سراديب الذهب

سراديب الذهب

‮«‬سراديب‭ ‬الذهب‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭ ‬للكاتب‭ ‬المصري‭ ‬المبدع‭ ‬محمد‭ ‬العون،‭ ‬أخرجها‭ ‬عام‭ ‬2017‭ ‬م،‭ ‬وهي‭ ‬الرواية‭ ‬السابعة‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬مؤلفاته‭ ‬الروائية،‭ ‬وتدور‭  ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬مصر‭  ‬القديمة‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬عصر‭  ‬الأهرامات،‭ ‬وتحكي‭ ‬وقائع‭ ‬سرقة‭ ‬لمقبرة‭ ‬الملكة‭ ‬‮«‬حتب‭ ‬حرس‮»‬‭ ‬أم‭ ‬الملك‭ ‬الإله‭ ‬‮«‬خوفوي‮»‬‭ ‬باني‭ ‬الهرم‭ ‬الأكبر،‭ ‬تنفذها‭ ‬عصابة‭ ‬يتزعمها‭ ‬نحات‭ ‬مصري‭ ‬فقير‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬حرنخت‮»‬‭ ‬من‭ ‬رعايا‭ ‬الملك‭ ‬نفسه،‭ ‬وأحد‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬هذه‭ ‬المقبرة‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬شاباً‭.‬

لا‭ ‬يكتفي‭ ‬الكاتب‭ ‬بتتبع‭ ‬وقائع‭ ‬السرقة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬رسم‭ ‬الخطة‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬الهروب‭ ‬بجسد‭ ‬الملكة‭ ‬وتقطيع‭ ‬أوصالها‭ ‬وصهر‭ ‬الذهب‭ ‬الذي‭ ‬تحمله‭ ‬معها‭ ‬وبيعه،‭ ‬بل‭ ‬يرسم‭ ‬صورة‭ ‬حية‭ ‬لحياة‭ ‬الملكة‭ ‬حتب‭ ‬حرس‭ ‬وابنها‭ ‬الملك‭ ‬خوفوي،‭ ‬ويصور‭ ‬الحياة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬الملكية‭ ‬وحالة‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الحكام‭ ‬بالمحكومين‭ ‬حينئذٍ،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الحكام‭ ‬بعضهم‭ ‬مع‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭.‬

لذلك‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬تحمل‭ ‬صورتين‭ ‬متقابلتين،‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬عكس‭ ‬الأخرى‭: ‬الأولى‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬لحياة‭ ‬الملكة‭ ‬الأم‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حياتها‭ ‬الباهرة،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬التخطيط‭ ‬المحكم‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬لبناء‭ ‬مقبرة‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬أبدي‭ ‬فخم‮»‬‭ ‬لها،‭ ‬وحفظ‭ ‬الذهب‭ ‬والمومياء‭ ‬الملكية‭ ‬المقدسة‭ ‬فيها،‭ ‬بواسطة‭ ‬الملك‭ ‬خوفوي‭ ‬نفسه،‭ ‬وبمباركة‭ ‬الكهنة،‭ ‬والمبالغة‭ ‬في‭ ‬إحكام‭ ‬السرية‭ ‬والحراسة‭ ‬المشددة‭ ‬للجسد‭ ‬المقدس‭ ‬لأم‭ ‬الإله‭.‬

‭ ‬والصورة‭ ‬الثانية‭ ‬ترسم‭ ‬حكاية‭ ‬نجاح‭ ‬حرنخت‭ ‬وعصابته‭ ‬في‭ ‬سرقة‭ ‬هذا‭ ‬الذهب،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الحراسة‭ ‬المشددة‭ ‬والتخفي‭ ‬المحكم‭ ‬والقداسة‭ ‬المرهبة‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ويأتي‭ ‬التقابل‭ ‬في‭ ‬الحكايتين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الأولى‭ ‬تقص‭ ‬عملية‭ ‬بناء‭ ‬المقبرة‭ ‬وحفظ‭ ‬الذهب‭ ‬فيها،‭ ‬وإغلاقها‭ ‬عليه‭ ‬والثانية‭ ‬تقص‭ ‬عملية‭ ‬فتح‭ ‬المقبرة‭ ‬وإخراج‭ ‬الذهب‭ ‬منها‭ ‬وتبديده،‭ ‬الأولى‭ ‬تحفظ‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الموت‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬والثانية‭ ‬تنفق‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭.‬

والترتيب‭ ‬الزماني‭ ‬المتخيل‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬يقضي‭ ‬منطقياً‭ ‬وواقعياً‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬وقائع‭ ‬الحكاية‭ ‬الأولى‭ ‬قبل‭ ‬وقائع‭ ‬الحكاية‭ ‬الثانية،‭ ‬فمن‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬الملكة‭ ‬‮«‬حتب‭ ‬حرس‮»‬‭ ‬وزواجها‭ ‬وإنجابها‭ ‬للملك‭ ‬‮«‬خوفوي‮»‬‭ ‬وتخطيطها‭ ‬لبناء‭ ‬بيت‭ ‬أبدي‭ ‬لها،‭ ‬وبناء‭ ‬هرم‭ ‬لابنها،‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬قبل‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬بعد‭ ‬موتها‭ ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬سرقة‭ ‬لموميائها،‭ ‬لكن‭ ‬الكاتب‭ ‬لا‭ ‬يلتزم‭ ‬بهذا‭ ‬الترتيب‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬بل‭ ‬يقص‭ ‬أحداثهما‭ ‬معاً،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬فيه‭ ‬الزمان‭ ‬المتخيل‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬حكاية‭ ‬السرقة‭ ‬مطرداً‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬مع‭ ‬اتجاه‭ ‬السرد،‭ ‬يسير‭ ‬الزمان‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬الحكاية‭ ‬الثانية‭ ‬متعرجاً‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬فكلما‭ ‬تقدم‭ ‬القارئ‭ ‬خطوة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬تكشفت‭ ‬له‭ ‬الخطوة‭ ‬التالية‭ ‬لحكاية‭ ‬السرقة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تتكشف‭ ‬له‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لحياة‭ ‬الملكة‭ ‬والأسرة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬تتوارد‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬اللص‭ ‬حرنخت‭ ‬أو‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬يوردها‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭ ‬والمنظورة‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬حرنخت‭ ‬نفسه‭.‬

 

إمكانات‭ ‬دلالية

هذا‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬التاريخي‭ ‬السطحي‭ ‬للرواية،‭ ‬مجرد‭ ‬قصة‭ ‬تاريخية‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬وقائع‭ ‬سرقة‭ ‬لمقبرة‭ ‬فرعونية‭ ‬عميقة‭ ‬محفورة‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬دهشور،‭ ‬ومكدسة‭ ‬بالذهب،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬يشير‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬سراديب‭ ‬الذهب‮»‬‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬السرقة،‭ ‬وهو‭ ‬الذهب‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬مقبرة‭ ‬الملكة،‭ ‬لكن‭ ‬الوجه‭ ‬الدلالي‭ ‬العميق‭ ‬للرواية‭ ‬يحمل‭ ‬إمكانات‭ ‬دلالية‭ ‬متنوعة،‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الأطر‭ ‬التاريخية‭ ‬المحدودة‭ ‬بزمان‭ ‬ومكان‭ ‬معينين،‭ ‬لتعبر‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬حالة‭ ‬مشابهة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زمان‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬فالفن‭ ‬مثل‭ ‬العلم‭ ‬ومثل‭ ‬الفلسفة‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ولكن‭ ‬بطريقة‭ ‬خاصة،‭ ‬لأن‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬يوظف‭ ‬التاريخ‭ ‬توظيفاً‭ ‬فنياً‭ ‬ويصنع‭ ‬من‭ ‬أحداثه‭ ‬لوحة‭ ‬رامزة‭ ‬مشعة‭ ‬بالمعاني‭ ‬العميقة‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬قسم‭ ‬الكاتب‭ ‬العالَم‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭: ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬الحكام‭ ‬ورجال‭ ‬الدين،‭ ‬أي‭ ‬الملوك‭ ‬والملكات‭ ‬والأميرات‭ ‬والأمراء‭ ‬والكهنة،‭ ‬والقسم‭ ‬الثاني‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬الحرفيين‭ ‬والمهندسين‭ ‬والفلاحين،‭ ‬الطبقة‭ ‬الأولى‭ ‬مترفة‭ ‬منعمة‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬ولا‭ ‬تنتج،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تستمتع‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تنتجه‭ ‬الطبقة‭ ‬الأخرى،‭ ‬فهذه‭ ‬الطبقة‭ ‬المترفة‭ ‬تأكل‭ ‬في‭ ‬أوانٍ‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬وتلبس‭ ‬أفخر‭ ‬الثياب‭ ‬وتتحلى‭ ‬بأغلى‭ ‬الحلي‭ ‬وتعيش‭ ‬في‭ ‬قصور‭ ‬جميلة‭ ‬على‭ ‬النيل،‭ ‬ولا‭ ‬يمشي‭ ‬أبناؤها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬يتنقلون‭ ‬بالسفن‭ ‬الفارهة‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬محفات‭ ‬ذهبية‭ ‬يحملها‭ ‬رجال‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الكادحة‭ ‬على‭ ‬أكتافهم،‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬المترفة‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬باستئثارها‭ ‬بمتع‭ ‬الدنيا،‭ ‬بل‭ ‬تضن‭ ‬بمتع‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬فتسخر‭ ‬الطبقة‭ ‬الكادحة‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬مقابر‭ ‬فخمة‭ ‬خالدة‭ ‬تضمن‭ ‬السعادة‭ ‬والمتعة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى‭ ‬الأبدية،‭ ‬ولذلك‭ ‬تجمع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقابر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬وجواهر‭ ‬وأثاث‭ ‬ليكون‭ ‬مصدر‭ ‬سعادة‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬والأداة‭ ‬التي‭ ‬تستخدمها‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬مكتسباتها‭ ‬هي‭ ‬الدين،‭ ‬والتخويف‭ ‬من‭ ‬عذاب‭ ‬الآخرة،‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬تجعل‭ ‬الناس‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬الملك‭ ‬إله‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬الآلهة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يُسأل‭ ‬عما‭ ‬يفعل،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬يعصي‭ ‬الملك‭ ‬يعذب‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬عذاباً‭ ‬أليماً‭.‬

لكن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستمر،‭ ‬لأنها‭ ‬حياة‭ ‬مختلة‭ ‬وغير‭ ‬متوازنة،‭ ‬وإرادة‭ ‬الحياة‭ ‬دائماً‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬التوازن‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وهي‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬ما‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنها‭ ‬تملك‭ ‬سلاح‭ ‬العدل،‭ ‬فإذا‭ ‬تخلى‭ ‬أي‭ ‬حاكم‭ ‬هو‭ ‬وأفراد‭ ‬طبقته‭ ‬عن‭ ‬وظيفتهم‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬شعوبهم‭ ‬وإقامة‭ ‬العدل،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬أنانيين‭ ‬لا‭ ‬يعملون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سعادة‭ ‬الناس،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جودة‭ ‬الحياة،‭ ‬بل‭ ‬يسخرون‭ ‬كل‭ ‬خيرات‭ ‬بلادهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سعادتهم‭ ‬هم‭ ‬فقط،‭ ‬فإن‭ ‬الحياة‭ ‬تنتقم‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الضعفاء‭ ‬والمقهورين،‭ ‬وتحقق‭ ‬العدل‭ ‬سواء‭ ‬بالطرق‭ ‬المشروعة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المشروعة،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬الخالدة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الذهب‭ ‬الحقيقي‭ ‬المخفي‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬الغفلة،‭ ‬إنها‭ ‬سنة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬وقد‭ ‬تتجلى‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة‭ ‬وأشكال‭ ‬متنوعة،‭ ‬لكنها‭ ‬تظل‭ ‬حقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التوازن‭ ‬المختل‭ ‬لا‭ ‬يستمر،‭ ‬وأن‭ ‬الحاكم‭ ‬الذي‭ ‬يبدد‭ ‬ثروة‭ ‬بلاده‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬وهمية‭ ‬لا‭ ‬تفيد‭ ‬حياة‭ ‬أبناء‭ ‬بلده‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬البقاء‭.‬

 

طاقات‭ ‬مهدرة

‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬الطاقات‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تصوره‭ ‬الرواية‭ ‬مهدرة‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬مشروعات‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬الأحياء،‭ ‬بل‭ ‬هدفها‭ ‬خدمة‭ ‬الموتى،‭ ‬فكل‭ ‬هم‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬يسخر‭ ‬الشعب‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬هرم‭ ‬عظيم‭ ‬يكون‭ ‬داراً‭ ‬أبدية‭ ‬له،‭ ‬وكل‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬يتخذها‭ ‬الملك‭ ‬لا‭ ‬تراعي‭ ‬مصالح‭ ‬الفقراء،‭ ‬بل‭ ‬هدفها‭ ‬حماية‭ ‬الأغنياء‭ ‬والسادة،‭ ‬وإكساب‭ ‬أجسادهم‭ ‬الخلود‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬أما‭ ‬‮«‬الفقراء‭ ‬فلا‭ ‬يحصلون‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬تحنيط‭ ‬رديء‭ ‬ويدفنون‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬بلا‭ ‬نقش‭ ‬ولا‭ ‬رسم‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬جدرانها،‭ ‬وبلا‭ ‬تابوت‭ ‬أيضاً،‭ ‬الأغنياء‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬وفي‭ ‬الأبدية‭ ‬أيضاً،‭ ‬الملك‭ ‬وأسرته‭ ‬ورجاله‭ ‬‮«‬‭(‬ص‭ ‬25‭) ‬أبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الغنية‭ ‬المترفة‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الخلود‭/ ‬الذهب،‭ ‬أما‭ ‬أبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الفقيرة‭ ‬العاملة‭ ‬فيبحثون‭ ‬عن‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬الطعام‭/ ‬الذهب‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهنا‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اهتمام‭ ‬الطبقة‭ ‬الفرعونية‭ ‬الحاكمة‭ ‬بالذهب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بسبب‭ ‬قيمته‭ ‬المادية‭ ‬فقط،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬الطبقة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬بل‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الذهب‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬تجسيد‭ ‬حي‭ ‬للخلود،‭ ‬فهو‭ ‬المعدن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يصدأ‭ ‬ولا‭ ‬يؤثر‭ ‬فيه‭ ‬الزمن،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬صفة‭ ‬الخلود‭ ‬تنتقل‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الأجساد‭ ‬التي‭ ‬تلتصق‭ ‬به‭ ‬فتبقيه‭ ‬ولا‭ ‬تتأثر‭ ‬بعوامل‭ ‬الزمن،‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬كانوا‭ ‬يضعونه‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬موتاهم،‭ ‬أما‭ ‬عند‭ ‬الطبقات‭ ‬الفقيرة‭ ‬فالذهب‭ ‬أداة‭ ‬للنعيم‭ ‬الدنيوي،‭ ‬ولتوفير‭ ‬لقمة‭ ‬الخبز‭.‬

 

حقيقة‭ ‬غالية

هذا‭ ‬الاختلال‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أدى‭ ‬تلقائياً‭ ‬إلى‭ ‬الاختلال‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي‭ ‬لدى‭ ‬الشخصيات‭ ‬المظلومة،‭ ‬فتمردت‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الآلهة،‭ ‬وغرست‭ ‬في‭ ‬عقولها‭ ‬وصدورها‭ ‬بذور‭ ‬الحقد‭ ‬الطبقي،‭ ‬بل‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬المسلّمات‭ ‬والعقائد‭ ‬الموروثة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الرابط‭ ‬القوي‭ ‬بين‭ ‬الحكام‭ ‬والمحكومين،‭ ‬وهي‭ ‬الثروة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للطبقة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬عندئذِ‭ ‬تبحث‭ ‬الحياة‭ ‬بصورة‭ ‬تلقائية‭ ‬عن‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تعيد‭ ‬لها‭ ‬التوازن‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ولو‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬انتهاك‭ ‬المحرمات‭ ‬والشك‭ ‬في‭ ‬العقائد‭ ‬الراسخة،‭ ‬بل‭ ‬اتباع‭ (‬ست‭) ‬إله‭ ‬الشر،‭ ‬فحرنخت‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لِمَ‭ ‬نحتفي‭ ‬بالموت‭ ‬ونهتم‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬وأمامنا‭ ‬الحياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمتع؟‮»‬،‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬الذهب‭ ‬المكدس‭ ‬حول‭ ‬الموتى‭ ‬وكل‭ ‬أغراضهم؟‭ ‬ماذا‭ ‬يتبقى‭ ‬للأحياء‭ ‬إذن؟‮»‬‭ (‬ص‭ ‬24‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬يقدسها‭ ‬الناس‭ ‬لماذا‭ ‬تعذبنا‭ ‬وتحرق‭ ‬جلودنا‭ ‬بهذه‭ ‬القسوة؟‮»‬‭ (‬ص25‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬ينتهي‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬نفسه‭ ‬بأن‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬سرقة‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬المقبرة‭ ‬الملكية،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬حسب‭ ‬رأيه‭ ‬سرقة،‭ ‬وينجح‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وتنتقم‭ ‬الحياة‭ ‬لنفسها،‭ ‬ويساعدها‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬غفلة‭ ‬الملك‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬الغالية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الذهب‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ويكون‭ ‬البقاء‭ ‬والخلود‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الذهب‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬أحباب‭ ‬الحياة،‭ ‬حيث‭ ‬يستخدمونه‭ ‬في‭ ‬زراعة‭ ‬الأرض،‭ ‬وحيث‭ ‬‮«‬القمح‭ ‬هو‭ ‬الذهب‭ ‬الحقيقي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬21‭) ‬ويزول‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬أحباب‭ ‬الموت‭ ‬الذين‭ ‬يستخدمونه‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المقابر،‭ ‬هكذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الخلود‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬الملك‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬مع‭ ‬الظلم،‭ ‬فالملك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الوهم‭ ‬بأنه‭ ‬إله‭ ‬مقدس،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬أمه‭ ‬قد‭ ‬انتهكت‭ ‬حرمتها‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لأمه‭ ‬أمر‭ ‬مروع‭ ‬ومهين‭ ‬لأي‭ ‬رجل،‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لأحد‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬لرجل‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬الناس،‭ ‬إخفاء‭ ‬الحقيقة‭ ‬أرحم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬معرفتها‮»‬‭ (‬ص‭ ‬178‭).‬

 

وهم‭ ‬الخلود

وهنا‭ ‬تتسع‭ ‬دائرة‭ ‬الإشارات‭ ‬والدلالات‭ ‬الرمزية‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬الذهب‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية،‭ ‬فهي‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إشارتها‭ ‬إلى‭ ‬الذهب‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬سرق‭ ‬من‭ ‬المقبرة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬الخلود،‭ ‬فسرقة‭ ‬الذهب‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬وهم‭ ‬الخلود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭ ‬للملك‭ ‬وسائر‭ ‬طبقته،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تشير‭ ‬الكلمة‭ ‬إلى‭ ‬القداسة‭ ‬أو‭ ‬الهيبة‭ ‬الملكية‭ ‬التي‭ ‬تبددت‭ ‬أو‭ ‬الثقة‭ ‬التي‭ ‬فقدت،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الذهب‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عنها‭ ‬الرواية،‭ ‬فالرواية‭ ‬نفسها‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬الحكمة‭ ‬الخالدة‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬خلف‭ ‬سراديب‭ ‬من‭ ‬الرمز‭.‬

ويجسد‭ ‬الكاتب‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬الرمزي‭ ‬للحقيقة‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بطرق‭ ‬فنية‭ ‬ماهرة،‭ ‬فهو‭ ‬يستخدم‭ ‬الكناية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الجو‭ ‬المحيط‭ ‬بالأحداث‭ ‬ولرسم‭ ‬الملامح‭ ‬الدقيقة‭ ‬للشخصيات،‭ ‬فحرنخت‭ ‬وأنصاره‭ ‬لا‭ ‬تجري‭ ‬أعمالهم‭ ‬وتحركاتهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬الحالك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬سمائه‭ ‬قمر،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد‭ ‬الخفي،‭ ‬وهم‭ ‬يعملون‭ ‬وظهورهم‭ ‬منحنية،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬القهر،‭ ‬ويمشون‭ ‬بحذر،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬الخوف،‭ ‬ويمشون‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬المعبَّد،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬الانحراف‭ ‬والتمرد،‭ ‬بينما‭ ‬يصور‭ ‬الملك‭ ‬وهو‭ ‬يسعى‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬النهار،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يهتم‭ ‬بتفاصيل‭ ‬الصورة‭ ‬الجسدية‭ ‬للملك‭ ‬والأمراء‭ ‬والحاشية،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يهتم‭ ‬بالوصف‭ ‬الجسدي‭ ‬للطبقة‭ ‬الفقيرة‭ ‬العاملة،‭ ‬بل‭ ‬بالجوانب‭ ‬النفسية،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬شخصيات‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬اللص‭ ‬حرنخت‭ ‬وصديقه‭ ‬أونن‭ ‬نفر‭ ‬أكثر‭ ‬عمقاً‭ ‬وحيوية‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬الملك‭ ‬ورجال‭ ‬الحاشية‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذين‭ ‬المستويين‭ ‬السطحي‭ ‬والدلالي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬هناك‭ ‬مستوى‭ ‬ثالث‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬الجمالي،‭ ‬ويتمثل‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مظاهر،‭ ‬أبرزها‭ ‬المفارقة،‭ ‬فالملك‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬جاهداً‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬ما‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬يحقق‭ ‬له‭ ‬ولأسرته‭ ‬البقاء‭ ‬والخلود،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬جاهداً‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬الفناء،‭ ‬أي‭ ‬بناء‭ ‬ضريح‭ ‬أو‭ ‬حفرة‭ ‬تكون‭ ‬مقبرة‭ ‬له‭ ‬ولأسرته،‭ ‬فهو‭ ‬يبني‭ ‬في‭ ‬الظاهر،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يهدم،‭ ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬الهرم‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬مفارقة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬معنيين‭ ‬متناقضين،‭ ‬هما‭: ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬ظن‭ ‬فيه‭ ‬الملك‭ ‬أنه‭ ‬بلغ‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬نعيم‭ ‬الدنيا‭ ‬ونعيم‭ ‬الآخرة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الشعب‭ ‬الكادح،‭ ‬كان‭ ‬الشعب‭ ‬الكادح‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الثروة‭ ‬وانتهاك‭ ‬حرمة‭ ‬أم‭ ‬الملك‭ ‬وتحويل‭ ‬خرافة‭ ‬القداسة‭ ‬بل‭ ‬السلطة‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬سراب‭.‬

 

اللص‭ ‬الحقيقي

كما‭ ‬تبدو‭ ‬المفارقة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬اللص‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬اللص‭ ‬الذي‭ ‬سرق‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬المقبرة،‭ ‬بل‭ ‬اللص‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سرق‭ ‬مقدرات‭ ‬الناس‭ ‬وجهدهم‭ ‬وباع‭ ‬لهم‭ ‬الوهم،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬استنفاد‭ ‬طاقاتهم‭ ‬وثرواتهم‭ ‬وشغلهم‭ ‬بمشروعات‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬عليهم‭ ‬بالنفع‭ ‬ولا‭ ‬تحقق‭ ‬لهم‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة،‭ ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬الشخص‭ ‬الواحد‭ ‬لصاً‭ ‬وليس‭ ‬لصاً‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭.‬

كما‭ ‬يتمثل‭ ‬الوجه‭ ‬الجمالي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬الإيقاع‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التوازي‭ ‬والتقابل‭ ‬والتشكيل‭ ‬الفني،‭ ‬ويظهر‭ ‬التوازي‭ ‬والتقابل‭ ‬بين‭ ‬طبقة‭ ‬الأغنياء‭ ‬وطبقة‭ ‬الفقراء،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬التشكيل‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬التناغم‭ ‬الدقيق‭ ‬والمنتظم‭ ‬بين‭ ‬الوعي‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وبين‭ ‬كينونة‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬نفسه،‭ ‬فالكاتب‭ ‬يقيم‭ ‬علاقة‭ ‬جدلية‭ ‬بين‭ ‬وعي‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬وحاشيته‭ ‬وعامة‭ ‬الشعب‭ ‬بالأشياء‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وبين‭ ‬كينونة‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬والأحداث‭ ‬في‭ ‬وجودها‭ ‬الموضوعي،‭ ‬فالوعي‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬إدراك‭ ‬لكينونة‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬أي‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الناس‭ ‬مطابقة‭ ‬لما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أما‭ ‬الوهم‭ ‬فهو‭ ‬إدراك‭ ‬غير‭ ‬حقيقي‭ ‬وتزييف‭ ‬للواقع‭ ‬وعدم‭ ‬التطابق‭ ‬بين‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬عقولهم‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬فالملك‭ ‬وحاشيته‭ ‬يعرفون‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬ليس‭ ‬إلهاً،‭ ‬لكنهم‭ ‬يزيفون‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬ويصدرون‭ ‬لهم‭ ‬الوهم،‭ ‬بهدف‭ ‬السيطرة‭ ‬عليهم‭ ‬واستغلالهم،‭ ‬والفقراء‭ ‬يعرفون‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬آل‭ ‬إليه‭ ‬الملك،‭ ‬بينما‭ ‬الملك‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬بامتلاك‭ ‬السلطة،‭ ‬وكلما‭ ‬زادت‭ ‬مساحة‭ ‬الزيف‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬ازداد‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬زاد‭ ‬الفقراء‭ ‬فقراً‭ ‬وتعاسة‭ ‬وازداد‭ ‬الأغنياء‭ ‬غنى‭ ‬ورفاهية،‭ ‬وكلما‭ ‬زادت‭ ‬درجة‭ ‬الوعي‭ ‬تحقق‭ ‬العدل،‭ ‬وازداد‭ ‬الفقراء‭ ‬سعادة‭.‬

 

لوحة‭ ‬فنية

‭ ‬وهكذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يرسم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬ذات‭ ‬ثلاثة‭ ‬أبعاد،‭ ‬البعد‭ ‬الأول‭ ‬عرضي‭ ‬طرفاه‭ ‬الوعي‭ ‬وغياب‭ ‬الوعي،‭ ‬والبعد‭ ‬الثاني‭ ‬طولي‭ ‬طرفاه‭ ‬العدل‭ ‬والظلم،‭ ‬أما‭ ‬البعد‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬وطرفاه‭ ‬السعادة‭ ‬والشقاء،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬التقابل‭ ‬ينشأ‭ ‬صراع‭ ‬خفي‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص،‭ ‬مصدره‭ ‬أن‭ ‬الساسة‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬مع‭ ‬الملك‭ ‬أذكياء‭ ‬ويعرفون‭ ‬الحقيقة‭ ‬لكنهم‭ ‬يتغافلون‭ ‬عنها‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬مكتسباتهم‭ ‬الشخصية،‭ ‬لكن‭ ‬المحرومين‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬الشعب‭ ‬كانوا‭ ‬أكثر‭ ‬ذكاءً‭.‬

ومن‭ ‬الجوانب‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الالتفات‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬تميز‭ ‬به‭ ‬أسلوب‭ ‬محمد‭ ‬العون‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬السابقة،‭ ‬ويعتمد‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬على‭ ‬الإيقاع‭ ‬الثنائي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬تعشيق‭ ‬زاوية‭ ‬رؤية‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭ ‬بزاوية‭ ‬رؤية‭ ‬الشخصيات،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يستثمر‭ ‬فيه‭ ‬المعرفة‭ ‬الواسعة‭ ‬للراوي‭ ‬العليم‭ ‬لا‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬المنظورية‭ ‬للشخصية‭ ‬التي‭ ‬يتعلق‭ ‬بها‭ ‬الحدث،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بأسلوبها‭ ‬وبمستواها‭ ‬اللغوي‭ ‬المعروف،‭ ‬فنسمع‭ ‬صوتين‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬صوت‭ ‬الراوي‭ ‬وصوت‭ ‬الشخصية،‭ ‬مثال‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬الغنيمة‭ ‬كبيرة‭ ‬تستحق‭ ‬المخاطرة،‭ ‬يمكن‭ ‬للرجل‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬ثرياً‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬حياته،‭ ‬لو‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬عليها،‭ ‬لكن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬سهلاً،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الصعوبة،‭ ‬والخطورة‭ ‬أيضاً،‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الشاق‭ ‬لأيام‭ ‬متواصلة‮»‬‭ (‬ص‭ ‬5‭)‬،‭ ‬هذه‭ ‬الفقرة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬أسلوب‭ ‬حرنخت‭ ‬اللص‭ ‬في‭ ‬احتوائها‭ ‬على‭ ‬تطلعاته‭ ‬للثراء‭ ‬وملامح‭ ‬من‭ ‬مناجاته‭ ‬لنفسه‭ ‬وهو‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬السرقة،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ليست‭ ‬بضمير‭ ‬المتكلم،‭ ‬بل‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬السرد‭ ‬بضمير‭ ‬الغائب‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭.‬

وهكذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬نجح‭ ‬بمهارة‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬جميلة‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬كشف‭ ‬فيها‭ ‬النقاب‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬الحقيقة‭ ■