ثقافة الحرباء وتعدُّد الأقنعة

ثقافة الحرباء وتعدُّد الأقنعة

يقال أحيانًا «فلان لا وجه له»، ويقصد أن أفعاله مشينة مخجلة، ليست لديه الجرأة لمواجهة من أمامه، وكلمة مواجهة في الأساس مشتقة من الوجه، لذا عندما يغطى الوجه يمكن للمرء أن يفعل ما يريد، كما يحدث مع اللصوص والقتلة، فعند متابعة صور الوجوه المنحسرة الملامح يثور التساؤل: لماذا يُغيّب أصحاب الأقنعة تعبيرات وجوههم، وهم يطالبون لأنفسهم بالعدالة والحقوق، ويجعلون وجوههم ككتل غائمة من الجسد لا تميز فـردية أصحابها؟

 

في متحف «كي برانلي» في باريس الذي يُعتبرُ من أرقى المتاحف ومن أشهر المؤسسات الثقافية في فرنسا تتنوع ملامح الأقنعة وأشكالها بتنوع القارات والمناطق التي تُعبّر عنها مجموعة الأقنعة التابعة للمتحف، فنجد تلك الآتية من أمريكا الجنوبية، وإفريقيا، وآسيا وشبه المحيط الهادي، كما أنها تكشف ثراء وإبداعًا عظيمين فيما يتعلق بالمواد المصنوعة منها وتنوعًا كبيرًا من ناحية الألوان وطرقُ ومجالات استخدامها من قبل شعوب العالم المختلفة وكيفية إبراز هذا التنوع من خلال ثقافاتها المختلفة.  
عندما رأيت تلك الأقنعة أدرت حوارًا مع نفسي حول أقنعة هذا المتحف والأقنعة التي نراها في الوقت الحاضر على أرض الواقع، ففي الوجه الملفع بغطاء رأس مرقع دلالة تنسب الشخص إلى جهة ما، قبلية أو عرقية، شيفرة يمكن فكها، لكن مع الكيس الأسود لا نسب سوى مرجعية الإرهاب والموت بوجهه المسمط الذي يذكر بمرتكبي الجرائم ممن يغطون ملامحهم، والذين يخشون الكشف كي لا يعرفوا. 
ما الفرق بيننا كأفراد مجتمع، أو بين غيرنا كأفراد مجتمعات أخرى، سواء كانت غربية أو شرقية؟ 
ما الجوهر الداخلي الذي نحاول أن نعكسه نحن إلى الخارج، وما هي المظاهر الخارجية التي يفترض أن تعكس ما بدواخلنا؟ 
إن معادلة الداخل/ الخارج، أو الجوهر/ المظهر، تحتاج إلى تمعّن وتفكير، وقد تمر فينا وحولنا دون أن نلقي لها بالاً، أو نمعن فيها بنظر، فيما يبدو أننا نعكس المجتمعات الأخرى في كوننا أشخاصًا نبني شخصياتنا على المظهر الخارجي والمحيط الشكلي.
فهل نحن مرآة لما بداخلنا أو انعكاسات لما يحيط بنا من تجسيدات مادية معينة؟
إن الإنسان هو مجموعة عوامل مادية ومعنوية، وبناء عليها يرسم شخصيته وفق محددات الجوهر أو مكونات المظهر، ويختار ما يريد وينتقي ما يشاء من عناصر الشخصية التي يريد أن يعرّف بها ذاته إلى الآخرين، ومن الناس من تكون مكونات شخصيته جوهرًا، ومنهم من تكون عناصر شخصيته مظهرًا، وربما بعضهم يكون خليطًا من المضمون الداخلي والشكل الخارجي.

الخلطة السرية
تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في تحديد العناصر المكونة للشخصية الاجتماعية، أو ما يمكن أن نسميه بالخلطة السحرية للشخصية، التي هي فعلا «سرية» في عناصرها وتفاعلاتها وأهدافها.
فهذا عنصر يظل في الداخل، وذلك عنصر يمكن إبرازه إلى الخارج، وثالث يظل بيْن بيْن، يقتنص الفرصة ليدفع به إلى الخارج في مكان محدد وزمن معيّن... إلخ. 
مَن يتابع ويحتكّ ويقرأ عن شخصيات في مجتمعات خارجية من علماء وباحثين ومسؤولين في مختلف قطاعات العمل والإنتاج وحتى الناس العاديين يلاحظ أن جوهر هؤلاء طاغٍ على مظاهرهم، ومضامينهم تتجاوز أشكالهم، وفوق كل هذا يعيشون كما هي مضامينهم، وكما هي جواهرهم بعيدًا عن التكلف الشكلي والمحيط الزائف.
ومن المعروف أنه توجد تناقضات اجتماعية هائلة في عناصر ومكونات الشخصية الاجتماعية العربية، سببها يعود إلى مفهوم المجتمع عن أفراده، ومسؤوليات الفرد عن قراراته، وربما الاختلاف الكبير بين ما ينبغي أن تكون عليه الشخصية وبين الواقع الذي تعيشه وتحياه هو مرتكز التناقض الكبير بين المظهر العام والملامح الداخلية للشخصية، وعادة تكون هناك جهود كبيرة لتلميع الوجه الخارجي للشخصية بما يتناسب مع متطلبات العمل والمسؤولية والقناعات المنطقية للأمور.
المهم في التفريق بين الإنسان العربي وغيره من أفراد المجتمعات الأخرى هو درجة الاطمئنان الداخلي والقناعات التي يعتنقها الفرد فكرًا وسلوكًا، وكلما تباينت طقوس الخروج إلى الناس مع ملامح الاعتكاف النفسي الداخلي، تعمق التناقض داخل الشخصية، وأصبحنا نلبس الأقنعة التي تغطي على الجوهر المرتبك في تحدّ مع المظهر المتسق مع ظروف المكان والزمان.

وجهان بشخصية واحدة
هذا التعايش غير الطبيعي موجود أكثر في شخصيتنا العربية، ولكنه ربما غير موجود إلى حد كبير في شخصيات خارجية غربية أو شرقية... وهكذا يعيشون هم في أوضاع طبيعية مريحة، بينما نعيش نحن في أوضاع غير طبيعية مغلفة بمجموعة تناقضات في الشخصية الداخلية للفرد.
فهل يحمل كل واحد فينا وجهين في شخصية واحدة؟ أو ربما يمتلك البعض منا أكثر من وجه وأكثر من ملمح خارجي يتجه به إلى الآخرين.
ولكن لماذا ترانا نتعدد في الوجوه الخارجية، ولماذا يتهاوى الجوهر الداخلي ويضعف أمام مغريات المحيط القريب والبعيد من ذلك الشخص، ولماذا يقوى الجوهر للإنسان غير العربي ويتسق مع شخصيته الخارجية، وتتساوى - عنده - وجوه الداخل وملامح الخارج؟ 
هذا هو السؤال الذي ربما تعكس إجاباته تناقضًا كبيرًا في الطرح والعرض والتناول، فهل نجيب عن السؤال من الوجه الخارجي للشخصية العامة، أم نتصدى له من دواخلنا التي تتمرد على منطقية الأفكار وعقلانية السلوك؟ سؤال ينتظر إجابة.
عادة ما نسلم بأن تأثير العوامل الاجتماعية على شخصية الفرد يتم بفعل قوانين ومبادئ التعلم الرئيسة، ويتم التعلم بفعل كثير من القواعد والطرق، ولكن أكثرها قيمة في فهم المؤثرات الاجتماعية التدعيم الذي يستند إلى حقيقة بسيطة مؤداها: أن جوانب السلوك التي تتدعم بفعل التشجيع والتقبل تتحول إلى عادة ثابتة لدى الفرد، بينما على العكس نجد أن جوانب السلوك التي ترفض وتحبط يتم إطفاؤها (أي أنها تختفي وتندثر). 
وتأسيسًا على ذلك، فإن واقعنا الاجتماعي الماثل يشير إلى أن الفرد لا يجرؤ على أن يقدم نفسه للآخرين كما هو في حقيقته، ويعود ذلك - في رأيي - إلى ضغط العقل الجمعي وتسلطه، الذي دفع الفرد - مكرهًا - إلى التبعية والاستسلام، طلبًا للسلامة والأمان، وبالتالي فإن المبادرات الفردية تنحسر وتتراجع أمام ضغوط العقل الجمعي، فلا مجال للإبداع والابتكار والمبادأة الفردية إلا تحت سقف القانون الجمعي دون أن تتناقض معه.

الحرباء وخزانة الأقنعة
كلنا يعرف أن العقل الجمعي هو عقل موروث من حقبة زمنية اتسمت بالتخلف والخرافة، ولم تستطع حتى الآن في أغلب جوانبها أن تتخلص من ذلك العقل المعوق، بينما في المجتمعات المتقدمة، ونظرًا لتوافر الحرية والانسجام والتصالح بين العقل الفردي والعقل الجمعي، فلا توجد هناك فوارق كبيرة بين الرؤية الفردية والرؤية الجمعية في فلسفة الحياة والفكر والسلوك، ولذلك نجد الفرد في هذه المجتمعات لا يحتاج إلى تغيير لونه كالحرباء، تبعًا للظروف والمواقع، وإنما دائمًا نرى سلوكه في البيت والعمل والشارع واحدًا لا يتغير، لأنه يتمتع بشخصية واحدة لا تقبل لبس الأقنعة أو تقمص الشخصيات. 
أما في مجتمعنا العربي فنحن نضطر كأفراد - بسبب غياب حرية الاختيار وترسُّخ مفهوم الطاعة العمياء في ذهنية الفرد التي تولدت بفعل الظروف والعوامل الاجتماعية - إلى أن نضع في خزائن ثيابنا مجموعة كبيرة من الأقنعة، بحيث تصدق علينا مقولة: كل منا يحمل في الداخل ضده. 
نحن في الواقع نعيش - أردنا أم لم نُرد - حياتنا اليومية بشخصيات مغايرة في مختلف المواقع، لأن الفرد منا - بفعل التربية الخاطئة - يجيد لعب الأدوار، فهو يلعب الدور الذي تفرضه شخصية الأب مع أبنائه، وشخصية الزوج مع زوجته، وشخصية الرئيس في العمل بمواجهة مرؤوسيه، وشخصية المرؤوس في مواجهة رؤسائه، وهو من دون شك يلعب أدوارًا أخرى مختلفة في مواقف خارج البيت والعمل. 

مبادرات فردية
ربما يرجع ذلك إلى إحساس الفرد بوجود عدد كبير من الأعين الرقيبة عليه في كل حركاته وسكناته ومواقفه وتصرفاته وأقواله وأفعاله، إلى درجة أن هناك فئة في المجتمع لا همّ لهم إلا رصد ما قد يصدر عنه من كلمات وعبارات أثناء حديثه بحضرتهم لكي يصنفوه، ولو من كلمة أو عبارة واحدة، إلى أحد التصنيفات التي اخترعوها، لكن أليس من الخطأ والظلم أن تتغير شخصيتك لمجرد أنك تتعامل مع شخص معيّن (تحبه أو تكرهه، تميل إليه أو تنفر منه... إلخ)؟ 
إذا كانت هذه هي المعادلة في واقعنا الاجتماعي المعيش، فنحن بحاجة إلى مبادرات فردية - حتى لو اتُّهم أصحابها بالجنون - تحطم المألوف والمتوارث وترفع شأنها عاليًا خارج حركة القطيع لتتلمس طريقها وتستطيع في الوقت ذاته أن تسحب جزءًا متواضعًا من المجتمع نحو قناعاتها التي تنسجم مع الواقع وتواكب العصر، فأول الغيث قطرة. 
بناء على ذلك يبرز دور التربية الفنية الإبداعية كقوة تنمي معرفة الفرد من ناحية وتوجّه حريته وإرادته توجيهًا خلقيًا، وتكسبه مهارات الاختيار من البدائل، ومن ثم يعتبر الفرد كائنًا ذا إرادة، وليس مجرد كائن يفعل ما يُراد له.
هنا تقفز إلى الذهن مجموعة من الأسئلة جالت في خاطري وأرهقتني، وآمل أن تكون موضع تفكير القارئ الكريم واهتمامه، حيث تثير الحوار وتصعّد درجة النقاش عبر مجلة العربي، وهي: 
- هل الفرد بالرغم من واحديته غير واحد؟
- هل الفرد بالرغم من تفرده غير فرد؟ 
- لماذا هذا التناقض الصارخ بين العقل الجمعي والعقل الفردي في مجتمعنا؟
- لماذا إهمال المواهب والمتميزين في مجال الفكر والإبداع، وقصر الاهتمام على الرياضيين وقلة من الفنانين دون غيرهم؟
- لماذا النفاق الاجتماعي، حيث تتعدد الوجوه والأقنعة للشخص الواحد للمواءمة مع الظروف والأحوال بما يمكن أن أسميه «ثقافة الحرباء»، مما يهدر طاقة الفرد في أداء أدوار تمثيلية تمنعه من حقه الطبيعي في التعبير بصدق عن ذاته وإبداء رأيه بحرية؟!

تعدد الأقنعة
إنها أسئلة تحتاج إلى مجلدات للإجابة عنها، وحتى تلك الإجابات لن تغيّر من هذا الأمر شيئًا، وسيبقى الوضع على ما هو عليه، فقد تعددت الأقنعة والوجه واحد؛ تلكم هي خلاصة، ولكن رغم هذا الحفر الأركيولوجي في الطبقات السرية للأقنعة التي تمارس بها هوايات شتى، سيبقى الوجه الحقيقي دائمًا هو الغالب في نهاية الأمر، مهما تعددت مرات ارتدائه للأقنعة.
إن القناع ليس لقاء عرضيًا، بل هو كنز أبدي للوجه، وقد يظهر القناع كالسحر ويختفي بالسرعة ذاتها، إنه هبة نكسبها دون توقّع ونفقدها دون استحقاق كي نصل في نهاية المطاف إلى الوجه الحقيقي، وباختصار كلما أوغلنا في الشك نحو الأقنعة ازداد يقين الوجه وضوحًا وجلاء؛ تمامًا مثل انقشاع صورة فوتوغرافية في مرآة تطاير ضبابها.
الصورة الفوتوغرافية هي بالطبع لشخصية الإنسان نفسه الذي وحده من يعرف ما الذي وقع أو يقع أو سيقع تحديدًا في الجهة الأخرى، أي ما يعتمل وراء أو أمام الوجوه تارة، والأقنعة تارة أخرى، أو ما وراء أو أمام الوجوه والأقنعة تارة واحدة ■