تلسكوب جيمس ويب الفضائي.. كاشف أسرار الكون
توصل أجدادنا منذ القدم لمعرفة المشاكل التي يسببها الغلاف الجوي (الهواء) عند رصدهم ودراستهم للكواكب والنجوم، وشيدوا بالتالي مراصدهم الفلكية على قمم الجبال العالية. يمتص الهواء جزءاً من أشعة الضوء التي تستخدمها تلك المراصد البصرية.
عند رصد ودراسة النجوم القديمة جداً التي تكونت في بداية نشأة الكون لا يمكن استخدام الضوء وتستخدم بدلاً منه الأشعة تحت الحمراء التي لا تراها العين، لأن طاقتها أقل من طاقة أشعة الضوء. ومع الأسف فإن جزيئات بخار الماء وجزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجودة في الغلاف الجوي تمتص هذه الأشعة بصورة شبه كاملة، ولا يمكن دراستها بالتلسكوبات الأرضية.
أطلقت وكالة ناسا تلسكوب هابل الفضائي في ربيع عام 1990، وقدر العلماء فترة عمله في البداية بعشر سنوات، لكنه مازال يعمل حتى الآن بعد حوالي 28 عاماً. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققه التلسكوب فإنه استنفد أغراضه الآن ولا يمكنه رصد النجوم القديمة جداً التي تكونت في بداية الكون بسبب قدرته وحساسيته المحدودة. وبدأت وكالة ناسا في العمل على بناء تلسكوب جديد يكمل إنجازات تلسكوب هابل، ويكون قادراً على رصد إشعاعات أول النجوم التي ظهرت في الكون.
تلسكوب جيمس ويب
أطلق على التلسكوب الجديد اسم تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) تخليداً لاسم جيمس ويب (1906 – 1992)، الذي كان مديراً لوكالة ناسا خلال ستينيات القرن الماضي، وأشرف على برنامج «أبوللو» الشهير (Apollo)، الذي نجح بإنزال أول إنسان على سطح القمر.
تقود وكالة ناسا مشروع التلسكوب بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوربية (ESA) ووكالة الفضاء الكندية (CSA) وتشارك في المشروع 14 دولة. ساهم في تصميم وبناء معداته وأجهزته آلاف العلماء والمهندسين من مختلف دول العالم. وقدرت تكلفة التلسكوب بحوالي 8.8 مليارات دولار، وقد انتهت الشركات من صناعة معظم أجهزته ومعداته. خضع التلسكوب لاختبار تبريده لدرجة حرارة 233 تحت الصفر المئوي، وذلك لأنه سيعمل عند هذه الدرجة في مداره حول الشمس. وسوف يخضع لاختبارات أخرى قبل إطلاقه على متن صاروخ إيريان الفرنسي (Arian 5) من غويانا الفرنسية (French Guyane) في أمريكا الجنوبية في ربيع أو أوائل صيف عام 2019. وسيحتاج التلسكوب إلى شهر كامل للوصول إلى مداره الذي يبعد عن الأرض 1.5 مليون كيلومتر. ويمتاز هذا المدار الذي يبعد عن الأرض أربعة أضعاف بعد القمر عنها بالاستقرار. وسيحتاج التلسكوب لفترة 6 أشهر أخرى لضبط درجة حرارته ومعايرة أجهزته قبل أن يبدأ القياسات العلمية. ويحوي التلسكوب وقوداً يكفي لعشر سنوات، ويأمل العلماء أن يعمل بصورة جيدة على أقل تقدير لمدة 5 سنوات، وهي مدة قصيرة مقارنة مع تلسكوب هابل، وذلك لعدم القدرة على إجراء الصيانة اللازمة له بسبب بعده الشاسع عن الأرض.
مرآة التلسكوب
تعتبر المرآة المقعرة الجامعة للأشعة في أي تلسكوب أهم أجزائه وتعتمد حساسية وقدرة التلسكوب على مساحة هذه المرآة. وتتكون مرآة التلسكوب من 16 قطعة سداسية الشكل، كتلة كل منها 20 كيلوجراماً تكون معاً مرآة قطرها حوالي 6.55 أمتار. إن مساحة المرآة أكبر من مساحة مرآة تلسكوب هابل بأكثر من ستة أضعاف، مما يجعل قدرة وحساسية التلسكوب تفوق تلك لتلسكوب هابل بأكثر من مائة ضعف.
استخدم العلماء عنصر البيريليوم (beryllium) في صناعة المرآة وهو عنصر خفيف جداً وصلب ولا يتأثر بالحرارة. استخدم حوالي 48.5 جم من الذهب الخالص لطلاء المرآة بطبقة رقيقة جداً من الذهب، وذلك بسب كفاءته العالية في عملية انعكاس الأشعة تحت الحمراء، حيث تعكس هذه المرآة الأشعة تحت الحمراء نحو مرآة أخرى ثانوية مطلية بالذهب تعكسها بدورها نحو أجهزة التلسكوب. إن الصور التي يلتقطها التلسكوب دقيقة جداً لدرجة أنها تبين التفاصيل الدقيقة لقطعة عملة معدنية صغيرة على بعد 40 كيلومتراً.
الأجهزة العلمية
بالإضافة للمرآة الرئيسة والمرآة الثانوية فإن التلسكوب يحوي أيضاً عدداً من الأجهزة العلمية الحساسة للأشعة تحت الحمراء بأطوال موجية مختلفة وهي على النحو الآتي:
1 ــ كاميرا تحت الحمراء القريبة (NIRcam): يمكن لهذه الكاميرا التقاط إشعاع وصور أول النجوم التي تكونت في الكون بعد الانفجار العظيم التي لم يلتقطها تلسكوب هابل بسبب ضعف إشعاعه. يمكن للكاميرا أيضاً التقاط صور مجرات في طور التكون وصور أنظمة شمسية بعيدة جداً مع كواكبها. ويوجد أيضاً على متن التلسكوب كاميرا مشابهة للأشعة تحت الحمراء المتوسطة (MIRcam) تلتقط الإشعاعات التي طول موجتها أكبر من الأشعة تحت الحمراء القريبة ولا تلتقطها الكاميرا الأولى.
2 - مطياف (محلل الطيف) spectrometer للأشعة تحت الحمراء القريبة، يلتقط إشعاع النجوم البعيدة جداً ويحلله إلى مركباته الأولية لمعرفة خصائص النجوم، مثل الكتلة ودرجة الحرارة والتركيب الكيميائي وغير ذلك. كما يوجد مطياف مشابه يستخدم الأشعة تحت الحمراء المتوسطة.
3 - يوجد كذلك عدد من المجسات الإلكترونية التي يمكن استخدامها لتوجيه وضبط الأجهزة المختلفة على متن التلسكوب وعدد من الكواشف الإشعاعية المختلفة.
4 - يحتوي التلسكوب على جهاز إرسال (transmitter) يستخدم الترددات العالية، ويرسل الصور والمعلومات إلى المحطة الأرضية، حيث يتم التقاطها في محطة ناسا بواسطة هوائي ضخم ثم تحول المعلومات إلى مركز التلسكوب في ولاية ميريلاند، حيث يوجد حوالي 1200 من العلماء والباحثين والمهندسين.
5 - المظلة أو الواقي الشمسي: تم تصميم وصناعة مظلة (Sunshade) تمنع جميع الأشعة القادمة من الشمس والأرض من الوصول إلى مرآة أو أجهزة التلسكوب. يدور التلسكوب والأرض معاً حول الشمس وتحجب المظلة التلسكوب عن الأشعة القادمة منهما طوال الوقت. وتتكون المظلة من خمس طبقات مصنوعة من مادة جديدة (اسمها Kapton) يفصل بين هذه الطبقات فراغ تام لتحسين العزل. إن مساحة المظلة حوالي 300 متر مربع، وقد تم تأجيل إطلاق التلسكوب لبضعة أشهر لفحص واختبار قدرة المظلة على امتصاص الإشعاعات القادمة من الشمس والعزل في ربيع العام الحالي.
المهام العلمية
تعتمد نظرية نشأة وتطور الكون خاصة في مراحلها الأولى على الدراسات والأبحاث النظرية، وهي بحاجة لقياسات تجريبية. إن شدة الإشعاع الذي صدر خلال هذه الفترة ضعيفة جداً، ولم تتمكن التلسكوبات الحالية من رصده لدراسته. يأمل العلماء أن تتم عملية رصده وتحليله ودراسته بواسطة التلسكوب الجديد. ومن أهم الأمور العلمية التي يأمل العلماء معرفتها من صور ومعلومات التلسكوب ما يلي:
1 - الكشف عن أول النجوم: تقول نظرية الانفجار العظيم (The big bang) التي تبحث نشأة وتطور الكون بأنه بدأ في انفجار هائل قبل 13.75 مليار عام، ونتج عن ذلك الانفجار حرارة شديدة. كان الكون في تلك الفترة عبارة عن خليط من الجسيمات البسيطة مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، ولا وجود للمادة العادية بسبب الحرارة العالية. ومع توسع وزيادة حجم الكون بدأت درجة الحرارة بالانخفاض التدريجي إلى أن أصبحت بعد مرور 380 ألف عام مناسبة ليجذب البروتون إلكتروناً ليدور حوله، مكوناً ذرة الهيدروجين، وبالتالي المادة المتعادلة للمرة الأولى في الكون. رافق هذه العملية التي يطلق عليها عهد أو زمن إعادة الاتحاد (The Era of recombination) صدور إشعاع في جميع الاتجاهات يعرف بإشعاع الخلفية الكونية (CBR). وقد تم الكشف عن هذا الإشعاع وقياسه منذ فترة طويلة. ولا يمكن دراسة الكون في مراحل عمره الأولى المظلمة لعدم وجود النجوم، أي مصابيح السماء التي لم تكن قد تكونت بعد، إذ يمكن للعلماء كشف أسرار الكون بتحليل ودراسة إشعاع النجوم. ويأمل العلماء أن يتم تحديد زمن تكون أول النجوم من خلال صور ومعلومات التلسكوب الجديد. وتقدر النظريات العلمية أن أول النجوم ظهر بعد (100 – 300) مليون عام بعد الانفجار العظيم، حيث أضاء نوره الكون وأنهى فترة الظلام السابقة.
2 - زمن إعادة التأين: يسود الاعتقاد بأن النجوم الأولى لم تعمر طويلاً وفي نهاية عمرها زاد إشعاعها وانفجر بعضها وأصدر طاقة عالية أدت لتأين مادة الكون مرة أخرى فيما يعرف بزمن إعادة التأين (The epoch of reionization). تقدر النظرية أن ذلك حدث بعد مرور (500 - 1000) مليون عام، دون أي تأكيد تجريبي لذلك. وسيتمكن العلماء من تحديد زمن إعادة التأين ومعرفة الطريقة التي تكونت فيها النجوم وتطورها على مر الزمان.
3 - الكشف عن أولى المجرات: تتجمع النجوم بفعل قوة جاذبيتها لتكون المجرات التي قد تحوي ملايين النجوم. لا يعرف العلماء الزمن الذي تكونت فيه أول مجرة في الكون، وتقدر النظرية أنه حوالي مليار عام. سيتمكن العلماء من تحديد هذا الزمن بدقة من خلال التقاط وتحليل إشعاع هذه المجرات، وسيتمكنون أيضا من دراسة مراحل تكون المجرات ومعرفة أسباب وجود عدة أنواع منها.
4 - الحياة في الكون: سيتمكن العلماء من دراسة وتحليل ظروف كواكب المجموعة الشمسية، وخاصة وجود الماء وإمكانية وجود الحياة عليها. كما يمكن للتلسكوب اكتشاف أنظمة كوكبية أخرى، ويمكن دراسة الطريقة التي تكونت فيها هذه الأنظمة الكوكبية من صور ومعلومات التلسكوب، واكتشف العلماء حديثاً نظاماً كوكبياً مشابهاً لنظامنا الشمسي على بعد حوالي 40 سنة ضوئية من الأرض. ويتكون النظام الكوكبي من نجم قزم أحمر (اسمه Trappist -1) أصغر كثيراً من الشمس تدور حوله 7 كواكب صخرية. يوجد في هذا النظام أربعة كواكب تشبه الأرض من حيث الحجم والكثافة والحرارة تدور في منطقة قابلة أو مناسبة للحياة (habitable zone). وقد بينت دراسات بواسطة تلسكوب هابل أنها تحوي كمية كبيرة من الماء. ولا يمكن حسم موضوع الحياة عليها في الوقت الحاضر، ويأمل العلماء أن يتمكنوا من حسم الأمر من خلال معلومات تلسكوب ويب الجديد الذي سيبدأ العمل في الأشهر الأخيرة من عام 2019.
5 - الكتلة الداكنة والطاقة المظلمة: افترض العلماء في السنوات الأخيرة وجود الكتلة الداكنة (dark matter) لتفسير حركة النجوم حول مركز مجرة درب التبانة. ولم يتمكنوا حتى الآن من الكشف أو معرفة طبيعة هذه المادة الجديدة. وقد افترضوا أيضاً وجود الطاقة المظلمة (dark energy) لتفسير تسارع توسع الكون دون معرفة طبيعة هذه الطاقة الغريبة. يأمل العلماء أن تلقي معلومات التلسكوب الجديد الضوء على كل من الكتلة الداكنة والطاقة المظلمة أو الكشف عنهما بصورة عملية ■