نحو اقتصاد دائري واعد

نحو اقتصاد دائري واعد

توقع روبرت بريارس، المتخصص في آثار التغيير المناخي والمخاطر البيئية على الأعمال، في كتابه «إدارة الموارد الطبيعية والاقتصاد الدائري»، الصادر في العام الحالي، زيادة في استخراج المواد الخام عالميًا، لتصل إلى 183 مليار طن مع حلول 2050، أي ضعف ما كان يستخرج في 2015، وارتفاع حجم المواد الخام الداخلة في النظام الاقتصادي إلى 82 مليارًا في 2020، مقارنة بـ 65 مليارًا في عام 2010، مع زيادة في استهلاك الطاقة بنسبة 48 في المئة فيما بين 2012 و2040. 
وتخطي الطلب على المياه في 2030 بنسبة تصل إلى 55 في المئة من العرض؛ إضافة إلى حجم مخلفات يقدر بـ 100 مليون طن سنويًا في 2050 مقابل 15 مليونًا سنويًا تقريبًا في مطلع السبعينيات. 

 

هذا يعني أن الاقتصاد الصناعي التقليدي السائد بنموذجه الخطي «خذ - اصنع - استهلك - ارمِ»، أو نموذج «من المهد إلى اللحد»، نموذج مشجّع للإنتاج الضخم والاستهلاك المُبالغ فيه، وطارد لكميات كبيرة من المخلفات، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى مشكلات كبرى، من بينها التراجع المطّرد في مواد الخام، وارتفاع معدلات التلوث، لا سيما مع توقّع بلوغ سكان الأرض رقمًا يقترب من 10 مليارات نسمة في الخمسينيات المقبلة.
أما الحل، من وجهة نظر برياريس وغيره من المتخصصين، فيكمن في اعتماد نظام اقتصادي دائري - «من المهد إلى المهد» - يكون من أهدافه تجنّب الخسارة قدر الإمكان، بالتقليل من استهلاك الموارد، والعمل على تعويضها وإعادة تدوير المخلفات لتصبح منتجات جديدة. 
ومن هذا المنطلق، سعت اللجنة الأوربية أخيرًا - على سبيل المثال - إلى العمل على حزمة طموحة لتعزيز الاقتصاد الدائري، تغطي جوانب الإنتاج والاستهلاك وإدارة المخلفات والمواد الخام الثانوية، والمساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة الرامية في مجملها إلى الحفاظ على البيئة وتحسين سبل العيش للجميع. 
 
مفهوم الاقتصاد الدائري 
يعتبر مفهوم الاقتصاد الدائري مفهومًا واسعًا ظهرت بوادره في ستينيات القرن الماضي، واتضح بعد ذلك في مدخله الوظيفي الذي تبناه والتر ستاهيل، وطرحه باعتباره ضرورة للإصلاح الاقتصادي، وذلك مع صدور تقرير نادي روما «حدود للنمو» في عام 1972؛ ثم راج المصطلح في الأوساط الأكاديمية المتخصصة كنموذج صناعي راديكالي يهدف إلى تعظيم استخدام الموارد والتقليل من المخلفات أو إلغائها نهائيًا عبر فلسفات ومدارس فكرية متنوعة، مثل الإيكولوجية الصناعية، والمحاكاة الحيوية، ومدخل نظم الاقتصاد الأزرق. 
وبرغم تحديات نظم ونماذج الأعمال الخطية الموجودة، فقد انتشر هذا المفهوم بصورة لافتة للانتباه، وفق ما يرى رئيس مجلس إدارة دبنهامز، إيان تشيشير، ليصبح حركة عامة واعدة يفهمها قطاع الأعمال، كما تفهمها الحكومات على حد سواء. 
وبات الانتقال إلى هذا النوع من الاقتصاد بمنزلة ثورة وفرصة كبرى لإعادة تنظيم الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد العالمي، وإعادة التفكير في العلاقات التي تربط الأسواق والعملاء والموارد الطبيعية، وفرصة تمنح الشركات ميزة تنافسية «دائرية» من خلال طرح نماذج أعمال جديدة، وتكنولوجيا رقمية، وهندسة متخصصة، وقدرات تمكين داعمة؛ وتدرك الحكومات اليوم، كما تفعل الشركات التي تتبنى الاقتصاد الدائري في سياساتها، مقدار ما يمكن جلبه من منافع، يتضح بعضها في تخفيض فواتير الهدر، والتخلص من المخلفات وحماية البيئة من التلوث.  

مداخل ومبادئ وممارسات
تتعدد مداخل وأنشطة هذا النوع من الاقتصاد، وفقًا لما تتبناه الجهات والبلدان المختلفة؛ فهو يتضمن إعادة الاستخدام، والتصليح بدلاً من الرمي، وإعادة التدوير، والتقليل من الاستهلاك، وتبني التصاميم الصديقة للبيئة، والإيكولوجية الصناعية، والإمدادات المستدامة، والاستهلاك المسؤول، وغير ذلك مما يدعم عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. 
ومن مبادئه الأساسية الحفاظ على رأس المال الطبيعي وتعزيزه عن طريق التحكم في استخدام الموارد المحدودة، واستبدال موارد متجددة وقابلة للتعويض بها، وتعظيم استخدام الموارد بإنتاج مخرجات طويلة العمر وقابلة للتدوير؛ إضافة إلى مبدأ تعزيز فعالية النظم بالكشف عن جوانبها السلبية والتعامل معها.
وعادة ما تترجم هذه المبادئ إلى ممارسات مثل تلك التي تبني أو تعيد بناء صحة النظم الإيكولوجية؛ وتشجع المشاركة في الأصول كالمرافق ووسائل المواصلات والأجهزة؛ وتعتني بالتصميم للتقليل من تكاليف الصيانة، وتطيل عمر الممتلكات عمومًا؛ إضافة إلى ممارسات تسعى إلى الاستفادة من التطور التكنولوجي باعتماد أنشطة افتراضية في الإنتاج والخدمات والترويج، كأن تستبدل بالكتب والأدلة الورقية أخرى إلكترونية، وتوفر خدمات التسوق عبر شبكة الإنترنت، في محاولة للحد من استهلاك الموارد، وخفض تكاليف الإنتاج، والتقليل من استخدام وسائل المواصلات المسببة للتلوث، وتشجيع التجديد في التصنيع، وغير ذلك.

مشاركة مجتمعية 
يعرف نموذج الأعمال من خلال العناصر الأساسية التي تشكل عملياته التي تفضي في خاتمة المطاف إلى خلق قيمة بتقديم منتج أو خدمة، والترويج لها حتى الوصول إلى المستهلك، وجني العوائد في نهاية سلسلة من العمليات، ومشاركة مختلف الأطراف والتخصصات.
وتشير التجارب الناجحة في تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري إلى ضرورة مشاركة مختلف فئات المجتمع وتعاونها بالدعم وتبادل الخبرات، وتوافر حوافز وعوائد اقتصادية مقنعة تشجع التعامل والاستثمار في هذا النوع من الاقتصاد.
وتبدو الأفكار المتاحة لتطبيق ذلك بلا حصر؛ بدءًا من طرق الأجداد التقليدية للتقليل من الهدر بالاقتصاد وإعادة الاستخدام، وصولاً إلى الأفكار الجديدة الآخذة في الانتشار، كبنوك النفايات، ومعارض الأعمال الفنية والمنتجات اليدوية القائمة على مخلّفات، علاوة على خبرات يمكن تبادلها بشتى الطرق وممارساتها في الحياة اليومية وتقديمها للصغار في خطوة تساهم في تربيتهم على هذا المفهوم الاقتصادي المهم.
 
نماذج أعمال دائرية
من نماذج الأعمال الدائرية الرائجة في بلاد عديدة كالنرويج، نموذج أعمال تصليح وإعادة بيع الأجهزة المنزلية في إطار مفهوم تعاوني يعتمد عليه للتعامل مع الأجهزة المنزلية؛ حيث تستعين هذه النماذج ببضعة أفراد مهَرة يقومون بإصلاح آلاف الأجهزة وإعادة بيعها، الأمر الذي وفّر فرص الاقتصاد لأصحاب الميزانيات المحدودة. 
وفي السويد، بادرت بعض شركات تصنيع الملابس الرياضية بتبني مبادرات خدمات التأجير وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، إما لإطالة عمر المنتجات، وإما لاستخدامها في صنع منتجات جديدة.
كما تركز هذه الشركات على استخدام أنواع منتقاة من الأقمشة القابلة لإعادة التدوير؛ وتحاول جاهدة الحد من الهدر قدر المستطاع، بتدشين خطوط إنتاج تعتمد على فائض القصاصات؛ وتساعد خدمات التأجير العملاء من أصحاب الاستخدام المحدود على توفير النفقات. أما ملابس الأطفال، فيحرص على تصميمها بما يتناسب مع جميع الأطفال، بجعل أرجل السراويل والأكمام مطوية، وفتحة الرأس قابلة للاتساع لإطالة عمر استخدامها مع تقدّم الطفل في النمو، إلى جانب اختيارها من الأقطان العضوية المزروعة من دون كيماويات، حتى يمكن إعادة استخدامها وتدويرها وفقًا لمبادئ التنمية المستدامة. 

إنتاج بلا مخلفات
من جانب آخر، تسعى بعض شركات الأغذية إلى تحقيق هدف الإنتاج من دون مخلفات مع حلول عام 2020، وذلك عبر ممارسات إعادة الاستخدام والقابلية للتدوير التي تطبق في التصنيع والتغليف، وغير ذلك من العمليات؛ وتحرص في هذا الإطار على توعية المستهلكين بوضع برامج تثقيفية تساعد على التقليل من الهدر بحُسن تخطيط الوجبات، وتوزيع الفائض على المحتاجين أو توجيهه لتغذية الحيوانات أو عمل أسمدة عضوية.  
وتستفيد الشركات العاملة في مجال صناعة الأثاث الدائرية من نتائج البحوث والتطوير الخاص بتبني تصاميم تقلل من استخدام المواد الخام حفاظًا على الموارد، وتجنبًا للآثار السلبية على البيئة. 
وتعظّم مثل هذه الشركات من الكفاءة الوظيفية لمنتجاتها باعتماد تعدد الاستخدام للقطعة الواحدة؛ وتوفير خدمات ما بعد البيع التي تشمل استقبال القطع المبيعة، إما لتجديدها وإعادة استخدامها، أو لإعادة تدويرها، أو إعادة بيع القطع الجيدة منها مرة أخرى. 
وتبتكر شركات التغليف المؤمنة بأهمية تحمّل المسؤولية الاجتماعية والبيئية في إنتاج منتجات ومواد تغليف وأكياس صديقة للبيئة مصنوعة من مواد مُعاد تدويرها؛ كتلك المصنوعة من المخلفات الورقية والمخلوطة ببذور، لتتحول هذه المنتجات إلى نباتات بعد انتهاء دورها الأساس في حمل وحماية المنتج المبيع بطريقة لا تحتاج إلا إلى تقطيع الورق ودفنه في التربة ■