مسار الفصحى في نهر الغناء السوداني
لا أعتقد أن ثمة فترة ازدهر فيها فن الغناء في السودان كتلك التي امتدت من ثلاثينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي، جلاها تجدداً وبريقاً تغنّي كثير من المطربين بالعربية الفصحى لشعراء عرب وسودانيين على اختلاف مشاربهم وعصورهم، وكان فن الغناء وسيلة تثقيفية دالة على التقدم والرقي ونموذجاً للتواصل والتقارب والوحدة، مما جعل المتلقي يأنس له ويتعلق به لكونه رسالة وجدانية عميقة بلغة رفيعة راقية غير عصية على الفهم، وقريبة إلى الذهن والوجدان.
حينما كنا نجالسه في فناء داره، أخذ الرجل السبعيني يتحدث - على خلفية مقال نشرته لي «العربي» بعنوان «شعراء عرب في بيوت سودانية» في العدد 686 (يناير 2016) - بحديث يفيض ثقافة ومعرفة عن أغاني العربية الفصحى ودورها التعريفي والتعليمي للأفراد، وخدمتها للذوق والثقافة والأدب والتراث السوداني ككل، ثم قام بلا مقدمات وأدار جهاز التسجيل العتيق، وسرعان ما انبعث من خلاله صوت الفنان عبدالكريم الكابلي يردد صادحاً:
وهومـت حتى تـبدّى أمامي
ظلامٌ رهيب، كفيفُ البصـر
وقفـت علـيه أدقُّ الجـــــدارَ فما لانَ هوناً، ولم ينشطـر وعدتُ تذكــرتُ أن هــــواك حـــرامٌ على قلبي المنكسر وما كنت أنوي أقـول الكثير، ولكـن برغم تفـشي الخـبر تعاميت عما يفعل الرجل معبراً عن مشاعره، وحنينه لزمان ولى ربما لا يعود، وإذا به يعيد تدوير الأغنية، وبعد نهايتها للمرة الثانية، قال بذكاء لماح: (عندما استمعت لهذه الأغنية قبل نصف قرن، حسبتها لشاعر عربي من شعراء العصر العباسي، ولكن عرفت فيما بعد أنها «حبيبة عمري» للشاعر السوداني الحسين الحسن (1934 - 2003)، وهي قصيدة مطولة اجتزأ منها الشاعر المطرب الكابلي عدة أبيات، ثم لحّنها وغناها، وكانت واحدة من كبريات أغاني الفصحى التي عمّقت نهر الغناء السوداني، وصيّرت شاعرها أكثر شهرة. وللحسين ديوان بالفصحى يحمل اسم الأغنية، وهو غنيٌ بالقصائد الجيدة السهلة، اختار منه الكابلي قصيدتي «أكاد لا أصدق»، و«طائر الهوى»، وتغنى بهما).
وحديث الرجل أكده لي الكابلي عبر الهاتف من مهجره بأمريكا، مضيفاً: «في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وفي إحدى بروفات الأغنية بحضور رئيس وزراء السودان وقتذاك محمد أحمد المحجوب، ووزير الإعلام عبدالماجد أبوحسبو عندما استمعا إلى عَجز البيت القائل «ظلامٌ رهيب، كثيف السُتر» اقترح عليَّ المحجوب استبدال المفردتين الأخيرتين بـ «كفيف البصر»، وتم ذلك بقناعة مني وموافقة الشاعر.
والمحجوب (1910 - 1976م) أديب وشاعر مرموق له عدة دواوين بالفصحى انتقى المطرب حمد الريح من «مسبحتي ودني»، قصيدة «غفـران»، ثم لحّنها وغناها.
إني غفرتُ فهل غفرتِ؟
ووفيتُ هـل مثلي وفيـتِ؟
وطويت جرحــي راضياً
أحـــنو عليـك وإن قليــتِ
وقبل هذه القصيدة تغنى الريح بأغنية فصيحة «مريا» للشاعر صلاح أحمد إبراهيم.
بين عصرين
هذا ملمح من المشهد الغنائي في السودان قبل عقود خلت، بيد أن أهم ما لفت انتباهي في حديث الرجل، وجعلني أتساءل: لماذا اختار عصر العباسيين تحديداً؟ هل لأن الوقوف على جدار ديار المحبوب من قوام تلك العصور السالفة؟ كذاك العصر وما قبله عصر بني أمية اللذين عاش فيهما أشهر شعراء العشق والهيام، مثل قيس بن الملوح - مجنون ليلى - (645 – 688م) القائل:
أمرّ على الديــار ديار ليـلى
أقبّل ذا الـجدار وذا الجـدارا
وما حب الديار شـغفن قلبي
ولكن حب من سـكن الديارا
أم لأن عصر بني العباس اتسم بنضوج فن الغناء وتوهجه وازدهاره؟ أم للسببين معا؟ خاصة أن الإرث الأدبي والغنائي الهائل الذي تركه لنا الأسلاف يوحي كما أرى - رغم أني لست من المختصين - بأن عصر الغناء في السودان الذي امتد بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي، أخذ كثيراً من ملامح إن لم يكن يشابه نظيره في دولة العباسيين (750 - 1258م) التي شهدت تقدماً وازدهاراً في سائر مجالات الأدب والثقافة والفنون عامة، مما ينبئ عن استقرار وتقدّم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كان أهم ما يميز العصر العباسي هو تطور اللغة العربية والفصاحة وأساليب الأدب، وتقدم وإتقان فن الغناء بوجه خاص، لا سيما في عهد هارون الرشيد (768 - 809 م) الذي وصفه عديد من الباحثين والنقاد بأنه العصر الذهبي للغناء العربي، ومرد هذا لاهتمام ملوك وأمراء بني العباس بهذا الضرب من الإبداع، وظهور عدد كبير من المبدعين على اختلاف أزمانهم، من المغنيين إبراهيم وابنه إسحق الموصلي، ومنصور زلزل، ويحيى المكي، وزرياب، ومخارق وغيرهم، ومن المغنيات بُذل، ودنانير، وشارية، وعلية بنت المهدي، وعريب المأمونية وغيرهن، فضلاً عن تطور آلات وأساليب الغناء، والمقامات الموسيقية، فيما صار للمطربين مراتب وطبقات. أما من طائفة الشعراء فقد بزغ نجم كل من الأصمعي، والمتنبي، وأبوتمام، والبحتري، وأبونواس وآخرين كثر، وجلهم ارتبطوا مع عامة الناس في الساحات المقامة للندوات والمناظرات الأدبية، والمساجلات الشعرية. ولعل هذا ما حمل بعض الشعراء السودانيين على الاعتداد بذاك العصر، وأن يستلهموا من بُناته ما ضمنوه في كثير من قصائدهم، التي غناها عدة مطربين، أمثال المطرب عثمان حسين الذي لحّن وغنى قصيدة مُزِج فيها بين الفصحى والعامية «أحلى البنات» للشاعر عثمان خالد (1939 - 1993).
ويطل جميل وكُثير يقول
وبيوت شعر مرهف طلي
وتمري بي عهد الرشيد
ويغني لــــيك الموصلي
والمطرب عبدالعزيز داؤود في «ﻏﺼﻦ ﺍﻟﺮﻳﺎض» للشاعر علي المساح.
بس ما ذنبي غير صوت النشيد ونشائد
في مدحك بنيت قصر الرشيد الشائد
كما صدح سيد خليفة يغني بالفصحى «أنشودة الجن» للشاعر التيجاني يوسف بشير (1912 - 1937):
وأمســح على زرياب وأطمـس على معـبد
وأمشي على الأحقاب وطوف على المـربد
وما تغنى به في «ليل وخمر وشفاه» للشاعر حسين عثمان منصور (1926 - 1997):
يا سقاة الكأس من عهد الرشيد
ما لكأسي ظامئاً أبداً وحيد
ونديمي!!
قد سرى نجما مع الأفق البعيد
ورغم اختلاف الزمكان (الزمان والمكان) والشخوص بين العصرين، فالتاريخ الذي أعاد شيئاً من أنفاسه في تلك الحقبة التي عمّرت السودان، وربما العالم العربي بأثره، حملت من سمات العصر العباسي دينامية وتطور الأدب والثقافة والفنون عامة، حيث التوهج والبريق الذي صادف الفنون مجتمعة، والازدهار الذي ميز فن الغناء بنحو خاص حتى ارتأى كثير من المهتمين والنقاد أنه العصر الذهبي للغناء السوداني المعاصر الموسوم بالتطور الفكري والأدبي لكثيرين، والانفتاح على مختلف المعارف والعلوم الإنسانية، مشفوعاً بالتغير الذي حدث في أسلوب الغناء إثر قيام الإذاعة السودانية عام 1940 وظهور أصوات غنائية جديدة، أمثال حسن عطية، وإبراهيم الكاشف، وعثمان الشفيع، وأحمد المصطفى، وعبدالحميد يوسف، وعثمان حسين، وحسن سليمان، وعبدالعزيز محمد داؤود، وعبدالدافع عثمان وغيرهم.
فقد استطاعوا أن يغيروا نمط الغناء الذي كان سائداً وقتذاك (الغناء الشعبي أو الحقيبة، الذي يعتمد على المطرب بآلة الرق ومن خلفه جوقة الكورس الذين يرددون مطلع الأغنية)، وعصرنته بالدقة في انتقاء قصائد العامية الفصيحة، والعربية الفصحى المعبرة لزمرة من الشعراء السودانيين والعرب، وبراعتهم في تلحينها على السلّم الخماسي، وأدائها باستخدام الآلات الموسيقية الحديثة مع سيطرة آلتي العود والقانون، بجانب ظهور عدد من الملحنين والموسيقيين على رأسهم الموسيقار إسماعيل عبدالمعين الذي عني بتطور الموسيقى السودانية وعمل على تأهيل وتدريب الموهوبين على الآلات والنوتة والأساليب الموسيقية الجديدة. هذا إلى جانب ظهور المغنيات أمثال عائشة الفلاتية، فاطمة الحاج، ومنى الخير، وأم بلينة السنوسي، وثنائي النغم، والبلابل وغيرهن، والملحنة أسماء حمزة كأول سودانية تجيد التلحين والعزف على آلة العود، وكلهن نجحن في الخروج بالأغنية من مرحلة أغنية البنات (غناء ليس لديه شاعر/ة، وإنما تبتدعه البنات في مناسبات الأفراح باستخدام طبل الدلوكة) إلى مدارات الغناء الجاد الهادف المشحون بالعاطفة الإنسانية والوطنية. كما شهدت الفترة قيام المنتديات والصالونات والندوات الأدبية والفنية، وسِجالات الأدباء والشعراء، والجلسات الخاصة والورش الفنية التي يلتئم فيها شمل المبدعين لعرض أعمالهم الجديدة، للتدقيق في حواشيها، والتجويد في أدائها حتى تخرج للناس مشذبة ومعافاة.
وكان من حُسن حظ الآداب والثقافة والفنون أنها التصقت بحياة الناس كافة، مما دفع كثيراً من المسؤولين إلى الاهتمام بها، لكونها رسالة إنسانية تفضي إلى رقي الدولة ومجتمعاتها، وغدا فن الغناء بنصوصه الفصيحة هو الأعلى كعباً، تجلى هذا في اللجان التي شُكِلت لتكون حارسة للنصوص والألحان والموسيقى، وقيام معهد الموسيقى والمسرح عام 1969م، (تحول في التسعينيات إلى كلية الموسيقى والدراما)، كما وجد المبدعون تحفيزاً مقدراً بمنحهم مراتب ودرجات للترقي، وبإقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية في الأندية والحدائق، واحتفاء العامة بها، مما يشي بتقدم في حياة الناس جميعاً، ومدى تذوقهم الفني والجمالي.
تجليات الشعراء والمطربين
كان من أبرز تجليات الشعراء والمطربين وأهل الغناء عموماً في تلك الفترة خروجهم بالأغنية من دائرة الحسية والوصف والغزل، وسعيهم إلى مرامٍ أخرى تتصل بالواقع والوطن وتمجيد الطبيعة، وغيرها من القصائد التي تعنى بالحنين، وكتب الشعراء السودانيون كثيراً من أشعارهم بالعربية الفصحى بطلاقة وتلقائية مدهشة، واستطاع كل مطرب بما وجده فيها من جماليات أن يتخير ما يتناسب مع مقدراته الصوتية لإطلاق طاقاته الإبداعية الخلاقة، وإبراز خيالاته وأفكاره اللحنية والأدائية بنحو يثير المتعة الروحية والجمالية في النفوس.
وظلت هذه الأهداف التي تلازمهم، وما فتئت تميزهم كجيل رائد أول من بنى مداميك الغناء المعاصر في السودان، مما أجبر الناس على التقاطها، واحترامها والاعتراف بها كأغنيات باذخات، لفتت الأنظار إليهم، ومازالت الأجيال التي عاصرتها، أو اللاحقة تعود إليها وإلى تلك الفترة بنوستاليجيا جارفة.
وكان في طليعة الرواد الذين غنوا بالفصحى الفنان عثمان حسين «أبوعفان»، حيث غنى بألحانه الشجية المفعمة بالرومانسية «اللقاء الأول»، و«خمرة العشاق» للشاعر المتصوف قرشي محمد حسن.
فاذكري صباً صريعاً مستهـامـاً
لـــم تعــد كاســـــاته إلا حطامـــاً
يا سقاة الراح عن خمري سلاما
اصرفوا الكاسات عني والمــــداما
نشوتي في الحب خمر قد تسامى
عجزت عن عصرها أيدي الندامى
كما تغنى بـقصائد «محراب النيل» للشاعر التيجاني يوسف بشير، و«نشيد الملايين» لمحمد الفيتوري، وأغنيات «ندامى الراح» لعبدالمنعم عبدالحي، و«أنا والنجم والمساء»، و«لا تسلني» وغيرهما للشاعر حسين بازرعة. ثم غنى الفنان إبراهيم الكاشف بالفصحى بضع أغنيات منها «روضتي الغناء» للشاعر حميدة أحمد عثمان المعروف بـ «حميدة أبوعشر»:
أظل أردد الشكوى
لما لاقيت من وجد
حبيب الروح لا أقوى
على حمل الهوى وحدي
ولما لم أجد سلوى
كسرت إبريقي والــدنَّ
سكبت على الثرى كأسي
وداعاً روضتي الغــنّاء
وداعاً معبدي القدسِ
وكان عميد الفن الفنان أحمد المصطفى دقيقاً في اختيار قصائد الفصحى، وبرع في إجادتها كأغنيات «فتنتي» للشاعر عبدالمنعم عبدالحي، و«السوسن البراق» للطبيب حسبو سليمان، و«فؤادي» لإسماعيل عبدالرحيم، و«في سكون الليل» لمهدي الأمين.
ها هي الأضواء أغفت
والدجى أصغى إلينا
والمنى في القلب رفت
واستقرت في يديـنا
والذي عينــاك أخفــت
قـد بدأ لمـا التقـــينا
أما الفنان التاج مصطفى حينما وجد بغيته في مثل هذه القصائد فقد أطلق حنجرته ببراعة، متغنياً بعدد وافر منها، فتغنى بحنينٍ طاغٍ موشح «ليلة الذكرى» لبارزعة:
تعالي واسمعي في الليل نجوانا
تعالي فالربى غنت للقيانا
ورفّ الطير في الأغصان نشوانا
وعودي قد كفى هجراً
ونحن نذكر رواد تلك الفترة (بغضّ النظر عمن سبق) من الذين أحدثوا نقلة كبيرة في فن الغناء السوداني، وغيّروا مسار مجرى نهره نحو الجدة والمعاصرة، لابد أن نتأمل تجربة المطرب عبدالعزيز داؤود واحتفاءه بقصائد الفصحى، وما حققه من انعطافات وتجليات جديرة بالتمعن لتغنيه بكثير من القصائد والأناشيد الوطنية أو الدينية أو السياسية، وأداءه لها بكل مشاعره وخلجات روحه بألحان رفيق دربه الموسيقار برعي محمد دفع الله، منها «مصرع زهرة» و«أجراس المعبد» لحسين منصور... وكذلك «صبـــابة» لبازرعة، «عذارى الحي» لإسماعيل حسن، و«فينوس»، و«المنديل»، للشاعر حسن عوض أحمد، و«أحلام العذارى» للشاعر ع. عبدالحي:
يا نديمي طافت الأحلام بالفكر حيارى
وسرت تسبقها الأنغام في طهر العذارى
ونديمي أول الأطياف في الفجر توارى
الغناء الوطني والديني
تحققت في خمسينيات القرن الماضي طفرة كبيرة في الأدب والثقافة والشعر في السودان عززت مكانة الأغنية، وقدّم المطربون على مراحل مختلفة أغنيات كثيرة بالفصحى متأثرين بالواقع، رغم تأثر غالبيتهم بالألحان والموسيقى المصرية وعملاقها الموسيقار محمد عبدالوهاب. ومع تعالي الحس الوطني، ومناداة الأنفس النازعة للحرية والاستقلال، طغى صوت الملحن والمغني الموسيقار إسماعيل عبدالمعين، الذي عُرِف بفنان الحركة الوطنية من خلال أغنياته الفصيحة التي أداها مع فرقة البساتين، مثل «إلى العُلا» للأديب خضر حمد، «صرخة روت دمي» لمحيي الدين صابر، و«صه يا كنار» للشاعر محمود أبوبكر.
أنا لا أخاف من المنون وريبها
مادام عزمــي يا كنار مهــندي
سأذود عن وطني وأهـلك دونه
في الهالكين فيا ملائكة اشهدي
ثم جاء صوت الفنان حسن خليفة الشهير بــ«العطبراوي» يجلجل بألحانه الثائرة، مغنياً بالفصحى «أنا سوداني» للشاعر محمد عثمان عبدالرحيم، و«لن أحيد» لمحيي الدين فارس (1936 - 2008م):
«أنا لست رعديداً يكبل خطوُه ثقل الحديد /عن الكفاح... لن أحيد»
ثم استلهم الشعراء من كفاح المرأة وحضورها في الساحة الوطنية ومجالات العمل قصائد رسالية قوية التأثير كالتي بعث بها الشاعر صديق مدثر (1929 - 2012) «يا فتاة الوطن» وغناها أحمد المصطفى:
يا فتاة الوطن يا خــير البـــلاد
أنيري الوطن بنور الرشاد
انشري الوعي وسيري للأمام
إنما الوعي بشــير للسـلام
وبرزت أيضاً في تلك الفترة قصائد الفصحى الدينية العميقة، وسعى المطربون للتغني بها، والتف الناس حولها وحول مبدعيها، مثل حسن سليمان (الهاوي) الذي تغنى بعدد منها لشعراء العرب والسودانيين كــ «رسالة الغفران» لقرشي محمد حسن.
إلهي لقد وجهت وجهي إليكمو
بعـــزم أكيد، لا يبـدد باليأس
وجاء بعده الموسيقار عبدالماجد خليفة ومجموعته الغنائية، وتغنوا بقصائد الفصحى المشحونة بالعاطفة الإنسانية والدينية للشاعر مصطفى عوض الله بشارة:
في صباحي ومسائي
لك يا رب ولائي
في ابتهالات السجود
وترانيم الدعاء
وبشير عتـيق:
«الله رب العالمين.. يا باق.. يا حي يا معين».
وتغنى الكابلى من ألحانه بـ «المـولــد» للشاعر محمد المهدي المجذوب، ومحمد وردي بــ «مدينتك الهدي» لمحمد المكي، كما أبدع الراحلان العطبراوي وأبوداؤود في غناء «القلب الذاكر» للشاعر إدريس البنا، رئيس مجلس السيادة السوداني الأسبق:
«ربّ أرسلت لنا ديناً قوياً / ربّ أرسلت نبياً قرشياً / رب أوحيت السنن/ رب أنزلت السور»
ومع المد الجارف من الأغنيات الوطنية والدينية، خرجت أصوات شعرية وغنائية جديدة، قدمت فنها بنزعة صوفية آسرة شجية كالمطرب صلاح محمد عيسى، الذي أبدع فيما غناه لشعراء كثر منهم مهدي محمد سعيد (1933-2012م)، الذي كتب بالفصحى عدة قصائد غنائية، و«كان في الماضي» مثالاً:
شربنا من رحيق الصـد والهجر
وذبنا في سماء الحب والفكر
جمـيلٌ كامل الأخـــلاق والقـــدر
إذا ما لاح في إشراق كالبـدر
وطيب الزهر في أنفاسه يسري
سكــرنا منه مـرات، ولـم ندر
ثم نهض الفنان سيد خليفة وقدّم خلال سني حياته التي عاشها أيضاً أغنيات بالفصحى منتقياً من شعر إدريس محمد جماع «غيْرة»، و«ربيع الحب»، و«شاء الهوى»، و«صوت من وراء القضبان»، مثلما لحّن وغنى «ولى المساء»، و«أسراب الحسان» للشاعر حسن عوض أبوالعلا. وواصل في التجديد باختياره قصائد تستنهض المشاعر، وتخلب الألباب، فانبهر الناس بقدرته على تلحينها وأدائها، فتغنى أيضاً بأغنيات لعبدالمنعم عبدالحي، وللشاعر المجدد محمد يوسف موسى «صوت السماء»:
يا صوتها لما سرى عبر الأثير معطرا
مثل الحرير نعومةً... ونداوةً وتكسراً
مثل الصباح طلاقةً... رشاقةً وتخطـرا
وهماً حنـــيناً حالماً وصـــبابةً وتأثرا
أسرار الفصحى
لما جاء عقد الستينيات، جاء في جوفه كثير من الأحداث والتغيرات بالأوضاع التي تفجرت في السودان عقب استقلاله، وفي بعض البلدان العربية والإفريقية بانطلاق الحركات النضالية والتحررية، والقضيتين الفلسطينية والجزائرية، مما أدى إلى إثارة مشاعر المبدعين السودانيين، فنهضت أصوات شعرية جديدة جريئة، اتخذت من العربية الفصحى دعامات للوحدة والمنافحة والنضال والاعتراف بالآخر، فكتب شعراء السودان شعراً رفيع المستوى، واستلهموا من الواقع أغنيات مشرقة خالدة، وفي وعيهم الانقلاب الذي حدث في الشعر العربي التقليدي (العمودي) عقب الحرب العالمية الثانية بظهور شعر التفعيلة أو القصيدة الحرة، إذ عكفوا على البحث في أساليب وأخيلة ومفردات شعرية فصيحة تواكب المرحلة.
وفي المقابل التقط المطربون الرواد والجدد كثيراً من هذه الأشعار، وقاموا بتلحينها والتغني بها، متأثرين بالبيئات التي خرجوا من أرحامها، وجاسوا في ربوعها، وما فيها من أنغام وإيقاعات وترانيم للمتصوفة، وأماديح، وأغنيات الحصاد، وأصوات السواقي عند ضفاف النيل. وأضحت الأغنية بما حوت من صدق وتصوف واحترام للذات الإنسانية عميقة قوية مؤثرة وذات خصائص وسمات مميزة معروفة، وشخصية سودانية حقيقية، تجاوزت من خلالها - في رأيي - كثيراً من الفوارق المجتمعية، وظل لكل مطرب طابعه المعروف. بينما أضحت الأغنية الفصيحة جسر تواصل بين شعوب المنطقة ككل، على الصعيد الفني بالنحو الذي نحاه معظم المطربين السودانيين بتغنيهم للشعراء العرب على امتداد تاريخهم، (كما جاء في المقال السابق ذكره)، أو غناء المطربين العرب لشعراء كثر في مختلف الأماكن والأزمنة في عملية تبادلية كان أبرز نجومها «كوكب الشرق» أم كلثوم التي تغنت بعدد مقدر من قصائد الفصحى، مثل «أغداً ألقاك» للشاعر السوداني الهادي آدم (1927 - 2006م) وألحان عبقري الموسيقى العربية محمد عبدالوهاب:
وغدا تأتلق الجنة أنهاراً وظلاً
وغداً ننسى، فلا نأسى على ماض تولى
وغدا نسمو فلا نعرف للغيب محلا
وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً، إنما الحاضر أحلى
أغدا ألقاك.
وغناء المطربة فايزة أحمد «أخي في الشمال» من كلمات الشاعر السوداني مبارك المغربي وألحان رياض السنباطي:
جرى النيـلُ في أرضِنا كوثرا
فـأجرى المودةَ لمـا جرى
وغنـتْ مـع المــــوجِ شُـطآنهُ
تُـوثقُ بين القلـوبِ العُرى
تكشف مثل هذه اللقاءات الفريدة مدى عمق وأسرار العربية الفصحى، وأنها لغة استنباط واكتشاف، غير أنها متحركة جامعة وقادرة على الاختراق، وملامسة مشاعر الناس في كل حين وأينما حلوا، وهي واحدة من الدعائم التي ساقت المبدعين إلى الوجود خارج تخوم أراضيهم، وتمكينهم من التفاعل وجدانيا وثقافياً مع المجتمعات الأخرى.
علماً بأن الهادي آدم لم يُعرف في السودان كشاعر غنائي، ومثله كثير من الشعراء الذين نشروا قصائدهم في مختلف الإصدارات، ولم يدر في خلدهم أن تُغَنى، إلا أنهم فوجئوا بها من خلال حناجر المطربين عبر أجهزة البث أو الحفلات الجماهيرية، من بينهم نفر من الذين ليس لديهم سوى قصيدة واحدة مغناة، وتحقق لهم بها صيت كبير، مثل الشاعر حسن عباس صبحي (1928 - 1990)، الذي لحّن وغنى له الكابلي «ماذا يكون»، والشاعر الهادي العمرابي، حين غنى له المطرب صلاح بن البادية له واحدة من أجمل أغاني الفصحى «مـــي»:
أكثرت في هجري وكان الظن أن تترفقا
فوعدتني بالعطف، لكن قد نسيت الموثقا
قــيدت فكــرى بالبعاد وكان قربك مطلقا
أذكر على بعد الديار حديثـنا في الملتقى
أما أنا فكما عهدت.. لمخلـص ومهـذبُ
أرعى حقوق حبائــبي ولأجلهم أتعـــذبُ
وعلى صعيد آخر، استطاع عباقرة المبدعين الذين تغنوا بالعربية الفصحى أن يسجلوا حضوراً قوياً تجاه القضايا المحلية والعربية والإفريقية مثلما نحا الفنان الكابلي الذي ابتدر مشواره الفني بأغنية فصيحة هي «آسيا وإفريقيا» للشاعر تاج السر الحسن (من شعراء الأغنية الواحدة)، وغنى «قـم صلاح الدين» للشاعر أبوآمنة حامد، و«ناصـر»، و«طريق الجامعة» لعبدالمجيد حاج الأمين، و«كبد رطبة» للشاعر القبطي السوداني عزيز التوم منصور (1920/1992م) الذي غنى له أيضاً «فلســطين اسلمي»:
بدمي سأكتب فوق أرضك يا فلسطين اسلمي
وأموت يا يافا شهيد الوعد واسمك في فمي
ومضى الكابلي ينتقي من الفصحى قصائد جمعت بين الأصالة والحداثة، فتغنى بـ «عهد جيرون» لشيخ شعراء السودان محمد سعيد العباسي (1881 - 1963م)، وترنم بـ «أم بادر» الناصر قريب الله، و«شاعر الوجدان والأشجان» لجماع، و«جنة العشاق» لتوفيق صالح جبريل (1897 - 1966)، و«ضنين الوعد» لصديق مدثر، و«سلمى» لإبراهيم عوض بشير، كما غنى في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي من كلماته وألحانه «ليس في الأمر عجب»، و«لماذا». ومع تأثر الأدب والفنون عامة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحالة الرياش التي عبرت المجتمع السوداني خلال تلك الفترة، اتخذت الأغنية مكانتها كقيمة تربوية ووحدوية وإنسانية أخلاقية وثورية ظهرت في نصوص فصيحة كثيرة للشعراء السودانيين والعرب على السواء، كقصيدة «فتاة اليوم والغد»، التي صاغها شعراً ولحناً وغناءً الكابلي، ونشيد «التعاون» لمدثر:
لن يصيب المجد كفٌّ واحدٌ
نبلغ المجد إذا ضمت كفوف
سوف يحدونا إخاء خالـــــد
وتقوينا على الدرب الألـوف
وكان الفنان الموسيقار محمد وردي الذي سبق الكابلي في الظهور قد قدِم في خمسينيات القرن الماضي من أقصى الشمال بلسانه النوبي إلى العاصمة الخرطوم، وسرعان ما اندمج في الوسط الفني، وسبح هو الآخر في بحر الفصحى، وقدم في الستينيات أغنيات وطنية وسياسية رامزة بألحان سودانية خالصة منها «الاستقلال» للدكتور عبدالواحد عبدالله، و«أصبح الصبح»، و«عرس السودان»، و«لو لحظة من وسن» للفيتوري، مثلما قدم نشيد «الطلائع» بمقدمة ثورية «البوق» من ثلاثية الغضب للشاعر علي عبدالقيوم:
أي المشارق لم نغازل شمسها
ونميط عن زيف الغموض خمارها؟
أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها؟
أي الأناشيد السماويات
لم نشدد لألحان الجديد
بشاشةً أوتارها؟
ثم غنى مع اندلاع ثورة أكتوبر 1964 لشاعر (الأكتوبريات) الكردفاني المنبت الشاعر محمد المكي إبراهيم «أكتوبر الأخضر»، وأعقبها بــ «جيلي أنا» محدثاً بهما دوياً هائلاً على الصُعد كافة:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر؟
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسِّير؟
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة؟
جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة... جيلي أنا
ولم يكتف وردي بهذا الفيض الثوري، بل أطلق حنجرته الفذة لأغنيات عاطفية بالفصحى منها «الحبيــب العائــــد» لصـديق مـدثـر، و«مرحباً يا شوق» للشاعر الجيلي عبدالمنعم:
بالذي أودع في عينيك
إلهاماً وسحراً
والذي أبدع فيك الحسن
إشراقا وطهراً
لا تدعني للأسى
يدفعني مداً وجزراً
وفي هذه الحقبة أتى الفنان محمد الأمين من أرض الجزيرة، وغنى أيضاً بالفصحى أغنيات ثورية (أكتوبر 21)، و(الانطلاقة) للشاعر فضل الله محمد و«ليلة المتاريس» لمبارك حسن خليفة مع قصائد عاطفية منها «مسيحية» لمحمد علي جبارة، و«سوف يأتي» للشاعر تاج السر كنة:
سوف يأتي باسم الثغر يلوح بالأماني
ضي عينيه بريقٌ وغموضٌ ومعاني
يحمل الروح إليّ.. يزرع العطف ندياً
يسكب الآهات همساً في ثنايا أذنـــيِّ
الفصحى وتجسير الهوة
هكذا جرت الفصحى جريان الماء في حلوق المبدعين بمختلف أطيافهم وألوانهم وألسنتهم، كما جرت منسابة في نهر الغناء السوداني، مما ساعد ضمن وسائل أخرى على سهولة انتشارها في أصقاع السودان القصية، حيث كان الغناء مدرسة وثقافة متحركة بين الناس، وعنواناً راجحاً لمن أبدعوا، وكانت الأغنية عندما تدخل البيت السوداني لا تخرج منه، لأنها اعتمرت القلوب وملكتها.
ومما يسترعي التأمل أن تلك الفترة انمازت عن غيرها بإبراز هوية الأغنية السودانية بشكل لافت، في بلد تتنوع فيه القبائل والإثنيات والأعراق والثقافات، وعملت الأغنية بفصاحة مفرداتها، ومضامينها اللفظية والدلالية القوية، وموسيقاها الساحرة على تجسير الهوة بين المبدعين عموماً والمتلقي حيثما وجد، إذ خرجوا جميعاً من معاطف قبائلهم ومجتمعاتهم الضيقة إلى رحاب الوطن الكبير، ومضى كل مبدع يقدم عصارة جهده وإبداعه بوجدان سوداني محض، فيما أضحت أحاسيس المتلقي تتماهى في إبداعاتهم بصورة جلية.
وكان بحر الفصحى الجاذب أندى لألسنة كثير من مبدعي القبائل الراطنة، وذوي اللغات واللهجات القومية والمحلية بأن يتخذوا منها ينبوعاً عذباً للإبداع، والفنان وردي مثالاً، والمطرب رمضان حسن الذي ترجع أصوله إلى قبيلة الزاندي في جنوب ما قبل الانفصال، حينما تغنى بلسان عربي فصيح (الجمال والحب في بلادي) لسيد عبدالعزيز، وكذلك المطرب رمضان زائد المنتمي لقبيلة الشلك الجنوبية بتغنيه «ليتني زهر»، كلمات الشاعر مبارك المغربي الذي يعد من ركائز الشعر الغنائي الفصيح.
أنا ليتـــني أنـــــتِ في عالــم الحــس
أشتاق في صمــت وأحـب في همـس
وأعود إن عـدتِ إلى معــبدي القدس
وعلى نحو آخر فقد غنى كبار المطربين لشعراء القبائل الراطنة، الذين كتبوا بالفصحى قصائد موازية للقيم السائدة وقتذاك، مثل الشاعر محيي الدين فارس في أقصى الشمال (أرقو)، وعبدالمنعم عبدالحي الذي يتحدر من الدينكا بجنوب السودان، والشاعر النوبي مرسي صالح سراج، الذي غنى له وردي «يقظة شعب»، بجانب شاعر الشرق البجاوي اللسان أبوآمنة حامد (1937 - 2006) الذي صدح بكلماته الفصيحة الكابلي، والمطرب صالح الضي، ذي الأصل الكردفاني بـقصيدتي «ضاحك المقلتين"، و"اللقاء المستحيل»، وابن البادية بـــ«الحرير» و«سال من شعرها الذهب»:
سال من شعرها الذهب فـتدلى وما انسكــــــب
كلما عبثـت بــــــــه نسمة مـاج واضطـرب
لقد سيطر الغناء بالعربية الفصحى على المشهد الغنائي حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي، وأصبح محور تجمع الناس ومثار اهتمامهم، في حين بلغ التنافس أشده بين المبدعين (شعراء ومطربين) على تقديم الجديد الجيد، ليس تكسباً وإنما لخدمة الفن والمجتمع، والوصول بالموهبة إلى القمة، وكان نتاجه كمّاً هائلاً من الأغنيات المعبرة القادرة على إبراز مواهب جديدة جيدة، مثل المطرب أحمد الجابري الذي لحّن وغنى أيضاً بالفصحى، مثل «تولى العام» للمغربي، والمطرب صلاح مصطفى بتغنيه لعدة شعراء، منهم محجوب سراج، ومصطفى سند.. «شارع الصبر»:
يخلف وعده تيهاً ويبعد خطوه عني
ويتركني على جمرٍ أقطر للأسى دني
أسائل عنه لا أدري وأعبر شارع الصبر
غيوم الخوف تهلكني ونار الشك والظنِ
وغير هذا فهناك كثير من أغاني الفصحى التي مازال صداها يرن في الآذان، وهي قوية ومليئة بالروح والحياة، مثل «ســلوى» لمحمد علي طه غناء حسن خليفة العطبراوي، و«ذات الفراء» للطيب العباسي والمطرب الطيب عبدالله، «ولما تضحك» لعمر محمود خالد والمطرب محمد ميرغني، و«لا تسافر يا حبيبي» للتيجاني الحاج موسى وأداء ياسر إبراهيم، و«مريم الأخرى» لمحمد عبدالله شمو، غناء مصطفى سيد أحمد، و«خلاسية» لمحمد المكي غناء أبوعركي البخيت، و«كبرياء» لشاعر الرومانسية محمد سعد دياب، أداء عبدالمنعم حسيب:
يا قَلْبُ لا تَبكِ الذي باعَ الهوى
لَمْلِمْ جِراحَكَ.. لا تَقُلْ ما أَضيعَكْ
وإذا الحنينُ تأججتْ نيرانُه
وهَفَتْ بكَ الأشـواقُ فـاحبِسْ أدمُعَكْ
وَهماً ظننتَ بأنَّهُ قد ضيَّعَكْ
ما ضيَّعَك
هذا غيض من فيض، تجلت عظمة هذه الأغنيات في الدور المهم الذي ما زالت تؤديه في خدمة الفن وفي رقي ثقافة الناس وأذواقهم، كما خلقت مساحات للتقارب بين المجتمعات استخدمت فيه أصفى الميكانيزمات الحوارية، وأكثرها براحاً للتعدد والاختلاف، بل جعلت منهما خميرة أساسية لإثرائه.
إلا أن السمة التي بات المرء يلحظها أن الغناء في العقود الأخيرة ما عاد ذاك الغناء الراقي الذي يشد الأسماع ويحمل روح البقاء، ويؤدي دوراً ملموساً في الحياة العامة، بفقدانه البوصلة التي تحدد اتجاهاته ومساراته (لغة، ولحناً، وموسيقى) لغياب المغني المجدد الذي يستطيع أن يبحث في عيون الشعر، وأن يعكس توجهه وثقافته الغنائية إلا فيما ندر، مما يؤثر سلباً على الأجيال الحالية والمقبلة، ويقضي على موهبة الابتكار، ويجعل الملتقي وجوقة المغنواتية يحنون ويرددون تلك الأغاني القديمة■