توحُّد المتنبي

توحُّد المتنبي

من أحب القصائد التي لا أنساها للمتنبي قصيدته في رثاء جدته لأمه، وكانت قد يئست منه لطول غيبته، فكتب إليها كتابا، فلما وصلها قبلته وفرحت به، وحُمت من وقتها، لما غلب عليها من السرور. فوصله ذلك، فكتب فيها قصيدته الخالدة:

ألا لا أُري الأحداثَ حمدًا ولا ذَمّا
فَما بَطشُها جَهلًا ولا كفُّها حِلمَا

 

ولا يماثل هذه القصيدة عندي في شعريتها التي تنبئ عن همة المتنبي وروحه العالية، سوى قصيدته التي كتبها في الحمى التي كانت تغشاه بمصر، والتي كان مطلعها:
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ 
وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ
ذَرَاني وَالفَلاةَ بِلا دَليلٍ 
وَوَجْهي وَالهَجِيرَ بِلا لِثَامِ
فإنّي أسْتَرِيحُ بذي وَهَذا 
وَأتْعَبُ بالإنَاخَةِ وَالمُقَامِ
عُيُونُ رَوَاحِلي إنْ حِرْتُ عَيني 
وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغامي
فَقَدْ أرِدُ المِيَاهَ بِغَيرِ هَادٍ 
سِوَى عَدّى لهَا يرْقَ الغَمَامِ
يُذِمّ لِمُهْجَتي رَبّي وَسَيْفي 
إذا احْتَاجَ الوَحيدُ إلى الذّمَامِ
وَلا أُمْسِي لأهْلِ البُخْلِ ضَيْفًا
وَلَيسَ قِرى سوَى مُخّ النّعامِ
فَلمّا صَارَ وُدّ النّاسِ خِبًّا 
جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ
وَصِرْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطَفيهِ
لعِلْمي أنّهُ بَعْضُ الأنَامِ
يُحِبّ العَاقِلُونَ على التّصَافي 
وَحُبّ الجَاهِلِينَ على الوَسَامِ
وَآنَفُ مِنْ أخي لأبي وَأُمّي 
إذا مَا لم أجِدْهُ مِنَ الكِرامِ
أرَى الأجْدادَ تَغْلِبُهَا جميعًا 
على الأوْلادِ أخْلاقُ اللّئَامِ
وَلَسْتُ بقانِعٍ مِن كلّ فَضْلٍ
بأنْ أُعْزَي إلى جَدٍّ هُمَامِ
عَجِبْتُ لمَنْ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ 
وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي 
فَلا يَذَرُ المَطيّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئًا 
 كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي
تَخُبُّ بي الرّكابُ وَلا أمَامي
وَمَلّني الفِرَاشُ وَكانَ جَنبِي 
يَمَلُّ لِقَاءَهُ في كُلّ عامِ
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي 
كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مَرَامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ 
 شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ

وأرجو أن يشاركني القارئ الكريم الإعجاب بهذه القصيدة من حيث بنائها المحكم، وتوازن معناها مع مبناها، وانسجام إيقاعها الوزني (بحر الوافر) مع قافيتها، التي تضيف إلى جمال المعاني، مناسبة الوزن وتتابع القافية المتواترة بما يؤكد المعنى. وأما المعنى نفسه فهو يردّنا إلى شخصية المتنبي، ذلك الشاعر الكبير الذي كان يعتز بشعره اعتزاز الملوك بعروشهم، ولذلك كان المتنبي يرى نفسه – في أغلب الأحوال - أعلى قدرًا من ممدوحيه، ولا يحترم من ممدوحيه إلا من يجذب عينيه إلى صفات فيه تماثل الصفات التي كان المتنبي نفسه ينطوي عليها، سواء من حيث الاعتزاز بالكرامة أو الترفع عن الصغائر والإحساس القوي والوجودي بالحضور في الوجود، ومن ثم الإحساس الدائم بالتميز الذي يدفع المرء إلى النظر إلى الآخرين بعين الأعلى الذي يراقب الأدنى، والذي يضطر نتيجة إحساسه بالتميز إلى أن يعيش في حال من التوحد أو في نوع من «تدبير المتوحد»، إذا استخدمنا عنوان كتاب لابن باجه الفيلسوف الأندلسي، ولذلك يلفت الانتباه في القصيدة الدلالة الأمرية التي يلفتنا إليها البيت:

ذَرَاني وَالفَلاةَ بِلا دَليلٍ 
وَوَجْهي وَالهَجِيرَ بِلا لِثَامِ
فإنّي أسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذا 
وَأتْعَبُ بالإنَاخَةِ وَالمُقَامِ

فالتوحد في الصحراء، أو في الفلاة وقت الهجير، هو نوع من الشعور الممض بالتوحد، وهو شعور لا يوجد إلا عند ذوي النفوس الكبيرة المترفعة عن الصغائر والشاعرة والمدركة لقيمتها التي لا يعرفها الآخرون، والتي تجعل هذه الذات العنيدة تحيا وسط الآخرين كأنها ليست منهم. ولذلك تتباعد عنهم حتى ولو كانت بينهم، فتركب ناقتها وترحل واصلة بين عينيها وعيني الناقة التي تحملها، مؤثرة الفلاة أو الصحراء التي تمضي فيها بلا دليل؛ لأن دليلها قلبها، في هذا العالم الضيق من التوحد الذاتي، فهي مع الآخرين وليست منهم، وهي لا تجد نفسها إلا في العزلة، وهي تضرب بناقتها في قلب الصحراء التي تعرفها كل المعرفة وتأنس بها كل الأُنس. 

اتحاد وجداني
ونتوقف عند هذا الاتحاد الوجداني الذي يربط بين الشاعر والصحراء، خصوصًا حين تغدو عينا ناقته عينيه، ويصبح صوت التعب الذي تصدره الناقة المتعبة (البغام) هو صوت الشاعر، وهزال الناقة (الرزاح) أي التعب حتى الإعياء، هو حال الشاعر. 
هكذا يبدو الشاعر مرآة للناقة التي تكاد تسقط إعياء وهزالا، وذلك بالقدر نفسه الذي يغدو به الشاعر مرآة موازية لهذه الناقة المتوحدة والمنطلقة في صحراء مترامية الأطراف، بعيدا عن العمران، بغير دليل، فما حاجة هذا النوع من البشر إلى دليل؟! إن قلبه دليله، وحضوره الطاغي في الوجود، هو قلبه الذي يدله على الطريق، وهو القلب نفسه الذي يجعله يختار هذا الكائن أو ذاك للصداقة دون غيرهما من الناس.
وتمضي الأبيات لتؤكد أن من يحتاج إلى السفر على هذا النحو لا يحتاج إلى زمام وجوارٍ وعبيد، إنه في حال توحد مع نفسه ومع سيفه، وليس له أو عليه إلا أن يمضي وحيدًا، متوحدًا، في بيداء الحياة لا يريد قِرى أو عطاء من الصغار، فحسبه شرب ما يقابله في الصحراء من نقاط ماء، وحسبه القوت القليل الذي توفره الصحراء في بعض الأحيان. 
إنها نفس غريبة تشك في الناس كأنها خَبرَتهم وعرفتهم، فتمضي غير نادمة في صحراء توحدها، لا تقبل ضيافة بخيل، وتأنف حتى من الأهل لو لم يكونوا كرام الخلق والنفوس، وتعرف الأصل الطيب حتى وسط اللئام. 
هذه النفس لا تقنع من الفضل، بل تنسب إلى جد فاضل، فهو الفضل نفسه في حضورها، ولذلك فمثل هذه النفس الممتلئة بحضورها الذاتي في الوجود تعرف طريقها إلى المعالي، فلا تترك سنام الناقة إلا إذا وصلت إلى هذه المعالي. 

نفسٌ أبية
ويكمل المتنبي المعنى بأن ينتقل من هذا الحضور المتوحد في الوجود، وكان في مصر في ذلك الوقت، ولذلك يؤكد في قصيدته أنه أقام بأرض مصر فلم يكن من ورائه ما يدفع إلى المضي، فقد كان لا يزال طامعا في أن يزداد قربا من صديقه أو من أميره، سيف الدولة الحمداني. ولكن سيف الدولة الحمداني لم يكن متاحا له في كل وقت، ولذلك شعرت النفس الأبية داخل المتنبي بالملل، كما عانت السكون وعدم الحركة. وفي الوقت نفسه ظلت تعاني قلة المال وكثرة الحاسدين، وتضافرت على قلبه الأحزان والحُساد، فأصبح نحيل الجسد، ممتنع القيام، شديد السكر من غير خمر. وبعبارة أخرى أصبح في حالٍ دائم من الغربة والاغتراب، عليل الجسد في حالة خمول دائم وإحباط مستمر. هكذا أصابته الحمى في النهاية. ومن الطبيعي أن تصيبه الحمى في هذه الحالة، ومن الطبيعي أيضًا أن يأتيه الطبيب، ولكن ماذا يفيده الطبيب ودواؤه ليس في الشراب والطعام؟! فدواؤه الحرية والانطلاق، فهو أشبه بالحصان الجسور الذي يضعف جسمه من طول الثبات، والأصل في هذا الجواد الأصيل هو الحركة والانطلاق في براح الصحراء، حرا كالنسيم، أبيا كالحصان الذي يؤثر الحرية على كل قيد. 
هذه كانت علة المتنبي في مصر، وهي الحال التي يعانيها السيف الباتر إذا لم يفارق غمده طوال الوقت، فينال منه الصدأ في النهاية، فلا يصبح باترا، هذا هو جوهر المعنى الذي يكمل به المتنبي قصيدته البديعة التي أرجو أن يقرأها القارئ بتمعُّن وأن يستمتع بها كما لا أزال أستمتع بها كلما قرأتها، أو كلما دفعتني تقلبات الزمن إلى قراءتها. 
وأترك للقارئ حرية أن يقرأها وحده، طالبا منه أن يصبر على بعض الصعوبات في لغتها، وأن يستمتع بالحوار الإنساني وبالحيوية وبالتجسيد الفني الذي يضفي به المتنبي على الحمى حضورًا إنسانيًا يجعلها قابلة لحواره معها، والاشتراك معها في الحوار مع الطبيب الذي يزوره كي يبحث معه عن علة للمرض، غير مُدرك أن العلة ليست في مجرد الحضور ثقيل الوطأة للحُمى بقدر ما هو الحضور القاهر للسكوت بلا نطق، والجمود بلا حركة، وتلقى النفس سهام الحساد دون حماية.
وظني أن التجسيد الذي يجسد به المتنبي حضور الحمى في جسده، الذي ترتفع حرارته إلى أبعد حد، والحوار التخيلي الذي تقيمه القصيدة مع الطبيب الذي جاء ليعالج هذه الحمى، يدخلان بنا إلى جوهر الشعر، الصافي، وهو الأمر الذي جعل من المتنبي واحدا من أعظم شعراء العربية.  ولذلك أترك القارئ ليستكمل بقية القصيدة بنفسه ومع نفسه، ناصحا إياه في حال مقابلة تراكيب صعبة أن يراجع شرح أبي البقاء العُكبَرِي لهذه القصيدة في الجزء الرابع من شرحه لديوان أبي الطيب المتنبي والمسمى بــ«التبيان في شرح الديوان» (الجزء الرابع من 146 إلى 149)، حيث يقرأ:

وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً 
فَلَيسَ تَزُورُ إلّا في الظّلامِ
بَذَلْتُ لهَا المَطَارِفَ وَالحَشَايَا
فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظامِي
يضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسي وَعَنها 
فَتُوسِعُهُ بِأنْوَاعِ السّقَامِ
إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني 
كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ
كأنّ الصّبْحَ يَطرُدُها فتَجرِي 
مَدامِعُهَا بأرْبَعَةٍ سِجَامِ
أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيرِ شَوْقٍ 
مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ
وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصّدْقُ شرٌّ
 إذا ألْقَاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُلُّ بِنْتٍ
فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ؟
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لم يَبقَ فيهِ
مَكانٌ للسّيُوفِ وَلا السّهَامِ
ألا يا لَيتَ شِعرَ يَدي أتُمْسِي
تَصَرَّفُ في عِنَانٍ أوْ زِمَامِ
وَهَلْ أرْمي هَوَاي بِرَاقِصَاتٍ
مُحَلّاةِ المَقَاوِدِ باللغَامِ؟!
فَرُبَّتَما شَفَيْتُ غَليلَ صَدْرِي
بسَيرٍ أوْ قَنَاةٍ أوْ حُسَامِ
وَضَاقَت خُطّةٌ فَخَلَصْتُ مِنها 
خَلاصَ الخَمرِ من نَسجِ الفِدامِ
وَفَارقْتُ الحَبيبَ بِلا وَداعٍ
وَوَدّعْتُ البِلادَ بِلا سَلامِ
يَقُولُ لي الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئًا
وداؤُكَ في شرابكَ والطعامِ
وَمَا في طِبّهِ أنّي جَوَادٌ 
أضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ
تَعَوّدَ أنْ يُغَبِّرَ في السّرَايَا
وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ في قَتَامِ
فأُمْسِكَ لا يُطالُ لَهُ فيَرْعَى
وَلا هُوَ في العَليقِ وَلا اللّجَامِ
فإنْ أمرَضْ فما مرِضَ اصْطِباري
وَإنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعتزَامي
وَإنْ أسْلَمْ فَمَا أبْقَى وَلَكِنْ
سَلِمْتُ مِنَ الحِمامِ إلى الحِمامِ
تَمَتّع مِنْ سُهَادٍ أوْ رُقَادٍ
وَلا تَأمُلْ كرًى تحتَ الرِّجَامِ
فإنّ لِثَالِثِ الحَالَينِ مَعْنًى 
سِوَى مَعنَى انتِباهِكَ وَالمَنَامِ
ولا أكتم سرًا على القارئ لو اعترفت له بأنني كلما أصابتني عدوى البرد وألزمتني الفراش وأقعدتني عن كتابة ما أريد، وما هو واجب علىّ، استعنت بذاكرتي ورددت في نفسي البيتين اللذين يقول فيهما المتنبي في هذه القصيدة:

يَقُولُ لي الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئًا
وَداؤكَ في شَرَابِكَ وَالطّعامِ
وَمَا في طِبّهِ أنّي جَوَادٌ
أضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ

فأنا ممن يكرهون الرقاد بســبب المرض، وممن يرفضون السكون وعدم الحركة ويستبدلون بها النشاط والحركة اللتين تتحول بهما الحياة إلى فعل متجدد من الخلق والابتكار، ولذلك أعجب بشعر المتنبي وأنزله منزلة أثيرة في نفسي. 
صحيح أن المتنــــبي قد أراق شعـــره وأنزله منازل المديح للكبار والصغار على السواء. ولكن شعره، حتى فـــي المديح، ينطوي على جواهر ذاتية متلألئة، هي القصائد أو الأبيات التي تبرز فيها الأنا الشاعرة التي ظل ينطوي عليها المتنبي في حياته، التي كان لا بد أن تفرض حضورها عليه لكي تنطلق حتى حين كان يمدح الملوك والأمراء، فتجد الحكمة المعجونة بدم القلب، إلى جانب التأملات الفلسفية في الكون والبشر على السواء. 
ولذلك قيل: «إن المتـــــنبي وأبي العـــلاء المعري هما الحكيمان في الشعر العربي». وليس ذلك بغريب، فقد عشـــق أبو العلاء المعري شعر المتنبي، وكــــتب شــــرحًا لهــذا الشعر أطلــق عليه اسم «مُعجز أحمد»، وهو عنوان دال ولافــــت للانتباه، فقــــد قادني شخصيًا إلى أن أعاود النظر في شعر المتنبــــي كي أرى هذه الجواهـــــر واللآلئ التي تلمـــع في شعره وتجعله فـــريدا من نـــــوعه حتى فــــي مــــدائـــــحه التي كان يوجهــــها أحيانًا لمن لا يستحق... وإلى قصيدة أخرى من عيون شعر المتنبي ■