سيد درويش.. جسر العبور بين القرنين التاسع عشر والعشرين

سيد درويش.. جسر العبور بين القرنين التاسع عشر والعشرين

عندما‭ ‬دقت‭ ‬الساعة‭ ‬بانتهاء‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وولادة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬كانت‭ ‬ظروف‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬تمر‭ ‬بهزة‭ ‬عنيفة،‭ ‬فقد‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1900‭ ‬زعيم‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ (‬صاحب‭ ‬دور‭ ‬كادني‭ ‬الهوى‭ ‬وموشح‭ ‬ملا‭ ‬الكاسات‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1901‭ ‬رحل‭ ‬كبير‭ ‬مطربي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭  ‬عبده‭ ‬الحمولي‭ (‬صاحب‭ ‬قصيدة‭ ‬أراك‭ ‬عصي‭ ‬الدمع‭).‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الانتقال‭ ‬الأوتوماتيكي‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬أيضاً‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬موسيقية‭ ‬وغنائية‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬اكتشفه‭ ‬عشّاق‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬والغناء‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬الانتقال‭ ‬التاريخي‭ ‬بين‭ ‬قرنين،‭ ‬استمرار‭ ‬المدرسة‭ ‬الموسيقية‭ ‬للقرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬حتى‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الجديد،‭ ‬لأسباب‭ ‬تاريخية‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬بقوا‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬للقرن‭ ‬العشرين،‭ ‬منهم‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي،‭ ‬والشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬المنيلاوي،‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬مطربي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬مثل‭ ‬يوسف‭ ‬المنيلاوي‭ ‬وعبدالحي‭ ‬حلمي،‭ ‬ومنها‭ ‬مثلاً‭ ‬ظهور‭ ‬الأسطوانة‭ ‬والفونغراف‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬للقرن‭ ‬العشرين،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬المطربين‭ ‬المخضرمين‭ ‬بأن‭ ‬يؤدوا‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الجديد،‭ ‬مهمة‭ ‬تسجيل‭ ‬تراث‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم‭ ‬على‭ ‬أسطوانات‭.‬

لكن‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬1890‭ ‬و1900،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬عباقرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬ممن‭ ‬سيتولون‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ (‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭)‬،‭ ‬تأسيس‭ ‬وإطلاق‭ ‬مدرسة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬عند‭ ‬العرب‭: ‬سيد‭ ‬درويش‭ (‬1892‭)‬،‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي‭ (‬1892‭)‬،‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ (‬1896‭)‬،‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ (‬1898‭)‬،‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ (‬1898‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬يتأخر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكوكبة‭ ‬في‭ ‬الولادة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬العقد،‭ ‬إلا‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الجديد‭ (‬1906‭).‬

وقد‭ ‬شاء‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬أول‭ ‬هؤلاء،‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬المهمة‭ ‬التاريخية‭ ‬بإعلان‭ ‬نهاية‭ ‬مرحلة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين،‭ ‬وولادة‭ ‬مرحلة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

والعجيب‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬درويش‭ ‬أنه‭ ‬أدى‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬الخطيرة‭ ‬رغم‭ ‬وفاته‭ ‬السريعة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1923،‭ ‬وذلك‭ ‬خلال‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬بين‭ ‬1917‭ ‬و1923،‭ ‬فجاء‭ ‬كالعاصفة‭ ‬التي‭ ‬هبت‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬جسر‭ ‬العبور‭ ‬بين‭ ‬مرحلة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬العربي،‭ ‬ومرحلة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬بسرعة‭ ‬قياسية،‭ ‬وتركها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لأبناء‭ ‬جيله‭ ‬من‭ ‬عمالقة‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين‭.‬

 

فترة‭ ‬صاخبة

ولد‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬كوم‭ ‬الدكة‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬لوالد‭ ‬فقير‭ ‬هو‭ ‬درويش‭ ‬البحر،‭ ‬ووالدة‭ ‬قديرة‭ ‬في‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬ظروفها‭ ‬هي‭ ‬ملوك،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬بنات‭. ‬وحدث‭ ‬أن‭ ‬مات‭ ‬والده‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬فأرسلته‭ ‬أمه‭ ‬إلى‭ ‬كتّاب‭ ‬حسن‭ ‬حلاوة،‭ ‬يتعلم‭ ‬فيه‭ ‬تجويد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ومنه‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬سامي‭ ‬أفندي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬الأناشيد‭ ‬الحماسية،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬صاخبة‭ ‬بالأحداث‭ ‬السياسية‭. ‬وأذّن‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الشوربجي،‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يافعاً‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ميله‭ ‬المبكر‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬غلبه‭ ‬فراح‭ ‬يمارس‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬علب‭ ‬الليل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بمقامه‭ ‬كشيخ،‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬خصامه‭ ‬مع‭ ‬زوج‭ ‬شقيقته،‭ ‬وانتقاله‭ ‬لممارسة‭ ‬الغناء‭ ‬من‭ ‬العلب‭ ‬الليلية،‭ ‬إلى‭ ‬ورشة‭ ‬لعمال‭ ‬البناء،‭ ‬كان‭ ‬يتولى‭ ‬عملية‭ ‬الغناء‭ ‬لهم،‭ ‬لإثارة‭ ‬حميتهم‭ ‬على‭ ‬العمل‭.‬

وفي‭ ‬إحدى‭ ‬ورش‭ ‬العمال،‭ ‬استمع‭ ‬إليه‭ ‬صاحب‭ ‬إحدى‭ ‬الفرق‭ ‬الفنية‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬هو‭ ‬سليم‭ ‬عطاالله،‭ ‬فقدمه‭ ‬إلى‭ ‬أخيه‭ ‬أمين،‭ ‬وقام‭ ‬بمرافقة‭ ‬هذه‭ ‬الفرقة‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬أولى‭ (‬بالنسبة‭ ‬لسيد‭ ‬درويش‭)‬،‭ ‬استمرت‭ ‬تسعة‭ ‬أشهر،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬فنياً‭ ‬رحلة‭ ‬فاشلة،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬المستمعين‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وسورية‭ ‬كانوا‭ ‬لايزالون‭ ‬يعيشون‭ ‬أجواء‭ ‬رحلة‭ ‬عبقري‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الفنية‭ ‬الفاشلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفرقة،‭ ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬غنية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفنان‭ ‬الناشئ‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬لصديقه‭ ‬المسرحي‭ ‬زكي‭ ‬طليمات،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬حفظت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬التواشيح‭ ‬والضروب‭ ‬الموسيقية‭ ‬القديمة،‭ ‬واستمعت‭ ‬إلى‭ ‬تراتيل‭ ‬الكنائس‭ (‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الأوبرا‭ ‬الإلهية‮»‬‭).‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬كانت‭ ‬بداية‭ ‬اغتناء‭ ‬الثروة‭ ‬الموسيقية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬درويش،‭ ‬بعد‭ ‬مرحلته‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أتقن‭ ‬فيها‭ ‬تجويد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والإنشاد‭ ‬الديني‭.‬

 

الرحلة‭ ‬الثانية

وقد‭ ‬قضى‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬لبلاد‭ ‬الشام،‭ ‬يمارس‭ ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬الغناء‭ ‬والوظيفة،‭ ‬حتى‭ ‬قام‭ ‬مع‭ ‬فرقة‭ ‬أمين‭ ‬عطاالله‭ ‬رحلة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬نشوب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ (‬1914‭).‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الأغنى‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تزود‭ ‬الفنان‭ ‬الجديد‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الاطلاع،‭ ‬إذ‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتتلمذ‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشيخ‭ ‬الموصلي‭.‬

كما‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬عودة‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬من‭ ‬رحلته‭ ‬الموفقة‭ ‬الثانية،‭ ‬كانت‭ ‬فاتحة‭ ‬إطلاق‭ ‬عبقريته‭ ‬الدفينة،‭ ‬فبدأ‭ ‬صيته‭ ‬يلمع‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬واجه‭ ‬صعوبات‭ ‬جديدة،‭ ‬أمام‭ ‬جحافل‭ ‬كبار‭ ‬المطربين‭ ‬المخضرمين‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬ظهوره‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬أستاذه‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1917،‭ ‬شهد‭ ‬أمام‭ ‬الجماهير‭ ‬فشلاً‭ ‬ذريعاً،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قدمه‭ ‬تقديماً‭ ‬لائقاً‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬غضب‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬من‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬الجمهور،‭ ‬فقال‭ ‬لهم‭ ‬متحدياً‭: ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فإن‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬سيكون‭ ‬خليفتي‭ ‬وسيملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬غناء‭ ‬وموسيقى‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬النبوءة‭ ‬آخر‭ ‬كلام‭ ‬فني‭ ‬نطق‭ ‬به‭ ‬الشيخ‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭.‬

لكن‭ ‬تلك‭ ‬النبوءة‭ ‬كانت‭ ‬شديدة‭ ‬السرعة‭ ‬في‭ ‬التحقق‭. ‬فما‭ ‬إن‭ ‬بدأ‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬يضع‭ ‬ألحان‭ ‬المسرحيات‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬تتهافت‭ ‬عليه‭ ‬الفرق‭ ‬المسرحية‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭: ‬نجيب‭ ‬الريحاني،‭ ‬جورج‭ ‬أبيض،‭ ‬علي‭ ‬الكسار،‭ ‬الإخوة‭ ‬عكاشة،‭ ‬منيرة‭ ‬المهدية‭.‬

وقد‭ ‬ثبت‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬أن‭ ‬التلحين‭ ‬للمسرح‭ ‬الغنائي،‭ ‬كان‭ ‬أمام‭ ‬درويش‭ ‬المجال‭ ‬الأحب‭ ‬لتفجير‭ ‬نزعته‭ ‬إلى‭ ‬التجديد،‭ ‬لكنه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬التلحين‭ ‬الغزير‭ ‬للمسرح‭ ‬الغنائي،‭ ‬كان‭ ‬يبدع‭ ‬عدداً‭ ‬وافراً‭ ‬من‭ ‬الأدوار‭ ‬الغنائية‭ ‬والموشحات،‭ ‬فقد‭ ‬أبدع‭ ‬عشرة‭ ‬أدوار‭ ‬خالدة،‭ ‬وسبعة‭ ‬عشر‭ ‬موشحاً‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬وأجمل‭ ‬الموشحات‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬كان‭ ‬يفسر‭ ‬ميله‭ ‬إلى‭ ‬تلحين‭ ‬الأشكال‭ ‬التقليدية‭ ‬كالأدوار‭ ‬والموشحات،‭ ‬بأنه‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬يلحنها‭ ‬لنفسه‭. ‬ويطلق‭ ‬العنان‭ ‬لنزعاته‭ ‬التجديدية‭ ‬والثورة‭ ‬في‭ ‬الألحان‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقدمها‭ ‬للجمهور‭.‬

ويقول‭ ‬الأديب‭ ‬الكبير‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬صديق‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يتسكع‭ ‬معه‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة،‭ ‬فيستمع‭ ‬إلى‭ ‬عدة‭ ‬فرق‭ ‬فنية‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬كلها‭ ‬مسرحيات‭ ‬لسيد‭ ‬درويش،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المسارح‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مسرحيات‭ ‬مختلفة‭ ‬لسيد‭ ‬درويش‭. ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المسارح‭ ‬كلها‭ ‬تعج‭ ‬بالجماهير‭ ‬المندهشة‭ ‬بعبقرية‭ ‬هذا‭ ‬الملحن‭ ‬الجديد،‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬يتسكع‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬وجيوبه‭ ‬فارغة‭.‬

ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الينابيع‭ ‬التي‭ ‬غذى‭ ‬بها‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬عبقريته‭ ‬الموسيقية،‭ ‬كانت‭ ‬الأوبرات‭ ‬الغنائية‭ ‬الإيطالية،‭ ‬التي‭ ‬يؤكد‭ ‬صديقه‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬روادها‭ ‬المدمنين‭. ‬وعندما‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬أحدهم‭ ‬إن‭ ‬رأسه‭ ‬يشبه‭ ‬رأس‭ ‬الموسيقار‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشهير‭ ‬فيردي،‭ ‬رد‭ ‬عليه‭: ‬أنا‭ ‬فيردي‭ ‬مصر‭.‬

وبالفعل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رأس‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬يضج‭ ‬بأفكار‭ ‬موسيقية‭ ‬تجديدية‭, ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعبر‭ ‬دائما‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬لمتابعة‭ ‬دراسته‭ ‬الموسيقية‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مندهشاً‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الأوركسترا‭ ‬الأوربية‭ ‬الكبيرة‭ ‬على‭ ‬أساليب‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬فاحشة‭ ‬الثراء،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬تترجم‭ ‬الأفكار‭ ‬الموسيقية‭ ‬لعباقرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬الأوربية‭. ‬لكنه‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحقــــق‭ ‬رغبته‭ ‬هذه‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬التجديدات‭ ‬التي‭ ‬أدخلها‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬على‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬ميله‭ ‬الشديد‭ ‬إلى‭ ‬النزعة‭ ‬التعبيرية‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬خاصة‭ ‬المسرحية،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬اشتهر‭ ‬باستيحاء‭ ‬ألحانه‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعبر‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الفئات‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬أبناء‭ ‬تلك‭ ‬الفئات‭ ‬الشعبية‭ ‬نفسها،‭ ‬مثل‭ ‬السقايين‭ ‬والشيالين‭ ‬والبحارة،‭ ‬وسائر‭ ‬الفئات‭ ‬الشعبية‭ ‬الأخرى‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬درويش‭ ‬وضع‭ ‬ألحان‭ ‬كل‭ ‬مسرحياته‭ ‬الثلاثين،‭ ‬في‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬فقط،‭ ‬أي‭ ‬بمعدل‭ ‬خمس‭ ‬مسرحيات‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الواحدة،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬بهذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬التجديدي‭ ‬الغزير،‭ ‬إلى‭ ‬أستاذ‭ ‬لكل‭ ‬زملائه‭ ‬الذين‭ ‬واصلوا‭ ‬التجديد‭ ‬من‭ ‬بعده‭.‬

فمحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬شهرته‭: ‬أنا‭ ‬درويشي‭ ‬حتى‭ ‬العظام،‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬قال‭ ‬للشيخ‭ ‬سيد‭ ‬مكاوي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬يستشيره‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬التلحين‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬التلحين‭ ‬الدنيوي،‭ ‬سائلاً‭ ‬إياه‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬أبدأ؟‭ ‬فرد‭ ‬عليه‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭: ‬ابدأ‭ ‬من‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭. ‬أما‭ ‬العبقري‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬فكان‭ ‬يقول،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬مجده‭ ‬الفني‭: ‬نحن‭ ‬بعد‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬لم‭ ‬نضف‭ ‬شيئاً،‭ ‬نحن‭ ‬نواصل‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭.‬

بقي‭ ‬سؤال‭ ‬مهم‭: ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬سيتبدل‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬العمر‭ ‬امتد‭ ‬بسيد‭ ‬درويش‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬القرن؟

من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬ستكون‭ ‬أشد‭ ‬غنى،‭ ‬لأن‭ ‬المنافسة‭ ‬الفنيـــــة‭ ‬بوجـــــود‭ ‬عبقري‭ ‬مجدد‭ ‬مثل‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬ســــتكون‭ ‬غنية‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ■‬