حجازي والعَالم المملوء أخطاء

حجازي والعَالم المملوء أخطاء

ما زلنا نعاني اللغة النقدية الجافة، كذلك جفاف المصطلح الذي هو ناتج ربما عن تجربة غير حقيقية في الإبداع النقدي أو عن ترجمة لواقع معيش هناك غير الواقع المعيش هنا، أو لتجاهل جماليات القصيدة العربية التي ذهب بعض النقاد إلى محاولة طمسها وإبدالها بما هو رائج وقابل للتسويق من دون حياد.
«والحياد هنا يعني ألا ينغلق الباحث على قديمه، ويرى فيه كل الخير، وألا يرفض كل جديد بدعوى أن فيه كلّ الشر، كما تأتي صعوبة الحياد من احتياجه إلى حركة بحثية ترددية، تمد بصرها إلى المنجز الحداثي الخارجي، وترتد منه إلى الموروث العربي، لتجمع بينهما جمع توفيق لا جمع تلفيق، وجمع تسامح لا جمع تعصب، وجمع تحاور لا جمع تخاصم».

ربما مخالفة ذلك أحد أهم الأسباب التي أضفت على المشهد النقدي المعاصر هذا الجفاف المصطلحي، حيث جعلك أو جعلني أخال أني أو أنك جالس أمام برنامج جاهز (سوفت وير)، أو آلة حاسبة تعطيها المعادلة التي تريد، فيكون الناتج واحدًا في جميع الحالات. 
ولعلني أطرح سؤالًا عن الذين يمارسون حرفة الشعر والنقد معًا، هل يكون شاعرًا ناقدًا؟ أم ناقدًا شاعرًا؟ وهنا أقصد الترتيب الزمني للدخول من حرفةٍ إلى حرفةٍ (إن جاز لنا استخدام لفظة الحرفة في هذا السياق).
وبرغم أنه يقول:
 أنا أصغرُ فرسانِ الكلمة
إلا أنه أيضًا يعرف أنه:
في العالم المملوءِ أخطاء
مطالبٌ وحدهَ ألا يُخطئا

هذا الفتى الذي لم يتجاوز عمره إحدى وعشرين سنة يقول:
 أصدقائي 
نحنُ قد نغفو قليلًا
بينما الساعةُ في الميدان تمضي
ثمَّ نصحو... فإذا الرّكبُ يمرّ
وإذا نحنُ تغيّرنا كثيرًا 

تطور الرؤية
أية ساعة هذه التي كان يرمي إليها الفتى أحمد عبدالمعطي حجازي، وأي فعل يمكن أن يغيّرنا كثيرًا في وقـــت لا يتجـــاوز إغفاءة قليلة؟ 
لا شك في أنه هو تغيّر الإبداع وتطور الرؤية والنظرة، حيث مرَّ ركب، وبالتالي يمر الآن ركب، وتسير الحضارة متسارعة إلى حيث اللاعودة، تحكمها هذه اللحظة الهاربة ما بين إغفاءة وصحو. 
أو كما يقول أيضًا:
يُقبل الوقت ويمضي
دون أن ينتقل الظلُّ
حجازي لم يكن لديه وقت يضيّعه، فكان يراقب الناس والأشباح والزحام والترام، ويقول:
 والناس يمضون سراعًا 
لا يحفلون 
أشباحهم تمضي تباعًا 
لا ينظرون،
حتى إذا مرَّ الترام 
بين الزحام 
لا يفزعون 
لكنّني أخشى الترام
كلُّ غريب ههنا يخشى الترام 

هو في الحقيقة لا يخاف من الترام، لأنه ذلك الطفل القادم من إحدى قرى المنوفية، لا يخدعنّك وهو يقول:
 يا عمّ 
من أين الطريق؟
أين طريق «السيدة»؟
 
لتعتقد أن خوفه من الترام ناتج من جهله طريق السيدة وهو الغريب.
أبدًا، حجازي كان يخاف من الترام، لأنه المعادل الموضوعي لقوله:

فإذا الركبُ يمرّ
وهو هنا لم يمسك باللحظة الآنية بعد، لكنّه مشغول باللحظة التالية التي يجب أن تأخذ من الحضارة التي بين يديه إلى الحضارة التي يتطلع إليها متمردًا على الواقع, كل الواقع.

تراجيديا الصدمة
على أنه يرى لنفسه في هذه السنّ المبكرة ولجيله إمارة زمنهم، فيبدأ في الثالثة والعشرين من عمره، وبالتحديد في أبريل عام 1958، لا كما عرف الناس، ولا كما ذكر هو في عام 1961 يبدأ في المبارزة التي سبقت قصيدته في الراحل محمود عباس العقاد، حين نشر في «الأهرام» أولى معالجاته بتراجيديا الصدمة، قصيدته العمودية أو الخليلية التي يقول فيها:
من أي بحر عصيِّ الريح تطلبه
إنْ كنت تبكي عليه نحن نكتبهُ

إلى أن قال: 
تعيشُ في عصرنا ضيفًا وتشتمُنا
أنّأ بإيقاعنا نشدو ونطربه 

والتي اعتذر بعدها حجازي للعقاد قائلًا: «ليتني ما كتبت هذه القصيدة، ولعلي لم أندم على شيء في حياتي مثلما ندمت على نظم هذه القصيدة التي أعتز بها في الواقع، فهي ابنتي على أية حال، وإن كنت أستنكر غلظتها وفظاظتها».
وقد غضب العقاد غضبًا شديدًا وحزن، وقال: «بل هم الذين يعيشون ضيوفًا في عصر العقاد». 
هل الغلظة والفظاظة كانت وليدة ما قاله هو عن نفسه:
 أنا أصغرُ فرسان الكلمة
لن أترجّل
لن يأخذني الخوف 
فأنا الأصغر لم أعرف بعد مصاحبة الأمراء؟

وهل هي تصرفات الفتى القروي الذي يقول:
 لكني سأزاحم من علّمنى لعب السيف
مَن علّمني تلوين الحرف 

اعتذار حجازي
هنا يفرض السؤال نفسه حينما اعتذر حجازي للعقاد عن قصيدته السابقة في عام 1961، هل اعتذر لأن هذه القصيدة نشرت في «الأهرام» وذاع صيتها، وأخذ أعداء العقاد يهاجمونه بها وما أكثرهم، أم اعتذر لإحساسه بأنه أخطأ؟
ولو كان الأمر كذلك، لماذا لم يعتذر حجازي عن مقطع المبارزة في قصيدة «دفاع عن الكلمة» التي يقول فيها:
 هأنذا ألقي في ثقة بسلامي
من طرف حسامي 
هأنذا أبرزُ لشهيرٍ، أعرف اسمه؟
إلى أن يقول:
 تلك الكلمات الحلوة ماتت في شفة الخائن
ما عادت فصحى
ما عادت تعصف بالقراء
ما عادت تلد الجُرحا
 
إلى قوله: 
 واأسفاه 
إني أبكي ماضيه، أشفق من حاضره الأسود 
إني أرثي اسمه
يا مشهور الاسم عرفت الشهرة باسم الكلمة
فلماذا خنت ولطّختَ السيف بدمِّ الفرسان؟
هأنذا أضربُ لا أهدأ 
فرسي لا يكبو
وحسامي لا يخطئ

هل بدأ حجازي الحرب مبكرًا على العقاد، من دون أن يعلن؟ كما قال هو في سياق حديثه عن قصيدته للعقاد: «عدت من دمشق ثائرًا ساخطًا... الحنق يقودني والغضب يعميني لأنظم قصيدة في هجاء العقاد، ومع أنني كنت قد جرّبت الهجاء قبل ذلك في قصائد الشعر الجديد، وكان سلسًا مطواعًا، كما فعلت في قصيدتي دفاع عن الكلمة مثلاً، إلا أنني كنت حريصًا على أن تكون هذه القصيدة عمودية».
بربّك يا حجازي، إذا لم تكن تقصد العقاد بهذا المقطع من قصيدة دفاع عن الكلمة، مَن كنت تقصد إذن؟!

تمرّد ورفض
إذن كان حجازي مُنَظّرًا للقصيدة الجديدة من خلال شعره وقصائده، لم يعتلِ منصة الهجوم إلا من خلال بضعة أبيات كان دويّها كبيرًا جدًّا، فهل كان الفتى حجازي يقصد خلق حالة من التمرد والرفض والصدمة، ليجذب انتباه المشهد الشعري لشعره هو وأبناء جيله، ولو كان هذا على حساب علاقته برئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة آنذاك عباس العقاد؟
وهل لو تكررت القصة ذاتها، وهو (حجازي نفسه)، على مقعد العقاد رئيسًا للجنة الشعر، هل كان سيسمح للتجربة بالتكرار مع كتّاب قصيدة النثر مثلاً؟ التي يسميها بالجنس الناقص، هل كان سيسمح بذلك؟! 
وهل كان العقاد على صواب حينما طلب إحالة شعر حجازي وعبدالصبور وغيرهما إلى لجنة النثر، وهدد بالاستقالة إن تم إشراك كتّاب قصيدة التفعيلة في مؤتمر دمشق عام 1961؟
أقول: هل كان العقاد على صواب استنادًا لتصريح حجازي الشهير منذ أشهر عدة في بيت الشعر (بيت الست وسيلة)، حينما قال، وأيّده في ذلك د. محمد عبدالمطلب، إن الشعر سيعود سيرته الأولى (أي عموديًّا خليليًّا) خلال سنوات قليلة، وعقَّب عبدالمطلب على ذلك بأن هذه السنوات القليلة قد لا تتجاوز أربع سنوات؟ الإجابة لدى حجازي، وقد أشرت إلى ذلك في مبحث سابق. 
على أنه لا ريب في أنه لو نجح العقاد فيما كان يرمي إليه لكانت مأساة كبرى وجريمة لا تُغتفر، حاصلها حرمان الشعر العربي من ثورة هائلة نقلته إلى آفاق أخرى من التطور الشعري الإنساني الكبير (وخصوصًا في المسرح الشعري) على يد صاحبه ورفيق رحلته صلاح عبدالصبور، ثم عبدالرحمن الشرقاوي وغيرهما. 
على أننا يجب ألّا نغفل أن حجازي قال رأيه في «قصيدة النثر»، من دون أن يغلق الباب في وجهها، ومن دون أن يحاربها، كما سبق أن أشرنا، بل وأفسح لها مجلة إبداع، وخصّ شعراءها بمجموعة كبيرة من الدراسات على صفحات «الأهرام» في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي.

دفاع عن الكلمة
وقبل أن أنتقل من هذه النقطة، هناك سؤال يلحّ عليَّ وهو: هل فعل حجازي مع العقاد نفس ما فعله الأخير مع أمير الشعراء أحمد شوقي، حين هاجم العقاد شوقي، واستخدم في الهجوم مدرسة الديوان كلها، وإن كان المازني (حليف العقاد آنذاك) هو الأقرب في هذا الهجوم؟
وهل أراد العقاد أيضًا أن يلفت المشهد الشعري نحوه ونحو مدرسة الديوان، ولو على حساب علاقته بشوقي؟
وهل بالفعل اعتذر العقاد (يرحمه الله) عن هجومه على شوقي في مؤتمر الإسكندرية الأخير؟ 
أترك كل هذه التساؤلات، وأتمنى لو وجدت من لديه الإجابة كي يردّ على هذا المبحث وهذه الأسئلة.
أقول هذا وأنا أردد مقولة لي لا تفارقني، وهي «يا حظَّه الشاعر أو المبدعُ الذي يكتبُ عنه ناقد ليسَ في نفسهِ منه شيء». 
قد يرى كثيرون أن أفكار حجازي صادمة، وهو الذي حفظ القرآن الكريم في قريته، حتى أن بعض الكتّاب كتب مقالًا عنوانه «أيديولوجية الإلحاد في شعر عبدالمعطي حجازي». 
وبعضهم اتهمه بالغلوّ في اصطفافه مع العلمانية ضد الدين، ولو أنهم قرأوا مقطوعة «المبدأ» في قصيدته «دفاع عن الكلمة» لعرفوا أنه يقول فيها:
أنا في صف المخلص من أي ديانة
يتعبد في الجامع، أو في الشارعِ
فكلا الاثنين تعذّبه الكلمة
والكلمة حِملُ وأمانة
أنا في صف المخلص مهما أخطأ
فالكلمة بحر يركب سبعين مساءً
حتى يلد اللؤلؤ
أنا في صفّ التائب مهما كان الذنب عظيمًا
فطريق الكلمةِ محفوفٌ بالشهواتْ
والقابض في هذا العصر على كلمته
كالممسكِ بالجمرة

هذا هو مبدأ حجازي منذ كان في الثالثة والعشرين من عمره وحتى الآن، وهو الذي يكره الظلام بما تعنيه الكلمة من مترادفات وإسقاطات وتخلّف وهزيمة، يقول حجازي:
أيها الليلُ! يا زمنَ الظلماتِ،
وأرضَ المخافاتِ
يا سيدًا في الهزيمة
يا ملكًا في البوار 
أنت لستَ شقيقَ النهار 
أنت سجَّانه المتجبّرُ
خانقُ أنجمهِ في طفولتها
ورسول الدَّمارْ
فيكَ لا سكنٌ نرتجيه،
ولا حُلُمٌ بغدٍ
لا سماءَ نحلِّق فيها،
ولا شجرٌ نستظل بهِ
أنتَ هاويةُ من عماء وفوضى
بغير قرار! 

هاوية الفوضى
نعم حجازي يريد سماءً يحلّق فيها وتحلّق الأجيال كلها، حتى لا يسقط الجميع في هاوية العماء والفوضى، وليس في يدهم رفاهية اتخاذ القرار ولا في سلطتهم. 
كان حجازي يصرخ ومازال يصرخ حتى لا تصل البلاد إلى الساعة الخامسة مساء، والتي يقول فيها:
 كانت الساعة الخامسة 
والمدينة منفيةٌ في مدائن أخرى 
معذّبة بحنين إلى فرح هارب
وهزائم تعتادها كالكوابيس،
تنعب في حدقات العيون،
كما ينعب البوم في الشرف الدارسة!
 
إلى أن يقول:
 كانت الساعة الخامسة 
أنفذ الوحشُ في عنقِ الشيخ مُدْيَتَه،
ومضى عاويًا
يتشمم ريحَ فريستهِ
ويعضُّ بأنيابه الضارسة! 

وتشير أوراق القضية التي نشرت فيما بعد الاعتداء على أديب «نوبل»، نجيب محفوظ، أن المجرم لم يقرأ صفحة واحدة من «أولاد حارتنا»، ولا أي ورقة من أي رواية لمحفوظ، لكنّه الفكر المتطرف المنغلق الذي لا يتكئ على مرجعية، ويبرأ منه الدين كل الدين، والذي ربما كان سببه بعض فتاوى قديمة زمنية لا تصلح الآن. 
وباختصار، هي فقه الواقع، ولعلّنا نعيد صرختنا عالية، وهي التي طالبنا فيها بإسقاط النص في أرض الواقع وفقه معاملة الآخر.

جدران مهترئة
حجازي لم يكتب عن هذا فحسب، بل وسوّق له ونادى بأعلى صوته، مطالبًا بضرورة تجديد الخطاب الديني، على أن تشترك المؤسسات المدنية والمثقفون في صياغة هذا الخطاب، ولا يكون حكرًا على المؤسسة الدينية وحدها... وهنا وفي مواجهة هذا الفكر الذي يضرب أكباد الأمة، أذكر أنه أجَّلَ مقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام، لينشر بدلاً منه رائعة حسن طلب بعنوان «الحاكمية للنيل»: 
والتي يقول فيها طلب:
الأولوية لي
نحتُّ بضفَّتي الأبجديةَ 
واتخذتُ حروفها جندًا وأنقذتُ الجمل 
الأولوية لي
وللأنهار ما يقرأ التاريخ 
في آثارِ حولياتها 
مما تسجله الضفاف عن الجفاف أو البلل! 
الأولوية لي 
وللشهداء إرثُ الضفتينِ 
وللخفافيشِ الجبل
 
إلى أن قال:
النيل يذكرهم
فإنَّ النيلَ يغفلُ... ثمَّ ينتبهُ 
النيلُ يشْتَبِهُ

لعل حجازي بفكره المستنير وطرحه الرائد يكون أكثر إيمانًا من هؤلاء الذين يملأون الدنيا ضجيجًا ويسجنون الفقه بين جدران مهترئة.
 
يقول حجازي:
«التنوير هو الأساس، وهو شرطٌ للتقدم، وبالتالي هو مطلب ثوري، لأن الطغيان يتأسس على الظلام، فلا نستطيع التحدث عن الثقافة، أو عن الاقتصاد، أو عن السياسة، أو عن الحاضر، أو عن الماضي، أو عن المستقبل، إلا بناء على أفكار صحيحة، من ناحية أنها معلومات لا خرافات، ومن ناحية أخرى أنها إنسانية لها طابع إنساني.
فعلى سبيل المثال: الموت حقيقة، لكن لا يجب التركيز عليه كما ينبغي التركيز على الحياة، والماضي حقيقة، لكن لا يجب الرجوع والعودة إليه، ولكن يجب اقتحام المستقبل... وهكذا... التنوير قضية أساسية وإنسانية» .