من أجل الإنسان «الحياة قصيرة، لكن إتقان المهنة يحتاج الكثير من الوقت» (أبقراط)
ما أقصر حياتنا نحن سلالة بني الإنسان، تمر علينا السنوات نتشاغل بالأحداث اليومية، فنبدو كالفاقدين بوصلة التوجيه لدفة المركبة التي تمخر عباب محيط من الاحتمالات المرتبطة بطبيعة النقص الكامن في معارفنا بنفسنا وبالمحيطين بنا. احتمالات من الفقر، والهزيمة، والمرض والكوارث البيئية.
قليل هم في كل جيل من قرروا أن يخطوا تلك الخطوة الشجاعة باتجاه العمل بإصرار وتحدّ، برغم كل الاحتمالات، والأقل هم من كافأتهم الأحداث والظروف، بعد سلسلة من الفشل والتحدي لتغيير تفكيرنا وممارساتنا العلاجية إلى الأبد.
في هذا المقال أستعرض بعض قصص الإصرار والنجاح في مجال طب وجراحة العيون، لعلها تكون مرشداً للزملاء في المهنة بعدم استحالة تغيير هذا العلم إلى الأفضل، وتسخير كل مجهود علمي لفائدة الحفاظ على صحة الإنسان وتوفير حياة أكثر راحة وسعادة.
عرف عام 1967 في الأوساط العلمية بعام الاكتشافات العظيمة، فبخلاف ما هو معروف لدينا في العالم العربي بأنه كان عاماً من الانكسار لتأثير نتيجة الهزيمة العسكرية في الحروب العربية الإسرائيلية على المثقفين، فقد كان عام الانتصار الباهر لرجال العلم في مناطق أخرى من العالم.
من هذه الاكتشافات، وفي هذا العام نفسه، قدم الطبيب وجراح العيون الأمريكي شارلز كيلمان للعالم عملية إزالة عتامة عدسات العين، المعروفة بالماء الأبيض أو الساد، باستخدام تقنية الفاكو.
وسبق هذا الاكتشاف سنوات من التجارب والصبر لإيجاد بديل أكثر نجاحاً للطرق التقليدية لإزالة المياه البيضاء، كان من أبرزها محاولة ابتكار أدوات جراحية تعمل على تكسير العدسة داخل العين، ومحاولات أخرى لاستخدام التثليج لتجميد العدسة وإزالتها من العين.
وبالرغم من النجاحات المبدئية، لم تصل أي تقنية إلى مستوى نجاح عملية الفاكو - يشرح كيلمان الذي كان إضافة إلى اهتماماته الطبية عازفاً للموسيقى ونجم غناء أصدر ألبوماً تحت اسم مستعار، هو كيري آدم، فضلاً عن أنه قائد طائرة هليكوبتر - في كتاب مذكراته الماتع «من خلال عيني»، كيف واتته الفكرة لاكتشاف تقنية الفاكو.
فبعد أعوام من المحاولات والفشل، قرر طبيبنا المجتهد الحصول على استراحة قصيرة قضاها في موعد لدى عيادة الأسنان، وبينما هو مستسلم لأدوات الطبيب وهي تثقب السن، لاحت له خاطرة جعلته يتساءل عن الطريقة التي يعمل بها الجهاز لإحداث هذه الثقوب، وجاءه الجواب كطوق نجاة لمشروعه المتعثر لإيجاد حل لإزالة المياه البيضاء من العين عبر جروح ميكروسكوبية دقيقة.
فالحل كان باستخدام الاهتزازات المتتابعة والسريعة من أجل تفتيت صلابة السن والولوج إلى الطبقات الأعمق، ولم يتردد كيلمان في تجربة الجهاز على عدسة عين تم استخراجها من مريض حديث، ليكتشف نجاحها في تفتيت العدسة، وبالسرعة نفسها عمل على تصميم آلة خاصة به يمكن استخدامها مع أنسجة العين الأكثر حساسية، مراعياً التغيرات المطلوبة لعدم إحداث ضرر داخل بقية أجزاء العين القريبة من العدسة كالقرنية والقزحية.
واليوم تعتبر العملية من أكثر العمليات ممارسة على مستوى العالم، ففي الولايات المتحدة وحدها يتم إجراء أكثر من 1.5 مليون عملية سنوياً، وفق الإحصاءات، وبلغت نسبة نجاحها أكثر من 99 في المئة، مع تحسّن كبير في سعادة المريض بعد العملية، لكونها لا تستغرق إلا بضع دقائق تحت التخدير الموضعي.
ووفق أحدث إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن نسبة 25 في المئة من الـ 253 مليون مريض بضعف النظر والعمى حول العالم، يعانون المياه البيضاء، ويمكن علاجهم جراحياً. لكن ما كان لهذه العملية أن تحقق هذا النجاح من دون اكتشاف آخر لا يقل أهمية عن «الفاكو»، وهو زراعة العدسة القابلة للثني داخل العين عبر الجراحات الميكروسكوبية الدقيقة، ليصبح مسمى العملية «عملية إزالة المياه البيضاء بالفاكو، مع زراعة عدسة يتم حسابها بشكل دقيق باستخدام الموجات فوق الصوتية قبل العملية». وما كادت الأوساط الطبية تحتفل بالنجاح في إطالة عمر الإنسان واكتشاف اللقاحات والمضادات الحيوية للقضاء على الأمراض المعدية التي فتكت بأجيال من البشر، حتى ظهرت مشكلات صحية جديدة ناتجة عن تقدم عمر الإنسان وتطور عاداته الغذائية، ولعل أهمها وأكثرها تأثيراً على النظر في فئة المتقدمين في العمر هي اعتلال الشبكية المصاحب للتقدم في العمر، واعتلال الشبكية السكري.
ووفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن اعتلال الشبكية المصاحب للتقدم في العمر هو السبب الثالث للعمى في العالم، وبرغم التحديات التي لايزال أطباء العيون يخوضونها لمواجهة هذه المشكلة، فإن قصة اكتشاف العوامل المحفزة لنمو الأوعية الدموية في خلايا الأورام تعد من العلامات البارزة في طريق اكتشاف علاج لمختلف أشكال اعتلال الشبكية.
وفي ستينيات القرن الماضي، وخلال فترة زمنية معاصرة لاكتشاف كيلمان، كان جراح أمريكي، حصل على لقب أصغر رئيس قسم في الجراحة، على استعداد للاستقالة والتفرغ التام للبحث العلمي، إيماناً منه بإمكان إيجاد علاج للأورام.
تحدى فولكمان الأوساط العلمية، عبر نشر بحث يتحدث فيه عن وجود بروتينات محفزة يتم فرزها من الخلايا السرطانية، وهي مسؤولة عن تحفيز النمو الوعائي لإيصال التغذية الدموية للورم، وإذا نجحنا في إيجاد مضاد لهذا العامل، فإننا نكون قد خطونا خطوة كبيرة باتجاه جعل الشفاء من السرطانات والسيطرة على الأورام ممكناً.
وكما هو متوقع، فقد واجه فولكمان نقداً لاذعاً من باحثين آخرين، وتم التشكيك في نظريته، ووضع فرضية أن الالتهاب المصاحب لنمو الورم قد يكون سبب النمو الوعائي. استغرق الأمر عقداً من الزمان قبل أن ينجح فولكمان في إثبات نظريته عبر زراعة خلية ورمية في نسيج من العين، بحيث يعزل تأثير جهاز المناعة عن التدخل في نمو الأوعية الدموية، وبذلك أثبت وجود العامل المحفز للنمو الوعائي. واليوم بعد نحو 50 عاماً من هذا الاكتشاف، تمثل عقاقير مثل البيفاسيزوماب، والرانيبيزوماب، والأفليبيرسيبت، مستحضرات لا غنى عنها في أي مركز متخصص لعلاج أمراض العين، وقد أجريت في العقود الأخيرة آلاف الأبحاث الإكلينيكية، وعقدت مئات المؤتمرات لمناقشة نجاح هذه العقاقير، التي تعطى بطريقة الحقن داخل السائل الزجاجي في الجزء الخلفي من العين، في إنقاذ ملايين المصابين باعتلالات الشبكية وجلطات أوردة العين من العمى المحقق والمحافظة على البصر.
وفي الختام، لا يمكنني غير تأكيد أن السعي إلى تطوير الأدوات الجراحية والاستفادة من التقدم التكنولوجي لايزال يخطو بسرعة نحو المزيد من النجاح. فمن «الفاكو» التقليدي إلى عملية إزالة المياه البيضاء بمساعدة جهاز الفيمتو ليزر، ومن الجيل الأول من مضادات عوامل النمو الوعائي إلى الأجيال الأحدث، ممثلة في عقار اللوسيسيزوماب الواعد بتخفيف معاناة المرضى، عبر البقاء فترات أطول داخل السائل الزجاجي، مما يقلل عدد تكرار الحقن المطلوب للوصول إلى الهدف الإكلينيكي المطلوب.
ويبدو أن المزيد من التقدم في تقنيات استخدام الخلايا الجذعية والأبحاث الجذعية والأبحاث الجينية يحمل المزيد من النجاح لمرضى المستقبل ■