الإيكولوجيا الروحية عند كومار

 الإيكولوجيا الروحية عند كومار

يعد ساتيش كومار واحدًا من الشخصيات العالمية المدافعة عن السلام. كان راهبًا في السابق، وواحدًا من تلامذة غاندي، نشر في الآونة الأخيرة كتابه الموسوم «من أجل إيكولوجية روحية»، وهو عبارة عن مقالات يدعو فيها إلى إيجاد توازن جديد بين الأرض والنفس والمجتمع.
إن التحدث مع كومار أمر جدّ مدهش، لأن الرجل البالغ 82 عامًا مفعم بالحيوية والبساطة، إنه باختصار إنسان مثير للإعجاب، فكل من حاوره يجد متعة لا نظير لها، يأخذ بيديك ويطوف بك في عوالم لم تعهدها من قبل.

تكشف سيماء وجه كومار الداكن عن تراكم خبرات الحياة وخباياها، تخفي نظراته المتمعّنة عن بهجة دائمة، إذ سرعان ما يبدأ بالضحك عند أول سؤال يُطرح عليه: «عندما تجد العناكب أو البعوض في منزلك، فهل تقتلها»؟ 
 
حق العيش مكفول 
ولد ساتيش كومار سنة 1936 في راجاستان من عائلة جاينية؛ والجاينية هي الديانة الهندية القديمة التي ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد، وهي ذات طبيعة فلسفية تتبع تعاليم ماهافيرا، وتدعو إلى الزهد، وتقوم على مفاهيم الكارما واللاعنف. 
أتباع الجاينية يحترمون أي شكل حيّ، فهم نباتيون، ولا يشربون المياه غير المرشحة (حتى لا يتم ابتلاع الكائنات الحية الدقيقة)، أما الأكثر تعبّدًا منهم فيضعون قناعًا على الفم (لتجنّب بلع الحشرات الطائرة). 
كان كومار راهبًا جاينيًا من سن 9 إلى 18 عامًا، وهذا يكشف سبب ضحكه من طرح ذلك السؤال، ليجيب: «لا، أنا لا أقتل أي مخلوق. إذا وجدت عنكبوتًا، أضعها في الخارج، فلجميع الكائنات الحية الحق في العيش. إنها أساس فلسفتي، ومن أجل هذا أدافع بقوة لإيصال هذه الرسالة».
إنها معركة مستوحاة من تفكير معلمه غاندي الذي لم يعرفه عن قرب، وإنما قرأ وهو في العشرين من عمره السيرة الذاتية لهذا البطل الهندي، وقد أحدثت هذه القراءة تغييرًا جذريًّا في مساره، فقرر الانضمام إلى الطائفة الغاندية في بودغايا، حيث تنمو شجرة المانجو البوذية.
وهناك كان هذا الشاب يلتقي فينوبا بهايف، الوريث الروحي للمهاتما. وتشبّع بأفكار المعلّم الروحي أشاريا (وهو الاسم المستعار لبهايف، «المعلم» في اللغة السنسكريتية)، كما تأثّر بعمق بمفهوم ياجنا (الذي يحث على أن لكل إنسان أن يقدم للأرض واجبًا أخلاقيًّا مقابل ما قدمته له).
 يقول ساتيش: «عندما ننظر للأرض كأنها آلة، فإن هذه الأرض تصبح موضوعًا للاستغلال»، هذا ما قادنا إلى المجتمع الاستهلاكي والتصنيع وتعصّبنا الإثني، وكذلك النزعة الغربية التي وضعت الذكاء فوق كل شيء لجعلنا سادة العالم. وإنه لخطأ مركزي سيقودنا بلا شك إلى خسارتنا المادية، لكن أيضًا الروحية والنفسية.
 
وجهان لعُملة واحدة
يشير ساتيش إلى أن «هذا الطلاق وهذا التمزق الذي نثيره يجعلنا نمرض، دعونا نبحث عن الوحدة؛ إن الانسجام هو أحد المبادئ الأساسية للإيكولوجيا. إنها ليست مسألة صحوة للضمير بسبب الخوف من الكارثة. فهذا خطأ آخر! إنه الحب والشعور بالوقار الذي نستلهمه من الطبيعة، وهو الذي يجب أن يرشدنا نحو سلوك بيئي ونحو الوئام. إننا نعجب بلوحات فان جوخ ورسوماته لعبّاد الشمس، وجمال سماء الصيف فيها، فدعونا إذن لا ننسى أن كلًّا من الزهور والسماء قد ألهمته في صنيعه هذا».
إنها مسألة دخول إلى حلقة الفضيلة؛ فمن خلال احترامنا للطبيعة، فإننا نحترم أنفسنا، ونجد ذواتنا مرة أخرى. ومن هنا جاء مفهوم «الإيكولوجيا الروحية». 
يعتقد بعض النقاد الذين يعالجون هذا الموضوع أنه مجرد يوتوبيا غير واقعية! مرة أخرى، فتيل من الضحك... «ولكن هل هذه اليوتوبيا على حق؟ هل تعتقد أن غاندي كان سيحصل على استقلال الهند إذا سمح لنفسه بأن يكون واقعيًّا في وجه قوة بريطانيا العظمى؟ أما بالنسبة للواقعيين، فإن أفعالهم أدت بنا إلى استنفاد الأرض، والاحتباس الحراري، والأمراض، ومختلف أشكال العنف». ويضيف: «هل تعلم أن الكلمات: الدبال والتواضع والإنسان لها نفس الأصل الاشتقاقي في اللاتينية؟ فمن خلال إعادة اكتشاف الأرض والتواضع، سنصبح من جديد بشرًا سعداء».
 
قوة غير واقعية
يشرع كومار متزودًا بهذه القناعات والمعتقدات في النشاط الحركي اللاعنفي. ففي سنة 1962، وبدافع من دعوة برتراند رسل إلى العصيان المدني ضد الأسلحة النووية، المدعوم من فينوبا بهايف، قرر هو وصديقه الكاتب إي. مينون بدء مسيرة سلمية في جميع أنحاء العالم.
تكمن هذه الفكرة في زيارة عواصم القوى النووية للقاء قادتهم. غادر الشابان دون مال، سلاحهم الوحيد إيمانهم بالإنسانية وقيمها. لقد قطعا 12 ألف كيلومتر سيرًا على الأقدام. وتكفلت الساكنة بالاستضافة وتوفير الطعام لهما، لقد عبرا الهند وباكستان وأفغانستان وإيران وجورجيا وروسيا. وتمكّنا من أن يحظيا باستقبال في عدد من العواصم؛ موسكو وباريس ولندن وواشنطن، يقول ساتيش مبتسمًا كعادته: «بطبيعة الحال لم نقم بعبور المحيط الأطلسي سباحة». 
وهناك في الولايات المتحدة الأمريكية التقى مارتن لوثر كينغ، الذي أبهره وأثار إعجابه، يقول عنه: «إنه رجل جيد جدًا، إنسان موهوب بهالة معيّنة». ويضيف: «لو كنا نعلم ما سينتظرنا في هذه الرحلة لكنا استسلمنا. لكن كل رحلة تبدأ بخطوة، ثم خطوة أخرى».
إنها استعارة تعكس لجهوده في النضال الإيكولوجي. يقول: «يجب ألا تنسى أن الاقتصاد والبيئة لهما الجذر نفسه، أويكوس، الذي يعني الوطن باليونانية». مرة أخرى يؤكد هذا المناضل أن كل شيء متصل... يواصل ساتيش عمله بلا كلل، يكتب مقالات في الموضوع، ويقدم العديد من المحاضرات. وفي سنة 1973 انتقل إلى إنجلترا، حيث أصبح مديرًا لمجلة Resurgence and Ecologist.
 
 العمود الفقري للإيكولوجيا
 بالنسبة لساتيش، فإن كل شيء مترابط؛ «التعليم أمر ضروري، من دونه؛ تضيع كلماتنا في مهب الرياح. ولهذا السبب، أسس في سنة 1981، هو وزوجته، المدرسة الصغيرة بقريتهما الموجودة في ديفون في بريطانيا، وهي مدرسة موجّهة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و11 سنة. 
إن الهدف من هذا المشروع لا يكمن فقط في مسألة تمرير المعرفة فقط، بل لتطوير التوازن «بين الدماغ واليد». يتعلم الصغار القراءة والطبخ والبستنة والصيانة واحترام الطبيعة وغيرها. تلقّى ابنه أيضًا في هذه المدرسة تلك المعارف والمهارات.
لقد استمتع كومار بالحديث عن اليوم الأول من الفصل، حيث شرح للأطفال أنهم سيتعلمون زراعة الكرنب قبل الغوص في الحساب. «لقد كانوا سعداء جدًّا! الأطفال دائمًا منفتحون على التجارب». 
وفي سنة 1991، أسس كلية شوماخر، تكريمًا للمؤلف الاقتصادي والخبير الإحصائي صاحب الكتاب الشهير Small is Beautiful، الذي أكد أن الجمال والصحة والدوام أمور ضرورية للسعادة في اقتصاد متوازن. في مركز تعليم الكبار هذا، يطور ساتيش تعليمًا إيكولوجيًّا كليًّا وممارسات معيشة مستدامة. 
يقول: «يحتاج الكبار أيضًا إلى التدريب لأننا جميعًا لدينا عادات سيئة، إن الطلاب الذين يتخرجون في الجامعات لا يعرفون كيف تنمو الأشجار، كما لا يعرفون البناء والزراعة، فأي نوع من المستقبل نحن بصدد الإعداد له؟».
 
 حياة بسيطة
 يحظى هذا المركز التدريبي عند ساتيش بأهمية قصوى في مسيرته، إنه امتداد لفلسفته. ويشكّل كل من الانسجام والممارسة صميم وجوده. وغالبًا ما يعمل هذا المفكر بيديه: ففي حديقته، نجده يزرع «السلطة والخيار والطماطم ونبات الهليون والفراولة والأعشاب العطرية والملفوف»، كما يصلح منزله بنفسه؛ فيصلح الأثاث ويعدل الرفوف ويصبغ الجدران ويصلحها.
يقول: دعونا ننمي ذكاء اليد؛ إنه الطريق إلى خيالنا، فهذا الجزء مدفون لفترة طويلة جدًّا. ولنركز على المسارات القصيرة وإعادة التدوير. وذلك من خلال رفض النموذج الآلي الذي يجعل الأرض آلة مقدّرًا لها أن تخدمنا، إننا بحاجة إلى العودة للتوازن الذي نفتقر إليه. 
نحن جميعًا جزء من هذه البيئة الحيوية، فلنعتنِ إذن بهذه الأرض، دون انتظار أي شيء من المؤسسات، ولنقتبس من غاندي قوله «يجب على كل واحد منا المساهمة في التغيير»، تمامًا كما يجب أن نعتني بأنفسنا، وعقولنا وأجسامنا من خلال ممارسة التأمل واليوغا.
سرعان ما تتلاشى تلك الابتسامة المعتادة للحظة عندما يشير ساتيش إلى الممارسين الذين يستخدمون هذه التخصصات وسيلة لبناء صحة جيدة، مؤكدًا أنها ممارسة بالأساس، وليست رياضة أو منتج استهلاكي.
فإذا كانت الأرض تشكّل «محيطنا الخارجي»، فإن النفس هي «داخلنا»؛ إن رعايتنا لأنفسنا، هي خطوة للانضمام إلى المجتمع البشري العظيم. ويساعدنا التأمل على القيام بذلك. كما يجب أن نفتح الباب على مصراعيه للوعي الذي نعيشه «في عالم يغمره الخير، وخصوصًا ما تجود به التربة التي تحتوي على كل شيء. لذا، دعونا ننتقل من ثقافة الأنا إلى ثقافة البيئة» .