سيد درويش.. جسر العبور بين القرنين التاسع عشر والعشرين
عندما دقت الساعة بانتهاء القرن التاسع عشر، وولادة القرن العشرين، كانت ظروف الموسيقى العربية تمر بهزة عنيفة، فقد توفي في عام 1900 زعيم الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر محمد عثمان (صاحب دور كادني الهوى وموشح ملا الكاسات)، وفي عام 1901 رحل كبير مطربي القرن التاسع عشر عبده الحمولي (صاحب قصيدة أراك عصي الدمع).
لم يكن الانتقال الأوتوماتيكي بين القرنين في التاريخ، يعني بالضرورة أيضاً الانتقال من مرحلة موسيقية وغنائية إلى مرحلة أخرى. هذا ما اكتشفه عشّاق الموسيقى العربية والغناء العربي في ذلك الوقت، عندما لم يمنع الانتقال التاريخي بين قرنين، استمرار المدرسة الموسيقية للقرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين الجديد، لأسباب تاريخية عديدة، منها أن عدداً من أقطاب القرن التاسع عشر بقوا على قيد الحياة في السنوات الأولى للقرن العشرين، منهم الشيخ سلامة حجازي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وعدد من مطربي القرن التاسع عشر، مثل يوسف المنيلاوي وعبدالحي حلمي، ومنها مثلاً ظهور الأسطوانة والفونغراف في مصر في السنوات الأولى للقرن العشرين، الأمر الذي أدى إلى قيام المطربين المخضرمين بأن يؤدوا في الربع الأول من القرن الجديد، مهمة تسجيل تراث القرن المنصرم على أسطوانات.
لكن الذي ظهر فيما بعد، أنه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بين العامين 1890 و1900، كان قد ولد في مصر نفر من عباقرة الموسيقى والغناء، ممن سيتولون بعد سنوات (في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين)، تأسيس وإطلاق مدرسة القرن العشرين في الموسيقى والغناء عند العرب: سيد درويش (1892)، محمد القصبجي (1892)، زكريا أحمد (1896)، محمد عبدالوهاب (1898)، أم كلثوم (1898)، ولم يتأخر من هذه الكوكبة في الولادة عن ذلك العقد، إلا رياض السنباطي، الذي ولد في العقد الأول من القرن الجديد (1906).
وقد شاء القدر أن يؤدي أول هؤلاء، سيد درويش، المهمة التاريخية بإعلان نهاية مرحلة القرن التاسع عشر في الموسيقى والغناء العربيين، وولادة مرحلة القرن العشرين.
والعجيب في أمر درويش أنه أدى هذه المهمة الخطيرة رغم وفاته السريعة في عام 1923، وذلك خلال ست سنوات بين 1917 و1923، فجاء كالعاصفة التي هبت في الموسيقى العربية، التي لعبت جسر العبور بين مرحلة القرن التاسع عشر في الغناء العربي، ومرحلة القرن العشرين، التي أسسها بسرعة قياسية، وتركها بعد ذلك لأبناء جيله من عمالقة الموسيقى والغناء العربيين.
فترة صاخبة
ولد سيد درويش في حي كوم الدكة الشعبي في الإسكندرية، في السابع عشر من شهر مارس لوالد فقير هو درويش البحر، ووالدة قديرة في الانتصار على ظروفها هي ملوك، وذلك بعد ثلاث بنات. وحدث أن مات والده وهو في السابعة من عمره، فأرسلته أمه إلى كتّاب حسن حلاوة، يتعلم فيه تجويد القرآن الكريم، ومنه انتقل إلى مدرسة سامي أفندي، الذي كان يحب الأناشيد الحماسية، في فترة صاخبة بالأحداث السياسية. وأذّن الشيخ سيد درويش في مسجد الشوربجي، وهو لم يزل يافعاً. غير أن ميله المبكر إلى الغناء ما لبث أن غلبه فراح يمارس الغناء في بعض علب الليل التي لا تليق بمقامه كشيخ، مما كان سببا في خصامه مع زوج شقيقته، وانتقاله لممارسة الغناء من العلب الليلية، إلى ورشة لعمال البناء، كان يتولى عملية الغناء لهم، لإثارة حميتهم على العمل.
وفي إحدى ورش العمال، استمع إليه صاحب إحدى الفرق الفنية الشهيرة في تلك الأيام هو سليم عطاالله، فقدمه إلى أخيه أمين، وقام بمرافقة هذه الفرقة إلى بلاد الشام في رحلة أولى (بالنسبة لسيد درويش)، استمرت تسعة أشهر، لكنها كانت فنياً رحلة فاشلة، ربما لأن المستمعين في لبنان وسورية كانوا لايزالون يعيشون أجواء رحلة عبقري الغناء في ذلك الوقت الشيخ سلامة حجازي.
لكن هذه الرحلة الفنية الفاشلة بالنسبة للفرقة، كانت رحلة غنية بالنسبة للفنان الناشئ سيد درويش، كما وصفها لصديقه المسرحي زكي طليمات، فقال له: حفظت في هذه الرحلة التواشيح والضروب الموسيقية القديمة، واستمعت إلى تراتيل الكنائس (التي كان يطلق عليها اسم «الأوبرا الإلهية»).
ولا شك في أن هذه الرحلة كانت بداية اغتناء الثروة الموسيقية في حياة درويش، بعد مرحلته الأولى التي أتقن فيها تجويد القرآن الكريم، والإنشاد الديني.
الرحلة الثانية
وقد قضى في الإسكندرية بعد هذه الرحلة الأولى لبلاد الشام، يمارس المراوحة بين الغناء والوظيفة، حتى قام مع فرقة أمين عطاالله رحلة ثانية إلى بلاد الشام في الفترة ما قبل نشوب الحرب العالمية الأولى (1914).
ويبدو أن هذه الرحلة الثانية كانت هي الأغنى في مجال تزود الفنان الجديد بمزيد من الاطلاع، إذ أتيح له أن يتتلمذ في حلب على يد الشيخ الموصلي.
كما يبدو أن عودة الشيخ سيد درويش من رحلته الموفقة الثانية، كانت فاتحة إطلاق عبقريته الدفينة، فبدأ صيته يلمع في الإسكندرية، لكنه عندما انتقل إلى القاهرة بعد ذلك واجه صعوبات جديدة، أمام جحافل كبار المطربين المخضرمين بين القرنين التاسع عشر والعشرين، حتى أن ظهوره الأول على مسرح أستاذه الشيخ سلامة حجازي في عام 1917، شهد أمام الجماهير فشلاً ذريعاً، مع أن الشيخ سلامة كان قد قدمه تقديماً لائقاً. الأمر الذي أثار غضب الشيخ سلامة من ردة فعل الجمهور، فقال لهم متحدياً: رغم كل شيء، فإن الشيخ سيد درويش سيكون خليفتي وسيملأ الدنيا غناء وموسيقى. وكانت تلك النبوءة آخر كلام فني نطق به الشيخ سلامة حجازي قبل رحيله في العام نفسه.
لكن تلك النبوءة كانت شديدة السرعة في التحقق. فما إن بدأ الشيخ سيد درويش يضع ألحان المسرحيات حتى بدأت تتهافت عليه الفرق المسرحية المعروفة في القاهرة: نجيب الريحاني، جورج أبيض، علي الكسار، الإخوة عكاشة، منيرة المهدية.
وقد ثبت فيما بعد، أن التلحين للمسرح الغنائي، كان أمام درويش المجال الأحب لتفجير نزعته إلى التجديد، لكنه إلى جانب التلحين الغزير للمسرح الغنائي، كان يبدع عدداً وافراً من الأدوار الغنائية والموشحات، فقد أبدع عشرة أدوار خالدة، وسبعة عشر موشحاً تعتبر من أشهر وأجمل الموشحات.
ويبدو أن الشيخ سيد درويش كان يفسر ميله إلى تلحين الأشكال التقليدية كالأدوار والموشحات، بأنه إنما كان يلحنها لنفسه. ويطلق العنان لنزعاته التجديدية والثورة في الألحان المسرحية التي كان يقدمها للجمهور.
ويقول الأديب الكبير توفيق الحكيم، صديق سيد درويش، إنه كان يتسكع معه ذات ليلة في شوارع القاهرة، فيستمع إلى عدة فرق فنية كانت تقدم كلها مسرحيات لسيد درويش، أي أن هذه المسارح كانت تقدم في الوقت نفسه مسرحيات مختلفة لسيد درويش. وبينما كانت هذه المسارح كلها تعج بالجماهير المندهشة بعبقرية هذا الملحن الجديد، كان هو يتسكع في الشوارع وجيوبه فارغة.
ومما لا شك فيه أن من بين الينابيع التي غذى بها الشيخ سيد عبقريته الموسيقية، كانت الأوبرات الغنائية الإيطالية، التي يؤكد صديقه توفيق الحكيم أنه كان من روادها المدمنين. وعندما قال له أحدهم إن رأسه يشبه رأس الموسيقار الإيطالي الشهير فيردي، رد عليه: أنا فيردي مصر.
وبالفعل، فقد كان رأس سيد درويش يضج بأفكار موسيقية تجديدية, حتى أنه كان يعبر دائما عن رغبته في السفر إلى إيطاليا لمتابعة دراسته الموسيقية. ومن المؤكد أنه كان مندهشاً من قدرة الأوركسترا الأوربية الكبيرة على أساليب في التعبير فاحشة الثراء، خاصة عندما تترجم الأفكار الموسيقية لعباقرة الموسيقى الأوربية. لكنه رحل عن الدنيا قبل أن يحقــــق رغبته هذه.
ولعل من أبرز التجديدات التي أدخلها سيد درويش على الموسيقى العربية، ميله الشديد إلى النزعة التعبيرية في صناعة الموسيقى، خاصة المسرحية، حتى أنه اشتهر باستيحاء ألحانه التي كان يعبر بها عن الفئات الشعبية من أفواه أبناء تلك الفئات الشعبية نفسها، مثل السقايين والشيالين والبحارة، وسائر الفئات الشعبية الأخرى.
ومع أن درويش وضع ألحان كل مسرحياته الثلاثين، في ست سنوات فقط، أي بمعدل خمس مسرحيات في السنة الواحدة، فإنه قد تحول بهذا الإنتاج التجديدي الغزير، إلى أستاذ لكل زملائه الذين واصلوا التجديد من بعده.
فمحمد عبدالوهاب كان يقول وهو في ذروة شهرته: أنا درويشي حتى العظام، وزكريا أحمد قال للشيخ سيد مكاوي الذي جاء يستشيره في الانتقال من التلحين الديني إلى التلحين الدنيوي، سائلاً إياه: من أين أبدأ؟ فرد عليه زكريا أحمد: ابدأ من سيد درويش. أما العبقري رياض السنباطي فكان يقول، وهو في أوج مجده الفني: نحن بعد سيد درويش لم نضف شيئاً، نحن نواصل ما بدأه.
بقي سؤال مهم: ماذا كان سيتبدل في مصير الموسيقى العربية في القرن العشرين لو أن العمر امتد بسيد درويش حتى منتصف القرن؟
من المؤكد أن الموسيقى العربية كانت ستكون أشد غنى، لأن المنافسة الفنيـــــة بوجـــــود عبقري مجدد مثل سيد درويش، ســــتكون غنية بلا حدود ■