الرد الثقافي على وعد بلفور

الرد الثقافي على وعد بلفور

مفهوميًّا، من أخطر ألغام وعد بلفور الفقرة التي تدعو إلى «ألا تقترن إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين بأي عملٍ من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها المجموعات السكانية غير اليهودية المقيمة في فلسطين».
كان الغرض من عبارة «المجموعات السكانية غير اليهودية المقيمة في فلسطين تشويه «المركز القانوني» لشعب فلسطين قبل صدور الوعد. 

 

كان الهدف أن يتصور العالم أن من كانوا يعيشون في فلسطين مجرد تجمعات بشرية اتُّفق أنها تسكن وتقيم هناك آنذاك، وأن هذه الفئات متناثرة ولا يجمعها رابط، وليس لها هوية كلية موحدة وجامعة، وهي غير جديرة بأي حقوق سوى الحقوق المدنية والدينية.
بعبارة أخرى، إضافة إلى الرغبة في إخفاء أن جذور شعب فلسطين ضاربة عميقًا في أرضه، أراد مُصدرو الوعد إخفاء أنه عشية صدوره كانت تعيش في فلسطين «أمة وطنية ذات إرادة مستقلة» تمر بمرحلة «إعادة انتساق» تتضمن السعي إلى استكمال بناء «دولة وطنية» تدير شأنها، وأن هذه «الأمة الوطنية» تتمتع بـ «حقوق سياسية» و«حقوق دستورية». 

مفهوم الأمة الوطنية والانتساق 
يُستخدم مصطلح «أمة» للتعبير عن أي جماعة يربط بين أعضائها رابط. قد يكون الرابط لغويًا أو ثقافيًا أو عرقيًا أو إقليميًا أو قاريًّا. وقد يكون وطنيًّا. و«الأمة الوطنية ذات الإرادة المستقلة الساعية إلى استكمال بناء دولتها» هي أمّة ترتكز على معيار الوجود في بقعة جغرافية والارتباط بها، وتتوخى أن تنبثق الدولة التي تدير شأنها منها. ذلك أن «الدول» أيضًا تتنوع وَفق معادلات القوة والتوافق.
فقد تكون الدولة «قُطرية» أو «إقليمية» أو «قارية». 
وتتباين طرائق إعمال معيار الوجود بالأرض والارتباط بها. وفي بعض حقب التاريخ امتزج به «معيار الإيمان»، فتوصف الأمة بأنها مرتكزة على الإيمان من حيث انتساب أبنائها لعدة مشارب إيمانية، بجانب ارتكازها على الارتباط بالأرض. 
وقد عكس ذلك انتساقُ السلطنة العثمانية خلال القرن السادس عشر إبان اعتمادها «نظام الملل»، قبل أن تتبنى السلطنة ثم تركيا تصورات هوياتية ضيقة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
أحيانًا، تكون التصورات التي تنبثق منها فكرة الأمة وعلاقتها بالأرض أقرب إلى الواقع والتوازن. وأحيانًا تكون في معظم مناحيها مُتَخَيَّلَةً وتتسم بالغلو. فمنذ البداية، كان التنوع هو قانون جميع الأمم. على أن مسيرة الإنسانية قد شهدت على الدوام محاولات لفرض تصورات هوياتية ضيقة.
أما «الانتساق»، فهو تَمَثُّلُ أمةٍ من الأمم لتصورات معيّنة بشأن أسس وجودها، وتنظيمها، وطبيعة هرمية مجتمعها، وتمثيلها سياسيًا، ورسالتها العمرانية وأسس علاقتها بغيرها من الأمم. ويُعبَّرُ عن مصطلح «الانتساق» في حقل الفلسفة السياسية باللغة الإنجليزية بمصطلح ordering.

شعب فلسطين عشية صدور «بلفور»
كانت عملية إعادة الانتساق التي خاضها شعب فلسطين قبل صدور الوعد مشابهة لعمليات الانتساق التي خاضتها معظم الشعوب العربية. 
فلنرجع إلى الوراء قليلاً؛ خلال القرون السابقة على صدور الوعد، كان شعب فلسطين يتمتع بخصائص مميزة مع وجود سمات مشتركة بينه وبين الشعوب المحيطة. 
ومنذ زمن سحيق، أسهمت طبيعة الأرض وتضاريسها في إكساب شعب فلسطين «وعيًا خاصًا». وقد انعكس ذلك في التقسيم الإداري لفلسطين الذي اعتمدته السلطنة العثمانية التي بسطت سيطرتها على معظم البلدان العربية لأربعة قرون.
وكما هي حال بقية الشعوب العربية آنذاك، أسهم شعب فلسطين جزئيًا في تمثيل نفسه وفي تسيير شأنه الداخلي، وفي ممارسة عدد من الأدوار على مستوى الشأن الخارجي.
كانت المكونات الطبيعية كالعائلات والعشائر منصات للتمثيل، واضطلع علماء بأدوار تمثيلية.
ومع تراجُع السلطنة، أدرك شعب فلسطين - كما أدرك غيره من الشعوب - أن عليه إعادة تنظيم وضعه لبناء «دولة» تدافع عنه. فتَطَور التمثيل، وزاد بروز العائلات والعشائر كمنصات تمثيلية. كما برز جيل جديد من العلماء والمثقفين والأعيان الذين مارسوا أدوارًا تمثيلية. وفور الاحتلال البريطاني في عام 1917، كثفت الحركة الوطنية الفلسطينية مطالبتها بالاستقلال.
وفي عام 1919، انعقد المؤتمر الفلسطيني الذي أعلن رفض تقسيم سورية الكبرى وفصل فلسطين عنها، ووجوب التصدي لخطط تهجير يهود العالم إلى فلسطين. وقد عُقد المؤتمر في مبنى المتصرفية بالقدس، ليصبح منبرًا رئيسًا للحركة الوطنية الفلسطينية خلال العشرينيات.
كما اكتمل في عام 1922 تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى لإدارة الأوقاف، واضطلع بدور تمثيلي. في البداية، تنوعت وجهات النظر فيما يتصل بدائرة الانتماء التي يجدر جعلها معيار الدولة على نحو يشبه التنوع الذي حصل في بلدان عربيــة خلال مرحلــة إعــادة الانتساق تلك. 
وذهب فريق إلى أن الأَوْلَى هو أن تكون الدولة قُطرية، بينما ذهب فريق آخر إلى أن الأَوْلَى الانخراط تحت لواء دولة إقليمية بأن يكون شعب فلسطين جزءًا من سورية الكبرى. 
وفي النهاية، رجحت كِفَّة الخيار الأول. ولم يكن هذا هو الخلاف الوحيد، بل كما هي حال جميع الحركات الوطنية آنذاك، برزت خلافات حول قضايا كثيرة. لكن ذلك لم يصل بمكونات الحركة الوطنية إلى الصدام.
 
ردٌّ ثقافي
عقب النكبة، وفي اللحظة التي ظن عندها قرار الاحتلال والنفوذ الخارجي الداعم له أن شعب فلسطين على وشك أن يصبح شيئًا من الماضي، دشَّنَ شعب فلسطين انطلاقةً ثقافيةً مجتمعيةً، اكتنفَ «الثقافي» فيها «السياسي»، وقد مثّلت الانطلاقة «ردًّا ثقافيًّا» على وعد بلفور قبل أن تكون «ردًّا سياسيًّا»، وفي الحق أنها كانت ردًّا بليغًا أفْحَمَ وألْجَم.
عضَّ شعب فلسطين على جراحهِ الغائرة الناتجة عن المــحن التي تعرّض لها خلال مواجهته احتلالًا مزدوجًا هو الاحتلال البريطاني واحتلال الحركة الصهيونية، وعلى رأسها القتل والطرد وفقدان الموارد والممتلكات وسبـــل العيش والتشرد وقتل القيادات ونفيها.
ثم سرعان ما استعاد شعب فلسطين توازنهُ وانطلق في دورة مقاومة شاملة. انطلقت المبادرات لتوثيق هوية شعب فلسطين وتاريخه. ونَذَرَ أفرادٌ أعمارهم لتأليف كتب توضح كيف أن جذور شعب فلسطين ضاربةٌ في أعماق أرضه وتدحض مزاعم الحركة الصهيونية. 
تمسّك الفلسطينيون بالتعليم، وأصبح عدد من الباحثين الذين التحقوا بجامعات خارجية روادًا لمدارس فكرية في عدد من الحقول المعرفية. واحترفت المرأة الفلسطينية التعليم، ثم تبعها الرجل، وافتتح الفلسطينيون مدارس في بلدان الشتات. 
كان عددٌ لا يستهان به من القادة السياسيين من أهل الثقافة أو ممن يَقْدُر الثقافة حقَّ قدرها. رَسمت الريشةُ الفلسطينية أبدع اللوحات وغنّت الحنجرة الفلسطينية أعذب الألحان والكلمات، فبرزت مدرسة جديدة في الرسم والغناء.
نُظم الشعر بالفصحى والعامية. دَبَكَ الشباب الفلسطيني على نغمات الناي، وبرزت الأعمال الأدبية وعلى رأسها الرواية. وقد كان للشعوب العربية خصوصًا ومثقفيها ولكثير من شعوب العالم ومثقفيها أدوارٌ حيويةٌ في دعم هذه الانطلاقة والتفاعل معها. 
وبرزت «رموز» الهوية الفلسطينية واحتفى بها العالم، كما برز «التطريز الفلسطيني» كرمز لجمال فلسطين ولحب الفلسطيني للجمال. 
وبكل اعتزاز وشموخ، ارتدت الجدات والسيدات والفتيات «الثوب المطرز»، الذي وضعت كل مدينة وقرية بصمتها من خلاله بابتكارها تصميمها الخاص بها.
وبرزت «كوفية الفدائي» التي لفّها حول رقبته كرمز، بعد أن اعْتَمَرَها أسلافُهُ كحَطَّةٍ على الرأس.
عشقت شعوب العالم «الكوفية» لما تعبّر عنه من قيم نبيلة. برز «المفتاح العتيق» أيضًا كرمز يعبّر عن إصرار الأجيال على العودة. وبرزت «خريطة فلسطين» نفسها كرمز، فعُلقت في الرقاب كقلادة وعلى الحوائط. 
«الفدائي الفلسطيني»، شابًّا وشابة، أصبح ومعه بندقيته «رمزًا ثقافيًّا». كما برزت مدرسة جديدة في المقاومة خرجت أجيالاً وأصبحت تُدَرَّس.
وأقبل المقاومون من بلدان العالم للمشاركة في المقاومة بُغية الانتساب الثقافي لهذا المسعى النبيل ورمزياته، وليس بسبب الإصابة بالعَدَمِيَّة أو الفقر الفكري، ولا بسبب الرغبة في التنفيس عن النفس أو الفهم الديني المشوه.
حتى الأجيال التي وُلدت في الشتات البعيد ظل أغلبها يعتز بجذوره. ولقد جاء تأسيس منصات مقاومة سياسية وعسكرية وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتمارس دور حكومة في المنفى كجزء من هذه الانطلاقة الثقافية وليس العكس. ومع أن جرثومة الأيديولوجيا تسللت إلى الوعي العام، فقد ظل «المُكَوِّنُ التراثي» حاضرًا، وأكسب الوعيَ العام مناعةً لا يُستهان بها. 

الخطر يتجدد
ها هو شعب فلسطين اليوم يخوض غمار جولة جديدة في الدفاع عن مفهوم «الأمة الوطنية الفلسطينية ذات الإرادة المستقلة الساعية إلى بناء دولة»، بعد أن أقدم الاحتلال والنفوذ الخارجي الداعم له على صوغ استراتيجية جديدة لضرب هذا المفهوم. فعقب ضرب إطار التمثيل الرسمي لشعب فلسطين خلال بداية الثمانينيات، أقدم الاحتلال على ضرب تماسُك شعب فلسطين نفسه، فحفز بروز حركات فلسطينية أيديولوجية انقسامية نابذة للتراث وللثقافة وللانتماء الوطني. 
ثم حفز الاحتلال تقسيم الوضع الإداري بالتوازي مع محاولة تفرقة المجتمع. ويكمن الخطر في أن تلك الحركات تعاني فقرًا فكريًّا وتشوهًا معرفيًّا يجعلها تقدس «السياسي» (وَفْق فهمها المُشوش له) ويجعلها تُهدر «الثقافي»، كما أنها مصابةٌ بداء الاحتكار وإقصاء شركاء الوطن. أي أن بِنْيَتَها الفكرية نفسَها مُدَمِّرَةٌ لمفهوم «الأمة الوطنية ذات الإرادة المستقلة الساعية إلى بناء دولة» ■