مسار الفصحى في نهر الغناء السوداني

مسار الفصحى في نهر الغناء السوداني

لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬فترة‭ ‬ازدهر‭ ‬فيها‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬إلى‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬جلاها‭ ‬تجدداً‭ ‬وبريقاً‭ ‬تغنّي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬بالعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬لشعراء‭ ‬عرب‭ ‬وسودانيين‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مشاربهم‭ ‬وعصورهم،‭ ‬وكان‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬وسيلة‭ ‬تثقيفية‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬التقدم‭ ‬والرقي‭ ‬ونموذجاً‭ ‬للتواصل‭ ‬والتقارب‭ ‬والوحدة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬المتلقي‭ ‬يأنس‭ ‬له‭ ‬ويتعلق‭ ‬به‭ ‬لكونه‭ ‬رسالة‭ ‬وجدانية‭ ‬عميقة‭ ‬بلغة‭ ‬رفيعة‭ ‬راقية‭ ‬غير‭ ‬عصية‭ ‬على‭ ‬الفهم،‭ ‬وقريبة‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬والوجدان‭.‬

حينما‭ ‬كنا‭ ‬نجالسه‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬داره،‭ ‬أخذ‭ ‬الرجل‭ ‬السبعيني‭ ‬يتحدث‭ - ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مقال‭ ‬نشرته‭ ‬لي‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬شعراء‭ ‬عرب‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬سودانية‮»‬‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬686‭ (‬يناير‭ ‬2016‭) - ‬بحديث‭ ‬يفيض‭ ‬ثقافة‭ ‬ومعرفة‭ ‬عن‭ ‬أغاني‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬ودورها‭ ‬التعريفي‭ ‬والتعليمي‭ ‬للأفراد،‭ ‬وخدمتها‭ ‬للذوق‭ ‬والثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬والتراث‭ ‬السوداني‭ ‬ككل،‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬بلا‭ ‬مقدمات‭ ‬وأدار‭ ‬جهاز‭ ‬التسجيل‭ ‬العتيق،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انبعث‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬صوت‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الكابلي‭ ‬يردد‭ ‬صادحاً‭:‬

وهومـت‭ ‬حتى‭ ‬تـبدّى‭ ‬أمامي

ظلامٌ‭ ‬رهيب،‭ ‬كفيفُ‭ ‬البصـر

وقفـت‭ ‬علـيه‭ ‬أدقُّ‭ ‬الجـــــدارَ‭ ‬فما‭ ‬لانَ‭ ‬هوناً،‭ ‬ولم‭ ‬ينشطـر‭ ‬وعدتُ‭ ‬تذكــرتُ‭ ‬أن‭ ‬هــــواك‭ ‬حـــرامٌ‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬المنكسر وما‭ ‬كنت‭ ‬أنوي‭ ‬أقـول‭ ‬الكثير،‭ ‬ولكـن‭ ‬برغم‭ ‬تفـشي‭ ‬الخـبر‭ ‬تعاميت‭ ‬عما‭ ‬يفعل‭ ‬الرجل‭ ‬معبراً‭ ‬عن‭ ‬مشاعره،‭ ‬وحنينه‭ ‬لزمان‭ ‬ولى‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يعود،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يعيد‭ ‬تدوير‭ ‬الأغنية،‭ ‬وبعد‭ ‬نهايتها‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية،‭ ‬قال‭ ‬بذكاء‭ ‬لماح‭: (‬عندما‭ ‬استمعت‭ ‬لهذه‭ ‬الأغنية‭ ‬قبل‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬حسبتها‭ ‬لشاعر‭ ‬عربي‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬ولكن‭ ‬عرفت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬حبيبة‭ ‬عمري‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الحسين‭ ‬الحسن‭ (‬1934‭ ‬‭- ‬2003‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬مطولة‭ ‬اجتزأ‭ ‬منها‭ ‬الشاعر‭ ‬المطرب‭ ‬الكابلي‭ ‬عدة‭ ‬أبيات،‭ ‬ثم‭ ‬لحّنها‭ ‬وغناها،‭ ‬وكانت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬كبريات‭ ‬أغاني‭ ‬الفصحى‭ ‬التي‭ ‬عمّقت‭ ‬نهر‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني،‭ ‬وصيّرت‭ ‬شاعرها‭ ‬أكثر‭ ‬شهرة‭. ‬وللحسين‭ ‬ديوان‭ ‬بالفصحى‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬الأغنية،‭ ‬وهو‭ ‬غنيٌ‭ ‬بالقصائد‭ ‬الجيدة‭ ‬السهلة،‭ ‬اختار‭ ‬منه‭ ‬الكابلي‭ ‬قصيدتي‭ ‬‮«‬أكاد‭ ‬لا‭ ‬أصدق‮»‬،‭ ‬و«طائر‭ ‬الهوى‮»‬،‭ ‬وتغنى‭ ‬بهما‭).‬

وحديث‭ ‬الرجل‭ ‬أكده‭ ‬لي‭ ‬الكابلي‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬من‭ ‬مهجره‭ ‬بأمريكا،‭ ‬مضيفاً‭: ‬‮«‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬بروفات‭ ‬الأغنية‭ ‬بحضور‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬السودان‭ ‬وقتذاك‭ ‬محمد‭ ‬أحمد‭ ‬المحجوب،‭ ‬ووزير‭ ‬الإعلام‭ ‬عبدالماجد‭ ‬أبوحسبو‭ ‬عندما‭ ‬استمعا‭ ‬إلى‭ ‬عَجز‭ ‬البيت‭ ‬القائل‭ ‬‮«‬ظلامٌ‭ ‬رهيب،‭ ‬كثيف‭ ‬السُتر‮»‬‭ ‬اقترح‭ ‬عليَّ‭ ‬المحجوب‭ ‬استبدال‭ ‬المفردتين‭ ‬الأخيرتين‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬كفيف‭ ‬البصر‮»‬،‭ ‬وتم‭ ‬ذلك‭ ‬بقناعة‭ ‬مني‭ ‬وموافقة‭ ‬الشاعر‭.‬

والمحجوب‭ (‬1910‭ - ‬1976م‭) ‬أديب‭ ‬وشاعر‭ ‬مرموق‭ ‬له‭ ‬عدة‭ ‬دواوين‭ ‬بالفصحى‭ ‬انتقى‭ ‬المطرب‭ ‬حمد‭ ‬الريح‭ ‬من‭ ‬‮«‬مسبحتي‭ ‬ودني‮»‬،‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬غفـران‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬لحّنها‭ ‬وغناها‭.‬

إني‭ ‬غفرتُ‭ ‬فهل‭ ‬غفرتِ؟‭ ‬

ووفيتُ‭ ‬هـل‭ ‬مثلي‭ ‬وفيـتِ؟

وطويت‭ ‬جرحــي‭ ‬راضياً‭ ‬

أحـــنو‭ ‬عليـك‭ ‬وإن‭ ‬قليــتِ

وقبل‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تغنى‭ ‬الريح‭ ‬بأغنية‭ ‬فصيحة‭ ‬‮«‬مريا‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬صلاح‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭.‬

 

بين‭ ‬عصرين

هذا‭ ‬ملمح‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬الغنائي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬قبل‭ ‬عقود‭ ‬خلت،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬الرجل،‭ ‬وجعلني‭ ‬أتساءل‭: ‬لماذا‭ ‬اختار‭ ‬عصر‭ ‬العباسيين‭ ‬تحديداً؟‭ ‬هل‭ ‬لأن‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬ديار‭ ‬المحبوب‭ ‬من‭ ‬قوام‭ ‬تلك‭ ‬العصور‭ ‬السالفة؟‭ ‬كذاك‭ ‬العصر‭ ‬وما‭ ‬قبله‭ ‬عصر‭ ‬بني‭ ‬أمية‭ ‬اللذين‭ ‬عاش‭ ‬فيهما‭ ‬أشهر‭ ‬شعراء‭ ‬العشق‭ ‬والهيام،‭ ‬مثل‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح‭ - ‬مجنون‭ ‬ليلى‭ - (‬645‭ ‬–‭ ‬688م‭) ‬القائل‭:‬

أمرّ‭ ‬على‭ ‬الديــار‭ ‬ديار‭ ‬ليـلى

أقبّل‭ ‬ذا‭ ‬الـجدار‭ ‬وذا‭ ‬الجـدارا

وما‭ ‬حب‭ ‬الديار‭ ‬شـغفن‭ ‬قلبي‭ ‬

ولكن‭ ‬حب‭ ‬من‭ ‬سـكن‭ ‬الديارا

أم‭ ‬لأن‭ ‬عصر‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬اتسم‭ ‬بنضوج‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬وتوهجه‭ ‬وازدهاره؟‭ ‬أم‭ ‬للسببين‭ ‬معا؟‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الإرث‭ ‬الأدبي‭ ‬والغنائي‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬لنا‭ ‬الأسلاف‭ ‬يوحي‭ ‬كما‭ ‬أرى‭ - ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬المختصين‭ - ‬بأن‭ ‬عصر‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الذي‭ ‬امتد‭ ‬بين‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬وثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أخذ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشابه‭ ‬نظيره‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬العباسيين‭ (‬750‭ ‬‭- ‬1258م‭) ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬تقدماً‭ ‬وازدهاراً‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬مجالات‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬عامة،‭ ‬مما‭ ‬ينبئ‭ ‬عن‭ ‬استقرار‭ ‬وتقدّم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬

كان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬هو‭ ‬تطور‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والفصاحة‭ ‬وأساليب‭ ‬الأدب،‭ ‬وتقدم‭ ‬وإتقان‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ (‬768‭ - ‬809‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬وصفه‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والنقاد‭ ‬بأنه‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للغناء‭ ‬العربي،‭ ‬ومرد‭ ‬هذا‭ ‬لاهتمام‭ ‬ملوك‭ ‬وأمراء‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬بهذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الإبداع،‭ ‬وظهور‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أزمانهم،‭ ‬من‭ ‬المغنيين‭ ‬إبراهيم‭ ‬وابنه‭ ‬إسحق‭ ‬الموصلي،‭ ‬ومنصور‭ ‬زلزل،‭ ‬ويحيى‭ ‬المكي،‭ ‬وزرياب،‭ ‬ومخارق‭ ‬وغيرهم،‭ ‬ومن‭ ‬المغنيات‭ ‬بُذل،‭ ‬ودنانير،‭ ‬وشارية،‭ ‬وعلية‭ ‬بنت‭ ‬المهدي،‭ ‬وعريب‭ ‬المأمونية‭ ‬وغيرهن،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تطور‭ ‬آلات‭ ‬وأساليب‭ ‬الغناء،‭ ‬والمقامات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬فيما‭ ‬صار‭ ‬للمطربين‭ ‬مراتب‭ ‬وطبقات‭.  ‬أما‭ ‬من‭ ‬طائفة‭ ‬الشعراء‭ ‬فقد‭ ‬بزغ‭ ‬نجم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الأصمعي،‭ ‬والمتنبي،‭ ‬وأبوتمام،‭ ‬والبحتري،‭ ‬وأبونواس‭ ‬وآخرين‭ ‬كثر،‭ ‬وجلهم‭ ‬ارتبطوا‭ ‬مع‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬المقامة‭ ‬للندوات‭ ‬والمناظرات‭ ‬الأدبية،‭ ‬والمساجلات‭ ‬الشعرية‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حمل‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬على‭ ‬الاعتداد‭ ‬بذاك‭ ‬العصر،‭ ‬وأن‭ ‬يستلهموا‭ ‬من‭ ‬بُناته‭ ‬ما‭ ‬ضمنوه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قصائدهم،‭ ‬التي‭ ‬غناها‭ ‬عدة‭ ‬مطربين،‭ ‬أمثال‭ ‬المطرب‭ ‬عثمان‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬لحّن‭ ‬وغنى‭ ‬قصيدة‭ ‬مُزِج‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الفصحى‭ ‬والعامية‭ ‬‮«‬أحلى‭ ‬البنات‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬عثمان‭ ‬خالد‭ (‬1939‭ - ‬1993‭). ‬

ويطل‭ ‬جميل‭ ‬وكُثير‭ ‬يقول‭ ‬

وبيوت‭ ‬شعر‭ ‬مرهف‭ ‬طلي

وتمري‭ ‬بي‭ ‬عهد‭ ‬الرشيد‭ ‬

ويغني‭ ‬لــــيك‭ ‬الموصلي

‭ ‬والمطرب‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬داؤود‭ ‬في‭ ‬‮«‬ﻏﺼﻦ‭ ‬ﺍﻟﺮﻳﺎض‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬علي‭ ‬المساح‭.‬

بس‭ ‬ما‭ ‬ذنبي‭ ‬غير‭ ‬صوت‭ ‬النشيد‭ ‬ونشائد

في‭ ‬مدحك‭ ‬بنيت‭ ‬قصر‭ ‬الرشيد‭ ‬الشائد

كما‭ ‬صدح‭ ‬سيد‭ ‬خليفة‭ ‬يغني‭ ‬بالفصحى‭ ‬‮«‬أنشودة‭ ‬الجن‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬التيجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ (‬1912‭ ‬‭- ‬1937‭):‬

وأمســح‭ ‬على‭ ‬زرياب‭ ‬وأطمـس‭ ‬على‭ ‬معـبد

وأمشي‭ ‬على‭ ‬الأحقاب‭ ‬وطوف‭ ‬على‭ ‬المـربد

وما‭ ‬تغنى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬‮«‬ليل‭ ‬وخمر‭ ‬وشفاه‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬حسين‭ ‬عثمان‭ ‬منصور‭ (‬1926‭ ‬‭- ‬1997‭):‬

يا‭ ‬سقاة‭ ‬الكأس‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬الرشيد

ما‭ ‬لكأسي‭ ‬ظامئاً‭ ‬أبداً‭ ‬وحيد‭ ‬

ونديمي‭!!‬

قد‭ ‬سرى‭ ‬نجما‭ ‬مع‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد

ورغم‭ ‬اختلاف‭ ‬الزمكان‭ (‬الزمان‭ ‬والمكان‭) ‬والشخوص‭ ‬بين‭ ‬العصرين،‭ ‬فالتاريخ‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬أنفاسه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬عمّرت‭ ‬السودان،‭ ‬وربما‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بأثره،‭ ‬حملت‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬دينامية‭ ‬وتطور‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬عامة،‭ ‬حيث‭ ‬التوهج‭ ‬والبريق‭ ‬الذي‭ ‬صادف‭ ‬الفنون‭ ‬مجتمعة،‭ ‬والازدهار‭ ‬الذي‭ ‬ميز‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬بنحو‭ ‬خاص‭ ‬حتى‭ ‬ارتأى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المهتمين‭ ‬والنقاد‭ ‬أنه‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للغناء‭ ‬السوداني‭ ‬المعاصر‭ ‬الموسوم‭ ‬بالتطور‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬لكثيرين،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬مشفوعاً‭ ‬بالتغير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الغناء‭ ‬إثر‭ ‬قيام‭ ‬الإذاعة‭ ‬السودانية‭ ‬عام‭ ‬1940‭ ‬وظهور‭ ‬أصوات‭ ‬غنائية‭ ‬جديدة،‭ ‬أمثال‭ ‬حسن‭ ‬عطية،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬الكاشف،‭ ‬وعثمان‭ ‬الشفيع،‭ ‬وأحمد‭ ‬المصطفى،‭ ‬وعبدالحميد‭ ‬يوسف،‭ ‬وعثمان‭ ‬حسين،‭ ‬وحسن‭ ‬سليمان،‭ ‬وعبدالعزيز‭ ‬محمد‭ ‬داؤود،‭ ‬وعبدالدافع‭ ‬عثمان‭ ‬وغيرهم‭.‬

فقد‭ ‬استطاعوا‭ ‬أن‭ ‬يغيروا‭ ‬نمط‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائداً‭ ‬وقتذاك‭ (‬الغناء‭ ‬الشعبي‭ ‬أو‭ ‬الحقيبة،‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬المطرب‭ ‬بآلة‭ ‬الرق‭ ‬ومن‭ ‬خلفه‭ ‬جوقة‭ ‬الكورس‭ ‬الذين‭ ‬يرددون‭ ‬مطلع‭ ‬الأغنية‭)‬،‭ ‬وعصرنته‭ ‬بالدقة‭ ‬في‭ ‬انتقاء‭ ‬قصائد‭ ‬العامية‭ ‬الفصيحة،‭ ‬والعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬المعبرة‭ ‬لزمرة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬والعرب،‭ ‬وبراعتهم‭ ‬في‭ ‬تلحينها‭ ‬على‭ ‬السلّم‭ ‬الخماسي،‭ ‬وأدائها‭ ‬باستخدام‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬الحديثة‭ ‬مع‭ ‬سيطرة‭ ‬آلتي‭ ‬العود‭ ‬والقانون،‭ ‬بجانب‭ ‬ظهور‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الملحنين‭ ‬والموسيقيين‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬الموسيقار‭ ‬إسماعيل‭ ‬عبدالمعين‭ ‬الذي‭ ‬عني‭ ‬بتطور‭ ‬الموسيقى‭ ‬السودانية‭ ‬وعمل‭ ‬على‭ ‬تأهيل‭ ‬وتدريب‭ ‬الموهوبين‭ ‬على‭ ‬الآلات‭ ‬والنوتة‭ ‬والأساليب‭ ‬الموسيقية‭ ‬الجديدة‭. ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ظهور‭ ‬المغنيات‭ ‬أمثال‭ ‬عائشة‭ ‬الفلاتية،‭ ‬فاطمة‭ ‬الحاج،‭ ‬ومنى‭ ‬الخير،‭ ‬وأم‭ ‬بلينة‭ ‬السنوسي،‭ ‬وثنائي‭ ‬النغم،‭ ‬والبلابل‭ ‬وغيرهن،‭ ‬والملحنة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة‭ ‬كأول‭ ‬سودانية‭ ‬تجيد‭ ‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود،‭ ‬وكلهن‭ ‬نجحن‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬بالأغنية‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬أغنية‭ ‬البنات‭ (‬غناء‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬شاعر‭/‬ة،‭ ‬وإنما‭ ‬تبتدعه‭ ‬البنات‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬الأفراح‭ ‬باستخدام‭ ‬طبل‭ ‬الدلوكة‭) ‬إلى‭ ‬مدارات‭ ‬الغناء‭ ‬الجاد‭ ‬الهادف‭ ‬المشحون‭ ‬بالعاطفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والوطنية‭.  ‬كما‭ ‬شهدت‭ ‬الفترة‭ ‬قيام‭ ‬المنتديات‭ ‬والصالونات‭ ‬والندوات‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية،‭ ‬وسِجالات‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء،‭ ‬والجلسات‭ ‬الخاصة‭ ‬والورش‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬يلتئم‭ ‬فيها‭ ‬شمل‭ ‬المبدعين‭ ‬لعرض‭ ‬أعمالهم‭ ‬الجديدة،‭ ‬للتدقيق‭ ‬في‭ ‬حواشيها،‭ ‬والتجويد‭ ‬في‭ ‬أدائها‭ ‬حتى‭ ‬تخرج‭ ‬للناس‭ ‬مشذبة‭ ‬ومعافاة‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬حُسن‭ ‬حظ‭ ‬الآداب‭ ‬والثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬أنها‭ ‬التصقت‭ ‬بحياة‭ ‬الناس‭ ‬كافة،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بها،‭ ‬لكونها‭ ‬رسالة‭ ‬إنسانية‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬رقي‭ ‬الدولة‭ ‬ومجتمعاتها،‭ ‬وغدا‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬بنصوصه‭ ‬الفصيحة‭ ‬هو‭ ‬الأعلى‭ ‬كعباً،‭ ‬تجلى‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬اللجان‭ ‬التي‭ ‬شُكِلت‭ ‬لتكون‭ ‬حارسة‭ ‬للنصوص‭ ‬والألحان‭ ‬والموسيقى،‭ ‬وقيام‭ ‬معهد‭ ‬الموسيقى‭ ‬والمسرح‭ ‬عام‭ ‬1969م،‭ (‬تحول‭ ‬في‭ ‬التسعينيات‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الموسيقى‭ ‬والدراما‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬المبدعون‭ ‬تحفيزاً‭ ‬مقدراً‭ ‬بمنحهم‭ ‬مراتب‭ ‬ودرجات‭ ‬للترقي،‭ ‬وبإقامة‭ ‬المهرجانات‭ ‬والفعاليات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية‭ ‬في‭ ‬الأندية‭ ‬والحدائق،‭ ‬واحتفاء‭ ‬العامة‭ ‬بها،‭ ‬مما‭ ‬يشي‭ ‬بتقدم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬جميعاً،‭ ‬ومدى‭ ‬تذوقهم‭ ‬الفني‭ ‬والجمالي‭.‬

 

تجليات‭ ‬الشعراء‭ ‬والمطربين

كان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬تجليات‭ ‬الشعراء‭ ‬والمطربين‭ ‬وأهل‭ ‬الغناء‭ ‬عموماً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬خروجهم‭ ‬بالأغنية‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الحسية‭ ‬والوصف‭ ‬والغزل،‭ ‬وسعيهم‭ ‬إلى‭ ‬مرامٍ‭ ‬أخرى‭ ‬تتصل‭ ‬بالواقع‭ ‬والوطن‭ ‬وتمجيد‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬بالحنين،‭ ‬وكتب‭ ‬الشعراء‭ ‬السودانيون‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أشعارهم‭ ‬بالعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬بطلاقة‭ ‬وتلقائية‭ ‬مدهشة،‭ ‬واستطاع‭ ‬كل‭ ‬مطرب‭ ‬بما‭ ‬وجده‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬جماليات‭ ‬أن‭ ‬يتخير‭ ‬ما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬مقدراته‭ ‬الصوتية‭ ‬لإطلاق‭ ‬طاقاته‭ ‬الإبداعية‭ ‬الخلاقة،‭ ‬وإبراز‭ ‬خيالاته‭ ‬وأفكاره‭ ‬اللحنية‭ ‬والأدائية‭ ‬بنحو‭ ‬يثير‭ ‬المتعة‭ ‬الروحية‭ ‬والجمالية‭ ‬في‭ ‬النفوس‭. ‬

وظلت‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬تلازمهم،‭ ‬وما‭ ‬فتئت‭ ‬تميزهم‭ ‬كجيل‭ ‬رائد‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬بنى‭ ‬مداميك‭ ‬الغناء‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬مما‭ ‬أجبر‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬التقاطها،‭ ‬واحترامها‭ ‬والاعتراف‭ ‬بها‭ ‬كأغنيات‭ ‬باذخات،‭ ‬لفتت‭ ‬الأنظار‭ ‬إليهم،‭ ‬ومازالت‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬عاصرتها،‭ ‬أو‭ ‬اللاحقة‭ ‬تعود‭ ‬إليها‭ ‬وإلى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بنوستاليجيا‭ ‬جارفة‭. ‬

وكان‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الرواد‭ ‬الذين‭ ‬غنوا‭ ‬بالفصحى‭ ‬الفنان‭ ‬عثمان‭ ‬حسين‭ ‬‮«‬أبوعفان‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬غنى‭ ‬بألحانه‭ ‬الشجية‭ ‬المفعمة‭ ‬بالرومانسية‭ ‬‮«‬اللقاء‭ ‬الأول‮»‬،‭ ‬و«خمرة‭ ‬العشاق‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المتصوف‭ ‬قرشي‭ ‬محمد‭ ‬حسن‭. ‬

فاذكري‭ ‬صباً‭ ‬صريعاً‭ ‬مستهـامـاً‭ ‬

لـــم‭ ‬تعــد‭ ‬كاســـــاته‭ ‬إلا‭ ‬حطامـــاً

يا‭ ‬سقاة‭ ‬الراح‭ ‬عن‭ ‬خمري‭ ‬سلاما‭ ‬

اصرفوا‭ ‬الكاسات‭ ‬عني‭ ‬والمــــداما

نشوتي‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬خمر‭ ‬قد‭ ‬تسامى‭ ‬

عجزت‭ ‬عن‭ ‬عصرها‭ ‬أيدي‭ ‬الندامى

كما‭ ‬تغنى‭ ‬بـقصائد‭ ‬‮«‬محراب‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬التيجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير،‭ ‬و«نشيد‭ ‬الملايين‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬الفيتوري،‭ ‬وأغنيات‭ ‬‮«‬ندامى‭ ‬الراح‮»‬‭ ‬لعبدالمنعم‭ ‬عبدالحي،‭ ‬و«أنا‭ ‬والنجم‭ ‬والمساء‮»‬،‭ ‬و«لا‭ ‬تسلني‮»‬‭ ‬وغيرهما‭ ‬للشاعر‭ ‬حسين‭ ‬بازرعة‭. ‬ثم‭ ‬غنى‭ ‬الفنان‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكاشف‭ ‬بالفصحى‭ ‬بضع‭ ‬أغنيات‭ ‬منها‭ ‬‮«‬روضتي‭ ‬الغناء‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬حميدة‭ ‬أحمد‭ ‬عثمان‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬حميدة‭ ‬أبوعشر‮»‬‭:‬

أظل‭ ‬أردد‭ ‬الشكوى‭ ‬

لما‭ ‬لاقيت‭ ‬من‭ ‬وجد

حبيب‭ ‬الروح‭ ‬لا‭ ‬أقوى

على‭ ‬حمل‭ ‬الهوى‭ ‬وحدي

ولما‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬سلوى

كسرت‭ ‬إبريقي‭ ‬والــدنَّ

سكبت‭ ‬على‭ ‬الثرى‭ ‬كأسي

وداعاً‭ ‬روضتي‭ ‬الغــنّاء

وداعاً‭ ‬معبدي‭ ‬القدسِ‭ ‬

وكان‭ ‬عميد‭ ‬الفن‭ ‬الفنان‭ ‬أحمد‭ ‬المصطفى‭ ‬دقيقاً‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى،‭ ‬وبرع‭ ‬في‭ ‬إجادتها‭ ‬كأغنيات‭ ‬‮«‬فتنتي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬عبدالحي،‭ ‬و«السوسن‭ ‬البراق‮»‬‭ ‬للطبيب‭ ‬حسبو‭ ‬سليمان،‭ ‬و«فؤادي‮»‬‭ ‬لإسماعيل‭ ‬عبدالرحيم،‭ ‬و«في‭ ‬سكون‭ ‬الليل‮»‬‭ ‬لمهدي‭ ‬الأمين‭.‬

ها‭ ‬هي‭ ‬الأضواء‭ ‬أغفت‭ ‬

والدجى‭ ‬أصغى‭ ‬إلينا

والمنى‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬رفت‭ ‬

واستقرت‭ ‬في‭ ‬يديـنا

والذي‭ ‬عينــاك‭ ‬أخفــت‭ ‬

قـد‭ ‬بدأ‭ ‬لمـا‭ ‬التقـــينا‭ ‬

أما‭ ‬الفنان‭ ‬التاج‭ ‬مصطفى‭ ‬حينما‭ ‬وجد‭ ‬بغيته‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬فقد‭ ‬أطلق‭ ‬حنجرته‭ ‬ببراعة،‭ ‬متغنياً‭ ‬بعدد‭ ‬وافر‭ ‬منها،‭ ‬فتغنى‭ ‬بحنينٍ‭ ‬طاغٍ‭ ‬موشح‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬الذكرى‮»‬‭ ‬لبارزعة‭:‬

تعالي‭ ‬واسمعي‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬نجوانا

تعالي‭ ‬فالربى‭ ‬غنت‭ ‬للقيانا

ورفّ‭ ‬الطير‭ ‬في‭ ‬الأغصان‭ ‬نشوانا

وعودي‭ ‬قد‭ ‬كفى‭ ‬هجراً

ونحن‭ ‬نذكر‭ ‬رواد‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ (‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عمن‭ ‬سبق‭) ‬من‭ ‬الذين‭ ‬أحدثوا‭ ‬نقلة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني،‭ ‬وغيّروا‭ ‬مسار‭ ‬مجرى‭ ‬نهره‭ ‬نحو‭ ‬الجدة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نتأمل‭ ‬تجربة‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬داؤود‭ ‬واحتفاءه‭ ‬بقصائد‭ ‬الفصحى،‭ ‬وما‭ ‬حققه‭ ‬من‭ ‬انعطافات‭ ‬وتجليات‭ ‬جديرة‭ ‬بالتمعن‭ ‬لتغنيه‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬والأناشيد‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬السياسية،‭ ‬وأداءه‭ ‬لها‭ ‬بكل‭ ‬مشاعره‭ ‬وخلجات‭ ‬روحه‭ ‬بألحان‭ ‬رفيق‭ ‬دربه‭ ‬الموسيقار‭ ‬برعي‭ ‬محمد‭ ‬دفع‭ ‬الله،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬مصرع‭ ‬زهرة‮»‬‭ ‬و«أجراس‭ ‬المعبد‮»‬‭ ‬لحسين‭ ‬منصور‭... ‬وكذلك‭ ‬‮«‬صبـــابة‮»‬‭ ‬لبازرعة،‭ ‬‮«‬عذارى‭ ‬الحي‮»‬‭ ‬لإسماعيل‭ ‬حسن،‭ ‬و«فينوس‮»‬،‭ ‬و«المنديل‮»‬،‭ ‬للشاعر‭ ‬حسن‭ ‬عوض‭ ‬أحمد،‭ ‬و«أحلام‭ ‬العذارى‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬ع‭. ‬عبدالحي‭:‬

يا‭ ‬نديمي‭ ‬طافت‭ ‬الأحلام‭ ‬بالفكر‭ ‬حيارى

وسرت‭ ‬تسبقها‭ ‬الأنغام‭ ‬في‭ ‬طهر‭ ‬العذارى

ونديمي‭ ‬أول‭ ‬الأطياف‭ ‬في‭ ‬الفجر‭ ‬توارى

 

الغناء‭ ‬الوطني‭ ‬والديني

تحققت‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬طفرة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬والشعر‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عززت‭ ‬مكانة‭ ‬الأغنية،‭ ‬وقدّم‭ ‬المطربون‭ ‬على‭ ‬مراحل‭ ‬مختلفة‭ ‬أغنيات‭ ‬كثيرة‭ ‬بالفصحى‭ ‬متأثرين‭ ‬بالواقع،‭ ‬رغم‭ ‬تأثر‭ ‬غالبيتهم‭ ‬بالألحان‭ ‬والموسيقى‭ ‬المصرية‭ ‬وعملاقها‭ ‬الموسيقار‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭. ‬ومع‭ ‬تعالي‭ ‬الحس‭ ‬الوطني،‭ ‬ومناداة‭ ‬الأنفس‭ ‬النازعة‭ ‬للحرية‭ ‬والاستقلال،‭ ‬طغى‭ ‬صوت‭ ‬الملحن‭ ‬والمغني‭ ‬الموسيقار‭ ‬إسماعيل‭ ‬عبدالمعين،‭ ‬الذي‭ ‬عُرِف‭ ‬بفنان‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أغنياته‭ ‬الفصيحة‭ ‬التي‭ ‬أداها‭ ‬مع‭ ‬فرقة‭ ‬البساتين،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬العُلا‮»‬‭ ‬للأديب‭ ‬خضر‭ ‬حمد،‭ ‬‮«‬صرخة‭ ‬روت‭ ‬دمي‮»‬‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬صابر،‭ ‬و«صه‭ ‬يا‭ ‬كنار‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬محمود‭ ‬أبوبكر‭.‬

أنا لا أخاف من المنون وريبها

مادام عزمــي‮ ‬يا كنار مهــندي

سأذود عن وطني‮ ‬وأهـلك دونه‮ ‬

في‮ ‬الهالكين فيا ملائكة اشهدي

ثم‭ ‬جاء‭ ‬صوت‭ ‬الفنان‭ ‬حسن‭ ‬خليفة‭ ‬الشهير‭ ‬بــ«العطبراوي‮»‬‭ ‬يجلجل‭ ‬بألحانه‭ ‬الثائرة،‭ ‬مغنياً‭ ‬بالفصحى‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬سوداني‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ ‬عبدالرحيم،‭ ‬و«لن‭ ‬أحيد‮»‬‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬فارس‭ (‬1936‭ ‬‭- ‬2008م‭):‬

‮«‬أنا‭ ‬لست‭ ‬رعديداً‭ ‬يكبل‭ ‬خطوُه‭ ‬ثقل‭ ‬الحديد‭ /‬عن‭ ‬الكفاح‭... ‬لن‭ ‬أحيد‮»‬

ثم‭ ‬استلهم‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬كفاح‭ ‬المرأة‭ ‬وحضورها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الوطنية‭ ‬ومجالات‭ ‬العمل‭ ‬قصائد‭ ‬رسالية‭ ‬قوية‭ ‬التأثير‭ ‬كالتي‭ ‬بعث‭ ‬بها‭ ‬الشاعر‭ ‬صديق‭ ‬مدثر‭ (‬1929‭ - ‬2012‭) ‬‮«‬يا‭ ‬فتاة‭ ‬الوطن‮»‬‭ ‬وغناها‭ ‬أحمد‭ ‬المصطفى‭:‬

يا‭ ‬فتاة‭ ‬الوطن‭ ‬يا‭ ‬خــير‭ ‬البـــلاد

أنيري‭ ‬الوطن‭ ‬بنور‭ ‬الرشاد

انشري‭ ‬الوعي‭ ‬وسيري‭ ‬للأمام

إنما‭ ‬الوعي‭ ‬بشــير‭ ‬للسـلام

وبرزت‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬الدينية‭ ‬العميقة،‭ ‬وسعى‭ ‬المطربون‭ ‬للتغني‭ ‬بها،‭ ‬والتف‭ ‬الناس‭ ‬حولها‭ ‬وحول‭ ‬مبدعيها،‭ ‬مثل‭ ‬حسن‭ ‬سليمان‭ (‬الهاوي‭) ‬الذي‭ ‬تغنى‭ ‬بعدد‭ ‬منها‭ ‬لشعراء‭ ‬العرب‭ ‬والسودانيين‭ ‬كــ‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الغفران‮»‬‭ ‬لقرشي‭ ‬محمد‭ ‬حسن‭.‬

إلهي‭ ‬لقد‭ ‬وجهت‭ ‬وجهي‭ ‬إليكمو‭ ‬

بعـــزم‭ ‬أكيد،‭ ‬لا‭ ‬يبـدد‭ ‬باليأس

وجاء‭ ‬بعده‭ ‬الموسيقار‭ ‬عبدالماجد‭ ‬خليفة‭ ‬ومجموعته‭ ‬الغنائية،‭ ‬وتغنوا‭ ‬بقصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬المشحونة‭ ‬بالعاطفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والدينية‭ ‬للشاعر‭ ‬مصطفى‭ ‬عوض‭ ‬الله‭ ‬بشارة‭:‬

في‭ ‬صباحي‭ ‬ومسائي

لك‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬ولائي

في‭ ‬ابتهالات‭ ‬السجود

وترانيم‭ ‬الدعاء

‭ ‬وبشير‭ ‬عتـيق‭:‬

‮«‬الله‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭.. ‬يا‭ ‬باق‭.. ‬يا‭ ‬حي‭ ‬يا‭ ‬معين‮»‬‭.‬

وتغنى‭ ‬الكابلى‭ ‬من‭ ‬ألحانه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المـولــد‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬المجذوب،‭ ‬ومحمد‭ ‬وردي‭ ‬بــ‭ ‬‮«‬مدينتك‭ ‬الهدي‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬المكي،‭ ‬كما‭ ‬أبدع‭ ‬الراحلان‭ ‬العطبراوي‭ ‬وأبوداؤود‭ ‬في‭ ‬غناء‭ ‬‮«‬القلب‭ ‬الذاكر‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬إدريس‭ ‬البنا،‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬السيادة‭ ‬السوداني‭ ‬الأسبق‭: ‬

‮«‬ربّ‭ ‬أرسلت‭ ‬لنا‭ ‬ديناً‭ ‬قوياً‭ / ‬ربّ‭ ‬أرسلت‭ ‬نبياً‭ ‬قرشياً‭ / ‬رب‭ ‬أوحيت‭ ‬السنن‭/ ‬رب‭ ‬أنزلت‭ ‬السور‮»‬

ومع‭ ‬المد‭ ‬الجارف‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬الوطنية‭ ‬والدينية،‭ ‬خرجت‭ ‬أصوات‭ ‬شعرية‭ ‬وغنائية‭ ‬جديدة،‭ ‬قدمت‭ ‬فنها‭ ‬بنزعة‭ ‬صوفية‭ ‬آسرة‭ ‬شجية‭ ‬كالمطرب‭ ‬صلاح‭ ‬محمد‭ ‬عيسى،‭ ‬الذي‭ ‬أبدع‭ ‬فيما‭ ‬غناه‭ ‬لشعراء‭ ‬كثر‭ ‬منهم‭ ‬مهدي‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ (‬1933‭-‬2012م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬بالفصحى‭ ‬عدة‭ ‬قصائد‭ ‬غنائية،‭ ‬و«كان‭ ‬في‭ ‬الماضي‮»‬‭ ‬مثالاً‭:‬

شربنا‭ ‬من‭ ‬رحيق‭ ‬الصـد‭ ‬والهجر‭ ‬

وذبنا‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الحب‭ ‬والفكر

جمـيلٌ‭ ‬كامل‭ ‬الأخـــلاق‭ ‬والقـــدر‭ ‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬لاح‭ ‬في‭ ‬إشراق‭ ‬كالبـدر

وطيب‭ ‬الزهر‭ ‬في‭ ‬أنفاسه‭ ‬يسري

سكــرنا‭ ‬منه‭ ‬مـرات،‭ ‬ولـم‭ ‬ندر

ثم‭ ‬نهض‭ ‬الفنان‭ ‬سيد‭ ‬خليفة‭ ‬وقدّم‭ ‬خلال‭ ‬سني‭ ‬حياته‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أيضاً‭ ‬أغنيات‭ ‬بالفصحى‭ ‬منتقياً‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬إدريس‭ ‬محمد‭ ‬جماع‭ ‬‮«‬غيْرة‮»‬،‭ ‬و«ربيع‭ ‬الحب‮»‬،‭ ‬و«شاء‭ ‬الهوى‮»‬،‭ ‬و«صوت‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬القضبان‮»‬،‭ ‬مثلما‭ ‬لحّن‭ ‬وغنى‭ ‬‮«‬ولى‭ ‬المساء‮»‬،‭ ‬و«أسراب‭ ‬الحسان‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬حسن‭ ‬عوض‭ ‬أبوالعلا‭. ‬وواصل‭ ‬في‭ ‬التجديد‭ ‬باختياره‭ ‬قصائد‭ ‬تستنهض‭ ‬المشاعر،‭ ‬وتخلب‭ ‬الألباب،‭ ‬فانبهر‭ ‬الناس‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬تلحينها‭ ‬وأدائها،‭ ‬فتغنى‭ ‬أيضاً‭ ‬بأغنيات‭ ‬لعبدالمنعم‭ ‬عبدالحي،‭ ‬وللشاعر‭ ‬المجدد‭ ‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬موسى‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬السماء‮»‬‭: ‬

يا‭ ‬صوتها‭ ‬لما‭ ‬سرى‭ ‬عبر‭ ‬الأثير‭ ‬معطرا

مثل‭ ‬الحرير‭ ‬نعومةً‭... ‬ونداوةً‭ ‬وتكسراً

مثل‭ ‬الصباح‭ ‬طلاقةً‭... ‬رشاقةً‭ ‬وتخطـرا‭ ‬

وهماً‭ ‬حنـــيناً‭ ‬حالماً‭ ‬وصـــبابةً‭ ‬وتأثرا

 

‭ ‬أسرار‭ ‬الفصحى

لما‭ ‬جاء‭ ‬عقد‭ ‬الستينيات،‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬جوفه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬والتغيرات‭ ‬بالأوضاع‭ ‬التي‭ ‬تفجرت‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عقب‭ ‬استقلاله،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬بانطلاق‭ ‬الحركات‭ ‬النضالية‭ ‬والتحررية،‭ ‬والقضيتين‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والجزائرية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬مشاعر‭ ‬المبدعين‭ ‬السودانيين،‭ ‬فنهضت‭ ‬أصوات‭ ‬شعرية‭ ‬جديدة‭ ‬جريئة،‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬دعامات‭ ‬للوحدة‭ ‬والمنافحة‭ ‬والنضال‭ ‬والاعتراف‭ ‬بالآخر،‭ ‬فكتب‭ ‬شعراء‭ ‬السودان‭ ‬شعراً‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى،‭ ‬واستلهموا‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬أغنيات‭ ‬مشرقة‭ ‬خالدة،‭ ‬وفي‭ ‬وعيهم‭ ‬الانقلاب‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي‭ (‬العمودي‭) ‬عقب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬بظهور‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة‭ ‬أو‭ ‬القصيدة‭ ‬الحرة،‭ ‬إذ‭ ‬عكفوا‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬وأخيلة‭ ‬ومفردات‭ ‬شعرية‭ ‬فصيحة‭ ‬تواكب‭ ‬المرحلة‭.‬

وفي‭ ‬المقابل‭ ‬التقط‭ ‬المطربون‭ ‬الرواد‭ ‬والجدد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار،‭ ‬وقاموا‭ ‬بتلحينها‭ ‬والتغني‭ ‬بها،‭ ‬متأثرين‭ ‬بالبيئات‭ ‬التي‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬أرحامها،‭ ‬وجاسوا‭ ‬في‭ ‬ربوعها،‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أنغام‭ ‬وإيقاعات‭ ‬وترانيم‭ ‬للمتصوفة،‭ ‬وأماديح،‭ ‬وأغنيات‭ ‬الحصاد،‭ ‬وأصوات‭ ‬السواقي‭ ‬عند‭ ‬ضفاف‭ ‬النيل‭.  ‬وأضحت‭ ‬الأغنية‭ ‬بما‭ ‬حوت‭ ‬من‭ ‬صدق‭ ‬وتصوف‭ ‬واحترام‭ ‬للذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬عميقة‭ ‬قوية‭ ‬مؤثرة‭ ‬وذات‭ ‬خصائص‭ ‬وسمات‭ ‬مميزة‭ ‬معروفة،‭ ‬وشخصية‭ ‬سودانية‭ ‬حقيقية،‭ ‬تجاوزت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ - ‬في‭ ‬رأيي‭ - ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الفوارق‭ ‬المجتمعية،‭ ‬وظل‭ ‬لكل‭ ‬مطرب‭ ‬طابعه‭ ‬المعروف‭. ‬بينما‭ ‬أضحت‭ ‬الأغنية‭ ‬الفصيحة‭ ‬جسر‭ ‬تواصل‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬ككل،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الفني‭ ‬بالنحو‭ ‬الذي‭ ‬نحاه‭ ‬معظم‭ ‬المطربين‭ ‬السودانيين‭ ‬بتغنيهم‭ ‬للشعراء‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬تاريخهم،‭ (‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬السابق‭ ‬ذكره‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬غناء‭ ‬المطربين‭ ‬العرب‭ ‬لشعراء‭ ‬كثر‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الأماكن‭ ‬والأزمنة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تبادلية‭ ‬كان‭ ‬أبرز‭ ‬نجومها‭ ‬‮«‬كوكب‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬التي‭ ‬تغنت‭ ‬بعدد‭ ‬مقدر‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أغداً‭ ‬ألقاك‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الهادي‭ ‬آدم‭ (‬1927‭ ‬‭- ‬2006م‭) ‬وألحان‭ ‬عبقري‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭:‬

وغدا‭ ‬تأتلق‭ ‬الجنة‭ ‬أنهاراً‭ ‬وظلاً

وغداً‭ ‬ننسى،‭ ‬فلا‭ ‬نأسى‭ ‬على‭ ‬ماض‭ ‬تولى

وغدا‭ ‬نسمو‭ ‬فلا‭ ‬نعرف‭ ‬للغيب‭ ‬محلا

وغدا‭ ‬للحاضر‭ ‬الزاهر‭ ‬نحيا‭ ‬ليس‭ ‬إلا

قد‭ ‬يكون‭ ‬الغيب‭ ‬حلواً،‭ ‬إنما‭ ‬الحاضر‭ ‬أحلى

أغدا‭ ‬ألقاك‭.‬

وغناء‭ ‬المطربة‭ ‬فايزة‭ ‬أحمد‭ ‬‮«‬أخي‭ ‬في‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬الشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬مبارك‭ ‬المغربي‭ ‬وألحان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭:‬

جرى‭ ‬النيـلُ‭ ‬في‭ ‬أرضِنا‭ ‬كوثرا

فـأجرى‭ ‬المودةَ‭ ‬لمـا‭ ‬جرى

وغنـتْ‭ ‬مـع‭ ‬المــــوجِ‭ ‬شُـطآنهُ

تُـوثقُ‭ ‬بين‭ ‬القلـوبِ‭ ‬العُرى

تكشف‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬اللقاءات‭ ‬الفريدة‭ ‬مدى‭ ‬عمق‭ ‬وأسرار‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى،‭ ‬وأنها‭ ‬لغة‭ ‬استنباط‭ ‬واكتشاف،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬متحركة‭ ‬جامعة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬الاختراق،‭ ‬وملامسة‭ ‬مشاعر‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬وأينما‭ ‬حلوا،‭ ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الدعائم‭ ‬التي‭ ‬ساقت‭ ‬المبدعين‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬خارج‭ ‬تخوم‭ ‬أراضيهم،‭ ‬وتمكينهم‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬وجدانيا‭ ‬وثقافياً‭ ‬مع‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأخرى‭. ‬

علماً‭ ‬بأن‭ ‬الهادي‭ ‬آدم‭ ‬لم‭ ‬يُعرف‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كشاعر‭ ‬غنائي،‭ ‬ومثله‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬نشروا‭ ‬قصائدهم‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الإصدارات،‭ ‬ولم‭ ‬يدر‭ ‬في‭ ‬خلدهم‭ ‬أن‭ ‬تُغَنى،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬فوجئوا‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حناجر‭ ‬المطربين‭ ‬عبر‭ ‬أجهزة‭ ‬البث‭ ‬أو‭ ‬الحفلات‭ ‬الجماهيرية،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬ليس‭ ‬لديهم‭ ‬سوى‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬مغناة،‭ ‬وتحقق‭ ‬لهم‭ ‬بها‭ ‬صيت‭ ‬كبير،‭ ‬مثل‭ ‬الشاعر‭ ‬حسن‭ ‬عباس‭ ‬صبحي‭ (‬1928‭ ‬‭- ‬1990‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬لحّن‭ ‬وغنى‭ ‬له‭ ‬الكابلي‭ ‬‮«‬ماذا‭ ‬يكون‮»‬،‭ ‬والشاعر‭ ‬الهادي‭ ‬العمرابي،‭ ‬حين‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬المطرب‭ ‬صلاح‭ ‬بن‭ ‬البادية‭ ‬له‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬أغاني‭ ‬الفصحى‭ ‬‮«‬مـــي‮»‬‭:‬

‭ ‬أكثرت‭ ‬في‭ ‬هجري‭ ‬وكان‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬تترفقا

فوعدتني‭ ‬بالعطف،‭ ‬لكن‭ ‬قد‭ ‬نسيت‭ ‬الموثقا

قــيدت‭ ‬فكــرى‭ ‬بالبعاد‭ ‬وكان‭ ‬قربك‭ ‬مطلقا

أذكر‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬الديار‭ ‬حديثـنا‭ ‬في‭ ‬الملتقى

أما‭ ‬أنا‭ ‬فكما‭ ‬عهدت‭.. ‬لمخلـص‭ ‬ومهـذبُ‭ ‬

أرعى‭ ‬حقوق‭ ‬حبائــبي‭ ‬ولأجلهم‭ ‬أتعـــذبُ

وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬استطاع‭ ‬عباقرة‭ ‬المبدعين‭ ‬الذين‭ ‬تغنوا‭ ‬بالعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬أن‭ ‬يسجلوا‭ ‬حضوراً‭ ‬قوياً‭ ‬تجاه‭ ‬القضايا‭ ‬المحلية‭ ‬والعربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬مثلما‭ ‬نحا‭ ‬الفنان‭ ‬الكابلي‭ ‬الذي‭ ‬ابتدر‭ ‬مشواره‭ ‬الفني‭ ‬بأغنية‭ ‬فصيحة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬آسيا‭ ‬وإفريقيا‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬الحسن‭ (‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الأغنية‭ ‬الواحدة‭)‬،‭ ‬وغنى‭ ‬‮«‬قـم‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬أبوآمنة‭ ‬حامد،‭ ‬و«ناصـر‮»‬،‭ ‬و«طريق‭ ‬الجامعة‮»‬‭ ‬لعبدالمجيد‭ ‬حاج‭ ‬الأمين،‭ ‬و«كبد‭ ‬رطبة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬القبطي‭ ‬السوداني‭ ‬عزيز‭ ‬التوم‭ ‬منصور‭ (‬1920‭/‬1992م‭) ‬الذي‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬أيضاً‭ ‬‮«‬فلســطين‭ ‬اسلمي‮»‬‭:‬

بدمي‭ ‬سأكتب‭ ‬فوق‭ ‬أرضك‭ ‬يا‭ ‬فلسطين‭ ‬اسلمي

وأموت‭ ‬يا‭ ‬يافا‭ ‬شهيد‭ ‬الوعد‭ ‬واسمك‭ ‬في‭ ‬فمي

ومضى‭ ‬الكابلي‭ ‬ينتقي‭ ‬من‭ ‬الفصحى‭ ‬قصائد‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة،‭ ‬فتغنى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬عهد‭ ‬جيرون‮»‬‭ ‬لشيخ‭ ‬شعراء‭ ‬السودان‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ ‬العباسي‭ (‬1881‭ - ‬1963م‭)‬،‭ ‬وترنم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬أم‭ ‬بادر‮»‬‭ ‬الناصر‭ ‬قريب‭ ‬الله،‭ ‬و«شاعر‭ ‬الوجدان‭ ‬والأشجان‮»‬‭ ‬لجماع،‭ ‬و«جنة‭ ‬العشاق‮»‬‭ ‬لتوفيق‭ ‬صالح‭ ‬جبريل‭ (‬1897‭ - ‬1966‭)‬،‭ ‬و«ضنين‭ ‬الوعد‮»‬‭ ‬لصديق‭ ‬مدثر،‭ ‬و«سلمى‮»‬‭ ‬لإبراهيم‭ ‬عوض‭ ‬بشير،‭ ‬كما‭ ‬غنى‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬كلماته‭ ‬وألحانه‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬عجب‮»‬،‭ ‬و«لماذا‮»‬‭.  ‬ومع‭ ‬تأثر‭ ‬الأدب‭ ‬والفنون‭ ‬عامة‭ ‬بالأوضاع‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وحالة‭ ‬الرياش‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬اتخذت‭ ‬الأغنية‭ ‬مكانتها‭ ‬كقيمة‭ ‬تربوية‭ ‬ووحدوية‭ ‬وإنسانية‭ ‬أخلاقية‭ ‬وثورية‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬فصيحة‭ ‬كثيرة‭ ‬للشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬والعرب‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬كقصيدة‭ ‬‮«‬فتاة‭ ‬اليوم‭ ‬والغد‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬شعراً‭ ‬ولحناً‭ ‬وغناءً‭ ‬الكابلي،‭ ‬ونشيد‭ ‬‮«‬التعاون‮»‬‭ ‬لمدثر‭:‬

لن‭ ‬يصيب‭ ‬المجد‭ ‬كفٌّ‭ ‬واحدٌ

نبلغ‭ ‬المجد‭ ‬إذا‭ ‬ضمت‭ ‬كفوف

سوف‭ ‬يحدونا‭ ‬إخاء‭ ‬خالـــــد

وتقوينا‭ ‬على‭ ‬الدرب‭ ‬الألـوف

وكان‭ ‬الفنان‭ ‬الموسيقار‭ ‬محمد‭ ‬وردي‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬الكابلي‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬قد‭ ‬قدِم‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬الشمال‭ ‬بلسانه‭ ‬النوبي‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬اندمج‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الفني،‭ ‬وسبح‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الفصحى،‭ ‬وقدم‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬أغنيات‭ ‬وطنية‭ ‬وسياسية‭ ‬رامزة‭ ‬بألحان‭ ‬سودانية‭ ‬خالصة‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الاستقلال‮»‬‭ ‬للدكتور‭ ‬عبدالواحد‭ ‬عبدالله،‭ ‬و«أصبح‭ ‬الصبح‮»‬،‭ ‬و«عرس‭ ‬السودان‮»‬،‭ ‬و«لو‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬وسن‮»‬‭ ‬للفيتوري،‭ ‬مثلما‭ ‬قدم‭ ‬نشيد‭ ‬‮«‬الطلائع‮»‬‭ ‬بمقدمة‭ ‬ثورية‭ ‬‮«‬البوق‮»‬‭ ‬من‭ ‬ثلاثية‭ ‬الغضب‭ ‬للشاعر‭ ‬علي‭ ‬عبدالقيوم‭:‬

أي‭ ‬المشارق‭ ‬لم‭ ‬نغازل‭ ‬شمسها

ونميط‭ ‬عن‭ ‬زيف‭ ‬الغموض‭ ‬خمارها؟

أي‭ ‬المشانق‭ ‬لم‭ ‬نزلزل‭ ‬بالثبات‭ ‬وقارها؟‭ ‬

أي‭ ‬الأناشيد‭ ‬السماويات‭ ‬

لم‭ ‬نشدد‭ ‬لألحان‭ ‬الجديد‭ ‬

بشاشةً‭ ‬أوتارها؟

ثم‭ ‬غنى‭ ‬مع‭ ‬اندلاع‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬1964‭ ‬لشاعر‭ (‬الأكتوبريات‭) ‬الكردفاني‭ ‬المنبت‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬المكي‭ ‬إبراهيم‭ ‬‮«‬أكتوبر‭ ‬الأخضر‮»‬،‭ ‬وأعقبها‭ ‬بــ‭ ‬‮«‬جيلي‭ ‬أنا‮»‬‭ ‬محدثاً‭ ‬بهما‭ ‬دوياً‭ ‬هائلاً‭ ‬على‭ ‬الصُعد‭ ‬كافة‭:‬

من‭ ‬غيرنا‭ ‬يعطي‭ ‬لهذا‭ ‬الشعب‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬وينتصر؟

من‭ ‬غيرنا‭ ‬ليقرر‭ ‬التاريخ‭ ‬والقيم‭ ‬الجديدة‭ ‬والسِّير؟

من‭ ‬غيرنا‭ ‬لصياغة‭ ‬الدنيا‭ ‬وتركيب‭ ‬الحياة‭ ‬القادمة؟

جيل‭ ‬العطاء‭ ‬المستجيش‭ ‬ضراوة‭ ‬ومصادمة‭... ‬جيلي‭ ‬أنا

ولم‭ ‬يكتف‭ ‬وردي‭ ‬بهذا‭ ‬الفيض‭ ‬الثوري،‭ ‬بل‭ ‬أطلق‭ ‬حنجرته‭ ‬الفذة‭ ‬لأغنيات‭ ‬عاطفية‭ ‬بالفصحى‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الحبيــب‭ ‬العائــــد‮»‬‭ ‬لصـديق‭ ‬مـدثـر،‭ ‬و«مرحباً‭ ‬يا‭ ‬شوق‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الجيلي‭ ‬عبدالمنعم‭:‬

بالذي‭ ‬أودع‭ ‬في‭ ‬عينيك

إلهاماً‭ ‬وسحراً

والذي‭ ‬أبدع‭ ‬فيك‭ ‬الحسن‭ ‬

إشراقا‭ ‬وطهراً

لا‭ ‬تدعني‭ ‬للأسى

يدفعني‭ ‬مداً‭ ‬وجزراً

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬أتى‭ ‬الفنان‭ ‬محمد‭ ‬الأمين‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الجزيرة،‭ ‬وغنى‭ ‬أيضاً‭ ‬بالفصحى‭ ‬أغنيات‭ ‬ثورية‭ (‬أكتوبر‭ ‬21‭)‬،‭ ‬و‭(‬الانطلاقة‭) ‬للشاعر‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬و«ليلة‭ ‬المتاريس‮»‬‭ ‬لمبارك‭ ‬حسن‭ ‬خليفة‭ ‬مع‭ ‬قصائد‭ ‬عاطفية‭ ‬منها‭ ‬‮«‬مسيحية‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬علي‭ ‬جبارة،‭ ‬و«سوف‭ ‬يأتي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬تاج‭ ‬السر‭ ‬كنة‭:‬

سوف‭ ‬يأتي‭ ‬باسم‭ ‬الثغر‭ ‬يلوح‭ ‬بالأماني

ضي‭ ‬عينيه‭ ‬بريقٌ‭ ‬وغموضٌ‭ ‬ومعاني

يحمل‭ ‬الروح‭ ‬إليّ‭.. ‬يزرع‭ ‬العطف‭ ‬ندياً

يسكب‭ ‬الآهات‭ ‬همساً‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬أذنـــيِّ

 

الفصحى‭ ‬وتجسير‭ ‬الهوة

هكذا‭ ‬جرت‭ ‬الفصحى‭ ‬جريان‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬حلوق‭ ‬المبدعين‭ ‬بمختلف‭ ‬أطيافهم‭ ‬وألوانهم‭ ‬وألسنتهم،‭ ‬كما‭ ‬جرت‭ ‬منسابة‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني،‭ ‬مما‭ ‬ساعد‭ ‬ضمن‭ ‬وسائل‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬سهولة‭ ‬انتشارها‭ ‬في‭ ‬أصقاع‭ ‬السودان‭ ‬القصية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الغناء‭ ‬مدرسة‭ ‬وثقافة‭ ‬متحركة‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وعنواناً‭ ‬راجحاً‭ ‬لمن‭ ‬أبدعوا،‭ ‬وكانت‭ ‬الأغنية‭ ‬عندما‭ ‬تدخل‭ ‬البيت‭ ‬السوداني‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬منه،‭ ‬لأنها‭ ‬اعتمرت‭ ‬القلوب‭ ‬وملكتها‭. ‬

ومما‭ ‬يسترعي‭ ‬التأمل‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬انمازت‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬بإبراز‭ ‬هوية‭ ‬الأغنية‭ ‬السودانية‭ ‬بشكل‭ ‬لافت،‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬تتنوع‭ ‬فيه‭ ‬القبائل‭ ‬والإثنيات‭ ‬والأعراق‭ ‬والثقافات،‭ ‬وعملت‭ ‬الأغنية‭ ‬بفصاحة‭ ‬مفرداتها،‭ ‬ومضامينها‭ ‬اللفظية‭ ‬والدلالية‭ ‬القوية،‭ ‬وموسيقاها‭ ‬الساحرة‭ ‬على‭ ‬تجسير‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬المبدعين‭ ‬عموماً‭ ‬والمتلقي‭ ‬حيثما‭ ‬وجد،‭ ‬إذ‭ ‬خرجوا‭ ‬جميعاً‭ ‬من‭ ‬معاطف‭ ‬قبائلهم‭ ‬ومجتمعاتهم‭ ‬الضيقة‭ ‬إلى‭ ‬رحاب‭ ‬الوطن‭ ‬الكبير،‭ ‬ومضى‭ ‬كل‭ ‬مبدع‭ ‬يقدم‭ ‬عصارة‭ ‬جهده‭ ‬وإبداعه‭ ‬بوجدان‭ ‬سوداني‭ ‬محض،‭ ‬فيما‭ ‬أضحت‭ ‬أحاسيس‭ ‬المتلقي‭ ‬تتماهى‭ ‬في‭ ‬إبداعاتهم‭ ‬بصورة‭ ‬جلية‭.‬

وكان‭ ‬بحر‭ ‬الفصحى‭ ‬الجاذب‭ ‬أندى‭ ‬لألسنة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مبدعي‭ ‬القبائل‭ ‬الراطنة،‭ ‬وذوي‭ ‬اللغات‭ ‬واللهجات‭ ‬القومية‭ ‬والمحلية‭ ‬بأن‭ ‬يتخذوا‭ ‬منها‭ ‬ينبوعاً‭ ‬عذباً‭ ‬للإبداع،‭ ‬والفنان‭ ‬وردي‭ ‬مثالاً،‭ ‬والمطرب‭ ‬رمضان‭ ‬حسن‭ ‬الذي‭ ‬ترجع‭ ‬أصوله‭ ‬إلى‭ ‬قبيلة‭ ‬الزاندي‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الانفصال،‭ ‬حينما‭ ‬تغنى‭ ‬بلسان‭ ‬عربي‭ ‬فصيح‭ (‬الجمال‭ ‬والحب‭ ‬في‭ ‬بلادي‭) ‬لسيد‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬وكذلك‭ ‬المطرب‭ ‬رمضان‭ ‬زائد‭ ‬المنتمي‭ ‬لقبيلة‭ ‬الشلك‭ ‬الجنوبية‭ ‬بتغنيه‭ ‬‮«‬ليتني‭ ‬زهر‮»‬،‭ ‬كلمات‭ ‬الشاعر‭ ‬مبارك‭ ‬المغربي‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬ركائز‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬الفصيح‭.‬

أنا‭ ‬ليتـــني‭ ‬أنـــــتِ‭ ‬في‭ ‬عالــم‭ ‬الحــس‭ ‬

أشتاق‭ ‬في‭ ‬صمــت‭ ‬وأحـب‭ ‬في‭ ‬همـس‭ ‬

وأعود‭ ‬إن‭ ‬عـدتِ‭ ‬إلى‭ ‬معــبدي‭ ‬القدس‭ ‬

وعلى‭ ‬نحو‭ ‬آخر‭ ‬فقد‭ ‬غنى‭ ‬كبار‭ ‬المطربين‭ ‬لشعراء‭ ‬القبائل‭ ‬الراطنة،‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬بالفصحى‭ ‬قصائد‭ ‬موازية‭ ‬للقيم‭ ‬السائدة‭ ‬وقتذاك،‭ ‬مثل‭ ‬الشاعر‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬فارس‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الشمال‭ (‬أرقو‭)‬،‭ ‬وعبدالمنعم‭ ‬عبدالحي‭ ‬الذي‭ ‬يتحدر‭ ‬من‭ ‬الدينكا‭ ‬بجنوب‭ ‬السودان،‭ ‬والشاعر‭ ‬النوبي‭ ‬مرسي‭ ‬صالح‭ ‬سراج،‭ ‬الذي‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬وردي‭ ‬‮«‬يقظة‭ ‬شعب‮»‬،‭ ‬بجانب‭ ‬شاعر‭ ‬الشرق‭ ‬البجاوي‭ ‬اللسان‭ ‬أبوآمنة‭ ‬حامد‭ (‬1937‭ ‬‭- ‬2006‭) ‬الذي‭ ‬صدح‭ ‬بكلماته‭ ‬الفصيحة‭ ‬الكابلي،‭ ‬والمطرب‭ ‬صالح‭ ‬الضي،‭ ‬ذي‭ ‬الأصل‭ ‬الكردفاني‭ ‬بـقصيدتي‭ ‬‮«‬ضاحك‭ ‬المقلتين‭"‬،‭ ‬و‭"‬اللقاء‭ ‬المستحيل‮»‬،‭ ‬وابن‭ ‬البادية‭ ‬بـــ«الحرير‮»‬‭ ‬و«سال‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬الذهب‮»‬‭:‬

سال‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬الذهب‭ ‬فـتدلى‭ ‬وما‭ ‬انسكــــــب

كلما‭ ‬عبثـت‭ ‬بــــــــه‭ ‬نسمة‭ ‬مـاج‭ ‬واضطـرب

لقد‭ ‬سيطر‭ ‬الغناء‭ ‬بالعربية‭ ‬الفصحى‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الغنائي‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وأصبح‭ ‬محور‭ ‬تجمع‭ ‬الناس‭ ‬ومثار‭ ‬اهتمامهم،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬بلغ‭ ‬التنافس‭ ‬أشده‭ ‬بين‭ ‬المبدعين‭ (‬شعراء‭ ‬ومطربين‭) ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الجديد‭ ‬الجيد،‭ ‬ليس‭ ‬تكسباً‭ ‬وإنما‭ ‬لخدمة‭ ‬الفن‭ ‬والمجتمع،‭ ‬والوصول‭ ‬بالموهبة‭ ‬إلى‭ ‬القمة،‭ ‬وكان‭ ‬نتاجه‭ ‬كمّاً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬المعبرة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬مواهب‭ ‬جديدة‭ ‬جيدة،‭ ‬مثل‭ ‬المطرب‭ ‬أحمد‭ ‬الجابري‭ ‬الذي‭ ‬لحّن‭ ‬وغنى‭ ‬أيضاً‭ ‬بالفصحى،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تولى‭ ‬العام‮»‬‭ ‬للمغربي،‭ ‬والمطرب‭ ‬صلاح‭ ‬مصطفى‭ ‬بتغنيه‭ ‬لعدة‭ ‬شعراء،‭ ‬منهم‭ ‬محجوب‭ ‬سراج،‭ ‬ومصطفى‭ ‬سند‭.. ‬‮«‬شارع‭ ‬الصبر‮»‬‭:‬

يخلف‭ ‬وعده‭ ‬تيهاً‭ ‬ويبعد‭ ‬خطوه‭ ‬عني‭ ‬

ويتركني‭ ‬على‭ ‬جمرٍ‭ ‬أقطر‭ ‬للأسى‭ ‬دني

أسائل‭ ‬عنه‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬وأعبر‭ ‬شارع‭ ‬الصبر

غيوم‭ ‬الخوف‭ ‬تهلكني‭ ‬ونار‭ ‬الشك‭ ‬والظنِ

وغير‭ ‬هذا‭ ‬فهناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أغاني‭ ‬الفصحى‭ ‬التي‭ ‬مازال‭ ‬صداها‭ ‬يرن‭ ‬في‭ ‬الآذان،‭ ‬وهي‭ ‬قوية‭ ‬ومليئة‭ ‬بالروح‭ ‬والحياة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ســلوى‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬علي‭ ‬طه‭ ‬غناء‭ ‬حسن‭ ‬خليفة‭ ‬العطبراوي،‭ ‬و«ذات‭ ‬الفراء‮»‬‭ ‬للطيب‭ ‬العباسي‭ ‬والمطرب‭ ‬الطيب‭ ‬عبدالله،‭ ‬‮«‬ولما‭ ‬تضحك‮»‬‭ ‬لعمر‭ ‬محمود‭ ‬خالد‭ ‬والمطرب‭ ‬محمد‭ ‬ميرغني،‭ ‬و«لا‭ ‬تسافر‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‮»‬‭ ‬للتيجاني‭ ‬الحاج‭ ‬موسى‭ ‬وأداء‭ ‬ياسر‭ ‬إبراهيم،‭ ‬و«مريم‭ ‬الأخرى‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬عبدالله‭ ‬شمو،‭ ‬غناء‭ ‬مصطفى‭ ‬سيد‭ ‬أحمد،‭ ‬و«خلاسية‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬المكي‭ ‬غناء‭ ‬أبوعركي‭ ‬البخيت،‭ ‬و«كبرياء‮»‬‭ ‬لشاعر‭ ‬الرومانسية‭ ‬محمد‭ ‬سعد‭ ‬دياب،‭ ‬أداء‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬حسيب‭:‬

يا‭ ‬قَلْبُ‭ ‬لا‭ ‬تَبكِ‭ ‬الذي‭ ‬باعَ‭ ‬الهوى‭ ‬

لَمْلِمْ‭ ‬جِراحَكَ‭.. ‬لا‭ ‬تَقُلْ‭ ‬ما‭ ‬أَضيعَكْ‭ ‬

وإذا‭ ‬الحنينُ‭ ‬تأججتْ‭ ‬نيرانُه‭ ‬

وهَفَتْ‭ ‬بكَ‭ ‬الأشـواقُ‭ ‬فـاحبِسْ‭ ‬أدمُعَكْ‭ ‬

وَهماً‭ ‬ظننتَ‭ ‬بأنَّهُ‭ ‬قد‭ ‬ضيَّعَكْ

ما‭ ‬ضيَّعَك

هذا‭ ‬غيض‭ ‬من‭ ‬فيض،‭ ‬تجلت‭ ‬عظمة‭ ‬هذه‭ ‬الأغنيات‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬المهم‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تؤديه‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الفن‭ ‬وفي‭ ‬رقي‭ ‬ثقافة‭ ‬الناس‭ ‬وأذواقهم،‭ ‬كما‭ ‬خلقت‭ ‬مساحات‭ ‬للتقارب‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬استخدمت‭ ‬فيه‭ ‬أصفى‭ ‬الميكانيزمات‭ ‬الحوارية،‭ ‬وأكثرها‭ ‬براحاً‭ ‬للتعدد‭ ‬والاختلاف،‭ ‬بل‭ ‬جعلت‭ ‬منهما‭ ‬خميرة‭ ‬أساسية‭ ‬لإثرائه‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬السمة‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬المرء‭ ‬يلحظها‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬ذاك‭ ‬الغناء‭ ‬الراقي‭ ‬الذي‭ ‬يشد‭ ‬الأسماع‭ ‬ويحمل‭ ‬روح‭ ‬البقاء،‭ ‬ويؤدي‭ ‬دوراً‭ ‬ملموساً‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬بفقدانه‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬اتجاهاته‭ ‬ومساراته‭ (‬لغة،‭ ‬ولحناً،‭ ‬وموسيقى‭) ‬لغياب‭ ‬المغني‭ ‬المجدد‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الشعر،‭ ‬وأن‭ ‬يعكس‭ ‬توجهه‭ ‬وثقافته‭ ‬الغنائية‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندر،‭ ‬مما‭ ‬يؤثر‭ ‬سلباً‭ ‬على‭ ‬الأجيال‭ ‬الحالية‭ ‬والمقبلة،‭ ‬ويقضي‭ ‬على‭ ‬موهبة‭ ‬الابتكار،‭ ‬ويجعل‭ ‬الملتقي‭ ‬وجوقة‭ ‬المغنواتية‭ ‬يحنون‭ ‬ويرددون‭ ‬تلك‭ ‬الأغاني‭ ‬القديمة■