بين سيمون دو بوفوار وسارتر

يضعنا كتاب هازل راولي أمام سارتر مختلف تماماً عما عهدناه. فيستحسن بك أن تنسى كل ما تعرفه عن سارتر المفكر والسياسي والكاتب الملتزم. ومرحبا بك إلى عالم جديد، وسارتر جديد هو سارتر زير النساء. وهذا أمر مثير للجدل حقيقة، بل قد يعتبره كثيرون من عشاق جيل الخمسينيات والستينيات ــ باعتباره زمناً جميلاً ــ بمنزلة تجديف غير مقبول ثقافياً وفكرياً.
تكتب المؤلفة الأسترالية راولي في مقدمة كتابها: «هذه ليست سيرة حياة سارتر ودو بوفوار. فأنا أترك للآخرين الحكم بإنصاف على كتاباتهما، وسياساتهما، وتفاصيل حياتهما المعقدة والغنية. هذه قصة حياة علاقة. فقد أردت أن أصور هذين الشخصين عن قرب في لحظاتهما الحميمية».
سر الحميمية بين سارتر وسيمون
كان سارتر عبقرياً في مادة الفلسفة، وكذلك كانت سيمون دو بوفوار. وقد حضرا معا امتحان الأستاذية في الفلسفة عام 1929، وحظي سارتر بالمرتبة الأولى، تلته سيمون في المرتبة الثانية. ومن هنا نشأت علاقة تقوم في جانب كبير منها على الإعجاب الفكري المتبادل بين سارتر ودو بوفوار. وهذا ما أفسح المجال بين الاثنين للحديث عن الأفكار الفلسفية الوجودية التي طرحها سارتر على سيمون، حول فكرة الحرية والاختيار الحر والالتزام والتمرد على التقاليد «البرجوازية» حول الزواج التقليدي. وهي الأفكار التي اعترفت سيمون في مذكراتها بأنها أعجبت بها، لأنها كانت بالفعل قريبة من التوصل إلى مثيلاتها قبيل التعرف بسارتر.
تصف المؤلفة راولي شخصية سارتر على لسان جان كو (تلميذ سارتر وسكرتيره الخاص)، كما يلي: «كان يعمل كالبغل، ويدخن كالقطار، ويكتب بيده ونادراً ما يشطب شيئاً. وإن لم يرض عما كتبه كان يفضل أن يبدأ من جديد على صفحة بيضاء. لأنه لا يحب المسودات المشوشة. لم يكن سارتر فقط يهب المال للآخرين، بل كان ينثره عليهم. كان يخرج من شقته وفي جيوبه رزم من المال. ولم يكن يترك الآخرين يدفعون الحساب في المطاعم أبداً. وكان يترك بقشيشاً كبيراً. كانت دو بوفوار تعتمد ماليا على سارتر، ككثير من أصدقائه الآخرين. وعندما كان أحد يطلب منه قرضاً، فنادراً ما كان يرده. ولم يكن سارتر يتردد في منح القروض أبداً، بل يدفع نقداً أو يوقع شيكاً للمقترض. وفي نهاية الشهر ينفد المال منه، فيتوجه إلى كو قائلاً: كو ليس لدي نقود. ألا يمكن أن تدبر لي أي شيء من أي مكان؟ فيجيبه كو: لا يمكن. فيرد سارتر: حسناً. سأستدين من يوجين (الخادمة)».
أكثر ما يشغل بال راولي في كتابها الحالي هو وصف علاقات سارتر النسائية، فهي تقول: «حمته نساؤه من العالم، فقد جعلنه يشعر بأنه محبوب ومطلوب، وكان بحاجة إلى صحبة.
كانت دو بوفوار تعرف كم كان سهلاً على النساء أن يحاصرن سارتر. «ذاك ضميره المذنب»، على حد تعبير دو بوفوار. إذ شعر سارتر بأنه مدين بالشكر لنسائه لحبهن له. وكان يتساءل دائماً: إلى أي حد كان مسؤولاً عن سعادتهن وإخفاقهن في تحقيق إنجاز ما؟
عاشت نساء سارتر على بعد عشر دقائق من مسكنه، وكان من النادر أن تجتمع الواحدة منهن مع الأخرى، ولم تعرف أي واحدة منهن الحقيقة حول حياته. لم تكن آرليت تعرف أنه يلتقي واندا، ولم تكن واندا تعرف أنه لايزال يلتقي ميشيل».
ونلحظ أن راولي لا تستغرق كثيراً في تقديم المواقف الفكرية والسياسية لسارتر، بالقدر نفسه الذي تستطرد وتستغرق فيه عند وصف أدق تفاصيل علاقاته العاطفية، فنجدها مثلاً تتناول تحول سارتر الخطير عن تأييده للاتحاد السوفييتي إلى معارضته له، في فقرة قصيرة، تقول فيها:
“في أغسطس عام 1968 اجتاحت الدبابات السوفييتية تشيكوسلوفاكيا. وللمرة الثانية خلال 12 عاماً كان الاتحاد السوفييتي هو المعتدي على نحو صريح. وفي روما رأى سارتر في مقابلة أجريت معه، أن السوفييت مجرمو حرب». وفي نهاية نوفمبر، ذهب سارتر مع دو بوفوار في رحلة إلى براغ ليظهرا تضامنهما مع التشيكيين، وكتب سارتر إلى زونينا (مترجمته للغة الروسية) أنه لا ينوي العودة إلى الاتحاد السوفييتي. فقد قطع هو ودو بوفوار علاقتهما مع الدولة السوفييتية».
ويتضح في تصوير راولي أن جزءاً من علاقة سارتر بالاتحاد السوفييتي كان قائماً في علاقته العاطفية بمترجمته السوفييتية أيضاً، التي تعرض راولي تفصيلاتها عبر صفحات الكتاب.
وتقول راولي إن «نساء سارتر» كنّ يمثلن له نوعاً من «العائلة» التي اختار أعضاءها بنفسه. وهذا يفسر كيف أن سارتر قد اختار أصغر أعضاء هذه «العائلة» لتصبح بالفعل ابنته بالتبني، حيث تكتب راولي: «لم يكن من المعقول بالنسبة لسارتر أن يختار سيمون دو بوفوار لتصبح وريثته في ملكيته الأدبية أو منفذة الوصية الخاصة به بعد موته. فقد كانا في العمر نفسه تقريباً.
لذا فقد فكر في آرليت إيلكايم، فقد كانت أصغر أعضاء «العائلة» (أصدقاء سارتر)، فقرر أن يتبناها قانونياً. لم يكن ثمة احترام بين دو بوفوار وإيلكايم، التي كانت ترى دو بوفوار حسودة،
وكانت الأخيرة ترى أن إيلكايم مجرد متطفلة على سارتر، فقد سألته ذات مرة: «هل كنت ستوافق على أن تتكل على أحد حين كنت في العشرين (مثل سن إيلكايم)؟ فأجابها: لا أحد لام فان جوخ على اعتماده على أموال أخيه!».
العهد بين سارتر وسيمون
ميز سارتر وسيمون بين نمطين من الحب: نمط من الحب الأساسي المطلق المؤسس لعلاقتهما وحبهما لبعضهما. ونمط من الحب الثانوي العابر مع الآخرين من حولهما. وبهذه الطريقة استطاعا تأسيس علاقة حب «أساسية» بينهما، لكنها تفسح مكانا لوجود علاقات حب «ثانوية» مع آخرين. وبذلك يمكن توصيف علاقة سارتر مع دو بوفوار بأنها علاقة تتبنى التعددية «البوليجامية»، وترفض الأحادية «المونوجامية». وكان هذا هو نمط العهد الذي تعاهدا عليه. كان الاثنان لا يرغبان في إنجاب أطفال. فقد كانا يكرهان الاعتناء بهم. وكانا يعتبران حياتهما مقصورة على إنجاز مهمة وجودية فكرية وفلسفية وسياسية وكتابية محددة. وأن هذه المهمة لا مجال فيها للأسرة أو للأطفال.
كانت سيمون تشعر بأنه يوجد جزء منها لا يمكن لأي رجل أن يتقبله، فهي تكتب: «أنا أعلم الثمن المطلوب للحب. لكنني أشد ذكاء وأكثر حرية وأشد تطلبا، بحيث يستحيل على أي شخص أن يحتويني بشكل كامل، وبذا فيستحيل على أي شخص أن يحبني بشكل كامل، فأنا لا أملك سوى نفسي». وكان سارتر هو الإنسان الوحيد الذي اعتبرته سيمون مكافئاً لها ولمتطلباتها الذهنية، فكانا يلتقيان يوميا لممارسة الكتابة، وكأنه طقس يومي مقدس لابد من إنجازه بكل التزام وتفانٍ. وكان كل منهما يقرأ ما يكتبه الآخر، ويدلي بملاحظاته، ويشجع الآخر. كتبت سيمون دو بوفوار: «تلك هي الحياة التي أريدها».
«لم يتوقف سارتر ودو بوفوار في علاقتهما عن العيش ككاتبين... تعاهدا على أن يخبر كل منهما الآخر (في إطار علاقتهما الأساسية) بـ «كل شيء» حتى أدق التفاصيل (عن علاقاتهما الثانوية). كان سارتر ودو بوفوار أشبه بشخصية روكنتان بطل رواية الغثيان الذي يقول: «لكي يصبح الحدث التافه مغامرة كبيرة ينبغي عليك أن تسرده».
كان من المستحيل معرفة أي أمر أكثر إرضاء لهما، أهو لذة التلصص المتولدة عن سماع تفاصيل العلاقات الثانوية مع العشاق الآخرين لكل منهما، أم هي المتعة الحميمية المتولدة عن سرد التفاصيل بكل صدق ودون إخفاء. كانا مهووسين بما يدعوه سارتر «وهم السيرة»، وهي الفكرة القائلة إن الحياة المعيشة يمكن أن تماثل الحياة المسرودة. كتب سارتر: «كنت واعياً بكوني الشاب سارتر، على نحو ما يتكلم الناس عن الشاب غوته». وكانت دو بوفوار تتخيل الناس يمعنون التفكير في قصة حياتها على نحو ما فعلت هي مع حيوات إميلي برونتي وجورج إيليوت وكاثرين مانسفيلد. وبذلك نزعا إلى صنع أسطورتهما الخاصة. وكان ذلك يتم وفق أسلوب «الإخبار بكل الحقيقة، فبالنسبة لهما كانت فكرة التكتم هي أثر من آثار نفاق البرجوازية، فلم الاحتفاظ بالأسرار؟ كانت مهمتهما كمفكرين هي سبر ما تحت السطح للوصول إلى أعماق التجربة وكشف زيف الخرافات وإيصال الحقيقة إلى قرائهما».
كان مفهوم سارتر للحقيقة يستبعد المشاعر السلبية والانهزامية من حياة الإنسان. فجزء من مفهوم الالتزام والمسؤولية، يعني أن الإنسان مسؤول بشكل تام حتى عن مشاعره. وبالتالي، فالمشاعر السلبية والانهزامية هي نوع من تضييع الوقت وإهدار الطاقة. وتذكر الكاتبة راولي أن إحدى صديقات سارتر (سيمون جوليفيه) أرسلت له ذات مرة خطابا تقول فيه إنها حزينة، فما كان منه إلا أنه قرعها برسالته التالية:
«أتتوقعين مني أن أعاملك بلطف نتيجة لإدلائك بهكذا تصريح بحالتك التي قررت أنت أن تسميها بالحزن، متوقعة أن تحصلي على بعض التلطف إشفاقا على نفسك أولاً، ثم مني إشفاقا عليك؟ ربما قد طرأ لي أن أقوم بفعل يشبه هذه الأفعال المسرحية في السابق، لكني حاليا أصبحت أحتقر وأنفر من هؤلاء الذين يفعلون ما تفعلينه الآن من الاستغراق بين الحين والآخر في لحظات قصيرة من الحزن. إن الحزن يمضي يدا بيد مع الخمول. بل إنك تسمحين لنفسك بالكتابة عن ذلك وإرسال رسالة بهذا المعنى لي. اصمدي واصلبي قامتك، وتوقفي عن ممارسة هذه الأمور المسرحية التافهة واشغلي نفسك بما يستحق... اكتبي».
العبث بحياة الآخرين
تقول راولي: «توفي سارتر عام 1980 ودو بوفوار عام 1986، ولم يتلفا رسائلهما ويومياتهما الخاصة، وكان من الواضح أنهما خططا لتنشر بعد موتهما، وقد نشر الجزء الأكبر من رسائلهما بعد سنوات عدة. وكانت صدمة القراء شديدة، إذ تبين في النهاية أن هذين المدافعين عن قول الصدق كانا يكذبان دائما على عديد من الفتيات غير المستقرات عاطفياً. (كان سارتر يصنفها إلى «أكاذيب بيضاء» و«أنصاف حقائق» و«أكاذيب كاملة»)، فلماذا هذا الاستخفاف الشديد بأولئك النساء الشابات؟».
وتحمل المؤلفة راولي المسؤولية لسارتر عن العبث بحياة الفتيات اللاتي عرفهن – وإن كان بشكل ضمني وغير صريح. فبعض هؤلاء الفتيات قد انتحرن. ويبدو أن راولي لا تظن أن هذا الانتحار قد حدث نتيجة تأثر الفتيات بأجواء الخمسينيات والستينيات المتطرفة، بل ترى أن تعدد علاقات سارتر، أمر كفيل بدفع هؤلاء الفتيات إلى الانتحار، حين يدركن أن معبودهن قد فضل عليهن أخريات، أو ربما حين يدركن أن حتى هذا الفيلسوف الوجودي لايزال مجرد رجل عادي في رغباته وأكاذيبه.
التفسير النفسي الوجودي لشخص سارتر
تفسر راولي تعدد علاقات سارتر العاطفية، بكونه يرغب في تجاوز وضعه وجودياً، فهو قبيح المنظر، وقصير القامة، وأحول العينين، ولا يتمتع بصفات جسدية رجولية من تلك التي تجتذب الفتيات للرجال، لذا فقد قرر أن يجتذب الفتيات من خلال استخدام الكلمات التي تثير لديهن الإعجاب الذهني، بدلاً من الإعجاب الجسدي. وتسرد راولي تفاصيل أول لقاء رفضت فيه سيمون دو بوفوار أن تقابل سارتر، وأرسلت أختها بدلا منها لتعتذر إليه، كما يلي:
«جلس سارتر في صالة الشاي منتظرا دو بوفوار، يقرأ ويدخن غليونه. وبوغت حين رأى شابة ذات شعر أشقر تتقدم نحوه وتقدم نفسها إليه بصفتها هيلين دو بوفوار، وتخبره بأن شقيقتها لن تتمكن من الحضور. سألها سارتر: «كيف عرفت بأنني سارتر؟». أجابته بخجل: «لأنك تضع نظارة». عندئذ أشار سارتر إلى رجل يجلس في الزاوية الأخرى ويضع على عينيه أيضا نظارة.
اعتقد سارتر بأنه يعرف لماذا لم تأت سيمون دو بوفوار، واستطاع أن يخمن الطريقة التي وصفته بها لأختها الأصغر. وقد كان على حق، إذاً أخبرت سيمون شقيقتها بأنها ستتبينه بسهولة، فهو قصير جداً، يضع على عينيه نظارة، وقبيح جداً... لم تكن هذه البداية مبشرة، ولم يكن سارتر ليتحمل أن يكون مرفوضا من النساء، فخلال حياته كلها لم يغفر لأمه خيانتها له، وفق ما يظن، نتيجة زواجها ثانية.
هل ظلمت المؤلفة سارتر وأنصفت دو بوفوار؟
تعتمد المؤلفة راولي على الشهادات الشخصية والاقتباس من المذكرات والرسائل الشخصية. وفي أغلب هذه المصادر نجد أغلب الشخصيات تشهد لسارتر بطلاوة الحديث وحلاوة الروح، وبكونه قادراً على تحفيز محادثيه، ليحققوا كل إمكاناتهم الذاتية، وهو ما أحبته دوبوفوار بشدة في سارتر، فنجدها تتحدث عن سارتر في مذكراتها، وكأنه كان محفزاً أساسياً لها لإنجاز كل ما أنجزته في حياتها، رغم ذلك فإننا نعجز عن الإمساك بهذه السمات على صفحات كتاب راولي، وكأنها تبدو غير مهتمة ببذل الجهد الكافي لوصف سارتر وتأثير علاقته على دو بوفوار وعلى غيرها، وفق السمات التي يضيفها عليه هؤلاء أنفسهم، وغيرهم من أصحاب الشهادات المذكورة في متن الكتاب. في المقابل تهتم راولي كثيراً بوصف مشاعر دوبوفوار، فهي ترينا سيمون أثناء بكائها على عجز سارتر وأزماته الصحية، لكننا لا نرى أي مشاعر لدى سارتر أثناء إصابته بكل هذه الأمور. فنحن كقراء نشعر بمشاعر سيمون وحبها لسارتر، لكننا لا نشعر بأن سارتر يستحق هذا الحب. وهذه إحدى نقاط الضعف الغريبة في كتاب راولي، فهي تطالعنا وكأنها تساند سيمون بأكثر مما ينبغي، وتهمل سارتر بأكثر مما يستحق.
إن الإلماح إلى أن سارتر ربما يكون مسؤولا على المستوى الأخلاقي أو النفسي عن انتحار بعض صديقاته، كما تفعل الكاتبة راولي بطرف خفي في كتابها، هو أمر تفنده وترفضه بشكل حاسم حقيقة أن أبرز نساء سارتر وهي سيمون دو بوفوار نفسها لم تنتحر، بل إنها استفادت للغاية من قربها الحميم من سارتر لتحقق ذاتها وتبلغ أقصى ما بلغته امرأة في عصرها من نجاح وتميز، نتيجة لوجودها بالقرب من سارتر ■