في تحقيق كامل بإشراف د. مبروك المناعي الموسوعة الشعرية «خريدة القصر وجريدة العصر»

في تحقيق كامل بإشراف د. مبروك المناعي الموسوعة الشعرية  «خريدة القصر وجريدة العصر»

صدرت في مطلع العام الحالي طبعةٌ كاملة محققة تحقيقا نسقيًا جامعًا لكتاب «خريدة القصر  وجريدة العصر»، الذي ألفه عماد الدين الأصفهاني (597 هـ). 
والكتاب موسوعة ألمّ فيها صاحبها بالذاكرة الشعرية العربية خلال ما يناهز قرنا من الزمان، وهي الفترة الممتدة من الربع الأخير من القرن الخامس الهجري إلى الربع الأخير  من القرن السادس الهجري. 

 

تحتوي الموسوعة على خمسة أقسام؛ أولها لشعراء العراق، والثاني لشعراء الشام والجزيرة، والثالث لشعراء فارس وبلاد العجم، والرابع لشعراء مصر، والخامس لشعراء المغرب والأندلس.
 وهي تمثل أكبر كتاب اختيارات شعرية في تاريخ الأدب العربيّ، وقد صدرت هذه الطبعة الشاملة في 22 مجلدا تضم أكثر من 1200 شاعر وأكثر من 50 ألف بيت شعر.
ورغم القيمة العلمية لهذا المصنَّف الكبير، فإنّه لم يحظ قبل التحقيق الذي أشرف عليه د. مبروك المناعي بالعناية التي تكافئ قيمته العلمية، ود. المناعي هو أستاذ الأدب العربي في الجامعة التونسية، وكتاباته في الشّعر القديم وإنشائية الشعر غدت من المراجع الأساسية للباحثين، وهو معروف في الأوساط الأكاديمية بفضله على الجامعة وعلى أجيال من الباحثين، تدريسًا وإشرافًا، بالإضافة إلى تسييره وإدارته لمؤسسات جامعية وهياكل بحثية عدة. 

إعادة تحقيق
ولا شكّ فــــي أن هـــــذا التنوّع فــــي مـــــسيرة المناعـــــي بعضٌ من خلالٍ وخصالٍ خَوَّلَتْه لإدارة فريق من الباحثين التونسييـــــن والجزائرييـــــن في إعادة تحقيق «خريدة القصر وجريدة العصر». 
ومما نذكره في التأريخ لهذا الكتاب الضخم القيّم، أنه سبق أن طُبعت أجزاؤه وحُقّقت متفرقة على نحو يمنع الباحث من الاستفادة من موسوعيته وشموله؛ فقد ذكر الزركلي في كتابه «الأعلام» أنّ أجزاءه توزعت بين دمشق وبغداد، ثم قال: «وكانت في طريقة طبعه إقليميةٌ خبيثةٌ في الأدب». 
وفي ذلك ما يفسّر عدم توفّر نسخة كاملة محقَّقة على وتيرة واحدة، فمخطوط الخريدة المتوفّر في المكتبة الوطنيّة بباريس أكملُ مخطوطاتها على الرّغم ممّا فيه من نقائص حاول محققو أجزائها ترميمها باعتماد غيرها، وذلك فيما نشروه منجَّمًا من الخريدة، وقد استندوا في ذلك بالخصوص إلى مخطوطين؛ أولهما مخطوط نور عثمانيّة التركيّة ومخطوط الأحمديّة التونسيّة.
ولهذا الكتاب قيمة توثيقية خاصة، فهو مِكنز حقيقيّ للذاكرة الشعرية العربية في الفترة التي يتعلق بها، حتى إنّ العلاّمة التونسي حسن حسني عبدالوهّاب قال في تقديمه لتحقيق قسم المغرب: «لهذا المؤلّف الجامع أكبر فضل وأجلّ أثر في انتقاء ما تفرّق من أخبار شعراء المغرب والمشرق في تلك الفترة المجدبة من الأخبار الخالية من رواة الآثار». 
وممّا يعزز القيمة التوثيقية لهذا المصنَّف، أنّ كتب تراجم عدّة وُضعت بُعيْد وضع الأصفهاني للخريدة، وظهر أكثرها في القرن السابع، ولكن هذه المصنفات تؤرخ للأعلام من دون نصوصهم، أما في طبقة الأصفهاني فلا نكاد نجد إلا كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام (542هـ). 
على أنّ من أبرز من ألفوا كتب التراجم التي ظهرت في القرن السابع ياقوت الحمويّ (626هـ) صاحب «معجم الأدباء» وابن خلّكان (681هـ) مؤلِّف «وفيّات الأعيان» وابن سعيد الأندلسي (685هـ) في كتابيه «الغصون اليانعة» و«المُغرب في حلل المغرب».  
والقيمة التوثيقية لكتــاب الأصفهاني تتجـــاوز الشعر إلى معطيات أوسع تتعلق بالتاريخ السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، مما يرْشح به التأريخ للأدب، بالإضافة إلى أنّ هذه الموسوعة تضمنت نصوصًا شعريّة ونثريّة لم تكن معروفة من قبل لكثير من الأدباء المصريّين والأفارقة والصقلّيّين بالخصوص، نقلها العماد من مصادر فُقدت هي كذلك. 

مرجع مهم
فعلى هذا الأساس تعدّ الخريدة أهمّ ما بقي من مصادر تاريخ الأدب، والشعر على وجه التحديد، بالنّسبة إلى الأقاليم الخمسة التي تحتويها هذه الموسوعة خلال الفترة الممتدة من الربع الأخير من القرن الخامس الهجري إلى الربع الأخير من القرن السادس الهجري. 
وهذا الأمر بدوره يرشحها لتكون مرجعًا مهمًا لتراجم هذه الفترة ولما حفّ بها من معطيات تتعلق بدقائق التاريخ السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومصدرًا أساسيًا من مصادر شعر ذلك العصر.
ومما يثمَّن في سير إنجاز تحقيق هذه الموسوعة أربع خصال؛ أولاها أنّ هذا التحقيق جهد فريق متخصص، وقد كان في تنوّع الفريق تكامل في مجهودات أعضائه، على نحو يسّر تذليل الصعوبات العملية، ورأسها أنّه لا يوجد مخطوط كامل شامل لهذا المصنَّف الضخم بكلّ أجزائه في مكان واحد، بل إنّنا لا نجد من القسم أو المجلّد سوى مخطوطات منفردة قد تمزّق بعضها وتلاشى جزئيّا وتوزّع بين مكتبات عدّة، وهو ما حال دون إصدار طبعة كاملة لهذا التأليف.
 ويشير د. المناعي المشرف على فريق التحقيق إلى أنّ مخطوطة الخريدة المتوفّرة بالمكتبة الوطنيّة في باريس تعدّ أكمل مخطوطاتها بالرّغم ممّا فيها من نقائص حاول المحقّقون السابقون – كلّ بالنسبة إلى القسم الذي يحقّقه – أن يرمّموها باعتماد غيرها، ولاسيما مخطوطة نور عثمانيّة التركيّة ومخطوطة الأحمديّة التونسيّة. 
و«الخريدة» حينئذ كتاب لم يُحقّق من قبل ولم يُنشر دفعةً واحدة، وإنما حقّق تفاريق ونُشر منجّمًا.
أما الخصلة الثانية التي تُثمَّن في سير تحقيق هذه الموسوعة، فتتمثل في أنّ التحقيق الذي أشرف عليه المناعي لم يكن منقطعا عن مجهودات السابقين ممن حققوا أجزاء منجَّمة من الموسوعة، فكأن المحققين قد جمعوا ما تمّ نشره بشكل زماني منجَّم ليعيدوا الكتاب إلى آنيته المكتملة لحظة فرغ الأصفهاني من إتمامه.
 وفي هذا الجهد إرساء لسنّة في تكامل مجهودات الباحثين لو دأب عليها الباحثون العرب لوفّروا كثيرا من الوقت الذي ضاع في التكرار وتشتت الجهد. فقد كان من مظاهر تشظي جهود المحققين أن القارئ العربي لم تتوافر لديه من الكتاب إلا أجزاء مبتورة خلال فترة من النشر والتحقيق امتدت زهاء نصف قرن: من 1948، تاريخ برمجة المجمع العلمي العراقي، تحقيق القسم الأوّل من الخريدة، إلى 1997 تاريخ تحقيق القسم الأخير منها.

خصوصية
أما الخصلة الثالثة التي تثمَّن في منهج التحقيق، فإنّ الفريق سعى إلى المحافظة في هذه الطبعة الجامعة، على خصوصيّة كلّ الطبعات الجزئيّة: بمقدّماتها ومتونها وهوامشها، على أنّ ضخامة المادة جعلت الفريق يجمع فهارس كلّ قسم في جزء خاصّ على نحو يؤمّن الحفاظ على منطق التوزيع الجغرافي للمدوّنة ويضمن تجانس البناء العامّ للكتاب، فجاءت فهارس الكتاب في خمسة أجزاء يتبع كلّ منها القسم الذي يتعلّق به.
أما الخصلة الرابعة، فالمحققون سعوا سعيا موفَّقا إلى إخراج الكتاب بأقسامه المختلفة إخراجًا متسقًا منسجمًا رغم اختلاف من اشتغلوا على أجزائه منجَّمةً، فكان من مهامهم أن يحافظوا على ميزات المنجز السابق من جهة، وأن يتعاملوا معها بما يجب من التعديل والتنقيح والاستدراك كلما دعت الحاجة إلى ذلك من جهة أخرى. 
وهو أمر لا شكّ في أن الباحث الجادّ يتهيّبه لاسيما حين يجد بين المحققين أفذاذا مثل شوقي ضيف وإحسان عبّاس وشكري فيصل وبهجت الأثري، وبين المراجعين جهابذة مثل أحمد أمين وحسن حسني عبدالوهّاب. 
ولا شكّ في أنّ صوغ  نصّ منسجم يكــون أكثر صعوبـــة إذا كان الاختــــلاف بين أمثال هؤلاء العلماء عندما يكون لكلٍّ منهــــم من مسوّغات متينة فيما يذهب إليه في تحقيقـــه، وهو ما يذكره المناعي، إذ  يشير إلى أنّ المقـــارنة بين الأقسام والأجزاء متجــــاورة تفضـــي إلى استنــتاج عدم تجانس، وكذلك الأمــر لدى المقارنة بين  مقدّماته، متنًا وهوامش، فالباحث يجد كثيرا من مظاهر النّقص والاضطراب والخلط والخطأ في عديد من الأحيان، ويضاف إلى ذلك تكرار بيّن في مقدّمات الأقسام، وهو أمر يعزى إلى أنّ كلّ محقّق كان ينظر إلى القسم الذي في يده من الكتاب كما لو كان الكتاب برمّته، ويضاف إلى ذلك تكرار في مقدّمات الأجزاء ضمن القسم نفسه، وتفريط في معطيات كثيرة، بل أساسية، مثل فهارس الشعر والشعراء بالنسبة إلى بعض الأقسام، وغياب البحور الشعرية في الكتاب كله، ونقص كثير من الشروح والتوضيحات المهمة، وهي أمور تجعل إنجاز الطبعة الحالية المحققة أمرًا ضروريًا.
ومما لا شكّ فيه أنه سيعزز تقديرَ القارئ والباحث المتخصص لتحقيق هذه الموسوعة، أنّ الأمر لم يكن مجرّد تدقيق لنصّ ناجز جاهز، ولم يتعلق الأمر بمجرّد ما سبق أن أشرنا إليه من أنّ الكتاب لم يُحقّق من قبل ولم يُنشر دفعةً واحدة، وإنما حقّق تفاريــــق ونُشــر منجّما، فإنّ من الصعوبات ما لا يقف القارئ عليه إلا بإفضاءٍ من أحد القيّمين على التحقيق، فقد وجد المحققون أنفسهم أمام سفْرٍ نال التلف أصوله المخطوطة، وهو ما يذكره المناعي، مشيرًا إلى أنّ ما كان في بعض المخطوطات من خرم أو طمس أو ما أكلته الأرضة أو ما أفسدته الرّطوبة الحيلة فيه قليلة، وفي النسخة المطبوعة من هذا الكثير، وكذلك ما استعجم على المحقّقين من الكلمات والعبارات، فلم يهتدوا إلى ضبطه ولم يقفوا على معناه وفي المطبوع منه الكثير أيضًا.
إنّ في متن هذه الطبعة المحققة هذه السنة (2018) من الأهمية العلمية ما لا شكّ في أنه سيجعلها مرجعا أساسيًا متاحًا في المكتبات والمراكز البحثية، ولا شكّ أيضًا في أن في حياة هذا الموسوعة الشعرية الكبرى منذ كانت مخطوطة إلى أن اكتمل تحقيقها في هذه الطبعة الجديدة الشاملة ما يمكن أن نفيد منه في مستوى علاقتنا بالتراث من جهة، وفي مستوى مناهجنا في التحقيق.
وتقديرُنا أنّ منهج فريق التحقيق في إصداره لهذه الموسوعة هو حقًا نموذج لمنهج ناجح في تنسيق العمل البحثي العربيّ، وهو كذلك عيّنة لما يتحقق كلما تعززت روحُ الفريق بالمعرفة والكفاءة والإخلاص للتراث ■