"فيلسوف الفريكة أمين الريحاني"

"فيلسوف الفريكة أمين الريحاني"

المؤلف: ز.ي.ليفين
ترجمة: خلف الجراد
"إني لبناني المولد. عربي اللسان والقومية. قد يكون في عروقي دم فينيقي أو كنعاني أو آرامي أو كلداني. فإذا كان قلبي في لبنان فإن روحي في البلاد العربية جمعاء". هذه بضع كلمات لأمين الريحاني الكاتب العربي الذي نذر حياته من أجل القيم والمثل الإنسانية.

عن دار الحصاد للنشر والتوزيع بدمشق، صدر في الآونة الأخيرة كتاب بعنوان "فيلسوف الفريكة أمين الريحاني" المكرس للحديث عن الجانب الفلسفي والاجتماعي والفكري في حياة المفكر والأديب العـربي أمين الريحاني. الكتاب من تأليف المستشرق الروسي زلمان ليفين المعروف بسعة اطلاعه الأكاديمي وبموضوعيته وجديته البالغة، والذي اشتهر بين المثقفين العرب من خلال دراساته وأبحاثه ومؤلفاته الرصينة الدقيقة في ميادين الفكر الاجتماعي والسياسي العربي في العصر الحديث.

وقام بترجمة الكتاب إلى العربية، الدكتور خلف محمد الجراد بأسلوب سلس رائع وطريقة مشوقة، سلطت الأضواء على المراحل والمحطات الفكرية الأساسية في حياة أمين الريحاني، الأمر الذي يشعـر القارئ وكأنه اطلع على مؤلفات الريحاني كاملة.

وفي الواقع لم يكن هذا الكتاب آخر ما كتب عن الريحاني الموسوعي، فقد برز الاهتمام بفكر الريحاني في العقدين الأخيرين عبر أشكال مختلفة، كالأطروحات الجامعية والمؤلفات الموضوعة عنه، والترجمات الكاملة لبعض أعماله، بالإضافة إلى الترجمات المختارة من أدبه والندوات العلمية المكرسة لمناقشة إبداعاته المختلفة.

نشأة الريحاني

يسلط المؤلف الضوء على معالم حياة الريحاني بصورة شمولية، ولا سيما كيفية تشكل العقيدة الفكرية للريحاني الإنساني النزعة الذي كان يحلم بتخفيف العذابات والمعاناة التي تطوق الإنسانية، والريحاني المفكر والمناضل الباحث عن التقدم السريع للمجتمع، والريحاني المنور المبشر بتحرير الإنسانية روحا وعقلا.. إضافة إلى الكيفية التي تغيرت من خلالها آراء الريحاني وتقويماته ومواقفه، إزاء المشكلات والقضايا الاجتماعية والسياسية تحت تأثير الحالة السياسية بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك من خلال معرفة السمات الخصوصية لتطور البلدان العربية وسوريا على وجه الخصوص، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من ناحية، وتطور الفكر الاجتماعي العربي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين من ناحية أخرى.

لقد ولد أمين فارس الريحاني في قرية الفريكة "بضم الفاء"، ورغم أنه ترعرع ضمن روح تدينية عميقة في بداية نشأته، كان له موقف واضح من الدين في المراحل اللاحقة من حياته، إذ كان يبشر بالقيم الرفيعة في الأديان جميعا. ولهذا يعتبر المؤلف أن الريحاني يعد بحق واحدا من الرواد العرب الأوائل، الذين دعوا الناس إلى التسامح الديني من أجل الوحدة الوطنية ومن أجل التقدم.

في عام 1888 هاجر الريحاني برفقة عمه إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يتعرف فيها على الثقافة الغربية "الفرنسية والإنجليزية والأمريكية" فحسب، وإنما كعربي قادته الكتب التي تمكن من قراءتها، إلى ماضي أجداده العرب، وأضرمت في فكره وعواطفه رغبة قوية لدراسة التاريخ العربي، ولهذا عندما عاد إلى الوطن في عام 1898 انكب على دراسة اللغة العربية وآدابها، وقراءة مؤلفات الكتاب العرب الأبرز تمثيلا لعصر النهضة العربية في القرون الوسطى، وكان أبرز من تركوا انطباعا عظيما لا يمحى في شخصية الريحاني وآرائه الفلسفية فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين أبا العلاء المعري. وفي عام 1899 عاد الريحاني إلى أمريكا مجددا، وصار بإمكانه القول: " لبنان - باريس - نيويورك" في الأولى روحي وفي الثانية قلبي وفي الثالثة الآن جسدي. ولم يكن أمين الريحاني فيلسوفا من حيث التخصص الأكاديمي، ولم تكن لديه نظرية أو منظومة فلسفية متكاملة ومستقلة إنه شخص ذو تفكير حر مع مزية خاصة، تتمثل في موقف متكامل للحياة والوجود والطبيعة.. فالتيارات والمدارس والحركات الفلسفية والاجتماعية في العصر الحديث لم تمر حوله مرور الكرام، وقرأ مؤلفات هكسلي وداروين وفيرخوف وكانط وتولستوي ونيتشه. وفي إطار تلك القراءات وتأثيراتها تداخلت في وعيه عناصر الفكر الأوربي الحديث، وعناصر الفلسفة الشرقية. لقد تميزت رؤية الريحاني الفلسفية بمحاولة التوفيق بين المادية والمثالية.

وعي الريحاني القومي

ويتجلى وعي الريحاني القومي عـبر الكلمات التالية: "إني وإن كنت مسيحيا مارونيا فلي في بقية هذه الأديان والمذاهب، التي تقطع أوصال هذه الأمة، غرض هو أسمى من أغراض تابعيها، أريد أن أرفع من بينها حواجز الشريط الشائك، وأفكك فيها قيود التقاليد ليقرب بعضها من بعض. إني أعتقد أن لا حياة للبناني بغير قربه من السوري وأن لا حياة للعرب بغير تقطيع ربقات المذاهب وعصبيات العشائر واقتباس العلوم والآداب..".

وانسجاما مع فلسفته القومية سعى الريحاني عبر مقالاته ومحاضراته وخطبه ورحلاته إلى الأقطار العربية وقادتها "لتوثيق وتمتين تلك الرابطة الوطنية القومية، التي تتلاشى عندها الجنسيات والعصبيات الصغـيرة والمذهبيات كلها.."، وهل ثمة أروع وأبلغ وأشمل من قوله: "أنا لبناني متطوع في خدمة الأمة العربية وكلنا منها. أنا عربي متطوع في خدمة الإنسانية وكلنا منها".

وكان الريحاني في فكره وأنشطته العلمية الواسعة والمتنوعة نصيرا قويا لتوحيد العرب عامة وبلده الأصلي "سوريا" خاصة، التي جزأها الاستعمار إلى خمس دويلات "كيانات" صغيرة. وعندما كان يعيش في مهجره في الولايات المتحدة الأمريكية أعلن مرارا وفي مناسبات كثيرة أنه مع الوحدة الوطنية والسياسية والجغرافية لسوريا، ويقول في هذا المجال: "أنا سوري يود أن يرى في سورية حكومة وطنية عمودها الوحدة القومية الجغرافية، وأساسها العدل والمساواة.

كان أمين الريحاني واحدا من أكثر أعلام الأدب العربي الحديث شهرة، ومن مجموعة المنورين، الذين تلقوا تعليما أوربيا وواصلوا خط التنوير العربي في الظروف الجديدة للقرن العشرين. لقد عانى الريحاني بشدة من هموم الوطن ونكباته، وكان يؤلمه أن يرى الشعب الذي ينتمي إليه واقعا تحت تأثير داء مزمن من عدم الثقة بـين فئاته وشرائحه المختلفة، وصولا إلى العداء المكشوف والمباشر فيما بينها، وقد حددت تلك الهموم والهواجس المعالم الأساسية للطريق الذي سلكه الريحاني طيلة حياته، ولهذا كان على ثقة ثابتة من أن واجبه يتمثل في الكفاح الدءوب من أجل تحرير الإنسان من سيطرة التعصب الديني وعدم التسامح المذهبي، ومن الجهل والعبء الثقيل للتقاليد الجامدة، والنضال من أجل إدخال أفضل منجزات الحضارة الغربية إلى الشرق، وبالمقابل إدخال أحسن إنجازات الثقافة الشرقية إلى الغرب. لقد توجه الريحاني إلى الهدف مباشرة مبديا في ذلك أعلى درجات الاستقلالية الفكرية، واحتقارا مطلقا للتقاليد المتخلفة والقوانين البائدة وعلى الخاتم الذي يحمله الريحاني نقشت العبارة التالية: "القوة مع الحق، والحق لن يموت"، وهي كلمات رسمت المعالم الأساسية الصحيحة لحيـاة الريحاني الكفاحية والإبداعية، والذي كرس حياته فعلا لنشر مثل الحق والمعرفة وتحرير الإنسان روحا وعقلا. لقد وصفه الشاعر العربي المعروف أحمد صافي النجفي بصورة مجازية مع قدر معين من المبالغة "بأنه تاريخ الأمة العربية وموسوعتها، ومفكرة نهضتها ومرآة مصائبها ونكباتها وزعيم فكرها القومي. فيه حكمة الفيلسوف ورقة الشاعر، وفي يديه عصا المعلم، ومشعل الزعيم وسيف القائد الحربي".

 

خليل أقطيني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أمين الريحاني





غلاف الكتاب