شطحات المؤرخين في النقل والتدوين

شطحات المؤرخين في النقل والتدوين

نكمل ما كتبناه من حديث في الشهر السابق عن التدوين، الذي بدأ بتدوين القرآن الكريم، ثم تبعته السنَّة النبوية الشريفة بقرن من الزمان وأكثر، ولكلّ منهما منهج وطريقة.  وتزامن تدوين الفقه والتاريخ، بما ثبت أنّ بداية تدوينهما كان في القرن الثاني من الهجرة، عندما أمر الخليفة العباســـي الثانـــي أبوجعـفـــر المنصــــور (ت. 158هـ /775م)، كلًا من الإمام مالك بن أنس (ت. 179هـ /796م) بتدوين قواعد الفقه، ومحمد بن إسحق (ت. 151هـ /768م) بكتابة التاريخ، فصنّف مالك «الموطأ»، وكتب ابن إسحق في اثني عشر جزءًا كتاب «تاريخ العالم»، بدأه بخلق آدم ، وختمه بوفاة سيد المرسلين ﷺ . ضاع هذا الكتاب الأخير (تاريخ العالم)، ولم يبق منه إلا الجزء الأخير الخاص بسيرة الرسول ﷺ ، وعُرف فيما بعد باسم «سيرة ابن هشام»، نسبة إلى عبدالملك بن هشام الحميري (ت. 218هـ/ 833م)، الذي اختصر هذا الجزء وعلّق عليه.

 

كتب العرب التاريخ قبل الإسلام مدونًا عن النقل الشفاهي لبعض الإخباريين. وهو عبارة عن قصص لأيام العرب وأبطالهم، تزيد وتنقص منه الحقيقة وتنتشر بين طياته الأسطورة والخيال. كان هذا التاريخ يُجمع من صحف منثّرة ومبعثرة، يحفظها الراوي فيقصها على السامعين، سمراً وعبراً، كقصص سيف بن ذي يزن، وداحس والغبراء، وحرب البسوس، وعنترة بن شداد، وغيرها.
ولهم في الأنساب نصيب أكبر، وإن لم يدوّنوها. وقد كان الشاعر آنذاك جريدة عصره، ففي قصائده الحب والدمع والرثاء والفخر والمدح والهجاء، ومن كل قصيدة تُنسَجُ قصة، يرويها الرواة في كل بلد على هوى مستمعيها. ولا بدّ لنا أن نسجّل أنّ أكثر مثقفي العرب قبل الإسلام كانوا حُفّاظًا، وقليل منهم الكُتّاب، فلا يحظى بتعلّم الكتابة إلا أبناء الأثرياء، وإن تجاوزنا نستطيع القول: وبعض الكهنة والرهبان من الديانات السابقة للإسلام، وهم قليل. لذلك نرى أن أغلب «كُتّاب الوحي» كانوا من بني أمية، الأسرة القرشية الثرية جدًّا.
ومهما يكن من أمر، فإنّ كتابة التاريخ اتخذت لها منهجًا مشابهًا، وإن لم يكن مطابقًا لمنهج كتابة الحديث الشريف. واستطاع المؤرخ العربي أنْ يُطوّر من منهجه، ويبتكر طرائق جديدة في سرد الرواية التاريخية وتحقيقها.

مناهج كتابة التاريخ
من المؤرخين مَنْ سرد التاريخ بتتابع الزمن والسنين، وسميت تلك الكتب بالحوليات، ومنهم من أرّخ على ضوء الأنساب، كالزبيري في «نسب قريش»، والبلاذري في أنساب الأشراف، ومنهم من أرّخ للمكان فذكر الحوادث والأعلام، مثل ياقوت الحموي في «معجم البلدان»، ومثل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» أو الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»، حيث جُعِلت المدينة نقطة ارتكاز المؤرخ لذكر كل أعلامها على مر العصور.
ومنهم من أرّخ للرجال حسب الفترة، واختار قرنًا من الزمان يتناول فيه مآثر أهم الشخصيات والأحداث من خلال سرد سيرهم، كابن حجر العسقلاني في «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة»، والسخاوي في «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، والمحبي في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر».
وعلى الرغم من توخي الدقة والحذر في كتابة التاريخ، فإننا نجد تحليلاً لبعض الحوادث يطلقه المؤرخ كنتائج وأحكام على الأحداث السابقة في العصور السالفة، فكثير من المؤرخين يطلقون أحكامًا من منظور عصرهم، وليس من واقع ما مضى. أضف إلى ذلك جهل المؤرخين الأوائل بلغات الأقوام الأخرى، لنرى التعريب الممجوج للأسماء التي لم يرد بها نص لديهم، فإبليس سمّوه الحارث بن مُرّة، وزوج فرعون أسموها آسية بنت مزاحم، أما فرعون فاسمه عندهم الوليد بن مصعب، وهكذا يطلقون الأسماء العربية جزافًا على كل من أشكل عليهم اسمه! 
إنّ كثيرًا مما ورد ذكره في كتب التاريخ يحتاج إلى فحص وتدقيق وتصحيح، والأمثلة على أخطاء المؤرخين كثيرة، خاصة في النقل. فإذا أردنا فحص بدايات التدوين التاريخي الممنهج، فنستطيع تناول كتاب «تاريخ الرُّسل والملوك» لمحمد بن جرير الطبري، ومقارنته بمعاصريه من أمثال أبي حنيفة الدينوري في «الأخبار الطوال» وأحمد بن إسحق اليعقوبي في كتابه «تاريخ العالم»، المعروف باسم تاريخ اليعقوبي.

مغالطات عدت حقائق
على الرغم من اختلاف منهج التدوين التاريخي واختلاف مصادر الروايات لدى الواحد منهم، نجد الاتفاق بينهم على نقل بعض المبالغات في السرد التاريخي. ولعل حادثة «رفع المصاحف على أسنّة الرماح» واحدة من تلك المبالغات، إذ لا يُعقَل نقل مصاحف من القرآن الكريم مع جيش يخرج للقتال وبه كثير من حفَظة هذا القرآن، أضف إلى ذلك أنّ تلك المصاحف تزن ثقلاً وحجمًا كبيرين آنذاك، وليس كما يتخيلها المؤرخ أو القارئ للتاريخ على أنّها أشبه بمصاحف العصور التالية، أو مصاحف هذا الزمان. 
ولم يستطع المؤرخ تحليل «خدعة التحكيم» على أنّها مطالبة بمساواة خليفة المسلمين، الذي بويع بالخلافة سلفًا، مع والٍ للشام مقدّر العزل من منصبه. 
لذا، لم تكن مشاورات عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري في عزل الاثنين سوى محض افتراء ورواية كاذبة لتحليل القصة أو تجميلها، وقد كان باستطاعة أبي موسى الأشعري، في التوّ والحين، دحض كلام ابن العاص وتكذيبه، عندما ثبّت هذا الأخير معاوية على الحكم. 
لم تكن المشكلة في اعتبار نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف نصوصًا مقدسة، فهذا ما يؤمن به المسلمون كافة، بل ظهرت المشكلة عندما عُدّت الفتاوى الفقهية الاجتهادية نصوصًا شرعية ملزمة، رغم اختلافها وربما تعارضها في المسألة الواحدة. 
وقد تمادى الأمر بعد ذلك لينسحب على النصّ التاريخي، حتى صارت بعض الروايات التاريخية في «الأثر»، وهو قول الصحابة وفعلهم، بمنزلة الأحكام الشرعية.

نص غريب
 يذكر اليعقوبي في تاريخه ما يلي:
«وفي غزوة نهاوند كان عمر بن الخطاب   على منبر رسول الله ﷺ  يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند. فقال سارية لما قدم من نهاوند: فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى الجبل، فسلمنا».
هذا النصّ الغريب، نستطيع أن نرفضه جملة وتفصيلاً، ولا نأخذ به البتة، ولسنا بذلك ملومين، فهو ليس بقرآن ولا حديث عن الرسول ﷺ . إلا أنّ كبار المؤرخين، مثل ابن كثير في «البداية والنهاية» وابن حجر العسقلاني في «الإصابة»، أخذوه، وزادوا عليه، ليسترشدوا به عن فضل عمر بن الخطاب ]، وعلى أنّه صاحب كرامات.
والأغرب من ذلك أنّ بعض علماء الحديث يوثقونه، من حيث «السند» على أنّه صحيح! والحقيقة أنهم ليسوا معنيين بأخبار الصحابة، فعمل الصحابي وفعله «أثر»، والأثر ليس ملزمًا شرعًا، والإيمان به ليس ثباتًا أو تأكيدًا على صحة العقيدة. 
وقد بالغ المؤرخون في تدوين خيالات العامة عن قصص الصحابة وفضائلهم، دون درايتهم أنّ بعض تلك القصص تقدح ولا تمدح. وليس أدل على ذلك من قصة عمر بن الخطاب ] وبائعة اللبن التي قالت لابنتها: زيدي الماء على اللبن، فلا أحد يرانا. فقالت الابنة: إنّ الله يرانا. فاستحسن عمر قولها وزوّجها أحد أبنائه. مثل هذا القول يحمل خطأين: أولهما أن مثل عمر بن الخطاب في ورعه وتقواه، ورجولته وشهامته أيضًا، لا يتجسس على همس النساء وتناجيهما. أمّا الثاني: فليس لعمر ] ولد تزوج من بنت غير معروفة النسب وأمها بائعة لبن! 
ووفقًا لما وثّقه علماء الأنساب، فإنّ أبناء عمر بن الخطاب هم: عبدالله الأكبر، وعبيدالله، وعبدالرحمن، وزيد، وعياض، وعبدالله الأصغر، وعبدالرحمن الأوسط، وعبدالرحمن الأصغر، وزيد الأصغر، وذكروا زوجاتهم وأعقابهم تفصيلاً، ولم يذكروا ابنة بائعة اللبن تلك. 

الطبري شيخ المؤرخين
بيّن الطبري، في مقدمة كتابه، أنّه ينقل كل الروايات التي ذكرها من قبله عن حادثة معيّنة دون أن يرجّح رواية على أخرى، إضافة إلى أن الطبري لم يعتنِ بصدق الرواة، وعندما يعتمد في الرواية التاريخية على «مجروح» فإنّه يعلل ذلك بأن لا تثريب عليه بالنقل منه، ما دامت الرواية قد وصلت إليه، فما عليه إلا تدوينها لا تحقيقها. 
هذا كان منهجه الذي أشار إليه في مقدمة كتابه، فمنهجه في كتابة التاريخ يختلف عن منهج المحدثين الذين يشترطون في سلسلة رجال سند الحديث الشريف صدق رواته. ويتضح لنا أنّ هناك ضعفًا جليًّا في إسناد الرواية عند الطبري إلى من هم ليسوا بثقاة في رواية الحديث، منهم سيف بن عمر الضبي الأسدي، الذي اتهمه المحققون بالكذب، وكتب عنه ابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان» أنّه مدلس ووضّاع، وأنّ حديثه عن الرسول [ حديث مُنكَر. والشائع عند علماء الحديث قولهم: «من يكذب في الحديث الشريف لا شكّ يكذب في الرواية»، والتاريخ يجب ألا يؤخذ عن كذّاب.
لقد أخذ الطبري كلّ أحداث الفتنة وموقعة الجمل عن سيف الضبّي. ومع الأسف، فإننا نرى أنّ المؤرخين، فيما بعد، قد أخذوا عن الطبري رواياته التي رواها عن الضعفاء لثقتهم به، فأهملوا ضعف رواية الضبّي، فحاق عليهم أن نتهمهم بالتعصب وعدم الحياد في كتابة التاريخ.
وعندما يتصفح المرء كتب التاريخ يقف أحيانًا على بعض الخرافات والأساطير، وربما الأكاذيب، فيصدقها من باب الثقة بعلم الكاتب ودقة عمله في تحقيق الروايات التي أوردها بالكتاب. 

بين المقبول والمعقول
إلا أنّ الأمر يختلف عند المتخصص، فما بين المقبول أصلاً والمعقول نقلاً يقع كثير من الخطأ والشطط. ولا يكفينا التدقيق بصحة سند الرواية، ولا ثقتنا بفضائل رجال القصة، بل لا بدّ لنا من التحقيق الدقيق بمعطيات الزمان وجغرافية المكان الطبيعية والمناخية، ومعطيات أخرى نعرف من خلالها طبائع الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، ومعرفة سلوكيات البشر في المجتمعات في الفترات الزمنية المختلفة، حيث لا نقبل بلاغة الراوي إن أسرف في المبالغة بالمدح أو القدح أو الكم أو الكيف.
مثال ذلك قصة الحجاج بن يوسف الثقفي، وهو مثال واضح على المبالغة والكذب في الرواية، بقصد القدح وتشويه تاريخه، فحين تُروى قصة ترمز وتشرح تعطُّش الحجاج للقتل وسفك الدماء، يأتي ذكر ولادة الحجاج مرتبطة بإبليس والخرافة، وأنه لم يقبل صدر أمه أو أي امرأة أخرى حتى كاد يهلك، فتمثّل إبليس لأبيه في صورة الطبيب الحارث بن كلدة، فأشار عليه أن يذبح جَدْيًا، ويوضع الحجاج بين يدي الذبيحة، ليلعق دمها، وهكذا فعلوا ثلاثة أيام، فنجا الحجاج من الموت، وأصبح محبًا لسفك الدماء!
أيّ حديث مثل هذا يصدقه عقل، إلا عقل الجاهل والمتعصب والكاره، وإلا فمن ذا الذي أدراه بإبليس ثم عرفه؟! 
إنّ إنجازات الحجاج السياسية والعسكرية والأمنية في حماية الدولة الأموية فاقت كل مثالبه، ولولا ذلك لما تمسّك به خلفاء بني أمية، الواحد تلو الآخر.
لقد كان الحجاج بمنزلة رئيس جهاز أمن استخبارات الدولة الأموية، الذي يعتبر جهازًا جديدًا وديوانًا مستحدثًا في بناء الدولة الإسلامية، حتى أصبح الجهاز المكمل لخطط الدول فيما بعد.

مبالغات المؤرخين
عندما نقرأ كتب التاريخ الإسلامي، نرى المبالغة عند المؤرخين قد تجاوزت حدّ المعقول، ولربما كان المؤرخ لا يقصد الكذب، إلا أننا ينبغي ألا نتجاوز عن ابتعادهم عن الواقع والحقيقة. لقد بالغ المؤرخون في الإحصاء والعدد، في الرجال والمال، وليس أدل على ذلك من ذكرهم مثلاً لعدد مقاتلي جيش الروم مقابل جيش المسلمين في معركة اليرموك، وقد تضاربت الآراء في عدد الجند بين جيشي الطرفين، فورد أنّ جيش الروم يفوق أضعاف أضعاف جيش المسلمين، ليصل إلى مئتي ألف جندي، بينما لا يتعدى عديد جيش المسلمين، فيما ذكرته الروايات، 40 ألف مقاتل. 
ولو عاينّا الموقع الجغرافي لأرض المعركة اليوم لعرفنا أنّ المكان لا يستوعب أكثر من 10 آلاف مقاتل متراصين ومتقابلين! 
هكذا، تأتي المبالغة أحيانًا كصورة من صور البلاغة الأدبية في سرد القصص التاريخي على شكل حقيقة وواقع. لقد أهمل المؤرخون في دولة الإسلام جغرافية المكان في سرد الأحداث، كما أهملوا شرح إشكالية تعارُض النصوص والروايات وفق الموروثات الاجتماعية للشعوب غير العربية التي أسلمت في أثناء الفتوحات، ولم يعيروا التاريخ الاجتماعي والاقتصادي أهمية، حتى غصّ بالمفارقات والمبالغات. وترى مثل تلك المبالغات في ذكر الأعطيات والهدايا للشعراء، فهذا الأمير يعطي الشاعر آلاف الدنانير، وذاك الخليفة يعطي ألف ألف درهم، فمثل تلك المبالغ المالية تزخر بها كتب التاريخ. 
ولو عرفنا أن الدينار من ذهب والدرهم من فضة، وأنّ الدينار لم يتعدّ يومًا مئة واثنين وثلاثين درهمًا، وأنّ الأسرة متوسطة الحال، في العصرين الأموي والعباسي الأول، كانت تعيش على خمسة وأربعين درهمًا في الشهر، لتأكدنا من تلك المبالغات في عطاءات الشعراء والبلغاء. 

تركيز على الدولة
ركّز التاريخ الإسلامي على الدولة دون الشعب، يقرأه المُوالون ويهمله المعارضون. ليس لدينا في تاريخنا ولا في كتبنا آراء لمعارضي حكم الدولة، وإن أتى ذكر هذه الآراء فإنّه يأتي ضمن سياق الردود عليها، فتكون آراء المعارضة إما مقتضبة وإما مبتورة، وإلا فأين آراء المعتزلة في السياسة والحكم؟
كلّ الثورات التي قامت في التاريخ الإسلامي كانت ثورات اجتماعية، انتفضت ضد ظلم الدولة واستبدادها. صحيح أنّ كثيرًا من تلك الثورات شطحت بآرائها وشطّت عن أهدافها الأساسية فيما بعد، لكن أساس قيام تلك الثورات كان من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية أصلًا، وإن أحاط بها الغلو والشطط فيما بعد، وإلا لما كان لها أتباع كُثر وجيش يمكنه أن يقارع جيش الدولة، كثورات القرامطة والزنج والزطّ.
وعندما نقرأ التاريخ لا نرى في تلك الجماعات إلا مثالب وعيوبًا وكفرًا وضلالًا... أما كان من بينهم رجلٌ رشيد؟!
لقد كانت سياسة الدولة الأموية، وتلتها الدولة العباسية، اعتبار كل معارض لسياسة الحكم «مارقًا»، ليسهُل عليها اتهامه فيما بعد بالكفر أو الزندقة، أو ربما اتُّهم بالجنون، من أجل كسب الساحة الشعبية وتأليب الجماهير عليه باسم الدفاع عن الدين والدولة، حتى طال هذا الاتهام كبار فضلاء وعلماء وفلاسفة ذاك العصر، فأخذوا بجريرة مبادئهم وأفكارهم، ومن الأمثلة على ذلك ابن المقفع الذي اتُّهم بالزندقة فقُتِل، والمؤرخ أحمد بن يحيى البلاذري، عندما اتُّهم بالجنون فأودع «البيمارستان» حتى وفاته، والطبيبان محمد بن زكريا الرازي وابن سينا، اللذان اتُّهما بالإلحاد
والكفر، وأُحرقت كتب ابن رشد، وغيرهم كثير.

حملة شرسة
هذا من جانب الدولة، أما من جانب الشعوب فلا تزال الحملة الشرسة على الفلسفة والفلاسفة قائمة منذ نشأة المعتزلة ثم الأشاعرة فالماتريدية إلى يومنا هذا، وقد أخذت هذه الحملة في ركبها القاسي كل إبداع، حتى زُعِم أنّ الإبداع بدعة. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، لتنهال الاتهامات على كل طرح جديد لقتل كل إبداع فكري متطور في كل مجالات العلوم والمعرفة والفنون.
لم يدافع المؤرخون عن أحد من هؤلاء، وهنا تتبين لنا الإشكالية الكبرى في موقف المؤرخين، الذين اشتغل أكثرهم تحت أجنحة السلطة، مما جعلهم أشبه بالموظفين لدى الحكّام. مجموعة من كبار المؤرخين والإخباريين مثل ابن الأثير وياقوت الحموي والقفطي وابن خلكان وسبط ابن الجوزية، كل هؤلاء كانوا يشتغلون لحساب الدولة.
ويبدو أنّ معرفة وثيقة كانت تجمع بين ابن الأثير وياقوت وعلي بن يوسف القفطي، بيّنها هذا الأخير في ذكره لوفاة ياقوت، وأكدها ابن خلكان في وفيّات الأعيان، حيث كان الجميع يجتمعون عند صاحب حلب ومدبر شؤونها طفريل الخادم. 

خرائط استخباراتية
حمل القفطي على ابن الأثير في أنّ هذا الأخير قد تصرّف بكتب ياقوت التي أودعها عنده لينقلها لأوقاف الزيدية في بغداد، إلا أنّ الأمر يبدو أكبر من ذلك.
ففي وجهة نظرنا الشخصية أنّ جميع من كتب في أدب الرحلات وسجّل بدقة متناهية مواقع المدن والطرق المؤدية إليها، وهي ما تسمى بكتب المسالك والممالك، التي كتبت فيها كتب كثيرة: «المسالك والممالك» لابن خُرداذبه، «مسالك الممالك» للاصطخري، «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للمقدسي، «الآثار الباقية عن القرون الخالية» للبيروني، وأخرى كان منها «معجم البلدان» لياقوت الحموي، كلها كتبت كخرائط استخباراتية مرشدة لحكومات دول، ولم تكتب كمعارف للمثقفين أو كقصص وأسمار للعامة. 
فأصــــل كتـــابة «معجــــم البلدان» لياقوت - كما نعلم - كان بتوجيه وتشجيع من أحد وزراء حكومة الزنكيين، وبدعم مالي منها، وهذا ما ذكره ياقوت نفسه في مقدمة كتابه. والأمر نفسه ينطبق، بصورة أو بأخرى، على الكتب الأخرى للمؤلفين الذين ذكرناهم.
إنّ مشروع إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي وتنقيته وتنقيحه مشروع مؤسسي، لابدّ أن يلقى العناية من مؤسسات دولية عربية رائدة أو جهات رسمية منصفة تؤمن بأهمية التاريخ والبحث العلمي، وبأنّ الاعتماد على التاريخ، دون إفراط أو تفريط، هو أساس الاعتزاز بالهوية، ونقطة الانطلاق الحضاري الواثق بالمستقبل. كل الدول تشتهي لنفسها تاريخًا مشرّفًا، تنسج من خلاله هوية لشعبها، وترسخ تلك الهوية قيمةً للأجيال. 
أما آن لنا نحن وقد تأكّدنا من هويتنا وعرفناها وتشرفنا بها أن نكمل المسيرة للأجيال القادمة، على ضوء المعطيات الجديدة، بكل حياد وموضوعية؟! ■