آفاق التنمية العربية المستدامة في المرحلة الراهنة

آفاق التنمية العربية المستدامة في المرحلة الراهنة

حققت التنمية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين نتائج إيجابية مهمة على مختلف الصعد: الاقتصادية، والاجتماعية والتربوية. وسمحت وفرة المداخيل المالية إبان الفورة النفطية بتنفيذ سياسات اجتماعية جعلت غالبية الخدمات الاجتماعية مجانية أو شبه مجانية في بعض الدول العربية النفطية.
وبلغ التوازن بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية حداً أقرب إلى المعايير الأكثر نمواً في العالم، فانخفضت نسب الأمية والفقر والبطالة إلى الحدود الدنيا في بعض الدول العربية. 
وارتفعت نسبة التحاق الإناث بالمدارس والجامعات بشكل غير مسبوق، لدرجة أن عددهن في بعض المؤسسات التربوية زاد أحياناً على عدد الذكور.

هذا التطور الإيجابي في تعليم الإناث ساهم في تعزيز دور المرأة العربية ومشاركتها في العمل، والإنتاج والحياة الثقافية والفنية، إضافة إلى تحررها التدريجي من بعض القيود التي فرضتها العادات والتقاليد الموروثة. 
وأكدت تقارير التنمية المستدامة الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة أن نجاح خطط التنمية العربية في المستقبل يتوقف على مدى مشاركة المرأة والشباب بشكل فاعل في مختلف المجالات. كما أن الوفرة النفطية انعكست بصورة إيجابية على تنمية دول عربية غير نفطية أرسلت إلى دول النفط عدداً كبيراً من الخبراء والمدرسين والأطباء والمهندسين والعسكريين والعمال.
لكن الاستراتيجيات المشوهة التي بنيت عليها التنمية المستدامة في بعض الدول العربية ركزت على استيراد التكنولوجيا من دون توطينها وتطويرها والإبداع فيها.
كما أن انتشار الفساد على نطاق واسع، وتشجيع الاستهلاك غير المجدي في كثير من القطاعات، والهجرة الكثيفة للأدمغة العربية إلى الخارج من دون رغبة في العودة إلى الوطن، استنفدت نسبة عالية جداً من موازنات الدول العربية، إضافة إلى هدر كبير للموارد المالية ناجم عن صفقات سنوية بمليارات الدولارات، واستغلال السلطة لجني أموال طائلة لمصلحة مجموعة صغيرة من المتنفذين، والحروب المحلية والإقليمية المستمرة منذ عام 2011. وقد شكلت جميعها معوقات أساسية قطعت الطريق على الاستمرار في تحقيق التنمية العربية المستدامة في المرحلة الراهنة. 

مأزق حاد
لقد أحدث عدم الاستقرار الداخلي تبدلات سكانية ذات أبعاد اجتماعية وقبلية وطائفية وعرقية خطيرة. وتحركت أعداد كثيفة من الشباب من الأرياف والبوادي نحو المدن للاستقرار فيها، طلباً للعلم والعمل، فواجهت بطالة حادة أدت إلى مأزق حاد لدى الفئات الشبابية والنسائية. ورافق الحراك الداخلي تهجير قسري بسبب النزاعات الدموية داخل بعض الدول العربية، وتهجير أعداد كبيرة من السكان عن أراضيهم، إضافة إلى تهجير قسري مستمر للفلسطينيين ودفعهم إلى خارج وطنهم في إطار مشروع تهويد القدس وتحويل الاحتلال الإسرائيلي إلى دولة عنصرية لليهود دون سواهم. 
ومع تراجع معدلات النمو بصورة متزايدة في كثير من الدول العربية، زادت نسب البطالة والأمية والفقر. وبرز خلل كبير في معدلات التنمية الداخلية بالدول التي كانت تعتمد كلياً أو جزئياً على العاملين من أبنائها في الدول العربية النفطية. وتزامنت تلك الأزمات مع تفشي الأمراض الاجتماعية لدى فئات سكانية واسعة بدت عاجزة عن تأمين السكن ولقمة العيش وحبة الدواء. 
وتزايدت نسبة تفكك روابط الأسر العربية، وارتفعت معدلات الطلاق، وازدادت جرائم الاغتصاب، ونسب الانتحار والجريمة، كما زاد استخدام المخدرات على نطاق واسع، وتخريب البيئة.
تعاني غالبية الدول العربية من استخدام العمالة الأجنبية الوافدة على حساب العمالة العربية، إضافة إلى مشكلات اجتماعية جديدة نجمت عن الحروب الإقليمية والنزاعات المحلية، والارتفاع المتزايد في عدد مشوهي الحرب والأرامل والأيتام واللقطاء والمشردين، وتشغيل الأولاد في سن مبكرة، وغياب مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والانحراف المبكر نحو عادات اجتماعية خطيرة كالجريمة والدعارة والمخدرات.

القطط السمان
على جانب آخر، بنت معظم الدول العربية خطط التنمية على أساس تعزيز القطاع العام على حساب القطاع الخاص. ثم وضعت خططاً جديدة لتنمية شاملة تعتمد على القطاعين العام والخاص. فأعادت النظر في أسس التنمية السابقة عن طريق إرجاع كثير من الملكيات المصادرة بموجب قرارات التأميم والإصلاح الزراعي إلى الورثة من أبناء وأحفاد أصحابها.
وأطلق على هذا المسار صفة «الانفتاح الاقتصادي» الذي قاد إلى ولادة ما سمي بـ «القطط السمان». وهو توصيف لقوى اقتصادية استفادت من سياسة الانفتاح وإعادة الملكية لكي تجمع ثروات كبيرة على قاعدة النهب الفاضح وغير الخاضع لرقابة الدولة.
ولم تحصل القوى الاجتماعية الفقيرة على مكتسبات جدية من سياسة الانفتاح، بل خسرت كثيراً من مكتسباتها السابقة. ولم يلعب القطاع الخاص دوراً فاعلاً في التنمية العربية الشاملة والمستدامة في الدول المتطورة، فالتنمية المستدامة تتطلب إقامة التوازن بين القطاعين العام والخاص، لكي يلعبا دوراً متكاملاً لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية الشاملة. 

عولمة متوحشة
أثبتت تجارب الدول المتطورة أن تشجيع القطاع الخاص في ظل رقابة مركزية للدولة الديمقراطية يساعد على تطوير كثير من القطاعات من جهة، وعلى امتصاص أعداد كبيرة من الشباب في سن العمل، وتنمية اليد العاملة الموصوفة والماهرة والحد من الهجرة أو النزوح من الأرياف إلى المدن من جهة أخرى.                 
بيد أن سياسة استباحة القطاع العام، كما جرت في بعض الدول العربية، وبيعه بثمن بخس إلى القطاع الخاص من دون ضوابط جدية، تندرج في إطار الاستجابة لضغوط عولمة متوحشة تقودها احتكارات مالية واقتصادية تمتلك نسبة كبيرة جداً من الدخل القومي مقابل إفقار مستمر للطبقات الوسطى والدنيا والفقيرة.
ولم تندرج سياسة الخصخصة في غالبية الدول العربية في سياق التكامل الاقتصادي أو التنمية المستدامة الشاملة عبر تطوير القطاعين العام والخاص، على غرار ما قامت به دول عصرية حققت تجارب تحديثية ناجحة، وفي طليعتها اليابان ودول النمور الآسيوية.
كما أن فساد أجهزة الرقابة العربية، إضافة إلى فساد السلطة السياسية وجشع الرأسمالية الطفيلية التي تسعى فقط إلى الربح السريع، وسياسة التهميش المستمر للقوى المنتجة، جعلت من الخصخصة المشوهة التي قُدمت كحَلّ للتنمية الشاملة مدخلاً لمزيد من الفساد والإفساد على مختلف المجالات، فخسرت الدول العربية كثيراً من مؤسساتها، بعد بيعها بأثمان بخسة للقطاع الخاص دون أن تحقق تنمية شاملة، أو تقيم تكاملاً بين القطاعين العام والخاص كشرط ضروري لا غنى عنه لبناء التنمية المستدامة.

تواطؤ وإفلاس
نخلص إلى القول إن سياسة بيع القطاع العام لقوى رأسمالية طفيلية وغير منتجة في بعض الدول العربية لم تعط نتائج باهرة على مستوى التنمية الشاملة والمستدامة، ولا على مستوى المردود الاقتصادي أو التخفيف من حدة أزمات البطالة والفقر والأمية.
كما أن الخصخصة من دون ضوابط سهلت للقوى التسلطية التي تمارس أساليب رأسمالية جشعة قادت إلى إفلاس مؤسسات وشركات محلية لا حصر لها، وقد عرضت للبيع بأسعار بخسة دون سعرها الحقيقي، وبالتواطؤ أحياناً مع احتكارات عالمية، وقوى محلية نافذة.  
نتيجة لذلك تبدلت الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في كثير من الدول العربية بصورة دراماتيكية نحو الأسوأ منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. وزادت حدة بعد انفجار الانتفاضات الشعبية في أكثر من دولة عربية.
وبات القطاع العام يعاني اليوم الإفلاس بصورة مأساوية في غالبية الدول العربية التي تشكو زيادة حادة في عدد السكان، مع ما يتبعها من أزمات حادة تعانيها شرائح واسعة من قوى فقيرة، تعيش دون خط الفقر، وتشكّل أرضاً خصبة لكل الدعوات المناهضة لاستقرار الدولة الحديثة في العالم العربي.

أزمات متلاحقة
على جانب آخر، شكل الإنفاق العسكري أحد أبرز المعوقات الأساسية للتنمية العربية منذ بداية مرحلة الاستقلال السياسي، مما أدى إلى أزمات متلاحقة ضربت الركائز البنيوية والاجتماعية والنفسية للمجتمعات العربية، فشكلت ضربة موجعة للتنمية الشاملة في غالبية الأقطار العربية، وانعكست بصورة سلبية جداً على المواطن العربي.
وبات التسلح عبئاً على خطط التنمية العربية، لأن نسبة الإنفاق العسكري من الناتج القومي الإجمالي كانت كبيرة جداً. ووظفت نسبة ضئيلة جداً لدعم التربية والتعليم، والحماية الصحية، وتطوير الزراعة والصناعة والخدمات. 
وبرز تخلّف مريع في مختلف حقول الإنتاج والمعرفة على المستوى العربي العام، كما بلغت مديونية الدول العربية مجتمعة للخارج آلاف المليارات من الدولارات، مع تبعية واضحة في مجال إنتاج الغذاء الضروري للإنسان العربي، وزيادة الاعتماد على تأمينه من الخارج.
وإلى جانب الخلل الحاد في الأمن الغذائي العربي والأمن العسكري والأمن السياسي، برز خلل مماثل في الأمن الثقافي والتربوي والإعلامي، وغيرها.
وتشهد غالبية الدول العربية هجرة كثيفة للأدمغة والرساميل واليد العاملة الموصوفة وغير الموصوفة معاً. في المقابل، تزايد حجم الرساميل العربية الموظفة خارج الوطن العربي بصورة عمودية، خاصة بعد تفجّر الانتفاضات العربية. 
بقي أن نشير إلى أن نشر العلوم العصرية مع توطين التكنولوجيا الحديثة يشكّلان المدخل السليم لتحصين الأمن الثقافي العربي، بوصفه العامل الأساسي للنهوض بالمجتمعات العربية في مختلف حقول المعرفة والإنتاج والإبداع.
ذلك أن التوظيف في الإنتاج العلمي ووضعه في خدمة المجتمع هما المدخل الطبيعي للارتقاء بالفرد والمجتمع معاً، وبالثقافة الإنسانية ذات القيم الأخلاقية في عصر العولمة. 

حلول علمية
نظراً إلى حدة المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والبيئية الناجمة عن الانفجار السكاني في معظم الدول العربية، تتزايد الحاجة الملحة إلى التوظيف المكثف في قطاع التعليم العالي لتطوير التكنولوجيا، وبناء الكوادر العلمية القادرة على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد حلول علمية لها.
وفي طليعة تلك الحلول: الحد من التزايد السكاني في بعض الدول العربية، ومحاربة البطالة والأمية والفقر والجوع والتصحر والمخدرات وتلوث البيئة.
علماً بأن التوظيف الجيد يتطلب إدارة عصرية ذات كفاءة علمية ممتازة، لضمان نجاح أي مشروع نهضوي قادر على مواجهة الأزمات المستفحلة في العالم العربي. 
لذلك تبدو الدول العربية اليوم عاجزة عن حل أزماتها المستعصية، في ظل غياب شبه تام لتمويل البحث العلمي وتوطين التكنولوجيا وإعداد أجيال متعاقبة من الباحثين العرب الشباب في مختلف مجالات المعرفة، وتطوير التعليم العالي، وتشجيع الإنتاج العلمي الجيد.
ولا بد من رسم استراتيجية طويلة الأمد لتمويل البحث العلمي في جميع الدول العربية، وحل هذه الأزمة المستعصية التي فتحت الطريق أمام هجرة آلاف من أفضل الأدمغة العربية إلى الخارج. 
ولعل نجاح الأمن الثقافي العربي رهن بقدرة المجتمعات العربية على التفاعل الإيجابي مع مرحلة الحداثة الراهنة التي تعيشها المجتمعات الصناعية المتطورة. 

خطط مدروسة
العرب مطالبون اليوم بوقف هجرة الأدمغة العربية، واستعادة أعداد كبيرة منها إلى داخل الوطن العربي، وإنشاء المراكز الضرورية المتطورة للبحث العلمي، مع توطين التكنولوجيا وتشجيع العلوم العصرية، وإعداد خطط مدروسة لتنمية الموارد البشرية في جميع الدول العربية، وتطوير النظام التعليمي، ليصبح قادراً على تلبية احتياجات سوق العمل المحلية، ومدها بقوى عاملة مزودة بعلوم عصرية، ومدربة على أحدث أشكال التكنولوجيا.
فالتنمية الثقافية المستدامة في عصر العولمة تتطلب الإسراع بتحديث وتطوير قوى الإنتاج وعلاقاته، ورفع شروط الكفاءة والمهارة في مختلف القطاعات المنتجة، وإطلاق قطاعات إنتاجية جديدة ذات صلة بتكنولوجيا عصر العولمة، وأبرزها تكنولوجيا الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، ومتابعة التطور الهائل في مجال ثورة الجينات، وغيرها.
ختاماً، اعتمدت غالبية الدول العربية أنماطاً تنموية كانت تقوم بالدرجة الأولى على استغلال الموارد الطبيعية العربية استغلالاً بشعاً، بهدف تعظيم الموارد المالية التي كانت تستهلك في مشاريع غير منتجة. وفي حال عدم توافر تلك الموارد كانت الدول العربية تلجأ إلى قروض خارجية بفوائد مرتفعة يصرف معظمها لخدمة الدَّين العام. لذا لم تنجح في توليد تنمية مستدامة، بل ساهمت في استنزاف الموارد الطبيعية وتعطيل قدرات الإنسان العربي الإبداعية، بدل تطويرها. 

توحيد الجهود
إن نجاح التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة على المستوى العربي العام رهن بتوحيد الجهود العربية المشتركة، واعتماد ركائز التنمية المستدامة التي تتناسب مع طبيعة عصر العولمة والتبدلات الإقليمية والدولية المتسارعة. 
ولا بد من قياس التنمية العربية المستدامة على أساس الانتعاش المستمر في قطاعات الإنتاج الأساسية كالزراعة والصناعة والتجارة، مع زيادة واضحة في حجم الخدمات، وتجنب الاستنزاف البشع للموارد الطبيعية، كالنفط والغاز والمعادن، والتوظيف الدائم في الثقافة والعلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة.
وتشكل تنمية الموارد البشرية في جميع قطاعات العمل والإنتاج، وحجم التوظيف المكثف في قطاعات البحث العلمي والتكنولوجيا والعلوم العصرية، معاً، مؤشرات حقيقية لضمان الأمن الثقافي في العالم العربي.
وقد دلت تجارب التنمية الناجحة في جميع دول العالم على أن التعليم العصري، والتدريب الجيد للشباب المثقف، والإدارة الحديثة، ترفع بشكل بارز نسبة الدخل الفردي والقومي، وتحصّن الأفراد والجماعات من سلبيات عصر العولمة، فالثقافة العصرية شرط ضروري لا غنى عنه لبناء تنمية عربية شمولية ومستدامة. 
وقدرة العرب على النهوض مجدداً ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية رهن بحماية الحقوق الأساسية للمواطنين العرب، وضمان استقرار الجماعات في العالم العربي، كما أن ممارسة الحريات الأساسية بصورة طبيعية، ونشر العلوم العصرية، والاستفادة من التكنولوجيا المتطورة، تشكّل المدخل السليم للتحرر من كل أشكال التبعية والمعوقات الاجتماعية التي تطول كرامة الإنسان كالجوع والمرض والجهل والفقر والخوف والبطالة.
إن المواطن الحر مادة التنمية المستدامة وغايتها، وبه تحقق التنمية البشرية المستدامة كامل أهدافها. والنخب الثقافية العربية مدعوة إلى تشكيل قوة فاعلة لاستنباط مقولات نظرية جديدة تساهم في النهوض العربي، وفي بناء نظام القيم الإنسانية والخلقية التي تساعد العرب على مواجهة سلبيات العولمة بثقة كبيرة بالمستقبل. وحدها المجتمعات التي تنعم بالحرية والإبداع والقيم الإنسانية، قادرة على حماية تراثها الإنساني وبناء التنمية المستدامة■