على جدارِ القلب

على جدارِ القلب

هناك قريبًا من القلب كضلعٍ جارٍ تنزرع الصورُ والذكرياتُ كنزًا وماءً وغيمةً وظلالًا، هكذا حين تمضي الأيامُ ويكبرُ الصغار ويتفردون معتمدين على أنفسهم، ويقلُ التصاقهم بأهاليهم، ويبتعدون تدريجيًّا عن الأم، باحثين عن خطاهم في الحياة، ناسين ومتناسين أيامًا عبرت كانوا فيها يحتاجون إليها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وينادون بـ «ماما» و«يمّه» عشرات المرات في اليوم الواحد، فهل ينسى قلبُ الأم؟ 
الأم حضنُ البيت، وغطاءُ الأمن، فيه تحفظ التفاصيل الصغيرة كأنها نقش على جدار القلب، وتسردُ الحكاياتِ الحميمةَ التي عاشتها في رحلة أمومتها المبكرة التي كانت تتمنى في أولها وتحلم أن يكبرَ الصغارُ سريعًا، لم تعِ أنَّ تلك السنوات بما تحمله من ذكرياتٍ وتجاربَ وتفاصيلَ، وبما تزخر به من تعبٍ وعطاءٍ ومسؤوليةٍ وتفرُّغٍ، هي كنزُها الثمين في الأيام اللاحقة، حين تغادر العصافيرُ... عصافيرُ القلب... عشّها باحثةً عن عشٍ جديدٍ، وهي مطرٌ يمحو الجدب الذي يستوطن روحها حين يتغرّب البكر، وتتزوج الابنة، ويسافر آخر العنقود للدراسة، ويكبر البيت على ساكنيه، وتستوطن في زواياه وحشةُ الغياب، ويصبح خاويًا إلا من قنديل الذكريات، التي تضيء لها ولرفيق دربها عتمةَ الغربة؛ فالبعد عن الأبناء غربة، لأنهم في قلب الأم بمنزلة وطن.
الصورُ التي تلتقطها عينُ القلب هي الأجمل والأبقى، وهي التي تنغرس في الأعماق كوشمٍ عتيق، لا زمن يقدر أن يمحوها أو يغيّر معالمها، ربما السنواتُ تزيدها إشراقًا، ويعيدُ الحنينُ إليها الألوان، ويجدد جماليتها، ويجعل حتى المؤلمَ منها يخبو كضوء شمعة في غرفة فسيحة، يلتقط قلبُ الأم الصور، وتخزن المشاهد، وتحتفظ بالذكريات، وتحفل بالتفاصيل التي ينسى أغلبها الأبناءُ في غمرة حياتهم. 
إحدى صديقاتي بدت منشغلةً تمامًا عن المشاركة بأي نشاط أو زيارة حتى في أحاديثها أحسستُها ساهمةً بعيدة وإنْ كانت قريبة، قالت إنّها تساعد ابنها على تجاوز مرحلة حرجة في حياته المدرسية (الثانوية العامة)، وإنها قررت انتشاله من كابوسها الثقيل بأيّ ثمن؛ تمضي الساعاتُ معه تجالسه وتشجعه، وترسم النجوم وعبارات التحفيز على أوراق دراسته، سألتُها: ألا تملّين من مجالسته كل هذه الساعات يوميًا؟ فنظرت إليَّ بعينين تلتمع فيها العاطفة وهي تخبرني بسعادة وحنوّ دافئ بأنها حين ترقبه لا ترى ابنها ذا السبعة عشر عامًا، إنما تلمح وجهَه الجميل وهو رضيع، وتستذكر رائحةَ الأمومة البكر، وعطر أنفاسه، فيسيلُ في قلبها نبعُ محبة ولا تشعر بزمنٍ ولا بعالم ■