطلّت عليّ كوجه القـــــمر
وضاءت بدورًا وفاحت زهَر
وجاءت ربيعـــاً بلا موعد
ولحْنا بديعـــــــــــاً عظيمَ الأثر
ومسّت فؤادي بأفــراحها
كما مسّ حقــــلًا صبيبُ المطر
وجُنّت حُروفي علَى إثرها
وفاضت لِحاظي ودمعي انْهمر
لربما أصابتني الدهشة من هذا التعبير... وجنّت حروفي على إثرها... كيف تجن الحروف؟ كيف تأتي هذه اللوثة على الحروف فتضطرب على غير اتساق؟ معنًى عجيب لم أقرأه من قبل في الشعر، ولكن من الدسوقي فكل شيء متوقع...
ولنأت إلى أيقونيَّتيه الشعريتين اللتين تزينان ديوان الدسوقي, بل جيد ديوان الشعر السوداني... وأولاهما يخاطب فيها شخصاً مجهولاً يستحثّه فيه ليعود به إلى أرض النيلين... فقد برّح به الشوق.
عد بي إلى النيل لا تسأل عن التعب
الشوق طي ضلوعي ليس باللعب
لي في الديار ديار كلما طرفت
عيني يرفّ ضياها في دجى هدبي
وذكـــــــــــريات أحـــبـــائي إذا خــــــطرت
أحس بالموج فوق البحر يلعب بي
شيخ كـــــــأن وقــــــار الكـــون لــــحيته
وآخـــرون دمـــــــاهم كـــــــوّنت نســـــبي
وأصـــــــدقاء عيــــــون فــــضلهم مدد
إن حدثوك حسبت الصوتَ صوت نبي
أمي التي وهبت حرفي تألّقه
تجيء رحمتها من منبع خصب
وإن تغيّب في درب الحياة أبي
قامت إلى عبئها أيضا بعبء أبي
هل رأيت كم هو متعلق بهذا النسب الذي هو امتداد له، أهله وأبوه وأمه، وهذا الضوء يتسلل من ثنايا أهداب ناظريه... وشوق يجتاح مشاعره وأضالعه... ثم لهم عنده إحساس خاص... يبادلهم ودّاً بود... فهو يعلم طيب معدنهم?
والناس في بلدي شوق يهدهدهم
كما يهز نسيمٌ قامة القصب
والجار يعشق للجيران من سبب
وقد يحبهم جدّا بلا سبب
الناس أروع ما فيهم بساطتهم
لكن معدنهم أغلى من الذهب
ويعتذر للقارئ في إظهار لوعته وتلهفه في العودة لبلاده، بل هو يشبه هذا الشوق بتسارع مشي النياق عندما تعود لموطنها، كما لاحظ العرب قديما عند الجِمال في رحلة الأوبة:
عد بي إلى النيل لا تسأل عن التعب
قلبي يحن حنين الأينق النجب
من كان يحمل مثلي حب موطنه
يأبى الغياب ولو في الأنجم الشهب
ثارت جراحي نيرانا يؤججها
عدْو الرياح على قلبي وفي عصبي
رغبة العودة
ولعلي بالقارئ يستشعر قوة الإحساس الذي انتاب الشاعر في رغبته العودة لبلاده رغم إغراءات الاغتراب والمال الوفير، ولكن هل الشاعر الذي يستبد به الشوق يلقي بالا لهذا؟ نأتي للقصيدة الأيقونة الثانية التي وجدت أصداء في متلقييها فحفظوها تماماً، وأعني بها قصيدة «زمن الأحلام الوردية».. وهي قصيدة في حب أم درمان، موطئ رأسه في الميلاد والممات... وانتبه إلى تعبير «كلماتي... تحطّ على فلاعٍ في حقل فؤادك»...
يا زمن الأفراح الوردية
في ماضي الأيام القاسية المرّة
كلماتي تعبر موج البحر وتصل إليك
لتحطّ على فرع في حقل فؤادك... بين يديك
وتقول أنا أهواك
أحببتك حين الحب لأرضك غير مباح
ممنوع بالقانون...
ممنوع يا سمراء لأن الحب هناك جنون
وأنا مجنون تعرفني كلُّ الأشعار
يعرفني الليل المسدِل سترتَه وشقاءُ الفن وكلُّ نهار
لا أحسِنُ أن أبقى من غير الحب
والحبُّ حرام في الصحراء
وأنا يا أنت أيا سمراء
إحساسي لا يعرف طعم المال ولا البترول
ما هو هذا الحب الممنوع؟ وهل تستقيم حياةٌ للشاعر دون حب؟ أهل؟ زوجة, أبناء؟ مدينة؟ موطن كامل بكل سحناته؟ تساوى عند الشاعر كل الأشياء إلا الحب، لا مال يمكن أن يجنيه ولا إغراءات البترول الذي يسيل رُخاء بمانعته من أن يعود لبيته.
ونعود للدسوقي في أيقونته التي كان يلقيها دائماً في المجامع الشعرية, وبخاصة عندما ضعف البصر أو ذهب تماماً, فما في ذاكرته من شعره شيء عداها:
الشاعر يسمع صوت الحسن
ويحسن كل فنون القول
لكن أن يحيا في أرض جفاف
أن يخزن أعصاباً من ألياف
لتكون مكان الحس على الإنسان
فمحال ذلك... ليس من الإمكان
ولذلك حين عبرت البحر إلى السودان
عنيت سعيداً كالأطفال
ونسيت حلاوة طعم المال
ورجعت أغرد بالأفياء بكل مكان
ورجعت أقبّل أم درمان
هذي العاصمة الأنثى
أهواها مذ كنت غراما في عينيْ أمي وأبي
وحملت الحب معي بدمي في رحلة هذا العمر
وأحمله حتى ألقى ربي
كلماتي يا زمن الأفراح الوردية
عبرت موجات البحر لتصل إليك
لتقول أنا مشتاق
لتطل قليلاً في عينيك
ولتحمل عذري في سفري
فأنا يا سمراء الصحراء
هذا قدري
إمّا أن أعشق أنثى للإنسان
تلك المحبوبة أم درمان
وهكذا... عاش الشاعر الدسوقي مشغوفاً بأم درمان، يهتف باسمها ويلهج بحبها برغم مرضه الذي لازمه سنين عدداً، ولقد انعطفت أخباره ونشاطه عن المجتمعات الأدبية في سنواته الأخيرة التي لم يظهر فيها إلا عبر ملتقى الشعر العربي بالنيلين, حيث كرمته الدولة، ثم جاء النعي الأليم في يناير 2018 لتهبّ كل أم درمان بل كل السودان ليشيع هذا الفارس النبيل إلى مرقده بأم درمان، تلك العاصمة الأنثى، وكأني به يقول:
عد بي إلى الترب ها عاينت من سببي
فقد بليت وأودي بي إلى العطب
عد بي إلــى الأم ضمتني ذراعـــــــاها
وهــا تراني قريباً غير مغتــرب
عد بي إلى هـــــذه الحــــسناء... فاتنتي
ففـــي ثراها ضريح قد حواه أبـي ■