نحو إعادة النظر في المفاهيم والقيم

نحو إعادة النظر  في المفاهيم والقيم

جاءت التطورات التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة بمتغيرات عدة طالت كثيراً من الأمور التي سادت خلال معظم القرن العشرين، وبعضها قبل ذلك بكثير، وبشكل متسارع، وخلقت واقعاً جديداً يختلف عما سبقه، وأحدثت فجوة أو فجوات بين الأجيال.

التحولات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬الجارية‭ ‬تستدعي‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬ومن‭ ‬أبرزها‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬بشتى‭ ‬أنماطها،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬وعالم‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قضاياه‭ ‬ومشكلاته‭ ‬وصراعاته‭ ‬ومتطلباته‭ ‬وقيمه‭ ‬وثقافته‭.‬

وهناك‭ ‬ظاهرة‭ ‬تتكرر‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬تغيير‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬العالم،‭ ‬وتـــتمثل‭ ‬في‭ ‬سرعة‭ ‬التغيرات‭ ‬المادية‭ ‬وأسبقيتها‭ ‬على‭ ‬التغــــيرات‭ ‬القيمية‭ ‬التي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تأتي‭ ‬لاحقاً‭ ‬وتأخذ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬فترات‭ ‬طويلة‭ ‬لتتوازى‭ ‬مع‭ ‬التغيرات‭ ‬المادية‭.‬

وهناك‭ ‬عوامل‭ ‬عدة‭ ‬برزت‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬تدفع‭ ‬بإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كــــثير‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬والممارسات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التعريفات‭ ‬والأساليب‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬والعلمية‭ ‬والأكاديمية،‭ ‬وفرضت‭ ‬تحولات‭ ‬في‭ ‬الممارسات،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬المؤثرات‭ ‬الناتجة‭ ‬عنها،‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬العوامل؟‭ ‬

 

نهاية‭ ‬عالَم‭ ‬مؤدلج

اتسم‭ ‬معظم‭ ‬عقود‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بنمط‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬أساسيين،‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والاشتراكي،‭ ‬وما‭ ‬لبثا‭ ‬أن‭ ‬تحولا‭ ‬إلى‭ ‬قطبين‭ ‬عالميين‭ ‬متناقضين‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬انقسم‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬آنذاك،‭ ‬نهج‭ ‬طريق‭ ‬مستقل‭ ‬عن‭ ‬كليهما‭. ‬

وقد‭ ‬نُعت‭ ‬الصراع‭ ‬الدائر‭ ‬بين‭ ‬القطبين‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬استخدمت‭ ‬فيها‭ ‬أنماط‭ ‬الأسلحة‭ ‬التقليدية‭ ‬كافة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأيديولوجية،‭ ‬إذ‭ ‬اصطبغت‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬والتصورات‭ ‬وغيرها‭ ‬بصبغة‭ ‬أيديولوجية‭.‬

فعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الاشتراكي‭ ‬كانت‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬اشتراكي‭ ‬مؤدلج،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬التفسيرات‭ ‬والتعريفات‭ ‬والتبريرات‭ ‬وغيرها،‭ ‬الخاصة‭ ‬بالقيم‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬خضعت‭ ‬إلى‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الماركسية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬والأفكار‭ ‬اليسارية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬العموم‭. ‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الرأسمالي‭ ‬أيضاً‭ ‬أخذت‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬وغيرها،‭ ‬طابعاً‭ ‬سياسياً،‭ ‬أي‭ ‬أصبحت‭ ‬تعريفاتها‭ ‬وتفسيراتها‭ ‬مسّيسة،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬التصورات‭ ‬والتعريفات‭ ‬الاشتراكية‭ ‬بطريقة‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬منها‭ ‬نقض‭ ‬أو‭ ‬تشويه‭ ‬المفاهيم‭ ‬الاشتراكية‭ ‬المؤدلجة،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬جدارتها‭ ‬من‭ ‬عدمه،‭ ‬وإعطاء‭ ‬تصورات‭ ‬نقيضة‭ ‬لها‭ ‬تحت‭ ‬مختلف‭ ‬الذرائع‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬دول‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬السابق‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬ولم‭ ‬تسمح‭ ‬لأي‭ ‬أفكار‭ ‬أو‭ ‬قيم‭ ‬مناهضة‭ ‬لقيمها‭ ‬ولأفكارها‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬فإن‭ ‬الحكومات‭ ‬الغربية‭ ‬أنشأت‭ ‬ودعمت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬والمعاهد‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬شغلها‭ ‬الشاغل‭ ‬التصدي‭ ‬للأيديولوجية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والأفكار‭ ‬اليسارية‭ ‬وما‭ ‬تطرحه‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬وقيم‭ ‬وتحليلات‭.‬

ولم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬ففي‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬سادت‭ ‬دكتاتورية‭ ‬فكرية‭ ‬صارمة،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بتعاطي‭ ‬أي‭ ‬أفكار‭ ‬تعارض‭ ‬الأفكار‭ ‬الرسمية،‭ ‬ومن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬فمصيره‭ ‬الاعتقال‭ ‬والسجون‭. ‬وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬حظي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬وحتى‭ ‬بعض‭ ‬الأكاديميين،‭ ‬بشهرة‭ ‬واسعة‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬لأنهم‭ ‬يعارضون‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والأفكار‭ ‬اليسارية‭.‬

وقد‭ ‬لعب‭ ‬الإعلام‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تضخيم‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وأعطى‭ ‬معظمها‭ ‬حجماً‭ ‬كبيراً،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مستواها‭ ‬الفكري‭ ‬ومدى‭ ‬مصداقية‭ ‬أفكارها،‭ ‬وحظيت‭ ‬أيضاً‭ ‬بدعم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬ومراكز‭ ‬الأبحاث‭ ‬المناقضة‭ ‬فكرياً‭ ‬للمعسكر‭ ‬الشرقي،‭ ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬تم‭ ‬التضييق‭ ‬على‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرين‭ ‬اليساريين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬وتمت‭ ‬محاربة‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬بشتى‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحريات‭ ‬الفكرية‭.‬

ولم‭ ‬يخلُ‭ ‬عالم‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والأكاديميين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬الذين‭ ‬اتسمت‭ ‬أفكارهم‭ ‬ورؤيتهم‭ ‬للقيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬والتصورات‭ ‬برؤية‭ ‬أكاديمية‭ ‬موضوعية‭ ‬وذات‭ ‬منهجية‭ ‬علمية‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقائق،‭ ‬أو‭ ‬فلسفية‭ ‬مستقلة‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬الطابع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬أو‭ ‬المنحاز‭ ‬سياسياً‭ ‬لليمين‭ ‬أو‭ ‬اليسار،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬ظلت‭ ‬ضمن‭ ‬النطاق‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الصرف،‭ ‬ولم‭ ‬تسلط‭ ‬عليها‭ ‬الأضواء،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدمها،‭ ‬نظراً‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬خارج‭ ‬لعبة‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

 

العولمة‭ ‬وعالم‭ ‬النظام‭ ‬الواحد

دشن‭ ‬دخول‭ ‬العالم‭ ‬للعولمة‭ ‬واقعاً‭ ‬وعالماً‭ ‬مختلفاً‭ ‬عما‭ ‬سبقه،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬قطبان‭ ‬أو‭ ‬نظامان‭ ‬اقتصاديان،‭ ‬بل‭ ‬نظام‭ ‬رأسمالي‭ ‬واحد،‭ ‬وتسيد‭ ‬فيه‭ ‬تصور‭ ‬واحد‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬السوق‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وتهاوت‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬بشتى‭ ‬توجهاتها،‭ ‬وجرت‭ ‬تحولات‭ ‬سياسية‭ ‬جذرية‭ ‬كان‭ ‬أبرزها‭ ‬تراجع‭ ‬اليسار‭ ‬العالمي‭ ‬والتراجع‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بقيمه‭ ‬وتصوراته‭ ‬حول‭ ‬المجتمع‭ ‬والعالم،‭ ‬خصوصاً‭ ‬تصوره‭ ‬للعدالة‭.‬

وبرزت‭ ‬بعض‭ ‬الدعوات‭ ‬إلى‭ ‬تلمُّس‭ ‬طريق‭ ‬ثالث‭ ‬غير‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والرأسمالية،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬أصحاب‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬مشروع‭ ‬واضح‭ ‬قابل‭ ‬للتطبيق‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وخلال‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬على‭ ‬انهيار‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬برز‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬والقوى‭ ‬يمكن‭ ‬تلخيص‭ ‬أبرزها‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭: ‬

أولاً‭: ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬التراجع‭ ‬الكبير‭ ‬للأيديولوجيا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الأديان‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬برز‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بشكل‭ ‬جليّ‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬السابق،‭ ‬حيث‭ ‬عادت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬للعب‭ ‬دورها‭ ‬التقليدي‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬البلشفية،‭ ‬والعودة‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬حتى‭ ‬للدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬ودول‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬الأخرى‭.‬

ثانياً‭: ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نزوع‭ ‬العالم‭ ‬نحو‭ ‬العولمة‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬الحدود‭ ‬الوطنية‭ ‬التقليدية،‭ ‬وحجمت‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬النزعة‭ ‬القومية‭ ‬برزت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الاشتراكية‭ ‬السابقة،‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬قومية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬التسعينيات،‭ ‬ونتج‭ ‬عنها‭ ‬ظهور‭ ‬دول‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬قومية‭. ‬

وفي‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬بدأ‭ ‬داء‭ ‬التعصب‭ ‬القومي‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬العولمة،‭ ‬وأخذت‭ ‬الأحزاب‭ ‬القومية‭ ‬والعنصرية‭ ‬تستحوذ‭ ‬على‭ ‬شريحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الناخبين‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬وما‭ ‬لبث‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬فجاءت‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأخيرة‭ ‬برئيس‭ ‬ذي‭ ‬أطروحات‭ ‬يمينية‭ ‬متطرفة‭ ‬ونزعة‭ ‬قومية‭ ‬شوفينية،‭ ‬ورافض‭ ‬لما‭ ‬أنجزته‭ ‬دولته‭ ‬من‭ ‬تصميم‭ ‬لسياسات‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬ويطرح‭ ‬سياسات‭ ‬حمائية‭ ‬تعاكس‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

ثالثاً‭: ‬تراجع‭ ‬الاختلاف‭ ‬التقليدي‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتنافس‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬فبعد‭ ‬تراجع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالأفكار‭ ‬اليسارية‭ ‬أخذت‭ ‬حدة‭ ‬الخلافات‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬تضيق‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬خلافات‭ ‬فكرية‭ ‬تُذكر‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬نجد‭ ‬مبادئ‭ ‬وأفكار‭ ‬حزب‭ ‬العمال‭ ‬البريطاني‭ ‬التقليدية‭ ‬أخذت‭ ‬بالتراجع‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬سياساته،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬للتمييز‭ ‬التقليدي‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬والبرامج‭ ‬مع‭ ‬غريمه‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬أثرٌ‭ ‬يذكر،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬البعض‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬جديدة،‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬سار‭ ‬عليها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬التقليدية‭. ‬

 

مفهوم‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية

رابعاً‭: ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭: ‬كانت‭ ‬السياسات‭ ‬التقليدية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتعددية‭ ‬فيها،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬دمج‭ ‬المهاجرين‭ ‬فيها‭ ‬والتخلي‭ ‬عن‭ ‬هوياتهم‭ ‬التقليدية،‭ ‬والأخذ‭ ‬بالقيم‭ ‬الثقافية‭ ‬الغربية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬يقمع‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين،‭ ‬ولا‭ ‬يعترف‭ ‬بمعتقداتهم‭ ‬أو‭ ‬ثقافاتهم‭ ‬التقليدية‭. ‬وقد‭ ‬برز‭ ‬مفهوم‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم،‭ ‬وتبلور‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬وطبّق‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التصورات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية،‭ ‬لعل‭ ‬أبرزها‭ ‬مفهوم‭ ‬المواطنة‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬المساواة‭ ‬ومبدأ‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص،‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬هامشاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬للجميع‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭.‬

وقد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬إن‭ ‬الأفكار‭ ‬والقيم‭ ‬الدينية‭ ‬والقومية‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬تناولها‭ ‬تاريخياً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬أفكار‭ ‬جديدة‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬نوعي‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬وتحليل‭ ‬الأطروحات‭ ‬والقيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬القومية‭ ‬والدينية‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬قاصرة،‭ ‬لأن‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬فيه‭ ‬الحديث‭ ‬آنذاك‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬والقيم‭ ‬الدينية‭ ‬والقومية‭ ‬قد‭ ‬اختلف‭ ‬تماماً‭. ‬فالأفكار‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خلال‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بمرحلة‭ ‬التنوير،‭ ‬والتي‭ ‬أدت‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬أطروحات‭ ‬شوفينية‭ ‬وعنصرية‭ ‬انتهت‭ ‬بالحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬تخضع‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التاريخية‭ ‬لنقد‭ ‬لاذع‭ ‬من‭ ‬مفكري‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬نصفه‭ ‬الثاني‭.‬

فعالم‭ ‬وواقع‭ ‬اليوم‭ ‬مختلفان‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬وواقع‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وتراكمت‭ ‬المعرفة‭ ‬والأدوات‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وتطورت‭ ‬المناهج‭ ‬الفكرية‭ ‬والعلمية،‭ ‬وهناك‭ ‬فهم‭ ‬مختلف‭ ‬للعالم‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬دخول‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بقوة‭ ‬والتغيرات‭ ‬التدريجية‭ ‬التي‭ ‬تحدثها‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭. ‬

وهناك‭ ‬مسألة‭ ‬فكرية‭ ‬مهمة‭ ‬اتضحت‭ ‬مع‭ ‬نزوع‭ ‬العالم‭ ‬نحو‭ ‬العولمة،‭ ‬تتعلق‭ ‬بواحد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬التصورات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطرح‭ ‬بشأن‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬وهي‭ ‬صفة‭ ‬الإطلاق‭ ‬أو‭ ‬التعميم،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وجود‭ ‬قيم‭ ‬أخلاقية‭ ‬مطلقة‭ ‬وثابتة‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭ ‬وصالحة‭ ‬للتطبيق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬أو‭ ‬إمكان‭ ‬تطبيق‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬والممارسات‭ ‬والمذاهب‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والسياسية،‭ ‬مثل‭ ‬الحرية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬ذات‭ ‬المضمون‭ ‬والتعريفات‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬لقرون،‭ ‬وخضعت‭ ‬تصوراتها‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭. ‬وقد‭ ‬أثبتت‭ ‬التحولات‭ ‬العالمية‭ ‬الجديدة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيق‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬أظهرت‭ ‬وقائع‭ ‬ومحاولات‭ ‬تطبيق‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬غير‭ ‬الغربي‭ ‬قصوراً‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يستدعي‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬التعريفات‭ ‬وتفسيراتها‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬التطبيقات‭ ‬المختلفة‭ ‬لها‭ ‬عالمياً‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لو‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الديمقراطية‮»‬‭ ‬سنجد‭ ‬معظم‭ ‬التعريفات‭ ‬الغربية‭ ‬لها‭ ‬لا‭ ‬تعطي‭ ‬الثقافة‭ ‬أهمية‭ ‬تُذكر‭ ‬عند‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬حللوها‭ ‬ونقدوها‭ ‬وعرفوها،‭ ‬لكن‭ ‬التطبيقات‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬غير‭ ‬الغربية‭ ‬أثبتت‭ ‬أهمية‭ ‬الثقافة‭ ‬كعنصر‭ ‬جوهري‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬تعريف‭ ‬ونجاح‭ ‬تطبيق‭ ‬الديمقراطية‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬خلال‭ ‬العولمة،‭ ‬الحضور‭ ‬القوي‭ ‬لدول‭ ‬شرق‭ ‬وجنوب‭ ‬آسيا،‭ ‬والنهوض‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬خلال‭ ‬عقود‭ ‬قليلة‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التطورات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬معها‭ ‬تطورات‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية،‭ ‬وتؤدي‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬المنافسة‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬العالم‭.‬

والثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬الآسيوي‭ ‬يختلفان‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬وهذا‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تناول‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬والأفكار‭ ‬الأساسية‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬فكري‭ ‬مختلف،‭ ‬ووفق‭ ‬رؤية‭ ‬مختلفة‭ ‬للعالم‭ ‬وقضاياه،‭ ‬وسيخلق‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬تعددية‭ ‬فكرية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يسود‭ ‬فيه‭ ‬نظام‭ ‬اقتصادي‭ ‬ونمط‭ ‬فكري‭ ‬واحد‭ ‬تقريباً‭.‬

كما‭ ‬ساهمت‭ ‬العولمة،‭ ‬بعد‭ ‬انتشار‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الاتصالات‭ ‬ونقل‭ ‬المعلومات،‭ ‬في‭ ‬إشراك‭ ‬الأكاديميين‭ ‬والمفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬سابقاً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬بمختلف‭ ‬القارات،‭ ‬في‭ ‬السجال‭ ‬الفكري‭ ‬والأكاديمي‭ ‬والثقافي‭ ‬الدائر‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وسيدلون‭ ‬بدلوهم‭ ‬ويعبرون‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬القيم‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬التطورات‭ ‬العالمية‭ ‬الجارية،‭ ‬من‭ ‬خلفيات‭ ‬فكرية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وسيقدم‭ ‬بعضهم‭ ‬مساهمة‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭.‬

 

ثقافة‭ ‬مختلفة

يشهد‭ ‬العالم‭ ‬تحولات‭ ‬ثقافية‭ ‬كبيرة‭ ‬شبيهة‭ ‬بتلك‭ ‬التحولات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬هو‭ ‬العامل‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬صياغة‭ ‬الثقافة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقاد‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭ ‬الثقافي‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وحتى‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فإن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬اليوم‭ ‬تقود‭ ‬التحولات‭ ‬الثقافية‭ ‬الجديدة،‭ ‬يساندها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التحولات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬والمتمثلة‭ ‬أساساً‭ ‬في‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭.‬

وقبل‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأوجه‭ ‬الأولية‭ ‬للثقافة‭ ‬الآخذة‭ ‬في‭ ‬التبلور‭ ‬التدريجي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتشار‭ ‬الثقافة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أنحاء‭ ‬المعمورة،‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬وتخترق‭ ‬ثقافات‭ ‬عدة،‭ ‬ساندتها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصالات‭ ‬ونقل‭ ‬المعلومات‭ ‬التكنولوجية،‭ ‬ساعد‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬ثقافات‭ ‬الشعوب‭ ‬المختلفة،‭ ‬وجاء‭ ‬بانعكاسات‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وثقافية‭ ‬كبيرة‭. ‬

وكأحد‭ ‬أمثلة‭ ‬التأثر‭ ‬بها‭ ‬انتشار‭ ‬مظاهر‭ ‬الشعبوية‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬المختلفة‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬ذات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العريقة‭ ‬وغيرها‭. ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬التحولات‭ ‬الثقافية‭ ‬الجارية،‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬التقابل‭ ‬بين‭ ‬ثقافتين‭ ‬سيكون‭ ‬لهما‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬القضايا‭ ‬والقيم‭ ‬والأفكار‭ ‬وطريقة‭ ‬تناولها‭ ‬وتحليلها‭.‬

وأول‭ ‬ما‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الصورة‭. ‬فالثقافة‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأخيرة‭ ‬تقوم‭ ‬المعرفة‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬والاطلاع،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬تحفز‭ ‬على‭ ‬التأمل‭ ‬والخيال‭ ‬والتفكير،‭ ‬والربط‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬ومحاولة‭ ‬البحث‭ ‬فيها،‭ ‬وتتميز‭ ‬بأنها‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عقلي،‭ ‬حيث‭ ‬يؤدي‭ ‬العقل‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬وغيرها‭.‬

في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الجديدة‭ ‬حولت‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬الصورة،‭ ‬أي‭ ‬أصبحت‭ ‬الصورة‭ ‬أساس‭ ‬الثقافة،‭ ‬حيث‭ ‬أدى‭ ‬تطور‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصالات‭ ‬ونقل‭ ‬المعلومة‭ ‬إلى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المادة‭ ‬المصورة‭ ‬والمعلومات‭ ‬التي‭ ‬تحتويها،‭ ‬سواء‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أجهزة‭ ‬المحمول‭ ‬أو‭ ‬الحاسوب‭ ‬أو‭ ‬التلفاز‭ ‬وغيرها،‭ ‬وتراجع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالقراءة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬مما‭ ‬أثّر‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التأمل‭ ‬والتفكير،‭ ‬إذ‭ ‬أخذت‭ ‬تحصر‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬المصورة‭ ‬ذات‭ ‬التأثير‭ ‬المباشر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬ممارساته‭. ‬وبما‭ ‬أنها‭ ‬مصورة‭ ‬فإنها‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬واقعية،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬الفكرة‮»‬‭ ‬العقلية‭. ‬كما‭ ‬دخلت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الإبداع‭ ‬الفردي‭ ‬والفني‭ ‬بشتى‭ ‬أنواعه،‭ ‬وقامت‭ ‬بتصنيع‭ ‬الثقافة،‭ ‬وحلّ‭ ‬التقني‭ ‬محل‭ ‬الفنان،‭ ‬وأخذت‭ ‬أجهزة‭ ‬الحواسيب‭ ‬المتطورة‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬تدريجياً‭.‬

وتتميز‭ ‬ثقافة‭ ‬الفكرة‭ ‬أيضاً‭ ‬بأنها‭ ‬نظرية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬وتعتمد‭ ‬على‭ ‬الصياغات‭ ‬النظرية‭ ‬للأفكار،‭ ‬وتأخذ‭ ‬طابع‭ ‬التعميم‭ ‬والإطلاق‭ ‬في‭ ‬الأغلب،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تتميز‭ ‬ثقافة‭ ‬الصورة‭ ‬بالعملية،‭ ‬لأنها‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬المتحركة،‭ ‬وتأخذ‭ ‬الطابع‭ ‬النسبي‭ ‬والجزئي‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المادة‭ ‬المصورة‭. ‬

ومسألة‭ ‬التحول‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬نشهده‭ ‬حالياً‭ ‬ستتوسع‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة،‭ ‬مع‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬الابتكارات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬واستخداماتها‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬بحيث‭ ‬أصبح‭ ‬الحديث‭ ‬اليوم‭ ‬يدور‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬الرابعة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يعتمد‭ ‬أساسها‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬وما‭ ‬ستحدثه‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬جذرية‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيمه‭ ‬ومفاهيمه‭ ‬وعلاقاته‭ ‬وتغيّر‭ ‬بنية‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحالية‭ ‬وإلى‭ ‬آخره‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬ستتطلب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تعريفات‭ ‬ومضامين‭ ‬القيم‭ ‬والمفاهيم‭ ‬السائدة‭■