هواتفنا الذكية وذكرياتنا

هواتفنا الذكية وذكرياتنا

كان سقراط يخشى من أن التقدم التقني سيفسد الذاكرة البشرية، ومن غرابة ذلك، كما يبدو الأمر عليه اليوم، أنه كان يعبّر عن قلقه بشأن شكل من أشكال التواصل الجديد، آنذاك، وهو الكتابة.
وقد أشار إلى أنه كلما كان من السهل على الأشخاص الوصول إلى شيء ما في مستند مكتوب، كانوا أقل ميلا إلى أن يتذكروه. ويبدو أن كلمات الفيلسوف العظيم تلقى صدى اليوم في عصرنا الرقمي، تمامًا كما فعلت في اليونان القديمة.

 

أثبتت الاختبارات الحديثة أن الأشخاص الذين يعتقدون أن أجهزة الكمبيوتر ستنقذ معلوماتهم من الضياع والصور التي يلتقطونها من الفقدان يتذكرون أقل بكثير من هؤلاء الذين لا يعتمدون على أجهزة التكنولوجيا لحفظ بياناتهم.

هواتفنا الذكية... كاميرات دائمة الحضور
عندما أصبحنا لا نفترق عن هواتفنا الذكية المزودة بكاميرات رقمية متطورة، ولما بتنا نعيش حياتنا وكأنه يجب علينا مشاركة كل لحظة نعيشها على وسائل التواصل الاجتماعي من «فيسبوك» و«سناب شات» و«إنستغرام» وغيرها، مسلّحين بهواتفنا الذكية أينما كنا، أصبحنا مهووسين بتوثيق الأحداث من حولنا، وتحوّل كل تفصيل من تفاصيل حياتنا إلى صورة محتملة، من طبق لذيذ نتناوله إلى نزهة نتمتع بها على شاطئ البحر، إلى جمعة عائلية حميمة، إلى ولادة طفل جديد... إلخ.
لكن ذلك كله جعلنا ننظر إلى العالم من خلال الشاشات دون أن نختبر الواقع بشكل فعلي، حيث يعمل فعل التقاط الصور أو تسجيل مقاطع الفيديو على إزاحتنا من عيش اللحظة في حين نحاول توثيق التجربة بواسطة جهاز الكاميرا. 

الرؤية التوثيقية
هذا الهاجس الذي يطغى على مجتمعنا بتسجيل كل لحظة نعيشها هو ما سمي حديثاً بـ «الرؤية التوثيقية». وقد كتب رئيس تحرير مجلة «ريل لايف»، الناقد ناثان يورغنسون، حول هذه الظاهرة في سلسلة طويلة من المقالات على «إنستغرام» قال فيها إن وسائل التواصل الاجتماعي تجبرنا على النظر إلى حاضرنا على أنه ماضٍ موثّق مُحتمل.
والأمر يشبه كيف ينظر المصورون إلى كل شيء كمشروع صورة. يقال إنه إذا كانت لديك مطرقة، فكل ما تنظر إليه هو بالنسبة إليك مسمار، وإذا كانت لديك كاميرا تحتوي على قدر غير محدود من الذاكرة - ومعظمنا يتوافر لديه ذلك مع الهواتف الذكية والتخزين السحابي - فكل لحظة نعيشها هي عبارة عن مادة للتوثيق.
قبل حوالي عقد من الزمان، بدأ الخبراء والأطباء بتحذير الناس مما يسمى بـ «الرقبة النصية»، وهي حالة تنتج عن استخدامنا المفرط للشاشات ونحن ننحني أمامها في وضعية غير طبيعية لساعات طويلة، سواء كان ذلك في أثناء تفحّص بريدنا الإلكتروني أو قراءة الأخبار أو إجراء المحادثات أو تصفّح الإنترنت، مما يتسبب في الإصابة بآلام الرقبة والعمود الفقري، أي أن الشاشات، باختصار، تغيّرنا جسديًّا، أما الرؤية التوثيقية فهي الأمر المماثل الذي يصيب رؤيتنا.

مصدر إلهاء وتشتيت
والأمر المقلق من هذه الرؤية التوثيقية الرقمية هو الإلهاء والتشتيت، كما يقول ديمون يونغ، مؤلف كتاب «إلهاء»، الذي يلاحظ أن الكاميرات الرقمية الحاضرة دائمًا معنا تدفعنا إلى التصوير الدائم بشكــــل تلقائي ومن دون وعي، بحيث لا نعيش الواقع سوى بطريقة سطحية، ليس لأن التكنولوجيا الرقمية هي تشتيت تلقائــــي، ولكن لأنهــــا تنتـــج شيئًا أقل قيمـــة (في شكــــل فيديــــو أو صــــورة فوتــــوغرافية) وتـــــؤدي إلى تشتيت انتباهنا عن شيء ذي قيمة أكبر (التجربة الواقعية وخبراتها).
ولكن أبعد من الإلهاء والتشتيت، فإن لهذه الرؤية التوثيقية تأثيرًا سلبيًّا كبيرًا على ذاكرتنا، ففي دراسة أجرتها أستاذة علم النفس بجامعة فيرفيلد، ليندا هنكل، عام 2013 عن الذاكرة والتصوير الفوتوغرافي، نُشرت نتائجها في مجلة العلوم النفسية، تم إعطاء مجموعة من الأشخاص كاميرات رقمية خلال جولتهم في أحد المتاحف الفنية، وقام الفريق المساعد لهنكل، القيّم على هذه الدراسة، بتوجيه الأشخاص لالتقاط صور محددة لبعض القطع الفنية المعروضة وليس لبعضها الآخر، حيث طلب منهم تأملها فقط.
وفي اليوم التالي عُرض على المشاركين مزيج من الصور من جولة اليوم السابق وصور جديدة تمامًا. وكان الهدف معرفة ما إذا كان بإمكانهم التمييز بين صور القطع التي رأوها وصور القطع التي التقطوا صورًا لها، والصور الجديدة.

فقدان الذكرة الرقمي
لكن النتائج أظهرت أن تصوير الأشياء كان له تأثير ضار على ذاكرة المشاركين في الدراسة، حيث كانوا أقل دقة في تذكّر التفاصيل المرئية للقطع الفنية التي صوروها، مقارنةً بتلك التي لاحظوها فقط، وذلك على الرغم من الوقت الإضافي أو الانتباه المطلوب لزاوية الكاميرا وضبط العدسة من أجل التقاط أفضل لقطة للقطعة الفنية في مجملها.
وفي مقال له في صحيفة جلوب آند ميل الكندية بعنوان «الهواتف الذكية وذكرياتنا»، يتحدث الكاتب براندون أمبروزينو عن هذا التأثير ليقول: «نحن مسلحون على الدوام بهواتفنا الذكية، أصبحنا نعتقد أن الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها تجربة الحاضر هي الإمساك به في وضعية بصورة حية، أو في صورة فوتوغرافية، بينما نطمئن أنفسنا بأن كل ما سجلناه بصور سيخزّن في الذاكرة الرقمية، وسيبقى محفوظًا دائمًا، بحيث يمكننا استرجاعه متى أردنا».
وذلك مرتبط بالظاهرة التي أشار إليها الباحثون قبل سنوات، وأطلقوا عليها اسم «تأثير جوجل»؛ أي نتائج تحميل ذاكرتنا على التخزين السحابي. ويؤدي هذا التأثير إلى عدم اعتمادنا على ذاكرتنا من أجل تخزين الأحداث والمعلومات على المدى الطويل، إذا كنا نعتقد أننا سنتمكن من الوصول إليها في المستقبل (مثل سحبها رقميًا). 
وقد بحثت شركة كاسبرسكي لاب، وهي شركة متخصصة بأمن الإنترنت ومكافحة الفيروسات ومقرها في موسكو، هذا الموضوع، ووجدت أن «فقدان الذاكرة الرقمي» - أي نسيان المعلومات التي تحملها على جهاز رقمي «ليتذكر عنك» - كان مصدر قلق متزايد للعالم الرقمي اليوم.
 ويذكر أن التحميل الرقمي هو توجّه عام يطول جميع الفئات العمرية التي تمت دراستها، من 16 عامًا إلى أكثر من 55 عامًا.

ذاكرة تبادلية
لكن البعض قد يسأل: أين القلق من ذلك؟ إذا كان البشر لطالما اعتمدوا على منافذ خارجية أكثر استقرارًا من الذاكرة، مثل أشياء خارجية وأشخاص آخرين أو محركات البحث على الإنترنت الآن، كامتدادات للذاكرة بما يسمى بـ «الذاكرة التبادلية»؟ أين المشكلة إذا اعتمدنا على صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو لتتذكر الأشياء عنا؟
والجواب هو أن ما نحيله إلى التخزين الرقمي أو السحابة الإلكترونية ليس ذكرياتنا. فالذكريات هي ذكريات الطفولة، والذكريات الرومانسية، وذكريات الأوقات السعيدة والتعيسة أيضًا التي نعيشها بكل أحاسيسنا وكل ما له علاقة بالمشاعر، والعديد من الصور ومقاطع الفيديو ليست حول المشاعر على الإطلاق. فمع الهواتف الذكية نلتقط الصور ونفتقد اللحظة التي هي أساس مشاعرنا وركيزة ذكرياتنا.
وتكمن المشكلة في أن الناس لا يتذكرون من خلال الصور الفوتوغرافية، لكنهم يتذكرون الصور الفوتوغرافية فقط. 
باختصار، مع كل هذا السيل من الصور التي نأخذها يميناً وشمالاً، نحن نجمع ذكريات لم نعشها، ونوثّق أحداثًا لم نشهدها بالكامل، ولحظات لم نصل إليها أبدًا.
إن الكاميرات المتطورة والمدهشة، كما هي، لا يمكن مقارنتها بما يستطيع الدماغ إدخاله بواسطة العينين والأذنين، كما لا يمكن لنظام الكاميرات أن يرتقي إلى نظام معالجة المعلومات البشرية.
وإذا توقفنا لنسأل أنفسنا: لماذا علينا أن نضع شاشة بيننا وبين حياتنا على الدوام؟ فحياتنا، كما هي، معزولة بما فيه الكفاية عندما نكون بمفردنا أمام أجهزة الكمبيوتر.
لماذا علينا أن نضع هذا الحاجز أيضًا حتى عندما نكون في اختلاط مع الناس؟ وما الذي نفعله بكل مقاطع الفيديو، وكل هذه الصور التي لا بد من تصويرها كل لحظة على أي حال؟ هل نعود إلى مشاهدتها أبدًا؟
نحتاج جميعًا إلى التوقف عن التركيز كثيرًا على التقاط اللحظة بواسطة الكاميرا، والاستمتاع بها بدلاً من ذلك، وأن نكون حاضرين في الحاضر لكي نعيشه.
وقد يكون الأفضل لنا أن نلتقط الصور بشبكة العين ونزرعها في أذهاننا، لنسمح للذاكرة بأن تكون على مستوى تجربة الحدث بكل حواسنا. وعلى الرغم من سهولة التقاط الصور مع الحضور الدائم لهواتفنا الذكية، لنتذكر دائمًا ما قاله الممثل الأميركي جيف جولدبلم في فيلم «حديقة جوراسيك» أو «فقط لأننا نستطيع القيام بشيء ما، هذا لا يعني أننا علينا القيام به فعلًا» ■