الفنان عبدالعزيز درويش عاشق الطبيعة

الفنان عبدالعزيز درويش عاشق الطبيعة

في يوم مشرق بهيج تحت دفء شمس القاهرة في مقر مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، جلست مع الرائعة المهندسة وجدان درويش، ابنة الأستاذ الدكتور الفنان عبدالعزيز خالد درويش، الذي تخرّج على يديه عدد كبير  من مبدعي فن التصوير في الوطن العربي منذ الخمسينيات إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

 

 ودرويش إن نسيته الساحة العربية فلن ينساه العالم، فهو أول مَن اقتنت المتاحف العالمية أعماله التي تتحدث عن نفسها وتقدم السيرة الحقيقية لمشوار الفنان وقدرته الفائقة الرائعة على قوة التصوير وجودة التعبير ومحاكاة الواقع التأثيري في نقل صور البيئة المصرية التي عشقها، فأذهل الجميع، وعلى رأسها متحف الخالدين في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
وصف د. حسن البناني درويش بأنه صاحب رؤية ثاقبة وريشة ذهبية نادرة، لا يتحدث كثيراً، فالصمت طريقه الخلاق لإيصال ما يجول بخاطره من رؤى وحديث، لا يفهم لغته غير الفصحاء من الناس الذين يعرفون تعبيراته اللونية الصادقة وخطوطه الرشيقة القوية، وقال عنه إنه فارس من الفرسان النجباء الكبار، ملك من ملوك فن التصوير للجيل الثالث من عظماء الفنانين المصريين.
كان درويش لا يحب الأضواء والظهور والتعالي على غيره، سمته التواضع والحب والرحمة، لا يزاحم غيره في الصفوف، فتنتقل إليه الأضواء دونما دعوة منه للحضور، إنما الداعي هو فنّه ورؤية النقّاد المتخصصين لنتاجه الفني الذي لا يقدّر بثمن.
كان - رحمه الله - كبيرًا يعطي الناس قدرهم، لا تشغله الفقاعات الإعلامية ولا تغريه البهرجة الدعائية.
درويش لن ينساه التاريخ حتى وإن تجاهله الناس ممن لا يعرفون معنى القيمة النفيسة للفنان الكبير صاحب العطاء والكرم السخيّ في علمه وفنه وتعامله، توفي واقفًا شامخًا، لم يغضب منه أحد طوال حياته، ورحل في صمت كما يريد ويحب، فلم ينزعج منه أحد ولم يستطع أحد من زملائه أو أقرانه أن ينتقده بحرف أو لمزة أو حتى سهوة شاردة، كان وديعًا كحمام مكة المكرمة، أحبّه وافتقده الجميع.
أستاذه الفنان الأرمني المشهور جرابيديان قال عنه إن عبدالعزيز درويش يعيد للتاريخ سيرة الفنانَين الفرنسيين الكبيرين بول سيزان وكلود مونيه، مع أن درويش في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير بفنّه التأثيري المتوائم مع الطبيعة المصرية التي أحبّها، فأخرجها في حياته بفلسفة خاصة لازمته العمر كله.
وقد خالف الواقع بعض مَن يقول إن درويش فنان أكاديمي بحت، لأنه يفوق ذلك التعبير بكثير، بقدرته على امتلاك نواصي الحرفة الفنية لمصوّر مبدع له أسلوبه اللغوي الخاص في مجال فن التصوير، فهو يعرف من أين تؤكل الكتف في مجال تخصصه الفني، يدرك مكامن أسرار المهنة بثقة عالية، ريشته لا تتعثّر ولا تقدّر بثمن، يسلك طريقه في بناء اللوحة الزيتية أو غيرها، أساسه التأثيري لم يتغلب على إحساسه الذاتي بالمفردات المحيطة به، فصنع لنفسه صومعة فنية لها مداخلها وأركانها التي تميّز أعماله عن غيرها من أعمال معاصريه، لا تجد في خطوطه المتناسقة الرشيقة أي مثلب، كما أن ألوانه ذات طابع خاص، تجعل من نتاجه الفني عملا لا يحتاج إلى توقيعه الخاص، فهي تدل بذاتها على صاحبها الذي أبدعها وصوّرها بهذه الكيفية.
قال عنه الفنان الكبير د. حسين بيكار، إن عاشق الطبيعة عبدالعزيز درويش ينقل من يشاهد أعماله إلى عالم من الضوضاء والصخب أو الضجيج، فيعيش الجمهور مع أعماله التي تصوّر الحياة الفطرية الطبيعية بمصر في عالم شفّاف جميل يجعله يعيش معه الحلم.
كما قال عنه النقّاد إنه فراشة البيئة الطبيعية التي تعرف كم زهرة تزهر في تلك «الحقول والغيطان» والأرياف.
 درويش المتعبّد العاشق للطبيعة في مصر عندما كان يقف أو يواجه أمامه الحياة الطبيعية، تراه دون شعور يستل من الغمد ألوانه فينشرها على الرقاع، مستوحيًا مما يرى في الطبيعة قصائد شعر لا تسمعها بل تراها بعينيك، مسجلاً بذلك التصوير الرومانسي لحظات لا يدركها غيره من تاريخ وطنه مصر.
كانت صفته الخاصة وإيمــــانه الثابت أن العمل الصـــادق هو المتحدث الأفضل عن نفسه.
 لم يفكر درويش في جمع أعماله بمعرض واحد، ولم يعط أبدًا أي اهتمام لبهرجة اللوحة بالبرواز الفخم اللافت للنظر، كأنه كان يقول إنني أقدم عملي ولا أبيع براويز، فأنا فنان مصوّر أعمالي تتحدث عني.
 درويش هو مَن علّمنا الحب المخلص للفن والعطاء في العمل، وطغى عليه طابع جميل لا أراه في أعمال فناني أو أساتذة الأجيال الحالية، وهو صداقته الخالصة لتلامذته، فكان يرفعهم إلى مقامه الكبير بحب وتشجيع وعظمة، لدرجة أن مَن لا يعرف درويش لا يصدق أنه هو الأستاذ الفنان الكبير المتواضع لغيره من الشباب الذين يحيطون به في كل يوم، يمازحهم ويعطيهم دفعة تشجّعهم لمعرفة حقيقة أن الفنان بتعاليه لا يُخلّد وبغطرسته لا يذكر، بل كان مؤمنًا بأن التواضع والحب والعطاء أفضل طريق للمجد الذي ناله بجدارة واقتدار جعلت منه ناقوسًا يعلو ذكره بين الحين والحين، كلما ذكر الفن وروّاده العظام من عهد سيزان إلى يومنا هذا.
درويش أستاذ وفنان تغلب على الماديات في الدنيا واختار الفن بصدق فخلّده التاريخ نجمًا ساطعًا لا يخفيه غمام... رحم الله الفنان الأستاذ والصديق المخلص الصدوق عبدالعزيز درويش ■

 

البيئة البحرية التي أحبها الفنان

 

المسلة الفرعونية في صعيد مصر

 

الريف المصري