سيف الدين الدسوقي آخر المغادرين (1936 - 2018)

سيف الدين الدسوقي  آخر المغادرين (1936 - 2018)

سيف‭ ‬الدين‭ ‬مصطفى‭ ‬الدسوقي‭ ‬أو‭ ‬سيف‭ ‬الدسوقي،‭ ‬كما‭ ‬اشتهر‭ ‬به‭.. ‬يترجل‭ ‬عن‭ ‬جواد‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬2018‭ ‬مغادراً‭  ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الخلود‭ ‬ليلتحق‭ ‬بالزمرة‭ ‬الأعلام‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬بلادي‭ ‬من‭ ‬أمراء‭ ‬الميكروفون‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬وجمهورية‭ ‬مصر‭  ‬العربية‭ ‬عبر‭  ‬برامجه‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬ولايزال‭ ‬تلاميذه‭ ‬من‭ ‬الإذاعيين‭ ‬يذكرونه‭ ‬بالخير،‭ ‬إذ‭ ‬أعطاهم‭ ‬من‭ ‬أسرار‭  ‬التعامل‭ ‬بالميكروفون‭ ‬ما‭ ‬صاروا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬الإذاعة‭ ‬والإلقاء‭ ‬الشعري‭.  ‬أبصر‭ ‬الشاعر‭ ‬الدسوقي‭ ‬النور‭ ‬عام‭ ‬1936‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬العاصمة‭ ‬الوطنية‭ ‬للسودان،‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬والده‭ ‬الشيخ‭ ‬مصطفى‭ ‬الدسوقي،‭ ‬المدرس‭ ‬بمعهد‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬العلمي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬والشعرية‭ ‬عموما‭ ‬في‭ ‬السودان‭.‬

كان‭ ‬الشاعر‭ ‬منذ‭ ‬طفولته‭ ‬الباكرة‭ ‬تستمع‭ ‬أذناه‭ ‬وقلبه‭ ‬قبلهما‭ ‬إلى‭ ‬إيقاعات‭ ‬الطبول‭ ‬والدفوف‭ ‬والنوبة‭ ‬والمدائح‭ ‬والأذكار،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬والده‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬مشايخ‭ ‬الطريقة‭ ‬الطيبية،‭ ‬ولربما‭ ‬فهم‭ ‬الطفل‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬آنذاك‭ ‬كلمات‭ ‬الصادح‭ ‬المادح،‭ ‬ولكنه‭ ‬يتأثر‭ ‬بالإيقاع‭ ‬وصوت‭ ‬النوبة‭ ‬والدفوف،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

لي‭ ‬بالحمى‭ ‬قوم‭ ‬عرفت‭ ‬بحبهم

وإذا‭ ‬مرضت‭ ‬فصحبتي‭ ‬في‭ ‬طبّهم

‭ ‬قوم‭ ‬كرام‭ ‬هائمون‭ ‬بربهم

هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الطيبة‭ ‬بما‭ ‬تنشده‭ ‬من‭ ‬مدائح‭ ‬وقصائد‭ ‬لا‭ ‬تنشد‭ ‬إلا‭ ‬الشعر‭ ‬الفصيح‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬رشاقة‭ ‬اللفظ‭ ‬والموسيقى‭ ‬الداخلية‭ ‬الصاخبة‭.‬

يقول‭ ‬الدسوقي‭: ‬‮«‬وتركت‭ ‬هذه‭ ‬الإيقاعات‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬أثراً‭ ‬عميقاً‭ ‬بأشعارها‭ ‬ورنينها،‭ ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬حين‭ ‬أفكر‭ ‬فيها‭ ‬اليوم‭ ‬وأغمض‭ ‬عيني‭ ‬أسمعها‭ ‬كأنها‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬والتوّ،‭ ‬وكان‭ ‬لهذه‭ ‬الإيقاعات‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬المؤثرات‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬إنتاجي،‭ ‬لقد‭ ‬حفظ‭ ‬الطفل‭ ‬آنذاك‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المعلقات‭ ‬وأشعار‭ ‬الحكمة‭ ‬والغزل‭ ‬العربي‭ ‬العفيف،‭ ‬وكذلك‭ ‬الخمريات‭ ‬وأشعار‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الفارض‭ ‬بموسيقاه‭ ‬الوافرة،‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬البديع‭ ‬من‭ ‬تورية‭ ‬وجناس‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المحسنات‭ ‬البديعية‭... ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬جاء‭ ‬مختلطاً‭ ‬بروح‭ ‬التدين‭ ‬مضافاً‭ ‬إليه‭ ‬الفقه‭ ‬والسيرة‭ ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬وتاريخ‭ ‬العرب‭ ‬وأسمارهم‭ ‬وأخبارهم‭. ‬

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬ــ‭ ‬فرع‭ ‬الخرطوم،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الشعرية‭ ‬بتوجيه‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬النابهين‭ ‬فيها‭ ‬أمثال‭ ‬الدكتور‭ ‬النويهي‭ ‬ود‭. ‬عبدالمجيد‭ ‬عبدين،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأديب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المعروف‭ ‬
د‭. ‬إحسان‭ ‬عباس،‭ ‬وتفتحت‭ ‬مداركه‭ ‬على‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬وعوالم‭ ‬لم‭ ‬يشهدها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬الدراسة‭ ‬والطلاب‭ ‬والأساتذة‭ ‬والرحلات‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬وانفتح‭ ‬للشعر‭ ‬باب‭ ‬في‭ ‬الاحتفالات‭ ‬والصحف‭ ‬وأجهزة‭ ‬الإعلام‭ ‬المختلفة،‭ ‬واتجه‭ ‬بشعره‭ ‬إلى‭ ‬الصحافة‭ ‬السودانية،‭ ‬حيث‭ ‬رعاه‭ ‬الشاعر‭ ‬منير‭ ‬صالح‭ ‬عبدالقادر‭ ‬في‭ ‬صفحته‭ ‬الأدبية،‭ ‬واعتنى‭ ‬بشعره‭ ‬عناية‭ ‬خاصة،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬مدعاة‭ ‬لمشاركته‭ ‬بالمسابقات‭ ‬الشعرية‭ ‬المختلفة‭ ‬والفوز‭ ‬فيها‭.‬

 

إذاعي‭ ‬كبير

‭ ‬هناك‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬الدسوقي‭ ‬ظل‭ ‬يتجاهله‭ ‬كثيرون‭ ‬عند‭ ‬الحديث‭ ‬عنه،‭ ‬حيث‭ ‬ظلوا‭ ‬يسردون‭ ‬قصائده‭ ‬ويصفون‭ ‬شاعريته‭ ‬لاسيما‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬برع‭ ‬فيها‭ ‬أيّما‭ ‬براعة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ينسون‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬الدسوقي‭ ‬الإذاعي‭ ‬الكبير،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬إذاعة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬مقدما‭ ‬للبرامج‭ ‬في‭ ‬شفافية‭ ‬سيف‭ ‬الدسوقي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عندما‭ ‬يجلس‭ ‬خلف‭ ‬الميكروفون‭ ‬ويعانق‭ ‬آذان‭ ‬المستمعين‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أحداً‭ ‬في‭ ‬أسلوبه‭ ‬ونداوة‭ ‬صوته‭ ‬ورقته‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬والغزل،‭ ‬وقد‭ ‬حباه‭ ‬الله‭ ‬بحنجرة‭ ‬قلّ‭ ‬أن‭ ‬يجود‭ ‬الزمان‭ ‬بمثلها‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬البرامج‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الرومانسي‭. ‬وظل‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬المستمعين‭ ‬ينتظرون‭ ‬برنامجه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬الحرف‭ ‬والليل‭ ‬والنغم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعدّه‭ ‬ويقدمه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬متتابعة،‭ ‬ثم‭ ‬واتت‭ ‬الدسوقي‭ ‬الفرصة‭ ‬فالتحق‭ ‬بإذاعة‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬مديراً‭ ‬للإخراج‭ ‬والمنوعات‭. ‬لكنه‭ ‬عاد‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬الثمانينيات‭ ‬للسودان،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أضنته‭ ‬الغربة‭ ‬وأبعدته‭ ‬سنين‭ ‬عدداً‭ ‬عن‭ ‬أبنائه‭ ‬ومحبوبته‭ ‬الكبرى‭... ‬المدينة‭ ‬الأنثى،‭ ‬كما‭ ‬يصفها‭ ‬هو،‭ ‬وأعني‭ ‬أم‭ ‬درمان‭. ‬

نشط‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬الدسوقي‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مكثف‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬بالمملكة،‭ ‬لأنه‭ ‬بقي‭ ‬فيها‭ ‬لسنوات‭ ‬واكبت‭ ‬سنوات‭ ‬النهضة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬بأكمله‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تبوأ‭ ‬الدسوقي،‭ ‬بعد‭ ‬عودته،‭ ‬منصب‭ ‬مدير‭ ‬إذاعة‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭ ‬بالخرطوم‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينيات‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الدسوقي‭ ‬شاعرا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ناقداً‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول،‭ ‬وراوياً‭ ‬لتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬وفن‭ ‬الغناء‭ ‬بالسودان‭ ‬بشكل‭ ‬مذهل،‭ ‬وكان‭ ‬موسوعة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانية‭ ‬والفكر‭ ‬والأدب،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضيوف‭ ‬مهرجان‭ ‬المربد‭ ‬بالعراق‭ ‬مواسم‭ ‬
عديدة،‭ ‬ولعل‭ ‬آخرها‭ ‬حضوراً‭ ‬كان‭ ‬عام‭ ‬2000‭.‬

كان‭ ‬شاعراً‭ ‬رومانسياً‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬السلوى‭ ‬والمتنفس‭ ‬والمملكة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬تجاريها‭ ‬عوالم‭ ‬الأثرياء‭ ‬وأصحاب‭ ‬السطوة‭ ‬والسلطان،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مكانة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬اختارها‭ ‬ليرى‭ ‬الشاعر‭ ‬بعينيه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬الآخرون،‭ ‬بل‭ ‬الشعر‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬الجمال‭ ‬المطلق‭ ‬والمعبر‭ ‬عن‭ ‬الناس،‭ ‬وهو‭ ‬الحنجرة‭ ‬التي‭ ‬ألقت‭ ‬فيها‭ ‬ملائكة‭ ‬الشعر‭ ‬الأحرف‭ ‬والفواصل‭ ‬والتعابير‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬إلا‭ ‬الملهمون‭. ‬يفتتح‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬لنا‭ ‬الغد‮»‬‭ ‬بقصيدة‭ ‬قصيرة،‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬

ما‭ ‬كان‭ ‬بعدك‭ ‬في‭ ‬المسافة‭ ‬والزمنْ

ينسي‭ ‬الفؤادَ‭ ‬حرارة‭ ‬الوجدِ‭ ‬القديمِ‭ ‬

وبهجة‭ ‬الوجه‭ ‬الحسنْ

حتى‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬اللقاءُ،‭ ‬حبيبتي

من‭ ‬بعد‭ ‬خمسٍ‭ ‬في‭ ‬السنينْ

همستُ‭ ‬للزمن‭ ‬البعيدِ‭ ‬بأنَّ‭ ‬موعِدنا‭ ‬غدًا

يا‭ ‬صورة‭ ‬الأهلِ‭ ‬الكرامِ‭ ‬ونفحة‭ ‬الأهل‭ ‬الوطنْ

ومعانيَ‭ ‬العشق‭ ‬النبيل‭ ‬وموئلَ‭ ‬الشعرِ‭ ‬الجميلِ

وراحة‭ ‬الإنسانِ‭... ‬يا‭ ‬أغلَى‭ ‬سكنْ

عُدنا‭ ‬مع‭ ‬القدر‭ ‬السعيدِ‭ ‬برغمِ‭ ‬أزمانِ‭ ‬الصِّعاب

ورغم‭ ‬أيام‭ ‬المِحنْ

 

طفل‭ ‬كبير

وللقارئ‭ ‬أن‭ ‬ينتبه‭ ‬لهذه‭ ‬الموسيقى‭ ‬الداخلية‭ ‬الكثيفة‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬هذه‭ ‬المقطوعة،‭ ‬وروح‭ ‬التفاؤل‭ ‬الممتزجة‭ ‬بالوطن‭ ‬امتزاجاً‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬منه‭... ‬يا‭ ‬صورة‭ ‬الأهل‭ ‬الكرام‭ ‬ونفحة‭ ‬الأهل‭ ‬الوطن‭. ‬

سيف‭ ‬الدسوقي‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬العاطفي‭ ‬تشعر‭ ‬به‭ ‬طفلاً‭ ‬كبيراً‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكبر‭... ‬تأسره‭ ‬الكلمات‭ ‬العذبة‭ ‬وهي‭ ‬تنساب‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شفتي‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬يحبها‭. ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬صنعها‭... ‬العينان‭ ‬والصوت‭ ‬هما‭ ‬مدخلاه‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الجنون،‭ ‬يجعلانه‭ ‬يصرخ‭ ‬بأعلى‭ ‬استفهام‭ ‬لها‭:‬

هل‭ ‬تعلمين‭ ‬ما‭ ‬فعلتِ‭ ‬بي؟

وإنني‭ ‬اندهشت‭ ‬حين‭ ‬رؤيتِك

عرفتُ‭ ‬بسمتَك‭...‬

وإنني‭ ‬رأيت‭ ‬وجهك‭ ‬الجميل‭ ‬في‭ ‬الأحلام؟

رأيته‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عام

وحين‭ ‬رحتِ‭ ‬تفتنّين‭ ‬في‭ ‬الكلام

ذهلت‭ ‬من‭ ‬حديثك‭ ‬العجيب

وصوتك‭ ‬المنغَّم‭ ‬الحبيب‭ ‬

أحسست‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬دمي

سعادةً‭ ‬يحسها‭ ‬الغريب

‭ ‬إذ‭ ‬غاب‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن

تحدرت‭ ‬من‭ ‬عينه‭ ‬الدموع‭ ‬

ونوّرت‭ ‬في‭ ‬ليله‭ ‬الشموع‭ ‬

وصار‭ ‬في‭ ‬الوجودْ‭ ‬

حقيقةً‭ ‬على‭ ‬الزمن

وكطفل‭ ‬صغير‭ ‬يفرح‭ ‬بالهدية‭ ‬لا‭ ‬بقيمتها،‭ ‬بل‭ ‬لأنها‭ ‬تذكره‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬خاطره‭ ‬نجده‭ ‬يدعو‭ ‬حبيبته‭ ‬إلى‭ ‬السلام‭ ‬المجرد‭:‬

سلّم‭ ‬عليّ

إذا‭ ‬مررت‭ ‬بحيّنا‭ ‬سلم‭ ‬عليّ

وابعث‭ ‬إشارتك‭ ‬البهيةْ

بالمودة‭ ‬والتحيةْ

وانظر‭ ‬بطرفك‭ ‬إن‭ ‬نظرت‭ ‬تعطّفا‭ ‬وابسم‭ ‬إليّ

إني‭ ‬بأشواقي‭ ‬هنا‭ ‬

منذ‭ ‬الصباح‭ ‬إلى‭ ‬العشيّة

سلّم‭ ‬عليّ‭ ‬لأنني‭ ‬أنفقت‭ ‬عمري‭ ‬في‭ ‬السلام‭ ‬

وظللت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المحبة‭ ‬أصطلي‭ ‬نار‭ ‬الغرام

وأتوه‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬البهيمِ

ألمّ‭ ‬أجزاء‭ ‬الكلام

حتّى‭ ‬إذا‭ ‬انفلق‭ ‬الصباحُ‭ ‬عن‭ ‬الضياء‭ ‬على‭ ‬الأنام

غنيت‭ ‬أشعاري‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الهوى‭ ‬وعن‭ ‬الهيام

 

كلمات‭ ‬راقصة

كم‭ ‬هي‭ ‬راقصة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭... ‬متى‭ ‬ألقيتها‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬تجد‭ ‬أنك‭ ‬تغني‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬صوتك‭ ‬أجشّ‭... ‬وهذا‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الإيقاعات‭ ‬المحتشدة‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تفارقه‭ ‬رغم‭ ‬مرّ‭ ‬السنوات‭ ‬بينها‭ ‬وبينه،‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬رباعياته‭ ‬نجد‭ ‬تلك‭ ‬الروح‭ ‬السمحة‭: ‬

أطلّت‭ ‬عليّ‭ ‬كوجه‭ ‬القـــــمر‭ ‬

وضاءت‭ ‬بدورًا‭ ‬وفاحت‭ ‬زهَر

وجاءت‭ ‬ربيعـــاً‭ ‬بلا‭ ‬موعد‭ ‬

ولحْنا‭ ‬بديعـــــــــــاً‭ ‬عظيمَ‭ ‬الأثر

ومسّت‭ ‬فؤادي‭ ‬بأفــراحها‭ ‬

كما‭ ‬مسّ‭ ‬حقــــلًا‭ ‬صبيبُ‭ ‬المطر

وجُنّت‭ ‬حُروفي‭ ‬علَى‭ ‬إثرها‭ ‬

وفاضت‭ ‬لِحاظي‭ ‬ودمعي‭ ‬انْهمر‭ ‬

لربما‭ ‬أصابتني‭ ‬الدهشة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭... ‬وجنّت‭ ‬حروفي‭ ‬على‭ ‬إثرها‭... ‬كيف‭ ‬تجن‭ ‬الحروف؟‭ ‬كيف‭ ‬تأتي‭ ‬هذه‭ ‬اللوثة‭ ‬على‭ ‬الحروف‭ ‬فتضطرب‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬اتساق؟‭ ‬معنًى‭ ‬عجيب‭ ‬لم‭ ‬أقرأه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الدسوقي‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬متوقع‭...‬

ولنأت‭ ‬إلى‭ ‬أيقونيَّتيه‭ ‬الشعريتين‭ ‬اللتين‭ ‬تزينان‭ ‬ديوان‭ ‬الدسوقي‭, ‬بل‭ ‬جيد‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬السوداني‭... ‬وأولاهما‭ ‬يخاطب‭ ‬فيها‭ ‬شخصاً‭ ‬مجهولاً‭ ‬يستحثّه‭ ‬فيه‭ ‬ليعود‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬النيلين‭... ‬فقد‭ ‬برّح‭ ‬به‭ ‬الشوق‭.‬

عد‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬لا‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬التعب‭ 

الشوق‭ ‬طي‭ ‬ضلوعي‭ ‬ليس‭ ‬باللعب

لي‭ ‬في‭ ‬الديار‭ ‬ديار‭ ‬كلما‭ ‬طرفت

عيني‭ ‬يرفّ‭ ‬ضياها‭ ‬في‭ ‬دجى‭ ‬هدبي

وذكـــــــــــريات‭ ‬أحـــبـــائي‭ ‬إذا‭ ‬خــــــطرت

‭ ‬أحس‭ ‬بالموج‭ ‬فوق‭ ‬البحر‭ ‬يلعب‭ ‬بي

شيخ‭ ‬كـــــــأن‭ ‬وقــــــار‭ ‬الكـــون‭ ‬لــــحيته

وآخـــرون‭ ‬دمـــــــاهم‭ ‬كـــــــوّنت‭ ‬نســـــبي

وأصـــــــدقاء‭ ‬عيــــــون‭ ‬فــــضلهم‭ ‬مدد

  ‬إن‭ ‬حدثوك‭ ‬حسبت‭ ‬الصوتَ‭ ‬صوت‭ ‬نبي

أمي‭ ‬التي‭ ‬وهبت‭ ‬حرفي‭ ‬تألّقه

  ‬تجيء‭ ‬رحمتها‭ ‬من‭ ‬منبع‭ ‬خصب

وإن‭ ‬تغيّب‭ ‬في‭ ‬درب‭ ‬الحياة‭ ‬أبي

  ‬قامت‭ ‬إلى‭ ‬عبئها‭ ‬أيضا‭ ‬بعبء‭ ‬أبي

هل‭ ‬رأيت‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬متعلق‭ ‬بهذا‭ ‬النسب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬امتداد‭ ‬له،‭ ‬أهله‭ ‬وأبوه‭ ‬وأمه،‭ ‬وهذا‭ ‬الضوء‭ ‬يتسلل‭ ‬من‭ ‬ثنايا‭ ‬أهداب‭ ‬ناظريه‭... ‬وشوق‭ ‬يجتاح‭ ‬مشاعره‭ ‬وأضالعه‭... ‬ثم‭ ‬لهم‭ ‬عنده‭ ‬إحساس‭ ‬خاص‭... ‬يبادلهم‭ ‬ودّاً‭ ‬بود‭... ‬فهو‭ ‬يعلم‭ ‬طيب‭ ‬معدنهم‭?‬

والناس‭ ‬في‭ ‬بلدي‭ ‬شوق‭ ‬يهدهدهم‭  

كما‭ ‬يهز‭ ‬نسيمٌ‭ ‬قامة‭ ‬القصب

والجار‭ ‬يعشق‭ ‬للجيران‭ ‬من‭ ‬سبب

وقد‭ ‬يحبهم‭ ‬جدّا‭ ‬بلا‭ ‬سبب

الناس‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬فيهم‭ ‬بساطتهم

لكن‭ ‬معدنهم‭ ‬أغلى‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬

ويعتذر‭ ‬للقارئ‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬لوعته‭ ‬وتلهفه‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬لبلاده،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يشبه‭ ‬هذا‭ ‬الشوق‭ ‬بتسارع‭ ‬مشي‭ ‬النياق‭ ‬عندما‭ ‬تعود‭ ‬لموطنها،‭ ‬كما‭ ‬لاحظ‭ ‬العرب‭ ‬قديما‭ ‬عند‭ ‬الجِمال‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الأوبة‭:‬

عد‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬لا‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬التعب‭  

قلبي‭ ‬يحن‭ ‬حنين‭ ‬الأينق‭ ‬النجب‭ ‬

من‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬مثلي‭ ‬حب‭ ‬موطنه‭  

يأبى‭ ‬الغياب‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬الأنجم‭ ‬الشهب

ثارت‭ ‬جراحي‭ ‬نيرانا‭ ‬يؤججها

عدْو‭ ‬الرياح‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬وفي‭ ‬عصبي

 

رغبة‭ ‬العودة

ولعلي‭ ‬بالقارئ‭ ‬يستشعر‭ ‬قوة‭ ‬الإحساس‭ ‬الذي‭ ‬انتاب‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬رغبته‭ ‬العودة‭ ‬لبلاده‭ ‬رغم‭ ‬إغراءات‭ ‬الاغتراب‭ ‬والمال‭ ‬الوفير،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يستبد‭ ‬به‭ ‬الشوق‭ ‬يلقي‭ ‬بالا‭ ‬لهذا؟‭ ‬نأتي‭ ‬للقصيدة‭ ‬الأيقونة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬أصداء‭ ‬في‭ ‬متلقييها‭ ‬فحفظوها‭ ‬تماماً،‭ ‬وأعني‭ ‬بها‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الأحلام‭ ‬الوردية‮»‬‭.. ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬موطئ‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬الميلاد‭ ‬والممات‭... ‬وانتبه‭ ‬إلى‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬كلماتي‭... ‬تحطّ‭ ‬على‭ ‬فلاعٍ‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬فؤادك‮»‬‭...‬

يا‭ ‬زمن‭ ‬الأفراح‭ ‬الوردية

في‭ ‬ماضي‭ ‬الأيام‭ ‬القاسية‭ ‬المرّة

كلماتي‭ ‬تعبر‭ ‬موج‭ ‬البحر‭ ‬وتصل‭ ‬إليك‭ ‬

لتحطّ‭ ‬على‭ ‬فرع‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬فؤادك‭... ‬بين‭ ‬يديك

وتقول‭ ‬أنا‭ ‬أهواك

أحببتك‭ ‬حين‭ ‬الحب‭ ‬لأرضك‭ ‬غير‭ ‬مباح

ممنوع‭ ‬بالقانون‭...‬

ممنوع‭ ‬يا‭ ‬سمراء‭ ‬لأن‭ ‬الحب‭ ‬هناك‭ ‬جنون

وأنا‭ ‬مجنون‭ ‬تعرفني‭ ‬كلُّ‭ ‬الأشعار

يعرفني‭ ‬الليل‭ ‬المسدِل‭ ‬سترتَه‭ ‬وشقاءُ‭ ‬الفن‭ ‬وكلُّ‭ ‬نهار

لا‭ ‬أحسِنُ‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الحب

والحبُّ‭ ‬حرام‭ ‬في‭ ‬الصحراء

وأنا‭ ‬يا‭ ‬أنت‭ ‬أيا‭ ‬سمراء‭ ‬

إحساسي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬طعم‭ ‬المال‭ ‬ولا‭ ‬البترول

ما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬الممنوع؟‭ ‬وهل‭ ‬تستقيم‭ ‬حياةٌ‭ ‬للشاعر‭ ‬دون‭ ‬حب؟‭ ‬أهل؟‭ ‬زوجة‭, ‬أبناء؟‭ ‬مدينة؟‭ ‬موطن‭ ‬كامل‭ ‬بكل‭ ‬سحناته؟‭ ‬تساوى‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬إلا‭ ‬الحب،‭ ‬لا‭ ‬مال‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجنيه‭ ‬ولا‭ ‬إغراءات‭ ‬البترول‭ ‬الذي‭ ‬يسيل‭ ‬رُخاء‭ ‬بمانعته‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬لبيته‭. ‬

ونعود‭ ‬للدسوقي‭ ‬في‭ ‬أيقونته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يلقيها‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬المجامع‭ ‬الشعرية‭, ‬وبخاصة‭ ‬عندما‭ ‬ضعف‭ ‬البصر‭ ‬أو‭ ‬ذهب‭ ‬تماماً‭, ‬فما‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬شيء‭ ‬عداها‭:‬

الشاعر‭ ‬يسمع‭ ‬صوت‭ ‬الحسن‭ ‬

ويحسن‭ ‬كل‭ ‬فنون‭ ‬القول

لكن‭ ‬أن‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬جفاف‭ ‬

أن‭ ‬يخزن‭ ‬أعصاباً‭ ‬من‭ ‬ألياف

لتكون‭ ‬مكان‭ ‬الحس‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬

فمحال‭ ‬ذلك‭... ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الإمكان

ولذلك‭ ‬حين‭ ‬عبرت‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬

عنيت‭ ‬سعيداً‭ ‬كالأطفال

ونسيت‭ ‬حلاوة‭ ‬طعم‭ ‬المال‭ ‬

ورجعت‭ ‬أغرد‭ ‬بالأفياء‭ ‬بكل‭ ‬مكان

ورجعت‭ ‬أقبّل‭ ‬أم‭ ‬درمان

هذي‭ ‬العاصمة‭ ‬الأنثى‭ ‬

أهواها‭ ‬مذ‭ ‬كنت‭ ‬غراما‭ ‬في‭ ‬عينيْ‭ ‬أمي‭ ‬وأبي

وحملت‭ ‬الحب‭ ‬معي‭ ‬بدمي‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬هذا‭ ‬العمر

وأحمله‭ ‬حتى‭ ‬ألقى‭ ‬ربي‭ ‬

كلماتي‭ ‬يا‭ ‬زمن‭ ‬الأفراح‭ ‬الوردية

عبرت‭ ‬موجات‭ ‬البحر‭ ‬لتصل‭ ‬إليك‭ ‬

لتقول‭ ‬أنا‭ ‬مشتاق

لتطل‭ ‬قليلاً‭ ‬في‭ ‬عينيك

ولتحمل‭ ‬عذري‭ ‬في‭ ‬سفري

فأنا‭ ‬يا‭ ‬سمراء‭ ‬الصحراء‭ ‬

هذا‭ ‬قدري‭ ‬

إمّا‭ ‬أن‭ ‬أعشق‭ ‬أنثى‭ ‬للإنسان

‭ ‬تلك‭ ‬المحبوبة‭ ‬أم‭ ‬درمان

وهكذا‭... ‬عاش‭ ‬الشاعر‭ ‬الدسوقي‭ ‬مشغوفاً‭ ‬بأم‭ ‬درمان،‭ ‬يهتف‭ ‬باسمها‭ ‬ويلهج‭ ‬بحبها‭ ‬برغم‭ ‬مرضه‭ ‬الذي‭ ‬لازمه‭ ‬سنين‭ ‬عدداً،‭ ‬ولقد‭ ‬انعطفت‭ ‬أخباره‭ ‬ونشاطه‭ ‬عن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬ملتقى‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬بالنيلين‭, ‬حيث‭ ‬كرمته‭ ‬الدولة،‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬النعي‭ ‬الأليم‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2018‭ ‬لتهبّ‭ ‬كل‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬السودان‭ ‬ليشيع‭ ‬هذا‭ ‬الفارس‭ ‬النبيل‭ ‬إلى‭ ‬مرقده‭ ‬بأم‭ ‬درمان،‭ ‬تلك‭ ‬العاصمة‭ ‬الأنثى،‭ ‬وكأني‭ ‬به‭ ‬يقول‭:‬

عد‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬الترب‭ ‬ها‭ ‬عاينت‭ ‬من‭ ‬سببي‭   

فقد‭ ‬بليت‭ ‬وأودي‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬العطب

عد‭ ‬بي‭ ‬إلــى‭ ‬الأم‭ ‬ضمتني‭ ‬ذراعـــــــاها‭   

وهــا‭ ‬تراني‭ ‬قريباً‭ ‬غير‭ ‬مغتــرب

عد‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬هـــــذه‭ ‬الحــــسناء‭... ‬فاتنتي‭  

ففـــي‭ ‬ثراها‭ ‬ضريح‭ ‬قد‭ ‬حواه‭ ‬أبـي‭ ■‬