برانيسلاف نوشيتش عندما يكون الضحك رفيقًا

برانيسلاف نوشيتش عندما يكون الضحك رفيقًا

الكاتب الساخر عملة نادرة في جميع بلدان العالم؛ لأنه من الصعب أن تنتزع الضحكات من الناس في عالم يموج بالمشكلات والصراعات؛ ولكن من السهل أن تبكيهم.
والضحك قوة هائلة وسيف قاطع تمتد آثاره إلى الجوانب الروحية والاجتماعية، ويغسل الروح من الأدران التي تعلق بها، كما يعتبر  وسيلة من وسائل المعرفة، والأدب الساخر من أرقى ألوان الأدب، وبخاصة السياسي منه، وهو يسجل أحداث العصر تسجيلاً أمينًا.

 

نحن أمام كاتب استخدم الضحك والإضحاك سلاحًا له في التعبير عما يجيش به صدره، وعن فكرته الأدبية ورؤيته للواقع الاجتماعي المحيط به، وكانت مؤلفاته صورة ضاحكة ساخرة تصور الحياة الاجتماعية في الصرب عند نهاية القرن التاسع عشر، وقد وقعت في أسر أسلوبه البديع بعد أن قرأت له مسرحيات مترجمة عدة، وشعرت لحظة القراءة أن الخفة والرشاقة والفكاهة التي تنبعث من السطور تتسلل إلى نفسي لدرجة جعلتني أحلّق في سماء من المرح اللذيذ.
 الكاتب الذي أعنيه هو برانيسلاف نوشيتش، الذي ولد في أكتوبر عام 1864 في مدينة بلجراد عاصمة مملكة الصرب آنذاك، وهي الآن إحدى جمهوريات يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية التي أعلنت عام 1945 بعد القضاء على النظام الملكي.
كان أبوه تاجر غلال غنيا، إلا أنه أفلس قبيل ميلاده، الأمر الذي حدا بعائلته إلى الانتقال إلى مدينة سميدريفو للعيش فيها. ويضحك نوشيتش من هذه الواقعة ويسردها في سيرته الذاتية بأسلوبه الساخر البديع، قائلا: «يقولون في الأسرة إن والدي كان أحد تجار بلجراد الأغنياء في وقت من الأوقات، ولكنه أعلن إفلاسه في اليوم نفسه الذي كان عليَّ أن أولد فيه، فجمع بقايا ممتلكاته، بما فيها أنا، وانتقل إلى مدينة سميدريفو للإقامة هناك، ولن أستطيع أن أغفر له هذا أبدًا، وعليكم أن تحكموا بأنفسكم، كنت قد رسمت خططي قبل أن أرى النور أن أصبح ابن رجل غني؛ ولكن أبي أعلن إفلاسه فجأة، وفي اليوم نفسه الذي لم أعد أستطيع رفض الخروج إلى الحياة فيه، فحكم عليّ بذلك بالعيش في فقر».
هكذا كانت البداية ساخرة بالنسبة إلى كاتبنا الذي وهب قلمه للفكاهة والسخرية طوال حياته، وجعل من الضحك رفيقًا له يلازمه حيثما كان.

الكتابة المسرحية
قضى نوشيتش طفولته في مدينة سميدريفو، حيث أنهى تعليمه في المدرسة والتحق بعد ذلك بجامعة مدينة جراتس النمساوية لدراسة الحقوق، وتركها وانتقل إلى جامعة بلجراد، حيث استكمل دراسته هناك وحصل على دبلوم الحقوق، غير أن العمل بالمحاماة لم يجتذبه، فقد استهواه المسرح منذ صغره، فكان يشارك بالتمثيل في مسرح الهواة، ومنذ ذلك الحين أخذ يفكر في تجربة الكتابة المسرحية، وبالفعل بدأ في كتابة أول مسرحية كوميدية وهو في التاسعة عشرة من عمره، وذلك في عام 1883، وكانت المسرحية هي ممثل الشعب «نائب البرلمان»، وفيها استخدم موهبته في الكتابة الساخرة في تصوير الواقع بمملكة الصرب في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، حيث استشرى الفساد وأخذت مختلف التجمعات السياسية تسعى إلى السلطة بشتى الوسائل، تحت شعارات النفاق السياسي «ألا يذكرك هذا بواقعنا المعاصر»؟
 وتعرضت المسرحية للانتخابات في مملكة الصرب آنذاك، حيث كانت السلطات تضفي عليها حرية زائفة (تمثيلية يعني)، في الوقت الذي تتآمر فيه وراء الكواليس لشراء أصوات الناخبين «لا ندري هل كان هذا بوساطة الزيت والسكر أم أن هناك شيئًا آخر!».
 وأصبح هدف كل مرشح لتمثيل الشعب في البرلمان هو الحصول على أكبر قدر من المنفعة المادية لنفسه وليس العمل على تحقيق مصالح الناخبين، وكأن شعار المرشح الذي يبطنه كما قلت ذات مرة في مقال لي «من أجل نفسي رشحت نفسي، ولو في يوم خدمت غير نفسي فلن ألوم سوى نفسي».
كتب نوشيتش أحد عشر مجلدًا تضم خمسين مسرحية وعددًا كبيرًا من القصص والفكاهات والمقالات الساخرة والمذكرات؛ لكن الغلبة كانت للمسرح الذي كان شغله الشاغل ولاسيما الملهاة «الكوميديا»، وكأنه يطبق قول نيتشه: «إذا كان هناك أمر يشرفنا، فهو أننا طرحنا الجد جانبًا وحملنا محمل الجد الأشياء التي احتقرتها العهود السابقة ووضعتها في سلة المهملات».
تميز نوشيتش بأنه حاضر البديهة زلق اللسان؛ لا يسلم أحد من نقده اللاذع والظريف معا، كما كان ذا بصيرة كاشفة ورءوفا في الوقت نفسه بوضع الناس وأحوالهم المادية والخلقية، ولهذا استخدم الضحك في أعماله لكشف الأخطاء والعيوب في نفوس البشر، بهدف العلاج وليس بهدف التشهير والتجريح، وهذا من أسمى أهداف الفن. 
ونستطيع أن نستشف ملامح شخصية نوشيتش وفلسفته في الحياة من خلال أعماله المتميزة، التي تنم عن عمقه الثقافي وتجربته الثرية؛ فهي أعمال تصب في خانة الأعمال الساخرة التي تنبع من إدانته للنفس البشرية الضعيفة والمريضة، وتلامس تلك الأعمال دواخل الفرد منا، وكأن الشخصيات التي يكتبها من لحم ودم، تتحرك من حولنا ونتعامل معها ونتحاور. 
كان نوشيتش يستخدم الضحك كمحرك أساس لجميع أعماله، لاعبًا على وتر السمات المميزة للظواهر الاجتماعية والتناقض بين الهدف ووسيلة تحقيقه وعدم التطابق بين الشكل والمضمون. 
لا ريب في أن ارتباط نوشيتش بالمسرح ساعده في رؤية التجسيد المسرحي، وفهم احتياجات المسرح الفنية، مما أثرى موهبته ككاتب مسرحي يراعي حاجة المسرح والجمهور معا، فهو يكتب بأسلوب بسيط، ويتدرج بالحوار والموضوع طوال المسرحية، ما يجعل المشاهد أو القارئ تواقًا إلى معرفة ماذا سيحدث بعد ذلك.

ثلاث شخصيات
ولمعرفة عالم نوشيتش الفني والفكري، نقرأ ما كتبه عن نفسه في سيرته الذاتية، يقول: «تنازعت قلبي ثلاث شخصيات، الشخصية الأولى بكت ما إن فتحت عينيها على الدنيا، ومنذ تلك اللحظة لا تفترق عنها الدموع فعاشت حياتها كلها باكية، أما الشخصية الثانية فأصبحت لا تستطيع التخلص من أعباء الحياة وهمومها منذ أن واجهت هذه الأعباء والهموم، فعاشت حياتها تئن تحت وطأة هذه الأعباء والهموم، وأما الشخصية الثالثة فضحكت لحظة لقائها بالحياة، فعاشت كل حياتها ضاحكة، وجعلت من الضحك رفيقًا لها يلازمها الحياة.
 لم تر الشخصية الأولى في الحياة سوى الشر والحزن، وبدا لها كل شيء في الحياة كئيبًا قبيحًا، فالسماء ملبدة بغيوم رمادية قاتمة، والأرض مروية بالدموع، إنها شخصية حساسة لكل ظلم، يتمزق قلبها لأحزان الناس وتعاستهم.
أما الشخصية الثانية، فقد انحنى ظهرها من ثقل الأعباء والهموم، دائمة التعذُّب من أن الأرض لا تستطيع الدوران عكس حركتها، وأن الأنهار تجري في خط مستقيم، وأن البحار عميقة، والجبال عالية، يأخذها التفكير في كل كبيرة وصغيرة، وتسعى إلى حل كل ظاهرة غامضة تصادفها، غير أن الشخصيتين الأولى والثانية لم تعرفا الحياة؛ فقد انتفخت عينا الشخصية الأولى من الدموع، وتمزقت نفسها من أحزان ومعاناة الناس، ومع ذلك لم تقل هذه أو تلك المعاناة. 
أما الشخصية الثانية، فقد أنهكت عقلها وأتعبت فكرها في مصائر الناس، وأدركت في نهاية الأمر أنه من المستحيل فصل أعباء وهموم الحياة عن الإنسان، فإنها أساس من أسس تطور البشرية. 
الشخصية الثالثة تعيش حياتها منشرحة الصدر، لا تفارق الابتسامة شفتيها، تنظر إلى الدنيا نظرة رحبة، كانت تضحك من العيوب ومن الميزات، لأن الناس يعتبرون الميزات أكثر العيوب قبحًا في كثير من الأحيان. وتضحك من الرفيع ومن الوضيع، لأن الرفيع أكثر من الوضيع تفاهة في بعض الأحيان. وتضحك من الحكمة ومن الغباء، لأن الحكمة قد تكون في بعض الأحيان نتاج تعارف الناس على بعض التصرفات الغبية. وتضحك من الكذب ومن الحقيقة، لأن غالبية الناس تفضل الكذب الحلو على الحقيقة المرة. وتضحك من الحقائق ومن الضلال، لأن الحقائق تتجدد في عصرنا أكثر من الضلال. وتضحك من الحب ومن الكراهية، لأن الحب كثيرًا ما يكون أكثر أنانية من الكراهية. 
وتضحك من الحزن ومن الفرح، لأنه قلما يأتي الفرح من دون سبب، أما الحزن فكثيرًا، وكثيرًا جدًا يكون من دون سبب. وتضحك من السعادة ومن التعاسة، لأن السعادة متغايرة دائمًا، أما التعاسة فدائمة تقريبا. وتضحك من الحرية ومن القهر، لأن الحرية لا تخرج عن كونها كلمة في كثير من الأحيان، أما القهر فحقيقة دائمة. 
وتضحك من العلم ومن الجهل، لأن أي علم له حدود، أما الجهل فلا حدود له.
 وقصارى القول أنها تضحك من كل شيء، وكلما تعمقت في النظر إلى الحياة، وكلما تعمقت في معرفة الناس، ازدادت ضحكا».
 هذه هي ملامح شخصية نوشيتش، وفلسفته في الحياة.
ولا شك في أن الغلبة دائمًا كانت للشخصية الثالثة التي لم تكف عن الضحك طوال حياتها، على حد تعبيره.
شغل نوشيتش وظائف عدة، فقد عُين في أحد المناصب الدبلوماسية في المنطقة الجنوبية من الصرب، التابعة آنذاك لتركيا، ثم عُين في عام 1903 سكرتيرًا لرئيس مجلس الوزراء، ثم أُحيل إلى المعاش بعد الانقلاب الذي أطاح الحكومة في العام نفسه، وكان قبل اشتغاله بالعمل الدبلوماسي يعمل مديرًا للمسرح الشعبي في بلجراد عام 1900، وعاد إلى المسرح بعد إحالته إلى المعاش، حيث عمل في الفترة من 1904 إلى 1905 مديرًا للمسرح الشعبي في مدينة نوفي ساد، وفي عام 1913 قام بتنظيم مسرح في ميناء سكوبلي، وعمل مديرًا له حتى عام 1915، حيث اضطر نتيجة اشتعال الحرب في الصرب ثم في العالم إلى مغادرة البلاد، وأقام نحو ثلاث سنوات في إيطاليا وسويسرا وفرنسا، وعاد إلى الصرب عام 1918 بعد إقامة مملكة الصرب والكروات والسلوفان، وشغل منصب مدير إدارة الفنون في وزارة الثقافة حتى عام 1923، وبدءا من هذا العام عمل مديرًا للمسرح الشعبي في سراييفو.
كتب نوشيتش عديدا من المسرحيات الكوميدية يتضح فيها أنه لا يركز على كوميديا المظهر والشكل الخارجي، بل يهتم بالكشف عن شخصيات أبطاله وفقرهم الروحي، وتصرفاتهم القبيحة، مما يزيد من حيوية التعبير وصدقه ونفاذه إلى القلب مباشرة.
ومن أعماله «ممثل الشعب» و«شخصية مريبة» و«إنسان عادي» و«أمير سيمبريا» و«الدوامة» و«رحلة حول العالم» و«حرم سعادة الوزير» و«المستر دولار» و«الدكتور» و«المرحوم»، وتعتبر المسرحيات الأربع الأخيرة من أبرز أعماله الكوميدية. 

التماعات أدبية
قدم نوشيتش لمسرحيته الشهيرة «حرم سعادة الوزير» بمقدمة ممتعة، فيها التماعات أدبية موفقة؛ حيث يؤكد أنه على المرء أن يمتلك كثيرا من القوى المعنوية كي يرتفع فوق الخط العادي في المجتمع ويصبح فوق الآخرين، فوق الكثرة، كما يتطلب الهبوط كذلك عن هذا الخط الكثير والكثير من القوى الروحية أيضا، حيث يصبح المرء دون الآخرين، دون الكثرة، حيث يصبح خسيسًا، أو غاضبًا، أو نمامًا واشيًا، أو قاطع طريق، أو قاتلاً، فالحاجة إلى الشجاعة واحدة، سواء كان المرء يعلو نحو السماء مستخدمًا جناح إيكاروس، كما تقول الأسطورة الإغريقية، وهي الفكرة التي تطورت فجاءت بالطائرة في عصرنا، أو يهبط في قاع البحر مستخدمًا بدلة الغواص. ويتميز الذين يرتفعون فوق خط الحياة المستوي أو يهبطون دونه بكثير من المواهب الفذة، وكثير من الانفعالات، وكثير من العواطف، ويمضي في مقدمته الممتعة شارحًا فكرته، مشددًا على أن الكاتب المسرحي يتطرق عن طيب خاطر إلى هذه المجالات... مجالات البواعث القوية والانفعالات القوية، وخلجات النفس القوية، حيث يمكنه أن يجد دومًا موارد عميقة ينهل منها مادة خصبة لمؤلفاته. 
لذا نجد عددًا كبيرًا من المؤلفات المسرحية يتناول هذه المجالات، غير أنه من الأصعب بكثير إيجاد هذه المادة في الوسط العادي، أي وسط هؤلاء الذين ليست لديهم القوة ولا الشجاعة للابتعاد عن الخط المستوي للحياة، سواء كان ذلك بالعلو أو الهبوط، وسط هؤلاء الذين ليست لديهم القوة ليكونوا ممتازين، كما ليست لديهم الشجاعة ليكونوا سيئين.

وتيرة واحدة
 وسط هؤلاء الذين تربطهم وتكبلهم توافه العرف، والذين أصبحوا عبيدًا للتقاليد البالية، والذين لا ينفصل وجودهم في الحياة كلها عن خور العزيمة. 
وتسير حياة هؤلاء الناس على وتيرة واحدة ونغمة واحدة تمامًا مثل بندول ساعة الحائط، والحركة في هذا الوسط من المجتمع حركة طفيفة هادئة من دون انفعالات أو علامات أو آثار ملحوظة، مثلها في ذلك مثل الأمواج الهادئة التي تتبدد على سطح المياه الراكدة حين تسقط عليها ريشة طائر. 
هذا الوسط لا يعرف العواطف، ولا يعرف الجو الملبد بالغيوم، ولا يعرف الزلازل، ولا يعرف الحرائق، وهذا الوسط محاط بسور سميك يحميه من العواصف والرياح التي تثير المجتمع؛ فيعيش هذا الوسط في الغرف، ويمثل الشارع بالنسبة إليه عالمًا كاملاً، والعالم الخارجي كذلك. أما الأحداث التي تهز القارات فليست إلا قراءة صحفية بالنسبة إليه. 
ويخلو هذا الوسط الذي لا ينفصم عن خط الحياة المستوي من الأحداث المهمة والمثيرة والانفعالات.
يقول د. فوزي عطية، مترجم بعض أعمال نوشيتش عن الروسية، إنه يقدم شخصياته وسط ظروف عادية يمكن مصادفتها في كل زمان ومكان... إنهم أناس عاديون يعيشون بيننا، ويتصرفون وفقًا لمفاهيمهم وعاداتهم وتصوراتهم. ويقع بعضهم في مآزق، فيسعى إلى الخروج منها بصورة فطرية، من دون أن يفكر لحظة واحدة في أنه يثير الضحك.
ومما يثير الدهشة أن نوشيتش عندما كان مديرًا لأحد المسارح عام 1900 رفض عرض مسرحيته «شخصية مريبة» التي تتعرض للفساد والتسلط وإهمال مصالح الجماهير من خلال تصويره لمدير مركز بوليس كرمز للسلطة العليا الذي لا يتحرك إلا بتلقي الرشاوى، ويقول كاتبنا في هذا الصدد: «أصبحت في عام 1900 مديرًا لأحد المسارح، وأردت أن ترتبط إدارتي بعملية تجديد واسعة النطاق من المسرحيات الصربية، وشعرت بأن الفرصة قد سنحت الآن لعرض مسرحية «شخصية مريبة»، فقد أصبحت مدير المسرح، ومقعد المدير يرمز إلى سلطات واسعة ونفوذ كبير، أجلس إلى المقعد ومن ورائي صورة صاحب الجلالة في إطارها الكبير المعلق فوق رأسي، وبدأت قراءة المسرحية، وما إن وصلت إلى كلمة «الأسرة المالكة» فيها حتى نظرت إلى جلالته ونهضت من مقعدي وتناولت المسرحية من على المكتب وأعدتها إلى نفسي ككاتب، وأنا أقول: عزيزي السيد نوشيتش... عد بهذه المسرحية إلى المنزل، إنها مسرحية رائعة وممتازة، بل وأهنئك على كتابتها، ولكن عد بها إلى المنزل، فإنني لا أود أن يعثر عليها أحد هنا في مكتبي». ولم تعرض هذه المسرحية إلا عام 1923.

قصيدتان وسجن
من الأمور المدهشة في حياة نوشيتش أنه لم يكتب الشعر إلا مرتين في حياته كلها، وكانت العاقبة مريرة له في كلتا المرتين، وفي هذا يقول في سيرته الذاتية «لقد نالت قصيدتي الأولى من امرأة ونالت قصيدتي الثانية من الملك، وإذا أخذنا في الحسبان أن النساء والملوك هم أكثر الناس حساسية وأكثرهم انتقامًا، فلا يصعب تصور المكافأة التي حصلت عليها نظير هاتين القصيدتين». 
كانت قصيدته الأولى حين كان تلميذًا في المدرسة، حيث عاقبه مجلس إدارة المدرسة بالحجز ثلاثة أيام بعد الدراسة، أما قصيدته الثانية فكانت بعنوان «العبدان» ونشرت في صحيفة «دينفني ليست» عام 1887 وينتقد فيها النظام الحاكم بشدة، فألقت السلطات القبض عليه وقدم إلى المحاكمة، فحكمت عليه محكمة بلجراد بالسجن شهرين، إلا أن المحكمة العليا وجدت في القصيدة «عيبًا في الذات الملكية»، فحكمت بزيادة المدة إلى عامين لم يقض منهما سوى عام واحد، حيث تم الإفراج عنه نتيجة انقلاب أطاح الحكومة السابقة. 
ويعقد كاتبنا مقارنة ساخرة بينه وبين صديق له، قائلاً «لي صديق لم يكتب طوال حياته كلها سوى قصيدتين كذلك، غير أنه حقق في الحياة نجاحًا لا مثيل له، ومرجع ذلك أنه هنأ امرأة بالغة الثراء بعيد ميلادها السبعين متمنيًا لها «طول العمر»، وهنأ في قصيدته الثانية أحد الوزراء بتعيينه في منصب جديد»، وهو هنا يعري السلطات ويكشف نواياها تجاه الكتّاب الذين على شاكلته. 
ويشعر الرجل بالمرارة من السجن ويخط هذه المرارة بقلمه الساخر، حيث يذكر أنه وجد نفسه في السجن وسط مجتمع جديد من مقترفي الجرائم، وهناك يقترب منه أحد النشالين ويشد على يده باسمًا ومرحبًا به وسطهم، ويدور بينهما حوار يعكس فلسفة كل من الطرفين، والحوار ساخر وكاشف وفاضح، وسأذكر هنا نهاية هذا الحوار، ولك أن تشحذ خيالك لتستشف بنفسك فحوى ما دار بينهما... يقول النشال لكاتبنا في ختام حوارهما: «هلم واصل كتابتك للشعر، أما أنا فسوف أواصل السرقة وسوف نلتقي بعد عشرين عامًا، وأؤكد لك أنك إذا لم تجدني عضوًا في البرلمان فستجدني على أسوأ تقدير رئيس مجلس إدارة أحد البنوك، وسوف تمر بجانبي ممزق البنطلون، وممزق العقل، وتنحني لي معبرًا عن احترامك لي، وتعرض عليّ أن تكتب لي قصيدة تهنئة بمناسبة عيد ميلادي نظير خمسين دينارا، ولا أشك في أنك ستصدر خلال هذه المدة كتابًا أو كتابين من أشعارك، ولكن ستظهر خلال المدة نفسها مئات الآلاف من الأسهم تحمل توقيعي، وسوف ينخفض سعر كتبك هذه من يوم لآخر، أما أسعار أسهمي فسوف تزداد ارتفاعًا، ولن يقيم كتابك سوى فرد أو اثنين، أما أسهمي فسوف تقيمها البورصة كلها وعلى هذا هلم فكر جيدًا... أي الجامعات أجدى في الحياة... الجامعة التي تخرجت فيها أم الجامعة التي ستتخرج فيها هذه؟».
في هذا الحوار صور نوشيتش ما كان يعانيه الأديب الصربي «ومعظم الأدباء» في نهاية القرن التاسع عشر «والذي يليه»!

أمير البلاغة الصربية
مُنح نوشيتش لقب أمير البلاغة الصربية، فهو كان أحد سادتها ومجدديها. 
كانت مسرحية «المرحوم» آخر مسرحية يكتبها برانيسلاف نوشيتش، حيث توفي عام 1938 بعد حياة حافلة بالعمل الأدبي، واستطاع بقلمه الساخر أن يصل إلى أعماق عيوب وآفات المجتمع ويجعل منه سوطا يلهب به ظهور الفاسدين والسفهاء والأنانيين وغيرهم من النماذج السيئة التي تبتلى بها المجتمعات في كل مكان وزمان. اكتشف مسرحنا العربي مسرحيات نوشيتش؛ فترجمت نصوصه الفكاهية بسرعة لافتة وتهافتت المسارح القومية على إخراج هذه النصوص في دول عربية عديدة كمصر وسورية والكويت والعراق والإمارات؛ فأعماله صالحة لكل الأزمان، لأنه يقدم بالفكاهة مختلف النماذج الاجتماعية، ولأنه يكتب الإنسان بداخله. 
وكان لرائعته «حرم سعادة الوزير» النصيب الأكبر على المسارح العربية، وقدمها المسرح الكويتي في السبعينيات، وقام ببطولتها الفنانة حياة الفهد وخالد النفيسي وسعد الفرج وغانم الصالح ■

 

نوشيتش