لماذا نتعلّم لغةً أخرى؟

لماذا نتعلّم لغةً أخرى؟

من المعلوم لدى المشتغلين بالمقارنة بين الألسنة أنّ كل لغة توفّر لمستعمليها وجهة نظر مخصوصة للعالَم والأشياء، فكل لسان يقدّم طريقة في تصنيف الأشياء تختلف بالضرورة في زوايا معينة عن غيرها في الألسنة الأخرى.

من الطبيعي أن يظنّ أحاديّ اللسان أن كل اللغات ترى الكون كما يراه هو بلغته المحلية، فإن انفتح على لغة أخرى انفتحت أمام بصيرته طريقة أخرى في رؤية الأشياء، ومن دقائق هذه المسألة أنها تتحقق في مستويين: ظاهر وخفيّ؛ فالظاهر الواضح أنّ المحتوى الثقافي والحضاريّ لتلك اللغة يحمل قيماً لا شكّ في أنها تؤثّر بطريقة المتكلم في رؤية العالم، وفي أنماط سلوكه، والخفيّ الدقيق أنّ اللغة التي نتعلمها تتيح لنا قوالب نصنّف بها أفكارنا ورؤانا، فتحملنا تلك المعايير على أن نصبّ أفكارنا في قالبها. 
وهذا المستوى من التأثير لطيف على الإدراك، فلا يدرك أثره إلا بالتمحيص الدقيق والمقارنة الحكيمة. وحسب الباحث من الأمثلة ما يجده لدى الانتقال بين اللغات المشهورة اليوم، فإنه يجد أن لكل منها تصنيفاتٍ مخصوصةً، فما يؤنث في لغة يذكّر في أخرى، وما يصنف في لغة على نحو يصنّف في أخرى على نحو آخر. والذي تتسع دائرته اللغوية يتعزز في ذهنه تصوّر للعالم خلاصته تنسيب الأشياء والقبول باختلاف الرؤى، طالما أن اللغات المسؤولة عن نقل تلك الرؤى هي نفسها مختلفة. على أنّ ذلك لا يتحقق بشكل ظاهر للإدراك المجرد، وإنما يدركه المتفحّص في هيئات سلوك أفراد متكلمين بلسان واحد ومتكلمين بألسنة متعددة. 
وفي مستوى أوّل، من اليسير على المرء أن يدرك أن معنى الجنس يتحقق في اللغات البشرية بكيفيات مختلفة، ففي «العربية» مؤنث ومذكر، وفي الألمانية مؤنث ومذكر ومحايد. كما أنّ فكرة العدد تتحقق في اللغات بكيفيات معجمية وصرفية مختلفة، ففي «العربية» مفرد ومثنى وجمع، وفي «الفرنسية» و«الإنجليزية» و«العِبرية» مفرد وجمع فحسب.
وفي اللغات التي ذكرنا يعدّ المتكلمون من الصفر إلى ما لا نهاية له، أما في بعض لغات القبائل الإفريقية التي درستها مرجريت ميد، فإنّ الأعداد على نظام عدّ قوامه: واحد فاثنان فكثير، ليس غير. وكذا الأمر في الزمن، فإنّ اللغات متفاوتة من حيث تدقيق الصيغ الدالة على «الفويرقات» الزمنية.

فروق دقيقة
إنّ هذه الفروق الدقيقة هي للسانيّ معطيات يفكّر فيها ويتأمّلها، وهي في إدراك المتكلم بلسانين من هذه الألسنة أو أكثر معطياتٌ يفكّر بها ويرى العالم بما توفره له من تفصيلات. 
فلا غرابة في أن تجد أكثر الناس تسامحاً وقبولاً بالآخر أولئك الذين يتكلمون بأكثر من لغة، ولقد كان لهذا الأمر فضل كبير في نشأة الأنثروبولوجيا انطلاقاً من الوعي بالخصوصيات الثقافية والإثنية للشعوب في أطرها اللغوية المخصوصة. وتدين الأنثروبولوجيا لهذا المنحى الوصفيّ المقارن في أهمّ مكتسباتها العلمية الدقيقة.
فعلى هذا الأساس ليس تعلّم لغات غير لغتنا الأمّ ترفاً فكرياً، وإنما هو حاجة ذهنية وثقافية وأخلاقية في الوقت نفسه، وحسْب دعاة حوار الحضارات أن يعلّموا النشء لغات أخرى مع لغتهم الأمّ، وسوف يرون مع كلّ لغة جديدة اتساعاً في مساحة التسامح وقدرة على قبول الآخر لا بإذعان لهيمنته، بل بشوق إلى معرفة عالمه وتوق إلى إنشاء مساحة حوار مشتركة معه.
إنّ تعلّم لسان جديد هو فتح لنافذة جديدة على الكون، ولحظة الشروع في تعلّم اللغة الجديدة تضاهي نفسياً بدايات تعلّم اللغة الأمّ، فهي لحظة يعتريها شوق المتعلّم إلى اللغة التي لا علم له بغيرها؛ فاللغة الجديدة ولادة جديدة للذهن وتحفيز لما خبا وفتُر من ملكاته. 
وفي مستوى العلاقة بالمحيط تفتح اللغة الجديدة أساس هوية جديداً، فتُخرج الفرد من انغلاق الهوية في التصوّر التقليدي، ولذلك تجد متعدد الألسنة مجبولاً على تسامح مركوز في رؤيته للحياة والعلاقات وإن لم يلقِّن دروساً في أصول التسامح والحوار. 
إنّ تعلّم لسان آخر قرين ثلاث قيم أساسية، تتحقق للمتعلم وتتجلى في سلوكه ورؤيته للحياة وللعالم والأشياء؛ أولاها أنّ تعلّم لغة أخرى يجدّد الذهن والحياة، والثانية أنّ كلّ لغة جديدة إثراء للهوية، والثالثة أنّ امتلاك لغة أخرى مدعاة للتسامح وقبول الآخر.
قد لا يكون من الصعب أن يستدلّ الباحث على أن كل نشاط ذهنيّ عموماً يرتقي بالملكات العقلية بما يكون من مراس ومران يوطّنان الذهن على ما لم يألفه؛ إذ الرتابة مَهْلكة المهارات الإنسانية، فإذا تعلّق الأمر بالملكات العليا - ورأسها اللغة - فإنّ انفتاح الذهن على لغة جديدة يقتضي جهداً ذهنياً أكبر بما يكون من الذاكرة من انتقال بين قواعد لسانين مختلفين. 

قياسات ذهنية
وهذا الذي نستدلّ عليه بقياسات ذهنية مباشرة هو موضوع دراسات مخبرية دقيقة تجرى في أوساط علمية مرموقة، لاسيما مع تطوّر علوم الإدراك خلال العقدين الماضيين.
فمن ذلك ما أصبح حديث منشورات علمية متخصصة من نتائج توصّل إليها أستاذ علم النفس واللسانيات وعلوم الاتصال وتقنياته، بينغ لي، الذي يقود أعمال فريق بحث بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، موضوعه أثر تعلّم اللغات الأجنبية، فقد توصّل الفريق إلى نتائج مهمة؛ خلاصتها أن تعلّم لغة جديدة يغيّر شبكة الدماغ من الناحيتين الهيكلية والوظيفية أيّا كان عمر المتعلم، ومن خلاصات هذا البحث أنّ المهارات الجديدة للدماغ هي كالرياضة للجسم. 
وقد توصل الباحثون من خلال دورات تعليمية إلى أنّ المتعلم للغة غير لغته الأمّ أقدر على خلق تشابكات جديدة بين المعلومات. ويتجلى ذلك من خلال درجة عالية من المرونة والنجاعة في خلق الترابطات، ولهذا الأمر وجهان؛ أولهما لغويّ يتعلق بالترابطات اللغوية الظاهرة، والثاني عصبيّ، وهو ما يتجلى من تفاعلات بين مناطق الدماغ من حيث السرعة، ومن حيث طبيعة الجهات المترابطة أيضاً، فقد أظهرت التحاليل المجراة بالرنين المغناطيسي فروقاً هيكلية طارئة على المختبَرين بعد تعلّم اللغة الثانية قياساً بوضعهم قبله.
والطريف أن يكون الأمر منسحباً على كبار السنّ أيضاً، وبشكل واضح، ولذلك يرى الباحثون أنّ هذه التغيرات يمكن استثمارها لا في تطوير الذاكرة والمهارات اللغوية فحسب، وإنما في أشكال السلوك والانفعالات.

إثراء الهوية
تعدّ اللغة العماد المركزيّ للهويات المعاصرة، وهي الأساس الذي يتضافر مع مكونات أخرى كالدين والعرْق لتحديد التكتلات الاجتماعية والرسمية. فلذلك كثيراً ما يضغط المحدد اللغويّ على صاحبه حين يصــبح بمنــــزلة العقيدة الرافضة لما سواها، وهو أمر يلبس أكثر من لبوس، ومن يراجع تاريخ القوميات يجد أنّ كثيراً من الحركات القومــية قامت على درجة عالية من التعصب فيما أصبح يسمـــى لدى المتخصصين في تاريخ القوميات «شوفينية». 
وإذا انكسر الطوق اللغوي الذي يحاصر به المرء نفسه، فإنّ مساراً آخر ينفتح أمام إدراكه ليرى الأمور على غير ما كان يراها بعينه اللغوية الواحدة، فالمتكلم بلغتين هو متكلم بخلفيتين ثقافيتين، ولدى الانتقال من لغة إلى أخرى يجد نفسه يتقمص شخصية لغوية أخرى على نحو مّا.
ومن الطريف في ذلك ما أجرته عالِمة الاجتماع بجامعة كاليفورينا بيركلي، سوزان إيرفن، سنة 1964، حين استعانت بمجموعة عددها 64 فرنسياً من المقيمين في أمريكا مدة تناهز 12 عاماً، فعرضت عليهم مجموعة من الرسوم التي تجسّد مواقف مختلفة، وطلبت منهم في مناسبتين متباعدتين أن يصوغوا قصة في حوالي 3 دقائق لكل موقف، على أن تكون الأولى بالفرنسية (لغتهم الأم)، والثانية بالإنجليزية (لغتهم الثانية). وكانت النتيجة مجموعتين من القصص لكل منهما سمات مشتركة تعود إلى روح اللغة نفسها، فما صيغ بالفرنسية اتسم بهيمنة ذكوريّة، وبأن الشتيمة تكون بين الأقران، وما صيغ بالإنجليزية تضمّن تنويهاً بمنجزات المرأة والعدوانية والعنف إزاء الوالدين.
وفي أواخر القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، أجرت الباحثة في جامعة إيلينوا في «أوربانا شمباين»، ميشال كوفن، بحثاً دامت تجاربه زهاء سنة ونصف السنة، سخّرتها لأبحاث إثنوغرافية مع بالغين باريسيين ثنائيي اللسان، هاجر آباؤهم من البرتغال، وقد سعت في اختيارهم إلى أن يكونوا متقاربي المستوى والمهارات اللغوية في اللسانين، ما أمكن.

اقتناع تلقائي
من خلال مقارنة كيفيات السرد، توصلت كوفن إلى سمات عامة أبرزها أنّ النساء في القص باللسان الفرنسي أكثر تمسكاً بالدفاع عن أنفسهن، في حين أن الشخصيات النسائية في الروايات البرتغالية أكثر ميلاً إلى التنازل. 
وعلى هذا الأساس يكون انتقال المتكلم نفسه من خلفية لغوية إلى خلفية أخرى انتقالاً بين رؤيتين مخصوصتين لا من حيث النواميس اللغوية فحسب، وإنما من حيث القيم نفسها، ولذلك يرسخ مع اللغات التي يتعلمها المرء اقتناع تلقائيّ بنسبية القيم، وبأنّ ما نرى الأشياء عليه لا يمثّل بالضرورة وجهة نظر غيرنا. 
وعبر التاريخ، نجد أنّ الانفتاح اللغويّ كان ذا أثر بالغ في رؤية الشعوب للعالم والقيم، ورأس ذلك ما كان بتأثير الاكتشافات اللغوية الكبرى من فتح أعين الأوربيين على ألسنة وثقافات غير ما أَلِفوه، فكان لذلك أثره البالغ في نشأة أنثروبولوجيا علمية وفي نشأة تيار لسانيّ مقارن وسم لسانيات القرن التاسع عشر، وتعزز بفضله تصوّر علميّ وصفيّ صدح به فردينان دي سوسير في مطلع القرن العشرين، ثم غدا عماد مقاربات الباحثين، وهو أنّ كلّ الألسنة البشرية تستوي من حيث قدرة كلّ منها على الإيفاء بحاجيات مستعمليه. 
وبذلك لم تتحطم شوفينية متعصبي القرن التاسع عشر فحسب، وإنما انكسرت كذلك أنانية الذين حصروا الرقيّ العرقيّ في المركزية الأوربية مهد الثورة الصناعية. 
وتقديرنا أنّ اللسانيات تعدّ الأساس الذي بنيت عليه ثورة أخلاقية حملت الأوربيّ على الاعتراف بالآخر جنِيساً مختلفاً وشريكاً، له من الخصوصيات مقدار ما لكلّ لاهج بلسان محلي. فعلى هذا الأساس ما إن استقر هذا التصوّر اللساني حتى تحرك لدى اللساني الأوربي والأمريكي شوق وشغف دفعاه إلى دراسة خصائص الألسنة الأخرى.
قد يكون أهمّ مكاسب المتكلم بأكثر من لغة تلك المرونة التي تغدو مرتكزة في ذهنه بما يجعله ينسّب الأشياء، فيبني أحكامه على احتمالية تجعل في عالمه موضعاً للآخر، فالعالم الذي يتيحه لنا لساننا المحلّيّ يختلف بالضرورة في وعي من يرى الأمور بغير لغتنا. فإن كان الاستدلال على ذلك من الأمور التي اشتغل بها فلاسفة اللغة، فإنّ تفحّص ذلك بعين المقاربات العصبية المخبرية هو ما غدت فرق البحث تشتغل به اليوم.
فقد كشفت الدراسات العصبية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين أنّ تعلّم اللغة بالنسبة إلى الذهن بمنزلة تطوير المهارات الرياضية للجسم، ومن الدراسات المهمة في هذا المجال ما قام به المدرّس الباحث بجامعة لنكاستر، بانوس أثاناسوبولوس، بصحبة فريق من الباحثين معه، ونشره بعنوان يختزل مضمونه مفاده أنّ «التكلم بلغتين اثنتين يعني التفكير بذهنين اثنين».
صدّر الفريق بحثه بمجموعة من النتائج التي تبدو للوهلة الأولى مثيرة من حيث أثر تعلّم اللغات الأجنبية في الجهاز العصبي والقدرات الذهنية، لاسيما ما يتعلق منها بالذاكرة، ورأسها أنّ تعلّم اللغات الأجنبية يؤخّر الاضطرابات التنكسية المرتبطة بالعمر؛ مثل الخرَف أو الزهايمر في ثنائي اللغة، وذلك لمدة قد تصل إلى خمس سنوات.

رؤية مختلفة
اللغة التي نتعلمها تلقي علينا طريقة جديدة في التعبير، لأنها تقدم رؤية مختلفة للحياة، وقد توصّل أستاذ اللسانيات من خلال عيّنة من البحوث والتجارب إلى أنّ الألمانيّ والإنجليزي أحاديّي اللغة يصفان المشهد نفسه بطريقتين مختلفتين، فالألماني أحادي اللغة يصف الحركة ويذكر معها هدفها أيضاً، ومثال ذلك أن يقول «تمشي امرأة نحو سيارتها» و«يقود رجل دراجته في اتجاه المتجر».
أما الإنجليزي فإنه سيصف المشهدين نفسيهما بقوله «تسير امرأة» أو «يقود رجل دراجته» دون أن يذكر الهدف. فالسمة الغالبة على متكلم الألمانية ميله إلى صناعة صورة عامّة لما يصفه، في حين أنّ الإنجليزي معروف بميله إلى التبئير والاكتفاء بالتركيز على الحدث.  وقد يعود ذلك إلى خصوصية الأدوات النحوية التي تتيحها كل لغة لتوزيع الحدث في الزمن. فالإنجليزية مثلا تتطلب من المتكلم التأشير على الفعل المستمر في الزمن باللاحقة (ing)، التي تلتصق بالفعل لتفيد استمراره في الزمن كأن تقول « I am playing the piano and I cannot come to the phone»، أي «أنا بصدد العزف على البيانو، ولا أستطيع الذهاب إلى الهاتف» أو «I was playing the piano when the phone rang»، أي «كنت أعزف على البيانو حين رنّ الهاتف».
وليس لهذه السمة نظير في الألمانية. ويشير الباحث مستنداً إلى مجموعة من البحوث إلى وجود علاقة متينة بين هذه الخصائص البنيوية النحوية وتواتر إيراد المتكلمين لهدف الفعل في الجملة. 
وأساس هذا التصوّر أنّ اللغة التي يستعملها المتكلم توفّر له مكونات الإطار العام المحدد لوجهة نظره للعالم والأشياء، فما يخزنه المتكلم في ذهنه من القوالب التركيبية يمثل الهيكل العامّ الذي يتصرّف في دائرته، وتقديرنا أنّ هذا المعطى الاختباريّ الذي يذهب إليه فريق البحث يمكن الاستدلال عليه في إطار نحويّ نظريّ خاص، فالمكونات الأساسية للجملة هي المسند إليه والمسند والمتممات، فالمسند إليه هو الذي يخبَر عنه، والمسند هو المخبر به، والمتممات هي المفاعيل وما يملأ محلها كالتمييز والحال. 
وإمكانات نظمها وتجاورها في الألسنة البشرية تفضي إلى وجود ست إمكانات في توزيعها: (SVO) و(SVO) و(SVO) و(SVO) و(SVO) (SVO). وبحسب هذه الإمكانات قسّم بعض اللسانيين الألسنة البشرية. فللعربية مثلاً نظام إسناد بنيته الطرازية هي فصيلة (SVO)، حيث يتصدر المسند الجملةَ ويعقبه المسند إليه فالمتممات، ورغم ما يبدو من مرونة في الجملة العربية فإنّ الذي يقارن بين الألسنة البشرية يجد أن درجة المرونة متفاوتة، وأنّ قوالب اللغات توفّر أطر استعمال متحكمة في نظم المتكلمين. 
فعلى هذا الأساس نفهم ما يذهب إليه أثاناسوبولوس من أنّ الانتقال من لغة إلى أخرى يعني انتقالاً من منظور إلى آخر. وعلى هذا الأساس يخلص إلى نتيجة مهمة هي أنّ اللغة الثانية التي نتكلمها أقدر على أن تكون موضوعية من لغتنا المحلية التي تشدنا إليها نوازع عاطفية، فإذا وصّفنا حادثة معينة، فإنّ توصيفنا باللسان الأجنبيّ أقدر على أن يكون خالياً من عواطفنا الجياشة بلغتنا الأمّ. وكذلك الأمر حين اتخاذ القرارات؛ فإنّ ثنائي اللغة أكثر منطقية وأقدر على اتخاذ القرار الأقل كلفة. 
فعلى هذا الأساس غدا البحث في الذهنِ الثنائيّ اللغة مبحثاً مهمّاً في الأوساط العلمية اللسانية، وذلك في المستويين: التركيبي المتعلق بالصناعة النظمية للكلام، والعصبيّ المسيّر للتفاعلات الذهنية. 

مشروع حضاري
في الأوساط المخبرية الجامعية الغربية أنجزت بحوث مرموقة في هذا المجال، فمن ذلك الكتاب الذي يحمل عنوان «الذهن ثنائي اللغة» لصاحبه هرننداز، المدرّس الأستاذ بقسم علم النفس بجامعة هيوستن الأمريكية.
وبين سؤالنا في البداية عن الغاية من تعلّم لغة أخرى وبين ما وصلنا إليه في هذا المستوى من التحليل يتلاشى الوجه الحقيقي للسؤال، حتى كأنه سؤال إنكاريّ، فكلّ ما سبق يجعل تعلّم لغة أخرى يتجاوز مجرد أن يكون تمريناً تعليمياً تلقينياً بسيطاً ليكون مشروعاً حضارياً يجسّر العلاقة مع ذواتنا ومع الآخر معاً، وهو أمر لا يتحقق إلا بكسر الطوق اللغويّ الذي يحصر أحاديّ اللغة نفسه فيه.
فلا شكّ في أنّ السؤال «لماذا نتعلم لغة أخرى؟» إنما يسأله أحد اثنين؛ فالسائل إمّا أحاديّ اللسان، فهو لم يرَ الوجود والأشياء بغير لسانه. وإما هو ممن يثير السؤال فلسفياً، فيريد من السؤال وجهه الحقيقيّ لا الإنكاريّ. فالسؤال عن غير ألسنتنا المحلية هو سؤال عن الممكن في غير رؤيتنا اللغوية.
ولدى التبصّر العميق بالمسألة اللغوية في أبعادها النفسية والعصبية يجزم الباحث بأن المتعلم للغة ثانية ليس يَوْمُه طليقاً متكلماً بأكثر من لغة كأمسه سجين لسان واحد. فاللغة التي يتعلمها المرء هي نافذة إلى عوالم من الحرية والانعتاق من قيود اللسان الواحد الحاكم برؤية منغلقة للعالم والأشياء■